ورقة يوم دراسي

القراءة كرافعة للتنمية المستدامة

محمد سعيد الريحاني

مقدمة: عن ضرورة البحث في القراءة:

أهمية البحث في جدوى القراءة تكمن في عدة أسباب يمكن إيجازها  في خمسة: أولا، مسعى الانتقال من مجتمع شفهي إلى مجتمع قارئ. فالمجتمع العربي لا زال مجتمعا شفهيا غير قارئ  ونسبة الأمية المرتفعة 67% دليل  صارخ على دلك.  ثانيا، تعزيز مطلب الحق في المعلومة والمعرفة من خلال مساعدة الجماهير على ولوج مصادر المعرفة دون وساطة من الوساطات  ودون رهبانية معرفية. ثالثا،  إعادة التقارب بين الجماهير والمعرفة والثقافة، بعد حرمان دام قرونا من الزمن طغت عليه ظروف سياسية متباينة وحسابات سياسية متضاربة واختيارات سياسية متناقضة. ورابعا، إرادة تنمية المعارف وتطوير القدرة على التصحيح الداتي لطرق التفكير والتعبير  والتصرف بعيدا عن كل أشكال العنف العلائقي السائدة مادامت القراءة  شكلا من أشكال الأنشطة الذاتية الهادفة إلى تكامل الشخصية وتهذيب النفس في أفق الانشغال بأنشطة سليمة. وخامسا،  مطلب الإسهام في قيم مواطنة جديدة قوامها: الكرامة والحرية والعقلانية والتحليل والنقد من خلال مساعدة الإنسان على الاستقلالية والتخلص من التبعية والقطيعية. فحرية الفكر من القدرة على التحليل، والقدرة على التحليل من عادة القراءة. فالحرية، حجر الزاوية في مجهودات البحث في القراءة،  تبقى هي القدرة على الإسهام في موضوعات مطروحة إما بالتعديل أو بالإضافة أو بالنقض. وهذا يقتضي معرفة كاملة بالموضوعات أي تحليلا مستفيضا لها. وإدا كانت الحرية هدفا من أهداف القراءة، فإن أول مراحلها يبقى  "التحرير":  تحرير الإنسان من محدودية الفكر وضيق الأفق وضعف الخيال. فما دام الفرد هو نواة المجتمع،  فإن بناء شخصيته هو في الآن ذاته بناء للمجتمع ولحضارة هدا المجتمع كما أن الاستثمار في هدا الفرد هو في الآن ذاته استثمار في المجتمع وفي حضارة هدا المجتمع

                                                             

آفاق النهوض بالقراءة مغربياً على خطى النهضة الأوروبية:

 إن كل مشروع نهضوي يتضمن بالضرورة تصورا معينا لما ينبغي النهوض به فبل أي محاولة إقلاع تحمل صفة "نهضوية". ف"التصور" هو ما يضمن الوعي لكل مسيرة نهضوية ويؤمن الالتزام بكافة مراحلها ويرسم الإطار والأدوات والأهداف والشركاء والحدود والآفاق .. ولأن القراءة هي أهم ركائز كل نهوض حضاري محتمل إد بواسطتها تستشرف الآفاق وتتحقق المشاريع وتصل  إلى مخاطبيها، وبدونها ينشط الوسطاء والمفسرون والمُبَرّرونَ والشرّاح وأغنياء الأمية، فقد قام المغرب واليابان معا، عند نهاية القرن التاسع عشر، بإرسال أول بعثة طلابية إلى أوروبا للاستفادة من التقدم العلمي عبر المرور من مؤسساته الأكاديمية. وبينما ثابر اليابانيون وواصلوا سنويا إرسال البعثة تلو البعثة إلى أوروبا، حدث انقلاب في القرار المغربي اتجاه المَضي قدما في المشروع. فكانت النتيجة "يابان عصرية حداثية جديدة" مقابل "مغرب يبحث بعد قرن من فوات الفرصة سُبُلَ إعادة تجريبها". فإذا كان الحضارات في تداولها عبر التاريخ  تخضع لمنطق  الدورة المتنقلة من شرق الكوكب الأضي إلى غربه ومن شماله  إلى جنوبه، فإنها تخضع أيضا لمنطق ثان مواز هو منطق نقطة الارتكاز الحضارية. فالحضارة الفينيقية قامت على أساس نقطة ارتكاز معروفة تاريخيا وهي التجارة والتبادل التجاري، والحضارة العربية-الإسلامية  قامت على أساس الدين ونشر الرسالة المحمدية، والحضارة الأوروبية قامت على أساس الكتب بصيغة المتعدد، والحضارة الأمريكية قامت على أساس التقنية.

وإذا كان ثمة إغراء جذب مغرب القرن التاسع إلى أوروبا فلازال ذات الإغراء  قائما إلى اليوم: إغراء سلوك طريق الحضارة الناهضة على أساس الكتب بصيغة المتعدد.  فقد مرت أوروبا خلال الخمسمائة سنة الماضية بست مراحل أساسية شكلت العمود الفقري لقوتها وعظمتها كما شكلته لليابان التي قررت المضي في نفس الطريق الدي تخلف عنه المغرب مبكرا. وهده المراحل الست هي: مرحلة الإحياء Revivalism التي اهتمت بجمع نفائس الكتب المتدفقة من بيزنطة، عاصمة الكتب في القرون الوسطى، ومن الأندلس المنهارة وعملت على تحقيقها وترجمتها، ومرحلة اختراع الطباعة وإخراج نفائس الكتب إلى جمهور القراء بأثمان رخيصة وبلغات شعبية، ثم مرحلة الإصلاح Restoration التي عرفت أكبر عملية إصلاح لغوي وفكري و ديني في تاريخ أوروبا، ثم كانت مرحلة التنوير  Enlightenment التي سميت مع عصرها بعصر الأنوار وقد اختصت بتثوير الفكر وتجديده، وبعدها كانت مرحلة التصنيع Industrialism مرحلة صياغة دساتير الحكم والبرامج السياسية والخطط الاقتصادية مع الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر، والآن مرحلة التقنية والرقمية وهو المفهوم الفكري الدي صادف صعود فلسفة "ما بعد الحداثة" Postmodernism أو "سلطة المؤسسية" في مقابل فلسفات "الحداثة" Modernism أو "سلطة العقل" التي وسمت القرون الخمسة الماضية الممتدة من فترة "الإحياء" الأوروبي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلاديين إلى العشرية الثانية  من القرن العشرين.

وإذا كانت اليابان، قبل مائة سنة، قد اختطت لنفسها نفس الطريق عبر سلوك  نفس المحطات الست من باب اختصار التاريخ وسلوك الطريق الأكثر أمانا والأكثر مردودية، فلسوء حظ عرب اليوم ومغرب الساعة أن يجدوا أنفسهم، بعد مرور عقود من الزمن، في وضعية صعبة تتطلب منهم شجاعتين: أولا شجاعة التصريح بقرار الإقلاع وثانيا شجاعة عدم الرجوع في قرار دخول التاريخ مهما كلف الأمر. إنه لمن باب احترام السابقين في التقدم والازدهار والنمو، وجوب الإصغاء لتجربتهم  والاستفادة من أخطائهم واختصار الطريق للّحَاق بهم. فمن لا يستلهم التاريخ محكوم عليه بتكراره. ولذلك، نقترح الوقوف المحطات الكبرى التي ساعدت الغرب على النمو والرقي وعلو الشأن.    

المراحل الست لانطلاق النهضة المغربية:

 ما بين خيار "اختصار التاريخ" وخيار "حرق المراحل"، يبدو أن العرب عموما والمغاربة خصوصا انتصروا للخيار الثاني، خيار "حرق المراحل". ولدلك، بشكل عجيب، ابتدؤوا من مؤخرة المسار النهضوي الذي سلكه جيرانهم الأوروبيين. فقد بدؤوا من  المراحل الثلاث الأواخر وأجلوا العمل بالمراحل الثلاثة الأوائل. فقد بدؤوا بمرحلة التنوير ومرحلة البرامج والمخططات ومرحلة المؤسسية والمؤسسات لكن العمل في هده المراحل المتقدمة لم يكتب له الوصول إلى الجماهير وعامة الشعب وظل محصورا بين الاوساط المثقفة. وهدا ما يتجلى في بقاء المبادرات  الإحيائية من ترجمات وتحقيق وتوثيق وبيبليوغرافيا والنفس الطباعي من طبع ونشر وتوزيع والجرأة على فتح ملف الإصلاح الشامل  دائما في عداد ما دون عتبة الخروج إلى عالم الفعل والتفعيل. لذلك، فالتفكير في تنمية حقيقية على أسس صلبة يقتضي إعادة القطار المغربي إلى سكته الأصلية، سكة التنمية التي سلكتها أوروبا، سكة التنمية عبر الكتاب والقراءة وسكة التأريخ  لأوروبا وعبرها للعالم من خلال التاريخ لمراحل تطور القراءة والكتاب (عصر الإحياء، عصر الطباعة، عصر الإصلاح، عصر التنوير، عصر البرامج...)

1 ـ  مرحلة الإحياء:

الحضارة الغربية المعاصرة حضارة انبنت على القراءة وعلى الكتب بصيغة الجمع  وليس على كتاب واحد أو إيديولوجيا واحدة. كما أن تطور تاريخ هده الحضارة رافقه على الدوام تطور الكتاب سالكاً طريقا يمتد من الإحياء إلى الطباعة إلى الإصلاح إلى التنوير إلى البرامج... ولعل أهم  قيم الإحياء هي تشجيع القراءة وتعظيمُ قيمة الكتاب وإرساء دعائم  المصالحة مع الذات والانفتاح على ماضيها المشرق واستشراف مستقبلها. وقد انشغل الإحياء بتحقيق الكتب وترجمتها وأرشفتها وإنشاء المكتبات العامة وفتح المكتبات الخاصة في وجه العموم ... كان هذا هو جوهر فلسفة الإحياء الأوروبية، أولى الحلقات الست، وقد ركز بشكل خاص على الجانب العقلي والفكري من الثقافة الغربية خاصة الفلسفة والنقد الأدبي والفني. بينما جوهر المحاولات الخجولة لنواة فلسفة الإحياء العربية الأولى كان في الحقيقة جوهرين يتجاذبهما تياران فكريان: تيار ديني يتقصد تشكيل مسار إسلامي خالص هو "العودة إلى السلف الصالح" الدي يجعل من فلسفة الإحياء فلسفة دينية بامتياز، وتيار ثان قومي يتقصد تشكيل مسار عربي عقلاني. ومع دخول هذين التيارين حلبة السياسة ضاع "الإحياء" في نسخته العربية ودخلت حسابات أخرى ساهمت من بعيد او قريب في "قتل" الإحياء العربي في مرحلته الجنينية. وإذا كان لا بد لأي إقلاع حضاري أن "يشرك الجماهير" في نهوضه الحضاري فإن حلقة "الإحياء" تبقى بوابة رئيسية لا يمكن القفز عنها للمرور نحو الحلقات الخمس الأخرى تحت أي مسمى. وإذا كان الغرب قد مر من فترة الإحياء في نسختها "الورقية" التقليدية قبل خمسمائة سنة مضت، فإن العرب اليوم  يجدون أنفسهم  مُلْزَمين بالمرور عبر نسختين من الإحياء: الإحياء الورقي والإحياء الإلكتروني معاً وفي آن واحد.

فعلى الواجهة الورقية، نقترح إدخال المكتبة إلى كل المرافق العمومية من مستشفيات وسجون ومدارس ومساجد وفنادق وغيرها، تخفيض سعر الكتاب عبر إصدار نسخ رخيصة للعموم ونسخ راقية  للباقين، تشجيع ثقافة الجوائز في المسابقات المدرسية وحفلات توزيع النتائج في المؤسسات التعليمية، إقامة معارض الكتب في المؤسسات التعليمية ودور الشباب، دعم تجربة أسواق الكتاب المستعمل، دعم تجربة تبادل الكتب وكراء الكتب والمقايضة بالكتب، ترجمة الروايات الناجحة سينمائيا، طبع البحوث الجامعية المتميزة ونشرها بأسعار مدعومة، إنشاء دور نشر خاصة بتتبع جودة البحوث الجامعية لإخراجها للعموم، دعم تحويل الروايات المكتوبة إلى أفلام سينمائية وتحويل الدواوين الشعرية إلى أغان، دعم ثقافة تقديم الإصدارات الجديدة على شاشات  التلفزة، قناة خاصة بالإلقاء الشعري والرواية الشفهية والنقاش الثقافي  والاحتفال بالإصدارات ومتابعتها إعلاميا ونقديا ... وعلى الواجهة الإلكترونية، نقترح إقامة مكتبة وطنية رقمية على غرار مكتبة الإسكندرية توفر كل المخطوطات والكتب التي ألفها مغاربة بكل اللغات في صيغتها الرقمية بحيث تكون في متناول في كل القراء والباحثين، وفرض إنشاء موقع على الإنترنت لكل مؤسسة تعليمية بحيث يكون الجانب الخاص بالمكتبة الافتراضية مفتوحا في وجه كل من توفر لديه كتاب الكتروني وأحب إيداعه على رفوفه الإلكترونية حتى يتسنى لعموم المبحرين من الطلبة وغيرهم التحميل المجاني للقراءة والاستفادة، دعم تجربة بيع الكتاب الإلكتروني بأسعار مقبولة كحل امام صعوبة الحصول على كتب ورقية من أقطار أخرى ...   

2 ـ مرحلة الطباعة:

كان اختراع غوتنبرغ لآلة الطباعة الحديثة محطة بارزة في سياق تطور التاريخ برمته. فقد سرعت آلة الطباعة حركة النسخ وأصبحت تساير الطلب المتزايد على الكتاب. لكن حسن استثمار دور الطباعة كان له كبير الأثر على الوصول إلى أكبر عدد من القراء وإيصال الرسالة المراد تثبيتها وأفضل من جسد هدا الدور هو مارتن لوثر كينغ الدي كان يملك ما يقارب العشرين مطبعة موزعة على أوروبا بأكملها وهدا ما يفسر فعالية ثورته وانتشار رسالته بسرعة كبيرة. حسن استثمار المطابع هدا بدأ قبل خمسمئة سنة أما اليوم في الولايات المتحدة الامريكية فثمة تجربة مثيرة للاهتمام. فالكاتب او الناشر عند إقدامه على تسويق منتوجه في أرجاء القارة الامريكية الشمالية، يكفيه التعامل مع وكيل يتكفل بإداعة خبر صدور العمل كل نصف ساعة وعلى مدار اليوم على ازيد من مائة محطة إداعية. وبهده الطريقة يصل الخبر للأطفال والمسنين ولربات البيوت والبحارة في أعالي المحيطات في كل اوقات اليوم ولمدة يتم الاتفاق عليها بين الناشر ووكيل التسويق...

إزاء التجربتين السابقتين، يمكن اقتراح تجربة صالحة للتربة العربية في مرحلتها الثانية، مرحلة طباعة الكتب  ونشرها. ففي الوقت الدي تحتكر فيه دور النشر حقوق الطبع والنشر داخل الوطن ولا تطبع غير ألف نسخة ولا تبيع اكثر من نصفها على مدى سنوات، يمكن اقتراح باب ثان أكثر رحابة وفعالية ومقروئية: باب التبادل مع دور النشر العربية الأخرى. فبدل طباعة ألف نسخة لقراء من بلد واحد، يمكن الانتقال إلى طبع اثنين وعشرين ألف نسخة لتبادلها مع اثنين وعشرين دار نشر من اثنين وعشرين دولة عربية. وبهذه الطريقة تربح دار النشر اثنين وعشرين مرة أكثر وتساهم في خروج الكتاب الوطني إلى الأسواق العربية كما تساهم في تحريك رواج المنتوج الثقافي على مدى واسع من الخريطة العربية. كما يمكن لدور النشر الورقية دخول تجربة الانفتاح على القراء الآخرين. فالكتاب ليس بالصرورة كتابا ورقيا والقارئ ليس بالضرورة قارئا تقليديا. فثمة مساحات اخرى للقراءة لازالت عدراء بفعل إحجام الناشرين عن اقتحامها. ومن هده المساحات: "الكتاب المسموع" الدي يسميه الفرنسيون ب"القراءة في الظلام" وهو عبارة عن قرص سمعي  يصدر بموازاة مع الكتاب الورقي ويتضمن تسجيلات صوتية وإلقاءات شعرية وقصص وروايات مسموعة وهي موجهة للاميين ولربات البيوت. أما النوع الثالث من الكتب فهو "الكتاب الملموس" الخاص بالمكفوفين. وأما النوع الرابع والأخير من الكتب فيبقى "الكتاب الإلكتروني".  فبالتحام الناشرين لهده المجالات العذراء، يساهمون  في "تنمية" مفهوم القراءة ذاته وفي "تنمية" الرأسمال القرائي... 

3 ـ مرحلة الإصلاح:

بعد مرحلة الطباعة أواخر القرن الخامس عشر، كان موعد أوروبا الكبير مع الإصلاح بكافة أنواعه: الإصلاح الديني  الدي زعزع  هيبة المؤسسة الكاتوليكية وهيمنتها ثم الإصلاح اللغوي والدي انبثقت عنه لغات شعبية جديدة  كالإسبانية والفرنسية والبرتغالية وغيرها التي لم يكن مسموحا لها بالحضور في المناسبات الراقية والتعبدية  التي ظلت حكرا على اللغة اللاتينية القديمة وبالخصوص الإصلاح الفكري الذي جعل القراءة حجر الأساس في العبادة وفي الحياة. وعليه، نجد على الواجهة العربية عموما نداءات تتصاعد من هنا وهناك بالتعجيل ب "الإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي" كنداءات محمد شحرور الدي يصرح بأننا " لسنا بحاجة إلى إصلاح سياسي، ولا إلى مؤسسات مجتمع مدني، فمجالس الشعب ودور الإفتاء والنقابات والاتحادات والمنتديات والصحف موجودة. نحن بحاجة، أولا، إلى إصلاح فكري وديني وثقافي، وإلى خلق الإبداع الفقهي المتجدد، لتفعيل ما عندنا من مؤسسات موجودة".

فبعد مراحل جمع الكتب وتحقيقها وطبعها ونشرها، المرحلة الثالثة على درب الإقلاع الحضاري تبقى هي مرحلة "الإصلاح الديني" من أجل تحديد المصير الحقيقي. فالإصلاح الديني ضروري قبل كل إصلاح سياسي. ومن هنا أهمية تجديد الخطاب العام  وملاءمته مع ثقافة العصر: ثقافة العدل والمساواة والتنمية والحرية والديموقراطية  واحترام الآخر.... إن معيار نهضتنا المقبلة يجب أن يكون مبنيا على "حاجتنا للتطور ومقاومة الجمود" وهو نفس معيار فلاسفة   الإحياء الأوروبيين قبل خمسمائة سنة خلت: تجديد الفكر، تجديد اللغة، تجديد المجتمع والرقي به لقيم عليا جديدة. وبعد هده المراحل الثلاث المحروقة، يمكن الانتقال إلى المراحل الثلاث المتبقية: مراحل التنوير والبرامج والمأسسة...

4 ـ مرحلة التنوير:

مرحلة التنوير في الثقافة العربية الحديثة لم تنقطع مند القرن التاسع عشر ولكن مشكلتها تكمن في كونها ظلت حبيسة النخبة ومجالس النخبة ومنتديات النخبة ولا تربطها خيوط بالجماهير لأنها لم تبن في يوم من الأيام علاقة بهده الجماهير التي لا زالت ترى في القراءة نوعا من "المطالعة" ولا زالت ترى في الكتاب شكلا من "أشكال الترف" ... إن القفز على المراحل  الثلاثة لبناء الثقة والتواصل مع الجماهير (مرحلة الإحياء والطباعة والإصلاح) هدم كل المشاريع التنويرية التي ظلت حبيسة منتديات النخب ولم تصل إلى قلوب الجماهير ولا حتى إلى آذانهم.

5 ـ مرحلة البرامج والمخططات:

بعد حلقة الإحياء الدي يتفرغ لأمر تشجيع القراءة،  وبعد حلقة الطباعة التي تتكفل بتوفير المادة القرائية على الورق، وبعد حلقة الإصلاح الدي يتكفل بتكييف الدهنيات مع متطلبات العصر، وبعد حلقة التنوير التي تضع على عاتقها مهمة تثوير الفكر... تاتي مرحلة التدبير العقلاني للرساميل المادية والرمزية: مرحلة البرامج والمخططات. ومن بين المخططات الممكن اقتراحها سعيا للنهوض بالقراءة وإشراكها في العملية التنموية الشاملة، يمكن تسطير بعض المقترحات:

أولا، التفكير في اقتصاد ثقافي، اقتصاد قائم على حركة الكتاب وعلى إنتاج الكلمة وعلى رواج المنتوج الثقافي وعلى القراءة كفعل محرك للاقتصاد الثقافي برمته. وهدا يتطلب العمل على رفع عدد سحب الكتب في المطابع من خلال إشراك الوزارات الوصية والجمعيات والمنظمات المعنية بأمر القراءة  والكتابة والجماعات المحلية في المساهمة في التمويل والترويج والتوزيع وتسهيل خيار تبادل الكتب بين دور النشر والتوزيع العربية...

ثانيا، التفكير في الانتقال إلى طور السياحة الثقافية من خلال تقسيم الخريطة الجغرافية إلى مناطق ثقافية (منطقة البحث التاريخي، منطقة النقد الفني) وعواصم إبداعية (شفشاون عاصمة الشعر، الصويرة عاصمة المسرح، فاس عاصمة الرواية)...

ثالثا، توأمة المهرجانات الثقافية مع المهرجانات الفنية الأخرى (الموسيقية منها  والسينمائية والتشكيلية) لرفع العزلة عن المقروء الذي يبقى  في المتمثل العامي رمزا نقيضا للفرح والمتعة...

رابعا، إقامة مسابقات في القراءة السريعة، في القراءة والتدبر، في قراءة أكبر عدد ممكن من الكتب، في غرائب القراءات...

خامسا، الحملات الثقافية الهادفة من جهة إلى التعريف بالذات من خلال ترجمة الأعمال المغربية إلى لغات أخرى ومن جهة أخرى تقديم الآخر للقراء من أبناء البلد من خلال ترجمة أعمال الأجانب إلى اللغة الأم.

سادسا، الاهتمام بالدور الهام للإعلام الثقافي المرئي والمسموع والمكتوب الدي يمكنه ان يجعل من المادة الثقافية جزءً من طعام الإفطار ووصلة  من وصلات استقبال أو توديع للأحبة.

6 ـ مرحلة المأسسة:

وهي آخر المراحل وخاتمتها وتهدف إلى الدفاع عن مكسب القراءة وتنزيهه عن كل التقلبات المزاجية والشخصية بحيث يصبح  هدا المكسب "مؤسسة" قائمة الدات ومعترفا بها لها حقوق وعليها واجبات.

خاتمة:

إن الثورات الإنسانية الكبرى لم تقم  في يوم من الأيام على الجوع فحسب بل قامت أيضا تحت تأثير القراءة التي أطرت الحركات الاحتجاجية وأمدت  جحافل القراء بطاقة لا يمكن التكهن بمصدرها. وهدا ما حصل مع المسلمين الاوائل في ثورتهم الأولى على  الظلم وعلى الوثنية، وهو أيضا ما حدث مع الثورة الفرنسية المشبع أهلها بأفكار فلاسفة التنوير وهو داته ما حدث مع الثورة البولشفية. إن القراءة تغييرية بالطبيعة: إما تغييرا تنمويا سلميا إدا انتفى الصراع الاجتماعي أو تغييرا ثوريا عنيفا إدا حضر الصراع والعنف الاجتماعيين. أما ألا تكون هناك قراءة أو أن يتدنى المستوى القرائي لشعب من الشعوب فالأمر، آنداك، لا يعدو كونه  قرار تسلطي يخفي وراءه خوفا سياسيا دفينا من مغبة خروج الأمور من اليد وانفلاتها انفلاتا لا ينفع معه لجام. فتدني نسبة القراءة لشعب بكامله وبشكل ثابت أو انحداري لا يَدُلّ على مستوى انحطاط دلك المجتمع فحسب بل تشير أيضا وبالأصبع الطويل إلى خصوصية الأنظمة الاستبدادية في كل مكان من هدا العالم وفي أي زمان.

مداخلة الباحث والقاص والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني في المائدة الأولى على هامش أشغال "المهرجان الوطني للقراءة" الذي نظمته بالعاصمة المغربية الرباط  سلسلة "المعرفة للجميع" الشهرية بتعاون مع اليونسكو والإيسسكو ووزارة الثقافة يوم السبت 26 دجنبر 2009