يكشف الباحث المغربي في هذه الدراسة المتميزة عما يمكن تسميته بمحتوى الشكل الروائي وبلاغة التقطع السردي ودلالاتها كأداة مراوغة لتوليد المعاني والدلالات من خلال تحليله المستبصر لواحدة من أهم روايات الكاتب اللبناني إلياس خوري.

بلاغة المتصل والمتقطع

دراسة في رواية «غاندي الصغير»

عبد الرحيم جيران

1 ـ الأساس النظري:

تؤسس رواية إلياس خوري (غاندي الصغير) ملمحا مميزا في الرواية العربية بقدرتها الفنية على ابتداع بلاغة روائية لا يصير معها شكل التعبير السردي منفصلا عما يسعى إلى نقله إلى القارئ على أنه مادة الرواية. وتزداد هذه البلاغة قوة بما تدخله من تجديل متضافر بين مستويات النص الروائي، بحيث تتصادى جميعها في التعبير عن الطابع الإشكالي لفن الرواية في قول العالم. ولا نريد بمفهوم "الإشكالي" هنا ما أرساه لوكاتش بصدده، وإنما نريد به التوتر الناجم عن إرادة قول نقص العالم، تحت هاجس الرغبة في اكتماله، انطلاقا من خصاصة اللغة التي تسعى إلى التعبير عنه، وما يتولد عن ذلك من تجديل بين الكلي في تفسخه والجزئي بوصفه مخلفات وبقايا، حيث تصير المتنافراتُ، بوصفها دالةً على الجزئي، مكثفةً داخلها الكلي المفتقد، أو تصير الممكن أمام التعبير الروائي لكي يقبض على ظلال الكلي من دون الإفلاح في ذلك. ومن ثمة يصير أثر هذا الأخير ـ بوصفه أمارة ـ وحده قابلا لأن يُجسَّم سرديا. وما هذا الأثر سوى فعل الربط بين المخلفات (الذكريات) غير المحقق، لا المخلفات نفسها. وينجم عن هذا البعد الإشكالي المتعلق بالتعبير الروائي ما جعلناه عنوانا لهذه الدراسة "بلاغة المتصل والمتقطع في رواية غاندي الصغير".

ولم نضع هذا العنوان هدفا مسبقا يؤول إلى النص من خارجه، وإنما استخلصناه انطلاقا من ملفوظ نصي وارد في الرواية. وهو الآتي: "أروي عن أليس لأنني أحاول أن أستعيدها، فأكتشف أن الذكريات ذلا، بل هي مجموعة من الأوهام التي لا يمكن ربطها ببعضها، كأنها سلسلة فرطت وغرقت في قعر البحر"(1). لا يهم ما يتضمنه هذا الملفوظ من توسطات رمزية تتعلق برؤية الماضي وتقييمه "الذكريات ذل"، بقدر ما يهم اكتشاف تعذر انتظام مرويها في وحدة متماسكة. وتفكك السلسلة وانحلالها دالان على حضور بلاغة التقطع بوصفها خاصية تعبيرية عن رغبة في الاتصال منتفاة، لكنها لا تغيب من المحكي أبدا، بل تظل تعمل ـ في الخلف ـ على مد المتقطع بأسباب تشكله، بل وجوده. وهذا الاتصاف البلاغي المميز للتعبير الروائي في رواية "غاندي الصغير" لا ينفصل البتة عن رؤية جمالية خاصة إلى قول الواقع في شتاته. وتتميز هذه الرؤية بإحداث قطيعة مع الامتلاء الخطابي الذي يميز كل كتابة تضع اليقين الإيديولوجي معيارا لها تمرِّر من خلال متاحه العالمَ، بما يعينه ذلك من تدمير لمركزية الكلمة العالمة وثقافتها بوصفها مصدر الحقيقة وصياغة علاقة الإرادة بقولها، حيث يوضع في صلب نقل العالم سرديا صوتٌ أنثوي منتمٍ إلى الهامش المنبوذ (أليس).

يمكن الجزم انطلاقا مما قيل أعلاه بأن الواقع لم يعد ـ في رواية "غاندي الصغير" كلا ينظر إليه في ضوء مرآة كلية تتعالى عليه في الإيديولوجيا، أو التاريخ من حيث إنه يستند في حضوره إلى هدف عام يتوجه نحوه، بل صار منقسما على نفسه، وتحول في انقسامه هذا إلى مرايا يعكس بعضها البعض على نحو مكسر. ومن ثمة يمكن طرح مسألة الإحالة وتأسيس المعنى، فلم يعد الأمر متعلقا بإنتاج المعنى في ضوء واقع يحال عليه في اتصال مكوناته وعناصره، بل صار هذا الإنتاج تاما وفق النظر إلى العالم انطلاقا من إحالته على نفسه في انشطار صلابته وواحديته، منظورا إليه لا انطلاقا من تكون يتنامي في اتجاه متصاعد نحو هدف ما، وإنما انطلاقا من نهايات غير متوقعة، لم تكن إلا انفجاء نهائيا، وبالتالي يقام العالم في إحالته على نفسه وفق استعادته انطلاقا من متاح هذه النهايات بما تولده من مسافة اتجاه البدايات,. وهذه المسافة هي التي تسمح بنشوء ما يمكن تسميته بـ التجريح السردي(2). حيث يوضع كل شيء موضع مساءلة. ومن ثمة يصير محتوى هذه المساءلة ماثلا في إفراغ الكلمة السردية في نقلها العالم من يقينها، وجعلها تقيم في المسافة بين ما وقع وانتهى، وما هو حاضر خلال فعل نقل المادة السردية، أي زمن الكتابة، والموسوم بالخيبة.

فلا وجود لتوجه نحو الحفر في ماض موغل في القديم، ولا صعودا نحو معنى يتجه نحوه التاريخ، بل إن قدسية المعتقد الأخروي تجد نفسها في حالة عطالة أيضا(3)، وما يوجد فقط هو عيش زمن تجربة حوامل تعاني من العطب انطلاقا من زمن الكتابة لا يسمح بدوره للذات (الأنا) الموجودة هنا (الكاتب) باستيلاد معنى ذات أخرى موجودة هناك في التجربة المشتركة داخل عالم الحرب، تلك الذات التي تضطلع حوامل الرواية بمهمة تجسيمها سرديا. ولا يمكن قراءة بلاغة المتصل والمتقطع إلا في ضوء هذا المنظور. فالأمر لا يتعلق فقط بمسألة اتصال المادة السردية وتماسكها، فهذا مظهر توصيفي لفعل النقل السردي، وإنما بالأسس الابستيمية الكامنة وراء هذا المظهر.

ومن أهمها غياب السرديات الكبرى المفسرة أو أفولها، والشك في المعرفة اليقينية التي قامت عليها الكتابة المستندة إلى أصوات مشبعة بالإيديولوجيا، واستعصاء التاريخ وفداحة نتائجه من حيث هي حاضر موصوف بالردة، وانهيار الأحلام، وما الموت الذي يتأسس عليه السرد في رواية "غاندي الصغير" إلا عنوانا يختزل العلاقة المتوترة بين فعل السرد والتاريخ غير المنصف لحقيقة كلية فقدت جدواها. ومن ثمة فالموضوعية الناجمة عن مجموع التأويلات (التي تمنحها الثقافة ونصوصها لكي يُؤوَّل من خلالها العالم السردي) تجد نفسها بدورها معرضة إلى التفسخ، لأنها تحتاج إلى تأويل. وبالتالي يستعاض ـ أمام هذا التوصيف الابستيمي ـ عن الحبكة بوصفها الدعامة العقلانية لكل خطاب يثق في التاريخ بعدم الحبكة، أو بما يمكن تسميته بـ الترصيف السردي، حيث لا تتعدى مهمة السارد تجميع وقائع، ورصها جنبا إلى جنب، وجعل بعضها يحيل على بعض، شبيهةً في ذلك بلعبة المرايا، وكل نقص يطال واقعة ما يجد ما يكمله في واقعة أخرى، الشيء الذي يفضي إلى نوع من التماثل في ما بينها، وكأن التعدد الذي يميز اختلاف الوقائع يصار إلى وحدة آيلة إليه، لا من تكوُّن هذه الوقائع المتشابه، ولكن من المآل الذي تنتهي إليه.  

2 ـ التقطع والاتصال على مستوى السرد:
لا ينقل إلياس خوري عالمه الروائي في "غاندي الصغير" وفق اشتراطات مبدإ المتصل الذي يُمكِّن من توالي المادة المحكية متواصلةً ومتماسكةً من دون انقطاع صوب اتجاه محدد، ومسرَّدةً على نحو متدرج تكون فيه الانبثاقات النصية مبررة وفق ضرورة الصيرورة السردية الداخلية ، وكذلك ظهورات الحوامل. وإنما يضع القارئ، منذ الوهلة الأولى، أمام علاقة الكاتب الضمني المتوترة بالمحكي، حيث لا يتمثل دوره في إدخال الانتظام على شتات مادة متصفة بالتبعثر والفوضى ،وتعدد المداخل، بل يصير ماثلا في الكشف عن بنية الشتات نفسها، وفي التعبير عن بلاغة المتقطع، غير المتصل، أي ما يكتسب صلابته بفعل رخاوته، ويؤسس انتظامه من خلال ممكن الاضطراب. وتنهض هذه البلاغة على ضبط إيقاع صور ما انتهى، وتعددت نهاياته واختلفت، من دون أن يتوحَّد استنادا إلى صيرورة سردية يمكن استرداد لحظات تكوينها على نحو متتالٍ. وبالتالي يصبح فعل السرد مجرد معبر لترسبات زمنية تتراكم خارج يقين نهائي يرسو عنده الفهم(4)، ويجعل منه مرتكزا لإعادة بناء العالم بإدخال الانسجام على شتاته. وما يكسب شذراتِ المادةِ المسرَّدة إيقاعَها ـ وهي تتجاور في ما بينها، وتتبادل الواجهات الخلفية والأمامية خلال صيرورة الانبثاقات النصية ـ هو تلك الحبيكة من الترابطات التي يقيمها المكان الهجين بدوره (بيروت) بين مصائر منفصلة لحيوات لا تتقاطع إلا فوق أرض من الخيبات والمرارة.

ولا تقبل هذه المصائر انخراطها في عالم الكتابة إلا بفعل الغياب الذي يدمر وجودها الحي، أي أن ما يجعلها حاضرة خلال تنامي سيرورة السرد ماثلٌ في كونها تحمل في طياتها ما يؤشر على الزوال العبثي غير القابل للتفسير، وبالتالي فهي نتاج الموت بكل ما يحمله من معنى التلاشي والانقضاء. لكن تسريد هذه الحيوات يظل من الدرجة الثانية، لأنها ليست إلا نتاج نقل الغياب للغياب. فنحن أمام نوعين من الغياب: غياب تمثله حركة اللغة السردية في نقلها العالم، وغياب الحيوات بوصفها مادة لحركة النقل هذه. ومن ثمة يمكن توصيف الغياب الأول على أنه من الدرجة الثانية ومتصف بالافتقار إلى اكتمال وسائله (التحري ـ الفحص ـ التأكد... الخ)، ويمكن توصيف الغياب الثاني على أنه من الدرجة الأولى، ومتصفٌ بعدم المعاينة المباشرة، وبكونه موسَّطا في نقله بالآخر وكلمته. ومن ثمة يمكن القول بأن نقل الغياب الثاني المتعلق بالمادة السردية (الحيوات المختلفة) الناجم عن الموت لا يتيسر إلا بنقله عبر غياب مضاعف تعاني منه عملية الكتابة بفعل عجز اللغة عن نقل الواقع كما هو في جريانه المباشر، وذلك لأن عملية النقل تحدث في زمن غير زمن حاضر المادة المنقولة سرديا، وانطلاقا من معايشته من قبل الآخرين. ولذلك تعتبر نهايات هذه المصائر بوصفها مادة سردية مبررا حاسما لفعل سرد شذراتها، حيث يعد الاختفاء (الموت) الذي يلحق بمصير عبد الكريم (غاندي الصغير) التعلةَ الأولى لحكاية نظائره عبر أثره الماثل في التحلل والتآكل. وتضطلع سلسلة الموت القائمة على الاستلزام المتدرج بإنشاء الانتظام داخل ما يبعثه الموت من اضطراب، كما تعمل هذه السلسلة على نشوء فعل السرد وتبرير وجوده. فـ "أليس" لم تولد سرديا إلا بفعل اختفائها أو موتها، وحين صارت متمتعة بالحضور سرديالم تلد سوى حكايات تتمحور حول موضوعة الموت: "لو لم يمت كمال العسكري، لما التقت أليس بغاندي، ولم لم تلتق أليس بغاندي لما روى لها حكايته، ولو لم يمت غاندي لما أخبرتني أليس القصة، ولو لم تختف أليس أو تمت لما كتبت أنا ما كتبته الآن"(5).

تتصف الرواية ببنية دائرية ينطلق فيها الانبثاقُ السردي ونقلُه من نهايةٍ (الموت) تتضمن في قلبها بدايةً غير مصرح بها، ثم تعود إليها، كما أن البداية المتضمنة في النهاية المتكررة مفتوحة على الآتي بوصفها موتا أيضا غير مصرح به، مما يجعل من النقل السردي نقلا لا يجد نقطة إحالته المركزية إلا في تكرار الحكايات النظائر. بيد أن هذه البنية الدائرية تكتسي شكلا حلزونيا يستقي ملامحه المميزة من الفسح السردية البينية التي تتوسط سيولة السرد المبأَّر على عبد الكريم الذي يمنح حضورُ موته المتكررُ البنيةَ الدائرية صبغتَها الحلزونية. وتنجم هذه البينية السردية القائمة على حكايات موسِّطة عن بلاعة التقطع الناتجة بدورها عن موت السرد البطولي وانقضاء صلاحيته في توصيف العالم. ويوازي موت هذا النوع من السرد انتفاء التفسير المقنع لعالم ينهار من دون وجود ما يبرر انهياره. فالرواية تبتدئ بموت "غاندي" وتنتهي بموته، كما أن فصولها تُستهل بموته وتنتهي بموت غيره، أو ما يشبه الموت: القسيس (الجنون) ـ ريما (الاختفاء) ـ حبيب مالكو (الرحيل) ـ لزوم البيت والانعزال (الدكتور عاطف)...الخ.

وما بين الموت والموت يرتد السرد إلى التقاط العلاقات اليومية، وبسط لحظات الحياة الخاصة بالحوامل على هيئة ومضات لذاكرة متداخلة وحرة تتصف بالترسب، حيث لا تتبدى ذاكرة السارد ـ الناقل المفردة في تميزها المستقل، بل تحضر لتبيح لغيرها من الذاكرات إمكان التجلي عبرها: "أروي عن أليس لأنني أحاول أن أستعيدها، فأكتشف أن الذكريات ليست ذلا، بل هي مجموعة من الأوهام التي لا يمكن ربطها ببعضها، كأنها سلسلة فرطت وغرقت في قاع البحر"(6). أيعود، إذن، استعصاء تماسك استعادة الغياب إلى طبيعة المادة أم إلى فعل الاستعادة ذاته؟ أم يعود الأمر إلى كون أحدهما يعتبر سببا مباشرا في حدوث الثاني؟ لا يمكن الحسم في الإجابة إلا بإدراك طبيعة الموقع الذي ينتج من خلاله الغياب في علاقته بإرادة الحقيقة. ويتعلق هذا الموقع باستثمار الكيفية التصدعية(7)، التي لا يقف اشتغالها عند حدود اللغة والإيديولوجيا، بل يتعداهما إلى إنتاجهما من خلال بنية المحكي. ولربما كان صحيحا أن طريقة السرد ترتبط، على نحو وثيق، بإعادة إنتاج الواقع الذي يراد حكيه. ولا ينفصل، في حقيقة الأمر، اختيارُ نمط النقل السردي، وطبيعة من يتكفل به نصيا، عن علاقة الكاتب بالإيديولوجيا واللغة(8).

فالتفكك الذي يطال بنية النقل السردي ينم عن كون الواقع الموصوف والمنقول في الرواية يتصف بصبغة إشكالية تعد تناقضاتُها غيرَ محلولة، بمعنى أن الكتابة تختزن تصورا إشكاليا للمادة السردية. ويتمثل هذا التصور الإشكالي في انعدام مرجعية إيديولوجية ملائمة، أو في كون الشكل السردي المنتج من خلال الانسجام الذي توفره إيديولوجيا موحَّدة ومفسِّرة مهيأةً على نحو قَبْلِي لم يعد مقبولا بالنسبة إلى واقع يتجاوزها في تعقده، ويربكها بنتائجه وأسئلته. لكننا نعتبر الأمر غير كاف حين نحصره في هذا الجانب فقط. فإذا كانت اللغة والإيديولوجيا تشرطان النقل السردي في رواية "غاندي الصغير" وتوجهان سيرورته،فإنهما يصيران أيضا عرضة لإعادة إنتاجهما من خلاله وفق آلية التقدم والتقهقر(9). والمقصود بذلك أن نقل الغياب بوصفه الأساس في البناء السردي يتحول في حقبة معينة من الزمن إلى نمذجة مقننة من الأوفاق تعمل على فرض شروطها على اللغة والإيديولوجيا، وهي تتوسل بهما في عملية النقل السردي: "أروي الحكاية والحكاية لم تنته. الحكاية مجرد أسماء. عندما عرفت أسماءهم عرفت الحكاية"(10).

فالحكاية ليست موازية، هنا، للحبكة، أي مجموعة من الأحداث متماسكة داخل صيرورة متصفة بالانتظام تتجه نحو هدف مرسوم، ولكنها جريان للديمومة يستولي على التنبه ويجرفه معه وفق انسيابه الخاص. فالأسماء مجرد بداية لتسمية غير المسمى، وغير المحدود(11) . ذلك أن الأشياء من دون اسم تظل موحدة، ولا تتمايز إلا باندراجها داخل حيز اسمي، لأن الاسم مجال الحد والفرق والتمايز، وبالتالي يعتبر مدخلا للتعدد ضدا على الوحدة. فهو كيف وليس كما. والكيف نوعية واختلاف وقيمة، بينما الكم نسب ومقادير وكتل. والحبكة عند أرسطو ذات بعد كمي، لها بداية ووسط ونهاية. وجوهرها صيرورة فعل تام كامل، بينما اللاحبكة امتداد فقط في الزمن يشغف بجريانه من دون أن يقرنه بالنهايات التي يؤول إليها، لا بوصفها نتائجَ، وإنما باعتبارها أهدافا، كما يشغف بضبط الفروق فحسب، ولذلك تعتبر اللاحبكة ذات بعد كيفي.

والطريقة المعتمدة على هذا النحو في تسريد المادة السردية (الحرب الأهلية في لبنان) تنم عن هذا البعد الكيفي المميز للاحبكة. فتفكك السرد (و/ أو تشظيه) تعبير عن تفكك الواقع وعدم انسجامه وعدم اتساقه.كما أن علاقة السارد الضمني ـ والذي لا يسند إليه اسم يشير إليه ويُكتفى بالإشارة إلى دوره الموضوعاتي (راو) ـ يعبر من جهة عن مجهوليته، ومن جهة أخرى عن علاقته بمحكيه المتصفة بعدم اليقين، وبالتالي حين ينقل هذا السارد عن أليس ما ترويه من حكايات، فإنه يفعل ذلك من دون أن يكون متأكدا من صحة ما ينقله. وأمر من هذا القبيل يدل على استعصاء المادة السردية من جانب، وعلى انتفاء المروي النموذجي(12)، الذي بإمكانه استيعاب محكيها وتبريره من جانب آخر ، مما يؤدي بالسرد في رواية "غاندي الصغير" إلى إنتاج بنية مفترضة ممكنة للسارد تستند إلى شخصورة Portrait الجماع الذي يضنيه البعد الأخلاقي المتمثل في استحضار المروي فيه(13) ، على أنه سياق مشكل من تردد بين التصديق والتكذيب.

وبالتالي يعبر كل هذا عن طبيعة الفاعل النصي (الكاتب) باعتباره معبرا فقط للعالم، وعن طبيعة المجتمع النصي الذي تتعرض بنيته للتصدع، وكذلك أسطورة المعرفة والتاريخ داخله: الأولى في تعميدها ما هو كتابي مركزي عن طريق الإعلاء من صوت الصفوة، والثاني في أسطرته عن طريق إسناده إلى ذوات بطولية. فالأمر لا يتعلق بالتنسيب إذن، وإنما بمخاتلة مصادر المعرفة المكتوبة التي ظلت العماد في استنباط المواد اللازمة للتعبير الروائي والتي تغترف من تقاليد كتابية جمالية تنبع من المقروء الفصيح وتؤول إليه، فالسرد في رواية "غاندي الصغير" يحاذي هذه المصادر من دون أن يجعلها تتبوأ الصدارة ملتفا عليها بالاتجاه إلى الاغتراف من المعيش اليومي، والرواية الشفهية، وتاريخ الفئات الدنيا، والكتل الاجتماعية المهمشة، أي إعطاء صوت لمن لا صوت له، أو لمن حرم من أن يكون لصوته شكل ما وهيئة، بما يقود إليه ذلك من نزع صبغة الأسطرة البطولية المميزة للحكي الشفهي. لكن السرد يظل، في محاذاته للخطاب الشفهي، مؤسَّسا وفق توتر بين تطلبات مروي هذا الخطاب ومروي الخطاب المكتوب داخل بنية مروي فيه تتداخل فيه الأزمنة، لكنها تمتثل لسطوة مكان يتجاوز ممكن حدوده: "لكن عبد الكريم بعد أن بلغ نهاية رحلته لا يعرف أنه سافر أكثر من ماسحي الأحذية في العالم. لا لأنه أتى من" مشتى حسن "في عكار إلى بيروت، بل لأن بيروت هي التي تسافر. تبقى في مكانك وتسافر. فعوض أن تسافر أنت تسافر المدينة"(14). كيف يحدث ذلك إذن؟

أظن أن الإجابة عما طرح أعلاه يقتضي طرح مجموعة من الأسئلة. لماذا يبحث السارد ـ الكاتب الضمني عن مادة الحكي عند الغير (أليس)؟ وبعبارة مغايرة: لماذا يرهن علاقة الإرادة بالحكي بإرادة أخرى؟ أيتعلق الأمر بنفاد ذخيرة أم بكون الواقع لم يعد قابلا للانتظام في بنية حكاية ذات حبكة تكسبه معقوليته؟ أتكمن الغاية من ذلك في التوسل بما هو واقعي لاستجلاب أكثر ما يمكن من التصديق إلى فعل الحكي أم تتعدى ذلك إلى الحكي ذاته، حيث الخصاصة في المادة تضطر الكاتب الضمني إلى اصطناع مصدر مغاير له يتيح له إمكان الالتفاف على النقص؟

إذا كان من المسلم به أن جنس الرواية الأدبي لا يعاني من ممكن علائق، وإنما من ممكن مادة، فإن ما يضاعف معاناتها هذه في "غاندي الصغير" ماثلٌ في علاقتها بمصدر المادة(15)، لا على مستوى الخصاصة فقط، ولكن على مستوى المصداقية (و/ أو المشروعية) أيضا. فالأمر لا يرتبط، في نقل المادة المروية، بمصدر ملموس وواقعي قابل للتعيين، بل بمصدر متخيل، وبالتالي يترتب على ذلك نوع من العلاقة الأخلاقية بين منتج الخطاب السردي الفعلي (الكاتب) وموضوعز وتظهر هذه العلاقة في موضعة فعل السرد على لسان الغير (الأنثى)، وكأن الأمر يتعلق بالرغبة عن تحمل عنت المسؤولية وتبعاتها. فيتحول الكاتب الضمني ، الذي هو سارد داخلي أيضا، إلى مجرد وسيط ناقل لمروي لا يدعي خلقه. وتصير القناة المهيمنة في النقل منحصرة في السمع مقابل المشاهدة.

لكن هذا السمع يكيف وفق الطرائق التي تفترضها الكتابة، مما يضر بخصوصيته الشفهية. فإذا كانت مرويات "أليس" قائمة على مشاهدات ومعايشات، فإن الكاتب ـ السارد الضمني يكتفي بالإصغاء، لكنه إصغاء يخضع في نهاية المطاف لتمرين الكتابة، وبعبارة أخرى: يخضع لترف تمليه ضرورات النص المكتوب التي تخالف ضرورات النص الشفهي. ومما لا ريب فيه أن رواية غاندي الصغير هي إعادة ترتيب في بنية المروي الشفهي، وإن على نحو متخيل ورمزي، حتى تتلاءم مع مقتضيات المكتوب الذي يفرض سننا خاصة به، وبخاصة على مستوى التوزيع، حيث يلعب التفريد الدال على الخصوصية دورا بارزا. وتفيد خبرتنا، بوصفنا قراء، أن المحكي يوازي، كتابةً، عناية شخص اسمه المؤلف، لكن هذا الأخير لا يحضر باعتباره شخصا واقعيا، بقدر ما يحضر في هيئة شكل ما للعناية بالخطاب تكسبه صفة التميز التي تجعله على مسافة من ذاته، وبمنأى عن التكرار والمعاودة(16).

يسكن السارد، إذن، داخل الفرق بين الكتابي والشفهي. وهذا الفرق يتخذ له محتوى توسطيا رمزيا آيلا إليه من مجال الكتابة نفسها، أو من المجتمع النصي، ويتمثل في سنن المصداقية ومعيارها: أتعتبر نتاج التماهي مع العالم المنقول سرديا أم من التباعد اتجاهه؟ فالخطاب السردي المكتوب في رواية غاندي الصغير يحاول الابتعاد عن الذات المنتجة له بموضعة المروي على لسان الغير، لكنه يعمل في الوقت نفسه على إنقاذ المروي الشفهي الوارد على لسان "أليس" من المعاودة المميزة لكل خطاب شفهي عن طريق إعادة ترتيبه من خلال تثبيته، لا بفعل تسجيله كتابة، وإنما بفعل إخضاعه للانثناء النصي الماثل في تملي الخطابِ، وهو يسرَّدُ، نفسَه، أي تقويمه انطلاقا من قيمتي الصدق والكذب. كل ذلك له صلة بإنتاج الحقيقة في مجتمع نصي لا يمتلك داخل بنيته ما يمكنه من اليقين التاريخي بوصفه وعدا قابلا للتحقق. فالكاتب الضمني يقف من السند الذي يعتمده موقف شك، ويجعل من حالة تلقيه الداخلي لمروي أليس، والموصوف بعدم اليقين، موضوعَ الكتابة، إلى جانب موضوع "غاندي".

إن رواية "غاندي الصغير" تتأسس على علاقة التوتر الموجودة بين السارد الداخلي ومسروده، بما في ذلك تسريد الخطاب الشفهي لأليس وغيرها من الحوامل، عن طريق مبدإ التسوية الذي تنتج من خلاله اللغة السردية(17). فالأمر لا يتعلق باستيعاب لغةٍ ما غيرَها، وإنما يتعلق بإنتاج اللغة انطلاقا من الفرق الموجود بينها واللغات الأخرى. وهذا الفرق لا يمثل في هيئة تباعد بقدر ما يمثل في هيئة مساحة التقاء، حيث التفاعل بين اللغات تام لا بغاية الاعتراف، أو الشغف بالتعدد(18)، ولكن بغاية تلافي الخصاصة التي تحيط بخزان كل لغة، وشكل انبساطها، وهي تحاول نقل العالم المروي. ومما لا ريب فيه أن كل لغة تعدي الأخرى داخل مساحة ذلك الفرق المحفور بين مصدرين لقول العالم: مصدر الثقافة العالمة بطرائقها الخاصة في نقل غياب العالم والقائمة على المعيارية، ومصدر الثقافة الشفهية المرتبطة بالمعيش، والتي تتميز بأسلوبها المميز في قول العالم والقائم على العفوية المستندة إلى صيغ قولية متوارثة.

لكن ما يتنكر خلف الاثنتين ويجعل لغتهما تتداخلان ماثل في الإحساس بالخسارة الناتج عن فراغ يهددهما معا، وهو الشيء الذي ينعكس على طرائق الحكي في كل منهما. ولا شك أن منظورية ما تعمل على تنظيم تداخل لغتي السرد وإنتاجهما مظهري التقطع والاتصال في نقل المروي، فأليس لا يمكنها أن تحكي من دون أن تستضمر حضورَ المستمع المثقف (السارد ـ الكاتب) ورؤيةً ما حوله وحول الكتاب(19)، مستمدةً من الوعي الحسي المباشر، أو من التجربة الحياتية: "أنا بعرف واحد كاتب. كنا نشتغل عند "شاهين" أكيد ما بتذكرو، كنت بعدك ما فقست من البيضة، وهونيك كان واحد يجي كل ليلة، وقالوا إنه كاتب، وأنه مثل جبران خليل جبران، كان علقان بواحدة ألمانية شقراء، سحبت روحه ومصرياته، العمى شو كانت قحبة، حدا بيعمل هيك بزلمة إذا انغرم فيه، بس هي قحبة، شو بدي خبرك، كان يجي كل يوم ويقعد ما يهز، وكل ليلة يجيبها على طاولته ويفتح قنينة، ووجهه أبيض مثل الموتى، آخر الليل يطلع ما معه مصاري، ياكل بدن ويقعد على الرصيف ويصير يستفرغ. قالوا هيدا كاتب. اوعا تكون أنت مثله"(20)، كما أن الكاتب ـ السارد لا بد له من أن ينقل كلام أليس انطلاقا من تراتب ضمني للغات والمعرفة، وإن لم يُصرح بذلك نصيا، بما يعنيه ذلك من توتر بين خطاب صناعي ممتلئ تمثله الثقافة العالمة، وخطاب طبيعي عفوي وحسي، ومعضلات تمرير الثاني من خلال الأول عبر أسلبته انطلاقا من صناعة سردية قائمة على تراكم تاريخ قواعد الكتابة الروائية.

فأليس لا تحكي انطلاقا من موروث حكائي مؤسطر شكلي اقترابا منه أو تباعدا عنه، بل تحكي انطلاقا من لغة الحديث اليومي الشفهية المتحررة من القوالب السردية وتماسك مجاريها، وحين ينقل خطابها الموصوف على هذا النحو من متاح لغة الكاتب السردية التي تستضمر مفهوما للرواية يحدث التوتر المذكور، والذي ينشأ بموجبه تمزق الطبيعي في عفويته، وافتقار الصناعي في الكتابة إلى قوالب قادرة على استيعاب هذا التمزق. ومن ثمة ينجم عن ذلك الإحساسُ بانعدام ما يستقيم به جريان الحكاية، وتوالي سلسلتها القائمة على المتصل، ويحضر بدلا من ذلك المتقطع بوصفه تعبيرا عن الفراغ الذي يهدد تماسك المحكي. ويمكن توضيح هذه الأسلبة السردية على النحو الآتي: فأسلوب الشهادة المباشر والفوري الذي تمثله أليس يُعاد إنتاجه من خلال تذكر الكاتب، وإعادة الإنتاج هذه تامة انطلاقا من الإحساس بعدم اتساق المروي (مجموع الأحداث التي ترويها أليس)، وهذا الإحساس ناجم بدوره عن تدخل المتخيل بوصفه أسلوبا في ردم الهوة بين الوقائع، كما توفره الرواية أو امتلاء الكتابة الذي يتضمن داخله طرائق تصديقه.

لكن اللغة السردية الخاصة بالخطاب الكتابي لا تنفلت ـ وهي تحاول أسلبة الخطاب الشفهي لأليس على هذا النحو ـ من تأثير هذا الأخير على بنيتها، إذ تصير بدورها مؤسلبة انطلاقا من متاح الشفهي وخصائصه الأسلوبية: "أذكر كلمات أليس وأحاول أن أتخيل ما حدث فاكتشف ثقوبا في الحكاية. كل الحكايات ملآنة بالثقوب. ولم نعد نعرف أن نروي. لم نعد نعرف شيئا. وحكاية غاندي الصغير انتهت. الرحلة انتهت والحياة انتهت"(21). فالجمل النصية الواردة، هنا، تنقل إلى السرد المكتوب إيقاعَ اللغة الشفهية القصير، والانتقال الانسيابي من دون إيلاء الاتساق أهمية، ومعاودة الكلمات وكأنها تخشى ضياع أثرها. لكن كل ذلك يحدث من دون الإخلال بصلاحية سمت الخطاب السردي الذي يبحث خلف سر الحياة عن اتساقها ووحدتها، بل ويمثل علاقة الإرادة بالمعرفة الماثلة في فهم العالم. ولا تقدم تلك الصلاحية إلا في حالتها المنتهكة من غير تعليل لهذا الانتهاك، ، أي من دون إرجاعه إلى علة. كما أن هذا الانتهاك يمرر من خلال حسرة غير ورعة، حيث الأمثل متمثل في معرفة طريقة الحكي الذي يتعرف الراوي (و/ أو السارد) فيها على أثر فعله الممتع. ولا يتأتى أثر الإمتاع إلا بعدم النقصان، والمعرفة بمآل الحكي الذي يجب أن يستمد كماله من النهاية، وليس الانتهاء، لأننا قد ننتهي من الشيء من دون أن تكون نهايته واردة. ولا تتأسس اللغة السردية في غاندي الصغير إلا داخل هذا المنطق الذي تصاغ به الخسارة ممهورة بالحسرة، حيث بلاغة الامتلاء منتهكة بفراغ مهدد، لا سبيل إلا تلافي وقعه إلا بمحاذاته، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى غاندي الصغير الذي هرب من الموت صوب الموت: "وخاف من الموت فراح لعنده ومات"(22). ومادام الخطاب الأدبي، وضمنه السرد، معنيا في تأسيس مشروعيته بالاختيار بين الصدق والكذب، فإن حركة السرد تتجه في "غاندي الصغير" إلى الالتفاف، بوصفه حدا، يقبل حياد الحدين المذكورين. 

3 ـ شبه الفعل والاتصال والتقطع:
لا تقتصر بلاغة المتقطع والمتصل على علاقة السارد بكلامه، ولا على بنية المحكي وتماسكها أو تهلهلها، بل تمتد إلى هوية العالم، وصياغته سرديا. فإذا كان نشوء الملفوظ السردي يتطلب إلى جانب خاصية التزمن اشتغال المكون الصيغي الحقلي (الاستثنائي/ العادي)، فإنه يصير كذلك في رواية "غاندي الصغير" وفق اشتغال هذا المكون، لا على مستوى علاقة إرادة الذات باستعمال الموضوع، وإنما على مستوى الذات نفسها. والمقصود بذلك أن عملية نفي الطرف (العادي) من المكون الصيغي الحقلي، وإثبات محله الطرف الضد (الاستثنائي)، تامةٌ على مستوى الهوية بوصفها مجال تعرف يكتسب الحاملُ بموجبه وحدتَه التي تمنحه القدر الكافي من التماهي القائم على استمرار الصفات عبر السيولة السردية، أو التنامي السردي، بما يعنيه ذلك من إنتاج لخاصية الإحالة التي تجعل القارئ يتعرف الحوامل من خلال تكرار نقط مرجعية صفاتية خاصة بها تشير إليها طيلة تتالي السرد.

قد يحدث تحول ما خلال جريان السرد ينجم عنه تحول ما في هوية الحامل، وهذا أمر لا يمكن دحضه أبدا، فكثير من النصوص الروائية قائم على هذه الخاصية المميزة، بل إن قيامها عليها هو ما يسمح في أحايين عديدة بضمان خاصية التزمن بوصفه أثرا للزمن في الموضوع، أو في الذات، يفضي إلى تكوين جانب من الملفوظ السردي. بيد أن هذا التحول ينقل الهوية من مجرى إحالاتي ذي مجموع صفات محددة تتكرر إلى مجرى آخر ينقل الإحالة بما تقوم عليه من مسندات إلى مستوى آخر تأويلي قائم على استبدال في الهوية. غير أننا حين نربط، في رواية "عاندي الصغير"، بين مسألة المكون الصيغي ـ في إثبات طرفه (الاستثنائي) ـ والهوية بما تستجلبه من مسندات (مجموع الصفات) إلى الحامل قصد خلق الاستمرار اللازم لتعرفها، بما يعنيه ذلك من اتصال، في مقابل التقطع، لا نقصد هذا النوع من التحول الذي أتينا على ذكره أعلاه، وإنما نقصد إقامة الهوية الخاصة بالحوامل بين حدين من دون الاستقرار في أحدهما، أو التحول إليه، بما يفيده ذلك من نحو محايد ينجم عنه موقف عدم المبالاة(23). فلا يبنى الحامل وفق التركيب بين لحظتي إحالة متضادتين في أفق حد ثالث يمنحه هوية متفاعلة، ولا وفق التشطير، بحيث يحدث الانتقال من لحظة إحالة إلى أخرى، بما يفيده ذلك من هوية جذرية، بل يبنى الحامل وفق التوزع بين حدين يفقران إلى هوية مستقرة تجمعهما، الشيء الذي ينجم عنه تقطع في بينة الحامل توازي تقطع المحكي، كما عالجناه سابقا، وتوازي مفهوم الحياة من حيث هي مادة عامة للحكي، كما سنرى فيما بعد.

"هذا التقطع في الهوية لا يتخذ هيئة تناقض غير محلول، بل شكلا من التكوين الصميم لها، حيث ثنائية الظاهر والباطن تفقد ضرورتها، ويصير الظاهر وحده منقسما على نفسه، فالزعيم في الموصل ـ بالرغم من حيطته، واتصاله بأليس في قبو مظلم ـ لا يتخفى إلا لكي تظهر حقيقته عارية في الأخير: "أنت أنت"، صرخت/ "هش، هش" زفر الرجل الواقف/ "أنت الزعيم الأوحد، عرفتك يا ابن الشرموطة"./ ركض في الغرفة، ثم اختفى./ وهربت أليس، قالت أن لا أحد اعترضها، في اليوم التالي ذهبت إلى المطار ورجعت إلى بيروت"(24). وهكذا نجد أن الحامل "الزعيم" ينقسم على نفسه وتصير الإحالة المكونة لتوالي حضور هويته السردية ماثلة في التراوح بين القوة والعجز، حيث يصير أثناء اختلائه بأليس مماثلا للطفل، وفاقدا الرجولةَ والقوةَ اللتين تعدان من مكونات الزعيم العربي.

والأمر نفسه يقال بالنسبة إلى "أبي جميل" الذي تتراوح هويتُه السردية متقطعةً بين الورع (و/ أو المحافظة) والقِوَادة لا بوصفهما متضادين يُولَّف بينهما، وإنما بوصفهما لحظتين من الهوية يُتراوح بينهما ليحيلا على تتال في تنامي الحامل سرديا: "فهذا الرجل الغريب الأطوار، البيروتي حتى العظم، الذي لا يعيش إلا في الليل، يعامل فتياته كأنهن بناته./ "أنا رجل مؤمن"، كان يقول، أنا لا آكل المال الحرام"(25). ولا يقل الملازم طنوس تقطعا في الهوية، في هذا الشأن، عن الزعيم وأبي جميل، فهو يتراوح بين القوة والعجز، وبين الإيمان والفسق، أو تقام هويته في السكن بين هذين الحدين(26). أ يتعلق الأمر، إذن، بمادة روائية تستعصي على التماهي داخل وحدة ما قادرة على توفير أسس الفهم اللازم للعالم السردي الذي ينقل انطلاقا من موضوعة حرب موسومة بالعبث، وغير مبررة، أم يتجاوز ذلك إلى خصيصة ملازمة فعلا لهوية الإنسان العربي، وهو يقف أمام دوامة العصر من حواليه غير متملك مصيرَه؟ إن الرواية تجيب عن هذا الإشكال وفق رؤية جمالية مميزة، وعبر تحويل الشكل الفني للرواية إلى كلمة تقول أكثر مما تقوله اللغة. ولا تفعل ذلك إلا انطلاقا من بنائها لمفهوم الفعل في علاقته بمادة الحياة ـ وهي تحضر من خلال موضوعة الحرب ـ على نحو أكثر خصوصية ودلالة.

لم ترصد الحياة، بوصفها مادة الخطاب السردي، على أنها فعل مكتمل يُرسم وفق خطاطة تتجه نحو أهداف مرسومة من قبل، بل على أنها فعل يعاني من فراغ في بنيته التي تضمن له الفعالية اللازمة. ويؤثر هذا الفراغ في خاصية الجهد التي تعد ضرورة جمالية في تأسيس أية صيرورة سردية، بحيث يصير بدوره مجرد بنية فارغة. ويكفي تمعن قول الكاتب الضمني لإدراك ذلك: "كيف أروي حياة لم يعشها أبطالها، بل هي التي مرت بهم. كأنها فعل اخترقهم. هكذا عاشت أليس وعاش غاندي، حتى الزليع لم يكن أكثر من ممرر لهذا الفعل الذي يخترق الجسد ويحيله إلى كتل من الخلايا المتناثرة"(27). فالفعل المكتمل، لا الموفَّق، يعد نوعا من التحقق الناتج عن توفر النية والقصد والرغبة والاختيار. وكل هذه المواصفات لا تعتبر مكونة لطبيعة الفعل الذي يحرك الحوامل في رواية "غاندي الصغير"، لأن شبه الفعل هو الذي يصوغ علاقتهم بالحياة والعالم.

ويقوم شبه الفعل هذا على استجابات إلى العالم، على هيئة نداءات ملتبسة، لا تعقل تموضعها داخل منطق التجديل بين المفكر فيه والتحقق، ولا داخل منطق الخسارة والربح، فالحوامل مجرد معبر لأفعال الغير التي تتجاوز قدراتهم، وربما وعيهم. فهم من جهة على صلة بما حولهم، ومن جهة أخرى منقطعون عما يجري في محيطهم، أو هم يقيمون بين الأمرين. ويجمع شبه الفعل ـ الناجم عن وضع الحوامل هذا ـ داخل بنيته بين خاصيتي الاضطرار والاختيار معا. فالحوامل لا تفعل إلا مضطرة انطلاقا مما يختاره الغير لها، كما أنها لا تمتلك من الفهم ما تستطيع به تعليل طبيعة فعلها أو أفعال غيرها، وكل ما يتوفر لديها، من أجل استيعاب حياتها، هو النظر إلى نفسها من خلال آثار حياة الآخرين ومخلفات أفعالهم. فما يمتلك التقرير فيه كل من "غاندي" و "أليس" فقط هو قدرتهما على إعادة حكي ما عاشاه، وتكراره، وفق تقطع لا يلتئم أبدا. وبالتالي يعتبر فعل الحوامل في رواية "غاندي الصغير" ممررا من خلال شكل القدر، لا محتواه، لأنه لا يسند إلى أية ذات متعالية، أو اضطرار متعال، بل يتخذ فقط هيئة حدوث غير مبرر، والذي يتأسس على الصدفة بكل ما تتصف به من فجائية غير قابلة لأن تكون مستوعبة من قبل معقولية ما.

فحتى القدر بهذا المعنى الذي يمكن أن يفسِّر الخيبةَ بعدم اتخاذ الحيطة والحذر، يتراجع عن صلاحيته هذه، ويكتفي بالانبثاق الغامض، لأن الحوامل لا توقع لديها، أو هي مفرغة من الانتظار الذي بإمكانه أن يهب لحياتها معنى ما، فهي مرغمة على أن تعبرها مشيئة مجهولة لا يقبل مصدرها التعين، ولا التسمية، بل إن هذه المشيئة تحاذي الحوامل من خلال أثرها (الحرب)، لكنها تبدو لها وكأنها ليست كذلك، لأنها تفتقر إلى ما يجعلها علة كافية لفهم ما يجري. ومن ثمة تتحول الحوامل التي تنتهك الحياة بما تمارسه من قتل، بما فيها حصن ابن عبد الكريم، إلى ظلال فقط، لا كائنات واقعية قابلة لتجسيم متصف بالتمثيل العقلاني. كل ذلك يتساوق مع بلاغة المتقطع، حيث الاستمرارية منتفية بانتفاء اتصال الأفعال بوصفها نتائج بأسباب مقنعة. كما تجد هذه البلاغة تفسيرها في انتقال فعل السرد من النقل القائم على بنية التمثيل ـ بما يفيده من ضبط الإحالة حسب انطولوجيا محدِّدة تجد تفسيرها في "الكائن هنا"، وفق هم تاريخي يسمح بتأويل وجودها على أنه استمرار ـ إلى بنية من الظلال المائعة (دولوز) التي تنتج إحالة انطولوجية مؤسسة على الأثر المنقطع عن جذوره.

فكل الحوامل تقريبا تعاني من معضلة الاسم ووحدته، إذ تتعدد أسماؤها، ، لأنها تجد نفسها عرضة لتعين يصنعه الغير فتتحول إلى أثر لندائه، كما أنها تعاني من الهروب من انتماء مكاني، من أجل الانفصال عنه، من دون أن تفلح في ذلك، لأنها تحمله في داخلها متخذا صبغة نذوب، وما هذا الانتماء المكاني سوى الامتداد العائلي بوصفه نقطة استناد مرجعية. وأصل اجتثاث الحوامل من جذورها ناجم عن خلل ما في العلاقة بالأب غير القابل للإصلاح (غاندي ـ أليس). كما أن العلاقة بهذا الأب لا تستهدف قتله رمزيا، بل تكتفي بوضعه في دائرة النسيان فقط من خلال الهروب. ومن ثمة يتجلى العطب في علاقة الحوامل بالهم التاريخي المختزل إلى الامتداد العائلي في الافتقار إلى القدرة على تصفية الحساب مع الموروث بوصفه أبا رمزيا في عنفه القامع (اغتصاب أليس من قبل الأب ـ سجن غاندي من لدن أبيه في المغارة). وربما كان أصل شبه الفعل ناجما عن عدم تملك الحوامل ما تستطيع به تصفية الحساب مع الأب الرمزي على نحو لا رجعة فيه، إذ تحمل في داخلها، ومن خلال التذكر، ما يشي بالحنين إليه، كما هو الأمر بالنسبة إلى غاندي حين عاد إلى القرية من أجل تشييع جنازة أبيه، حيث كان الغفران بمثابة تعبير عن هذا الحنين.

إن شبه الفعل الموصوف، على النحو المذكور أعلاه، يحيل الحوامل في الرواية إلى مجرد مسرح لفعل آخر مفارق متصف بقدر هائل من المجهولية، لا يظهر إلا من خلال آثاره، أو الأعراض التي تتبدى في هيئة تآكل وحت (موت، جنون، تيه، انعزال... الخ). كما يحيل هذا الفعل الحوامل، في الآن نفسه، إلى كيانات غير متماسكة، أو ذرات منفصلة، أو مجرد لحظات لا تقبل أن تكون مندرجة داخل منطق علي، ولا الانتظام وفق صيرورة تمكن من الإمساك بجوهر يحدد علاقتها بنفسها من جهة، وعلاقتها بالعالم المحيط بها من جهة أخرى. وبالتالي يلتقي كل من شبه الفعل العائد إلى الحوامل، والفعل الآخر المؤسس على المجهولية، في كونهما معا غير مبررين على الإطلاق.

فكل الحوامل تأتي من عمق الكارثة (الحرب)، لتجد نفسها، وقد انتهت داخل دائرة من الجنون والتيه، أو الموت. ولذلك لا تستشرف الحوامل الحياة، ومعها الذاكرات المعنية باستعادة لحظاتها، إلا مما يسمح به الوهم من إمكان لمداعبة العطب، والإقامة داخل المسافة الموجودة بين الصدق والكذب. وما يجعل حياة الحوامل قابلة للتصديق منتف، لأن المنطق الذي بإمكانه تقبل تبعات هذا التصديق لا يستسيغ حضورها على هذا النحو المدمر من دون وجود سلسلة تجعلها تنتظم داخل دائرة الفهم وصيرورة الحياة ذاتها. وبالتالي يحدث كل ذلك من دون أية مبررات مقنعة لحدوثه. فالحدث يحدث لأنه حدث على هذا النحو أو ذاك فقط، وليس لأن ضرورة ما اقتضته. فكل الحوامل أتت إلى بيروت من أجل حماية هشاشتها، لكنها وجدت نفسها معرضة، في نهاية المطاف، لانتهاك لا يقدر حجمه. ووجدت نفسها تهرب من الهشاشة الداخلية لتحتمي بهشاشة خارجية أكثر رخاوة، ولا فكاك من صلفها. كما أن الحوامل تبدو أمام هذا الفعل ـ في نهاية المطاف ـ غير قادرة على تأويل ما يحدث، فلا تستند إلى تفسير موضوعي بإرجاع الحدث إلى علل ما، ولا تمتلك من التجربة الحياتية ما تؤوله به. وكل ما تستطيعه هو إعادة سرد هذه التجربة من خلال منطق الحسرة والتأسي.

إن العطب موجود داخل الحوامل وخارجها في الوقت نفسه، لكنها لا تسعى، على الإطلاق، إلى موضعته لا في الداخل ولا في الخارج، بل تعيشه وتحسه فقط، من دون أن تمتلك القدرة على تسميته. فهي لا تعاني من العطب فحسب، ولكنها تجعل منه تعلة لوجودها. ولم يكن هذا العطب ليجد له مبررا في نقطة محددة من الحياة، بقدر ما يمتثل أمام الحوامل في هيئة تراكم يعرض من خلال عملية زمانة لا تستقر عند لحظة محددة. وبالتالي ما يمكنه أن يكون مسعفا في التعرف على العطب يظل رهنا بقراءته من خلال قراءة زمن انطلاقا من زمن آخر. فالحوامل تهرب من ماضيها، بيد أنها تسجن حاضرها في هذا الماضي. وتتخلص من زمنها الأول لتجعله على الدوام دليلا على وجودها الآني. لكن هذه المفارقة تظل ممررة عبر زمن أشمل، هو زمن الموت الذي يظهر من خلال اللازمة التي تتكرر غب كل فصل من الرواية. فمنه ينبع الحكي وإليه يعود. وتشتغل هذه اللازمة بوصفها تكرارا أو عودا لا يكف عن التذكير بمآل لا يرتفع، ومن ثمة فهي دالة ـ من جهة ـ على استمرار صفة للتاريخ غير مرضية ماثلة في اتصال صيرورة العطب التي يمثلها الموت، ودالة ـ من جهة أخرى ـ على كونها توفر إيقاعا بسمح بوصل المتقطع سرديا.  

أكاديمي وناقد من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الرواية: ص 141.
(2) ـ استعرنا هذا الاصطلاح من علم الحديث، من دون التقيد بضرورته الإجرائية في مجاله الخاص. ونقصد به خاصية محددة تميز فعل السرد خلال نقله المادة السردية، وتتمثل هذه الخاصية في عدم وجود ما يجعل فعل السرد يثق في ما يرويه، وفي انقلاب الكلمة السردية على نفسها عن طريق الشك في صدقها، وإعادة تقويم داخلية لما يروى.
(3) ـ نشير هنا إلى التصنيف الذي وضعه بول ريكور للتأويلات الكبرى، حيث حصرها في التأويل القائم على حفريات الذات والذي يتجه في عمله نحو الماضي، والتأويل الغائي القائم على مبدإ الروح وهي تحكم على التاريخ أن يقرأ صوره في الصور التي تليه، ومن ثمة فهو تأويل مستقبلي. والتاويل القائم على المقدس والذي يجعل من المعتقد المؤسس على الأخروية مبدأه الحاسم في الفهم والتفسير، وهو تكراري الصبغة يوجد قبل الزمن وبعده.
ـ راجع، بول ريكور: صراع التأويلات، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، نشر دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت،2005، ص 54 ـ 55.
(4) ـ إشارة إلى الفكرة التي يرى بموجبها بول ريكور، في كتابه "الزمن والسرد"، أن ما يجعل العالم السردي قابلا للفهم ماثل في الحبكة التي تمنحه المعقولية اللازمة.انظر:
Paul Ric ur: Temps et récit , Ed: Seuil, Paris, 1982
(5) ـ إلياس الخوري: غاندي الصغير، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1989 ، ص 18.
(6) ـ الرواية: ص 14.
(7) ـ تتحدد الكيفية التصدعية وفق التصور النظري الذي أقمنا صرحه على النحو الآتي: "يقوم الموقع في هذه الكيفية على تحيين العلاقة بيت الراصد ـ السارد وفعل رصده الحامل بوصفه موضوعا. فمسألة أداة النقل أساسية، هنا، نظرا لكونها المجال الذي يتجلى فيه الصدع بارزا، مما يؤثر في طبيعة الحامل ذاته. وتنتج هذه الأداة الغياب انطلاقا من موقع انشطاري احتمالي. ويتسم هذا الإنتاج بوجود مسارين: مسار الموضوع، ومسار فعل النقل. فالغياب الذي يتأتى من جهة مسار الموضوع يتصف بكونه مواجها بأنواع مختلفة من الحضور، مما يؤثر في طبيعة إنتاجه ، بحيث يتشكل على هيئة تمزقات غير ملتئمة تبرزها أنواع الصدوع التي تتخلل أنماط الحضور المختلفة. وبالتالي يقدم الغياب ذاته كآثار جزئية للموضوع تتجمع عبر مواقع متباينة، أو عبر موقع واحد يتقلب على نفسه باستمرار، وذلك لبناء حقيقة لا تتجه توا إلى غيابها، بل مداورة، من دون أن تستقر على تحو نهائي وقطعي، لأنها مشبعة باحتمال لا يكتفي بالتعبير عن نفسه، وإنما يتجاوز ذلك إلى التساؤل عن طبيعته. فلا شيء يمكن التأكد منه، أو إحاطته باحتمالات صلبة، ومن ثمة يكون إنتاج الغياب موجها صوب انتظام أجزاء موضوع أو عالم من دون حجم أو ترسبات. ويتبدى هذا الإنتاج في الافتقار إلى المعقولية التي تجعل تلك الأجزاء منتظمة داخل كل متماسك... ويتساوق إنتاج الغياب على هذا النحو مع ضمور المنظومات الإيديولوجية الكبرى... وأما الغياب الذي يتأتى من مسار فعل النقل، فيتجلى في انعكاس إنتاج غياب الموضوع على الذات الناقلة له. بيد أن الأمر لا يتعلق هنا بتعويض علاقة الإرادة بالحقيقة، على مستوى الموضوع، بغنى على صعيد الشكل الذي تقدم به الذات هذه العلاقة، بقدر ما يتعلق بعملية التفاف على الغياب بعرضه كما هو، من دون انشغال بما يحقق صلاحيته، أو عدمها، لأن هذه الصلاحية تتعرض بدورها للاهتزاز. ويتخذ هذا الالتفاف صبغة انقلاب فعل النقل على ذاته..." ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى أطروحتنا لنيل دكتوراه الدولة: إشكالية النص السردي من خلال رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف. التكون. التنامي. الطبولوجيا. نوقشت بتاريخ 28 ـ 4 ـ 2005م، بكلية الآداب، الرباط، مرقونة.
(8) ـ هذا الرأي يعود إلى بيير زيما، وهو وارد في كتابه:
النقد الاجتماعي، ترجمة: عايدة لطفي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى،1991.
(9) ـ هذه الآلية تعد إلى جانب آليات ثلاث أخرى مكونة للمنهج التجديلي التضافري الذي أسسناه بغية تجديد المقاربة النصية.ويتمثل دور هذه الآلية في ضمان المرور من مستوى نصي إلى آخر، مع مراعاة التأثير المتبادل بين المستويات، هذا فضلا عنا يتيحه ذلك من تجاوز للتراتب بينها على مستوى سلم الأفضلية، ومن تلاف لمعضلات اعتماد مفهومي البنية السطحية والعميقة، وما يثبرانه من أسئلة على المستويين المنهجي والمعرفي.
(10) ـ الرواية: ص7.
(11) ـ يتسق هذا الفهم مع التحديد الذي يفسر اختلاف الرواية عن كل الأنماط السردية العتيقة على مستوى علاقتها معرفيا بالواقع. فإذا كان السرد العتيق يقبض على المحدود من خلال غير المحدود (المتعالي الجاهز)، فإن الرواية تعمل، على العكس من ذلك، على القبض على غير المحدود من خلال المحدود.
(12) ـ نقصد بالمروي النموذجي بنية سردية كبرى توفرها الإيديولوجيا يُفسَّر بموجبها العالم، وتُتَحيل أهدافه. وكل إيديولوجيا تتضمن مهما اختلفت صياغتها النظرية حكاية ما للعالم تصف نشوءه والمآل الذي يُصار إليه. ومهما أسرف الخيال السردي في إبداع ممكناته الخاصة لا ينفلت من الوقوع في حبائل المروي النموذجي للإيديولوجيا.
(13) ـ المقصود بالمروي فيه ما يشير إليه جيرار جينيت بـ Diegese في كتابه "Figure III"، والدال على مجموع الظروف التي تحيط بعملية السرد، وبعبارة أخرى السياق الذي ينتج فيه فعل السرد بوصفه نقلا لوقائع معينة.
(14) ـ الرواية: ص 10.
(15) ـ كل حكي متخيل، بخلاف التاريخ، لا بد له من أن يستند إلى صيرورة محددة لما هو حدثي تعمل على ضمان تتاليه في الزمن، وفق منطق علِّي يضمن له الانسجام، وبالتالي فممكن العلائق ناجم عن هذه الصيرورة، ومن المفترض أ ن يكون موجودا قبل المادة السردية من حيث هي مصوغة من أحداث محددة، وقبل المادة من حيث هي عالم مشكل من معطيات معينة (أشياء ـ شخصيات ـ صفات... الخ).
(16) ـ ميشال فوكو: جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي ـ عبد السلام بنعبد العالي، دار نوبقال، الدارالبيضاء، 1988، ص 13.
(17) ـ يتمثل المقصود بهذا المبدإ في كون الكتابة الأدبية، سواء تعلقت بهذا النمط من الإبداع أو ذاك، تعمل في علاقتها بباقي أنماط الخطاب الأخرى على ممكن تنازلات من جانبها، أو من جانب ما تعمل على إدراجه داخلها. لكنها تعيد، وهي تفعل ذلك، إنتاج هذه التنازلات من خلال وضع السارد بوصفه بنية مفترضة ممكنة لنقل الغياب، أي باعتباره وضعا مؤسسا على مجموعة من القواعد والأسس.
(18) ـ نلمح هنا إلى ما أرساه باختين بصدد اللغة الروائية، واعتماده التعدد اللغوي ركيزة في التنظير لها. فالأدب يتصف عامة، وضمنه الرواية بوصفها مكونا من مكوناته، بالجنوح نحو المغايرة، والخرق. وبمعنى آخر يعتبر خطابا يتميز على مستوى الإنتاج بالخصوصية.ومن ثمة لا يكون فيه الأسلوب اجتماعيا على نحو صرف، ولا فرديا، وإنما أسلوب عبر فرداني، يفكر في ذاته انطلاقا من بنية للتأليف تسم عصرا معينا، وانطلاقا من الفرق اتجاه هذه البنية، واتجاه غيرها من الخطابات التي تجاوره. فالكثرة أو التعدد لا ينشطان إلا في النصوص التي يدمر فيها المركز والمؤسس والمعياري، بما في ذلك كل التصنيفات المنمطة للكتابة. إن مظاهر السخرية والتنكر والتكسير والمنافحة وغيرها ليست دليلا على التعدد، لأن كل ثقافة تتضمن، داخل آليات إنتاج الخطاب فيها، الحاجة الضرورية لمثل هذه المظاهر من أجل اِلإشارة إلى الفروق التي بواسطتها يعاد إنتاج الحدود، لا انطلاقا منها، ولكن انطلاقا من المسافة بينها، حيث التوسطات الرمزية تفرض الوجهة الضرورية لكل خطاب جدير بصفة التداول.
(19) ـ "أنت شو بتشتغل".
  "أنا كاتب، بشتغل كاتب".
  "ولشو الكتابة، دخيل الله" ظ
  "تنألف كتب ونخترع أبطال، وتقراها الناس وتتسلى".
  "بيتسلوا بالتلفزيون، مش أحسن". "الرواية": ص 138.
(20) ـ الرواية: ص 139.
(21) ـ الرواية: ص 12.
(22) ـ الرواية: ص 18.
(23) ـ إننا نعتمد في بناء هذه الاستخلاصات على المقاربة التجديلية التضافرية كما أرسينا دعائمها في مشروعنا النظري العام. ولمعرفة الأبعاد النظرية والإجرائية المستعملة في هذه الدراسة يستحسن الرجوع إلى:
ـ عبد الرحيم جيران: في النظرية السردية، در إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2006.
(24) ـ الرواية: ص67.
(25) ـ الرواية: ص61.
(26) ـ نورد بالنسبة إلى تراوح هوية طنوس بين حدي العجز والقوة الإثبات النصي التالي الذي يتعلق بمفاجأته من قبل زوجته في شقة أليس يخونها معها، والخطاب يبدأ في هذا الإثبات بتعنيفه من لدن الزوجة: "امشي معي، ابن الشرموطة، والله لأفضحك"./ هنا حدث أمر غريب. كانت أليس تتوقع أن يصرخ بها طنوس أو يضربها، لكنه أحنى رأسه أمامها ومشى إلى البيت. وأليس حين تتذكره الآن، تتذكر كلبا أبض لف ذنبه. ربما لأنها روت الحكاية عشرات المرات، كانت تنهيها دائما بعبارة أنه "لف ذنبه ولحقها". أو ربما بسبب بنطلونه الأبيض وقميصه الأبيض، كان كل شيء فيه أبيض، جين مضى. كأنه كلب صغير أبيض يلف ذنبه. "الرواية": ص 69.
ونورد بالنسبة إلى التراوح بين الإيمان والفسق الإثبات النصي الآتي: "كانت أليس تذهل من نوبات الإيمان التي كانت تصيب هذا الرجل. فهو في الكثير من المرات، وبعد أن ينام معها، يبدأ بالصلاة بالسريانية، يقيم قداسا مارونيا كاملا وهو عار، ثم يبدأ خطابه السياسي" الرواية: ص 70.
(27) ـ الرواية: ص141.