يمحص الباحث الجزائري هنا سيميائية الخطاب المقدماتي نظريا، قبل أن يتأمل استخداماته المختلفة في السرد العربي، ثم يحلل توظيفاته المتعددة بشكل مفصل في رواية (طوق الياسمين) لواسيني الأعرج.

سيميائية الخطاب المقدماتي

في (طوق الياسمين) لواسيني الأعرج

رابح بوصبع

يعد الخطاب المقدماتي نصا موازيا، يقوم بعملية التمهيد للمتن اللاحق، إذ يقوم بعملية التبشير به، والتلميح بنواياه، يقوم بتسليح القارئ بآليات وأدوات تكون فيصلا وموجها في العملية القرائية، فالمقدمة تحمل جينات العمل وتبشر به وعلى ضوئها وتحت وهجها ينسج متوالياته الدالة والرامزة، وهو ما يسميه هنري ستران: الحديث الاديولوجي(1). وبرغم ما تحمله من كثافة دلالية، فإنها تظل اقل روائية من المتن.

أصبح الخطاب المقدماتي (معنى لتأكيد الهوية الثاوية في ألياف النص، هوية الكائن والكاتب ضمنه والجنس الروائي أيضا(2). ولقد أدرك الروائيون ما لهذا الخطاب من مكانة، فتمردوا على الخطاب الكلاسي بمقدمات مبتسرة قصيرة، لا تكون وثيقة استعمال للعمل الإبداعي، بل تفتح بابا للتراكمات والاخييلة والانزياحات والإحالات التي قد تكون مقتطعة من أعمال أو أقوال أو حكم تعكس المنهل الثقافي والفكري والفلسفي للمؤلف، كما تحدد أثر القراءات السابقة على العمل، والأثر الذي يتركه وهج النص المقروء في العملية الإبداعية لذلك يأتي الخطاب المقدماتي منسجما مع مسارات المحكي ويشي ببعض تمفصلات المتن. وتتنوع هذه الخطابات وفق مقصدية المؤلف إذ يجعلها تتحرك وفق غايات فنية، سردية جمالية، ودلالية، فيتنوع الخطاب المقدماتي بحسب مقدميه. 

الخطاب المقدماتي الذاتي:
وهو الذي ينجزه المؤلف بنفسه، يقدم به عمله، فقد يكون إشارة أو تنبيها أو توجيها قرائيا للمتن يبرز من خلاله مناطق الضوء والظل ويحدد مسارات الشخصيات، أو يحيل على دليل تاريخي، ثقافي، سياسي وغيره يكون نقطة الانطلاق في استكشاف أول المفاتيح للولوج إلى النص. 

الخطاب المقدماتي الغيري:
وهو الذي تقوم به شخصية عموما من نفس حقل العمل المبدع بعملية الإشهاد على صدقية العمل، وهي عملية تكمل القصور المحتمل في النص، وبذلك تقوم المقدمة بدور دفاعي نقدي وكذا إشهاري يضمن التداول والاستهلاك في السوق. 

الخطاب المقدماتي المشترك:
ويكون على شكل حوار بين الكاتب وشخصية نقدية، يظهر الروائي من خلاله وجهة نظره، ويلقي من خلاله ومضات تخدم المتلقى، والتي لا يستطيع أن يكتشفها إلا من طرف الكاتب.  

تنوع الخطاب المقدماتي:
أما عن تنوع الخطاب المقدماتي، فقد أحصى جيرار جينات أربعة أنواع(3)، وهي:

1 ـ مقدمة حوارية:
تعتمد الحوار والإجابات، تكون لجلاء المشهد وإزالة اللبس والغموض، الذي يكتنف القارئ، وبالتالي تقوم المقدمة باحتضانه حتى لا يصطدم بها وتعطيه ضمانات لجلبه وتحبيب العملية القرائية إليه، ويكون الحوار متموقعا حول رؤى الرواية، والذات، والتاريخ.

3 ـ مقدمة شعرية:
تكون المقدمة قصيدة أو جزءً من قصيدة، قد تكون ذاتية أو غيرية، كشكل استفزازي للقارئ في التقديم لعمل ليس من جنسه، وفي الرواية خاصة، فتكون القصيدة محضناً وخلفية قرائية، تثير فضول القارئ وتجره إلى المتن.

3 ـ مقدمة تفسيرية:
تقوم المقدمة بتفسير مواقف البطل ورؤيته، ويُلجأ إليها، لأن التخييل يعتمد التعقيد والإيهام، مما يجعل عملية المتابعة والتشويق عصية على القارئ، تقذف في روعه شيئا من الاستئناس بتفسير بعض المواقف وتبسيطها.

4 ـ مقدمة سردية:
هي مقدمة تحتوي على بعض العناصر السردية في مكوناتها التي تعتمد على السرد كالاستهلال ببعض أقوال المفكرين، والعلماء ورجال الأدب، والفلاسفة من الذين لهم سمعة وصيت، واشتغلوا بالحقل السردي والنقدي، أو غيره من المجالات، وتكون هذه المقولات معالم زمنية، ومكانية، وفكرية، يقرأ من خلالها المتن وتثبت بذلك وثاقة الارتباط بين المقدمة والمتن، والتي لم توجد إلى من اجله، ومن أجل تقديمه،ذلك أن المقدمة «تسعى في وقت واحد إلى كشف نموذج الجنس الذي تتحدث عنه وكشف نموذج قراءتها»(4).

وتعد المقدمة منطقة حاسمة ونقطة التقاء تقرر مصير الفعل القرائي والإقبال على العمل، فتكون مكانا للتفاوض والمناورة والمداراة بين المبدع والملتقى، يحاول المبدع أن يضمن وجوده ويملي توجيهاته من هذه المنطقة الحاسمة ذلك «أن الكاتب الذي لا يوجد قبل متن كتابه لا يوجد بعده»(5)

شكل الخطاب المقدماتي لطوق ياسمين:
جاء الخطاب المقدماتي للرواية مكونا من فضائين متباينين، فضاء أعلى الصفحة مكتوب بلغة عربية فصيحة، وهو نص مقتطف من كتاب ابن حزم الأندلسي الموسوم ب: طوق الحمامة في الألفة والإلاف ـ، وقد كتب طوق الحمامة بخط اكثرسمكاً من النص. أما النص الثاني فهو ستة أبيات من قصيدة بالفرنسية من إمضاء L.Rym والتي هي في حقيقة أمرها هي ابنة الروائي، واسمها (ريم الأعرج)، أما أسفل الصفحة فجاءت ترجمة هذه الأبيات بلغة عربية، فيها كثير من الشعرية، والأناقة اللغوية، والطفولة.

* وهج النص المقروء (طوق الحمامة):
هناك من المؤلفات الأدبية التاريخية ما يظل متوهجا ومصدرا للإلهامات الإبداعية وذلك بفعل الأثر الذي يتركه على المتلقي، فلا يجد عنه فكاكا ويظل يقتبس من أجوائه ويقتفي آثاره، ويحاول أن ينسج وفق صنعته ومنواله، فبقيت هذه النصوص خالدة بما اكتنزته من قوة إبهار وجذب وصلابة وصمود في مقاومة اللاحق، ومن هذه النصوص التي ظلت منارة، ونصا، مرجعا، طوق الحمامة في الألفة والآلاف لابن حزم الأندلسي الفقيه والعالم والأصولي ورجل الدولة الذي ألفه استجابة لأحد إخوانه من مرية عندما كان يسكن شاطبة: "وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة... ولا بد من ذكر ما شاهدته حضرتي وأدركته عنايتي"(6).

وظل وهج هذا النص المتميز في أدب المكاشفة يرخي بظلاله على الأزمنة في الأدب العالمي بترجمته والأدب العربي والرواية منها خاصة.

ولقد أحصى الروائي الأديب السوري نبيل سليمان مجموعة من الأعمال تتفاوت فيما بينها في شكل التناص والتقاطع مع طوق الحمامة.

جدول التناص والتقاطعات مع طوق الحمامة:

العنوان المؤلف مكان وتاريخ الإصدار
فردوس الجنون احمد يوسف داود سورية 1996
الباذنجنة الزرقاء ميرال الصلحاوي مصر
رائحة الأنثى أمين الزاوي الجزائر 2002
العصفورية غازي العصبي لسعودية 1999
وراق الحب خليل صويلح سورية 2002(7)


كما أن واسيني الأعرج لا يخفي إعجابه وارتباطه بالنص التراثي العالمي والعربي خاصة بتنوع أجناسه النثرية، أو الشعرية، أو أنواع السرد الشعبي، وبعملية استقرائية لبعض أعماله نصل إلى ما يلي: 

نماذج الخطاب المقدماتي في بعض أعمال واسيني(8):

عنوان العمل الخطاب المقدماتي
نوار اللوز نص للمقريزي
أحلام مريم الوديعة عبارة لدون كيشوت بطل سرفونتيس
ضمير الغائب أهزوجة شعبية
المخطوطة الشرقية مثل صيني قديم
شرفات بحر الشمال عبارة لفون كوخ
فاجعة الليلة السابعة بعد الألف سان جورج بيرس
وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر أبيات شعرية لمحمود درويش
طوق الياسمين نص لابن حزم الأندلسي


* إيحاءات الخطاب المقدماتي لابن حزم الأندلسي:
إن استدعاء النص التراثي ليس عملية اعتباطية، بل هي عملية معلمية تحيل إلى الزمان والمكان، وتحمل دلالات تجعل القارئ يستحضر النص المقدم ابتداء إن كانت له به علاقة، أو اسم المؤلف، وما يرتبط به من تعالقات دلالية وثقافية.

فالإحالة إلى الفترة الأندلسية التي تعد من ازهي مراحل التاريخ الإسلامي مرحلة عرفت كثيرا من التميز والتفرد في مناحي الحياة.

* أدب السيرة الذاتية والمكاشفة:
لقد دون ابن حزم مؤلفه استجابة لطلب احد الإخوان، وقد كان مسبوقا في التأليف في موضوع الحب والوله والنساء، إلا انه استطاع دون ابتذال أن يغوص في أعماق النفس البشرية ويعري نوازعها، فأشار إلى تجاربه الشخصية وتجارب الآخرين فجاء عمله نوعا من السيرة الذاتية الناتجة عن التبصر والعبرة فهو يقول:" والذي كلفتني لا بد فيه من ذكر ما شاهدته حضرتي وأدركته عنايتي وحدثني به من الثقات من أهل زمانه"(9).

والحال نفسها ارتسمت في طوق الياسمين، إذ جاءت سيرة ذاتية ابتداء تصور حياة الطلبة الجزائريين المقيمين بسوريا، وصدرت بعنوان وقع الأحذية الخشنة فكانت مشروعا أدبيا مستعجلا لم تكتمل معالمه، ذكرت فيه بعض الأسماء والتوجهات التي جلبت على الكاتب متاعب من الجهات الرسمية وعتابات الجهات الإخوانية، وحين أضيفت إليها رسائل أو حرائق عيد عشاب كما يسميها الكاتب أعيدت صياغتها وتناولها بشكل جديد فحذفت أسماء وذكرت أسماء وهي الحال التي انتهجها ابن حزم في تدوين كتابه، يقول:" فاغتفر لي الكناية عن الأسماء فهي إما عورة لا نستجيز كشفها وإما نحافظ في ذلك صديقا ودودا ورجلا خليلا وبحسبي أن أسمي من لا ضرر في تسميته ولا يلحقنا والمسمى عيب في ذكره إما لاشتهار لا يغني عنه الطي وترك السنين...(10) .

"فذكر ابن حزم شخصيات بأسمائها، كما ذكر واسيني شخصيات بعينها مثل عيد عشاب صديقه وسيلفيا، وبعض الشخصيات الثانوية كأساتذته وبعض معارفه وبذلك يكونان قد انتهجا طريقة الإباحة والتحفظ إلا بالقدر الذي يؤدي المعنى ولا يخل بمنهجية السرد، فالكاتب يقول: "أنا اكتب حياتي قطرة قطرة... عندما اكتب شخصية قريبة مني أو تشبهني كأن تكون أستاذاً جامعياً أو فناناً هذه الشخصية فيها مني، لكنها ليست أنا في تفاصيلها، قد تكون أنا في روحها"(11).

وكانت شخصيته في الرواية تتمثل في المثقف والمحاضر والأديب والطامح الذي يسعى أن يضمن حضورا على جميع المنابر الثقافية بسورية.

وبذلك يكون واسيني وابن حزم يقومان بتدوين جزء من حياتهما، وسيرتهما الذاتية.

* التعالقات النصية والتيمة المشتركة:
جاءت تيمة الحب ولواعجه وما يكابده المحبوب من آلام الفراق ولهيب الشوق والبين والهجر، وما يفعله الرقيب من تكدير والواشي من تغرير، تيمة هيمنت على العملين فأفرد لها ابن حزم الأندلسي ثلاثين30 بابا(12). وافرد لها واسيني لعرج خمسة عشر 15 بابا، وهي مذكرات عيد عشاب أو رسائله، وانتهج فيها منهج الأقدمين في التأليف حيث كانوا يبوبون كتبهم، وكل باب هو موضوع من مواضيع الكتاب، وهذه إحالة تاريخية على طريقة في التصنيف والتأليف، ولم يسم هذه المذكرات رسائل بل بوبها وذيلها بعبارة من أوراق عيد عشاب.

* رمزية المنفى:
لقد ألف ابن حزم كتابه في منفاه بشاطبة، استجابة لطلب احد الإخوان، وألف واسيني روايته استرجاعا لأيام غربته بسوريا، فأكثر ما يكون الإنسان أكثر شفافية وحنينية عندما تبعد عنه الدار ويشق عليه المزار، فتهيجُ عاطفته، فتنثال عليه المواجع انثيالا، فيستعيد ساعات السعادة والفرح، ويتذكر الأحبة الديار وأيام الصفو والوصال، فيمزقه الشوق وتتقاذفه وتعتصره اللحظات، وكأن المنفى في واقع أمره وقود ودافع يثير الأديبين للتأليف في موضوع الحب.

* بين عصرين ومكانين:
تعد سوريا والأندلس حاضرتين إسلاميتين، حيث كانتا عاصمتي إشعاع فكري وتنوير وثقافة، وتعايشت فيهما كثير من الديانات، والاتجاهات الفكرية والثقافية تميزت بالتسامح الديني وقبول الآخر في تعايش قلما يوجد في مكان آخر.

فاستدعاء النص التراثي هو استدعاء لتواشج اجتماعي، وعلاقات إنسانية طبعت تلك الفترة، في أبعاد حضارية راقية كانت غرة في جبين التاريخ فقد تزوج الأمراء في الأندلس بنصرانيات دون أن يسلمن بل ذهب البعض إلى السكن معهن في الكنائس، فلقد روت كتب التاريخ هذا التعايش دون اصطدام أو عصبية، فلقد تزوج أمير الأندلس عبد العزيز بن موسى بن نصير نصرانية وكانت زوجة لذريق «و قد كانت صالحت على أموالها ونفسها وقت الفتح وأقامت على دينها في ظل نعمتها إلى أن تزوجها الأمير بن عبد العزيز فحطت عنده، ويقال انه سكن بها في كنيسة باشبيلية»(13). وفي سورية على غرار الأندلس كان نفس التسامح وقبول الآخر, فالخليفة العباسي المتوكل يسافر إلى دمشق ويمر على الكنائس والرياض يتنزه فيها، ويشاهد النصرانية «شعانين ابنة راهب إحدى الكنائس فيعشقها فأنشدته شعرا أطربه فتزوجها وكانت من اعز نسائه»(14).

فأين الماضي بنصاعته وجماله، والحاضر بعصبيته وكدره حيث نصبت السدود والحدود بين المحبين، فأصبح عيد عشاب الذي عشق المسيحية سيلفيا يعيش حبا أسطوريا لا يمكنه أن يتحقق في دنيا الناس وينعم بالسعادة والدفء معها رغم انه كان مستعدا لتبديل دينه ويصبح مسيحيا إلا أن والد سيلفيا قال: «اقسم أن لا تلمس جسدك يد مسلم»(15). بل بلغ به التعصب حتى تهجير ابنته إلى أمريكا كي لا يتم اللقاء بينها وبين عيد عشاب «مراح الذي نادني من اللاذقية وعلمت أن والدك ينوي إرسالك للدراسة في أمريكا»(16). وشتان بين عصر تزوج فيه الأمراء النصرانيات وعصر سلطة البابا تطارد فيه النصرانيات المتزوجات من المسلمين فهذا جورج أخ سيلفيا ينصحها قائلا: «يا حبيبتي تريثي لك شوي, مو هيك الشغلة بدك تقنعيهم وحكاية برا هي ما هو ضابطة، البابا ما راح يتركك تعيشين مثلما تريدين»(17). فأين ألق الماضي ونصاعته وكدر الحاضر وحزازاته.

وبهذا التقديم، جاء الخطاب المقدماتي يمنهج القراءة ويوجهها ويضع المتلقي في اللحظة الزمنية والمكان المناسبين كظرفين للتلقي، فالتقديم ليس عملية لا تتوفر فيها المقصدية ذلك انه «خطاب حول النص»(18)

بين أديبين ومجتمعين:
لقد ألف واسيني الأعرج روايته طوق الياسمين بعد مجموعة كبيرة من الروايات التي عرفت تداولا كبيرا في الأدب العربي، والأدب العالمي، بفعل الترجمة وذيوع الصيت، فجاءت في مرحلة التفرد والتميز والتمكن والنضج الإبداعي والنقدي فكانت متميزة عما سبقها، وما لحق بها من أعماله، بموضوعاتها وتيمتها.

والحال نفسها عاشها ابن حزم الأندلسي، حيث كتب طوق الحمامة في مرحلة نضج فيها علميا وفنيا، وبعدما اكتوى بويلات السياسة، إذ نفي إلى شاطبة في شرق الأندلس، وهناك ألف كتابيه الأدبيين: طوق الحمامة، والفصل في الملل والأهواء والنحل(19)، وإذا كان ابن حزم ألف طوق الحمامة في فترة من التدهور السياسي حيث انتشرت الفتن الأهلية والصراعات على الحكم بين حكومات الطوائف، واحتدم بشكل عنيف بين اسبانيا الإسلامية واسبانيا النصرانية، فأراد أن يكون صوتا متميزا في بحر لجي متلاطم من القتل والسفك والنهب، وخطابا يدعو إلى الحب بعد أن خبت ناره وديست معالمه، فطوق الحمامة هو رغبة ابن حزم في السلم الاجتماعي والنفسي، ودعوته الضمنية إلى نبذ العنف واللجوء إلى أسمى العواطف وأرقى المشاعر، وهي الحب.

فقد تكون نفس ظروف الفتنة التي عاشتها الجزائر في بداية التسعينات والاقتتال الداخلي بين مؤيد ومعارض للنظام والإسلاميين والذي كان واسيني احد أطرافه باختلافه مع الإسلاميين لاعتناقه للاتجاه اليساري،حيث هاجرت زوجته،ثم التحق بها سنة 1994م وبداية التدريس بالسربون، فكانت فترة المهجر وفترة المنفى الاختياري، وبعد ارتفاع إيقاع الفجائع والمواجع والعذابات جاءت طوق الياسمين خطابا أدبيا طافحا بمشاعر الحب ونبله ودعوة إلى التحاب رغم النهايات المؤلمة والمفزعة، دعوة إلى قبول الآخر والتعايش معه رغم الاختلافات في بعض الكليات والتفاصيل. يقول واسيني: «لي زوجة وولدان وأحباب وأصدقاء وهذا يكفي، أنا مستعد للعيش بقطعة خبز وحبات زيتون دون أن يكون لي مشكل»(20).

إن الإيحاءات التي يحملها النص المقتضب لابن حزم هي خطاب حول المتن «يتشكل من عناصر تتوجه إلى المتلقي لتهيئته وتوجيهه لتخبره بجوهر المؤلف وظروف تحليله ومراحل تكونه»(21).

أما الشق الثاني من الخطاب المقدماتي فجاء قصيدة باللغة الفرنسية مكونة من مقطوعة واحدة مشكلة من ستة أبيات أو ما يسمى( un sizain) في العروض الفرنسي، والذي جاء في تعريفه: هو مقطوعة أو قصيدة مكونة من ستة أبيات باستعمال شكلين أو ثلاثة من القافية(22)، وأكثر ما يكون استعمالا هذا الوزن في الأهازيج لخفته وأناشيد الأطفال، ولقد جاءت الأبيات مذيلة بالأحرف التالية (L.Rym)، والتي في حقيقتها هي ابنة واسيني الأعرج المولودة بدمشق سنة 1984 والتي أمها الأديبة والشاعرة زينب لعوج، نشأت الطفلة في بيت أرجائه مضمخة بعبير الأدب والفكر، فامتشقت القلم صغيرة للبوح بلواعج طفولة مكلومة بتراكمات الأحداث والمعاناة خلال أحداث الجزائر، ريم حاولت رغم صغر سنها تدوين يوميات يصعب فك رموزها وألغازها، فاقحمت في عالم غير عالم الطفولة والابتسام والبراءة إلى عالم رسم أبجدياته وصراعاته الكبار.

ريم تكتب الشعر بالفرنسية في لغة تنبض شعرية وطفولة، كانت شاهدا على الأحداث التي عرفها الوطن، الفت كتابا عنوانه سلطان الرماد(23)، وبعنوان فرعي "قل لي يا أبي ما معنى البربرية"(24). محاكية بذلك والدها في الالتزام بالعنوان الفرعي في مؤلفاته، حيث اصدر واسيني روايته "ذاكرة الماء" وبعنوان فرعي "محنة الجنون العاري"، وفيها يتكلم عن ريم ودفترها الذي تدون فيه الأحداث والمعنون "سلطان الرماد"(25). فريم ليست إلا ابنة الأديب في الرواية مع ما تقتضيه عملية الإبداع من تخييل وتمويه، يقول عن هذه الرواية واسيني الأعرج:

"ذاكرة الماء هي الأقرب إلى السيرة الذاتية فيها الكثير مما حصل لي، ولابنتي ولماحدث لزوجتي التي رحلت مع ابني ولكن ليس ذلك ما حصل بالفعل وبكل دقة..."(26).

فاختيار خطاب مقدماتي نصا لابنته يكون واسيني أعطى بعدا اجتماعيا للعلاقة التي تربطه بصاحبة النص وإن بدا متخفيا وراء رمزية الاسم فأشار إلى اسمها ولم يشر إلى لقبها (L. Rym) وهي استثارة للقارئ لفك طلسم الترميز بالبحث في إيحاءاته ودلالته، وهذا يكشف التقديم عن العلاقة التي تجمع الشاعرة بوالدها حتى وإن تخفى ولم يرد الظهور علانية بكشف العلاقة، فان هوس الأباء بنجاح الأبناء فطرة مغروسة في الطبيعة البشرية، وحرص الآباء على أن يكون امتدادهم الطبيعي أحسن منهم وأن اتخذ أشكالا متعددة. فالروائي وان بدا ظاهرا انه لا يريد أن تتسلق ابنته مجده واسمه للوصول، فانه بموقعها في المقدمة تكون قد اكتسبت ذيوعا وانتشارا، وأن هذه البذرة من تلك الشجرة التي هي من نفس الحقل الأدبي، فان رعاية الوالد لابنته تبدو جلية حيث أنها من مواليد سنة 1984 واستطاعت أن تنشر عملها سنة 2001 وهي تبلغ من العمر 17 سنة. 

بين لغتين وثقافتين وجنسين:
اعتمد الروائي على مقدمتين بلغتين مختلفتين، الأولى عربية، والثانية فرنسية عمد إلى ترجمتها أسفل الصفحة، فإذا كانت اللغة وعاء أو شكلا للتعبير فانه يستوعب الحمولة الثقافية والفكرية للجماعة المعبر بلسانها، فكل لغة هي فن جمعي في التعبير «وتنطوي على عدد معين من العوامل الجمالية والصوتية والإيقاعية والرمزية والصرفية التي لا تشاركها فيها تماما لغة أخرى»(27).

فاللغة هي لسان حال القوم وترجمان أفكارهم، واعتماد لغة هو انتماء لحضارتها وتعريفاتها للموجودات والمسميات والغيبيات وليست مجرد رموز وصوتيات.

فالتشكيل الفضائي للنصين في الخطاب المقدماتي يشير إلى انتمائين وثقافتين وحضارتين مختلفتين، فالنص الأول كتب في فترة الازدهار الإسلامي والرقي الحضاري، قبل فيه التعدد الداخلي أو الآخر الداخلي في مستوى العقيدة والفكر فابن حزم كان ظاهريا في بيئة مالكية وقد ذكر التاريخ مناظرات ابن حزم مع الباجي المالكي في سجالات ثقافية وفكرية، دونت وترجمت إلى لغات عالمية قلما وجدت في الحضارة الغربية ناهيك عن التسامح مع الآخر والتعايش في ود وإخاء مع اختلاف في الدين والعرق واللغة، فكانت قمة التسامح والسلم الاجتماعي.

أما النص الثاني بلغة فرنسية ترمز إلى الثقافة الغربية، جاء نصا طفوليا طافحا رقة نابذا للخشونة والعنف وداعيا إلى اللطف والمرونة واللباقة، مع كائن ضعيف قد يكون طفلا أو عصفورا، أو حلما، أو سعادة، أو لحظة صفاء، وكأن أوطان المسلمين ضاقت عليهم فيها مساحات التعبير والحرية، وضاقت عليهم لغتهم وديارهم، فأصبحوا لا ينعمون بهذه الرقة وبهذا الدفء والحرية إلا خارج ديارهم مثلما اتخذ واسيني وابنته من فرنسا وطنا وسكنا، ومنطلقا إلى العبور إلى العالمية ليس انطلاقا من الحيز المحلي بل عبر الترجمات، والمنابر الثقافية الأجنبية، وهي فرصة للتعبير بلغة عالمية تنطلق من ديار الآخر في حضارة تستهلك الكتاب كاستهلاكها للهواء. 

الاغواط الجزائر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ شعيب حليفي هوية العلامات الدار البيضاء دار الثقافة بيروت، ط1 2005، ص52
(2) ـ المرجع نفسه ص 56
(3) ـ شعيب حليفي، هوية العلامة مصدر سابق ص66..67
(4) ـ عبد الرزاق بلال، مدخل إلى عتبات النص، الدار البيضاء ، دار افريقيا الشرق 2000 ص 41
(5) ـ G GINETTE, opcit. p 160.
(6) ـ ابن حزم الأندلسي طوق الحمامة في الألفة والآلاف منشورات مكتبة الحياة 1982 ص 52
(7) ـ يومية الزمان
www.azzaman.com/azz/articles/2003/01/01-15/698.html
(8) ـ يرجع إلى أعمال واسيني الأعراج المذكورة.
(9) ـ ابن حزم الأندلسي م. س ص53
(10) ـ ابن حزم الأندلسي طوق الحمامة ص 53 ـ 54
(11) ـ
www.kamal_riahi.blog.com03/09/2007
(12) ـ ابن حزم الأندلسي مصدر سابق ص332 ـ 333 
(13) ـ عبد المعين الملوصي، الحب بين المسلمين والنصلرى في العالم العربي، دار الكنوز الادبية بيروت ص 48 د ت ط
(14) ـ ن م،ص 46
(15) ـ الرواية ص 248
(16) ـ الرواية ص83
(17) ـ الرواية ص 168
(18) ـ جيرار جينات، عتبات، ص50
(19) ـ أحمد هيكل،الأدب الأندلسي من الفتح إلى السقوط دار المعارف بيروت، ط13 د ت ط، ص 353
(20) ـ kamel-riahi.maktoobblog.com03/09/2007
(21) ـ Gerard Genette,seuils: p195
(22) ـ 2007/12/01
www.cnrtl.fr
(23) ـ 2007/06/23www.anaween.net
(24) ـ .م ن
(25) ـ 2007/06/23
www.anaween.net
(26) ـ Kamel-riahi.maktoobblog.com03/09/2007
(27) ـ سعيد الغانمي، اللغة والخطاب تأليف جماعي مترجم الطبعة الأولى 93، المركز الثقافي العربي بيروت، ص 33