في لوعة الإقصاء تندلع التساؤلات الباردة كصقيع سيبيريا في إلحاحها على الشاعر الأردني وهو يكتب أسئلة الشعر والحب والمدينة التي تعذبه، حيث تلقي له بفتات الشهوات التي لاتشبع جوعه للحب ولا للتحقق.

صقيع سيبيريا

رامي أبوشهاب

في الفصلِ الأخير من تناحر ثنايا الزمن، يتسللك القلقُ دافئاً كماء الاستحمام
خدرُ اللحم الذهني في الحوض يُفضي بتساؤلاتٍ ببرودة جافة كصقيعٍ سيبيريا العتيد...
رائحةُ انتعاشٍ تقصُّ نافذةً صَدئة، وورقُ الشجر ِيبدو مُنحسراً عن نافذةِ مُعتليةٍ ببخارٍ أرجواني
في العقل حواراتٍ مدهشةٍ لماضٍ عتيقٍ وحاضرٍ يغتسلُ بالحيرةِ والسُّل.. 
أستدعيت أبياتاً من الشّعر لن تعرفَ الاستقرارَ، إلا إذا ناحت على جنازتك المُقامة فوق قرميد المنزل المُنزوي في مدينة أحببتها... وغيّبتك.
هي... أقصتك عن شِعرها المُنسدل في تاريخِها الجنسي المحموم...
راقَ لك الوطنُ كما قطعةِ حلوى خبأتَها في جيبك، حين كنتَ تعبرُ زقاقاً كالحاً كوجهك
الغيومُ تظلل بقايا حُزنِك الرّاعف من أنفِ المجرة..
لوحتْ لك امرأةٌ حسناء من شرفتها الغارقة بعطرٍ رخيص
حملتَ وجهكَ الكريستالي ـ كما تعتقد ـ ودنوت من ثدييها، سرقتْ منها شهوتَها ومضيت سريعاً إلى ورقكَ لتَخطُّ الشفقَ الأحمرَ الذي رسمتَهُ من زغبٍ سكنَ الثديين المُعتقين كما نبيذ فرنسي في أقبيةٍ مُظلمة رطبة.. من العصور القوطية..
حكايات الآخرين: أنهم كانوا أطلالاً، لم تعرفْ ولم تلمسْ منهم سوى الكلام...!
ولكن الوجوه ذابتْ في نسيجِ التّأريخ الشّفوي العالق على شفاهِ بضع عجائزَ، ومحاجنَ أرجاتْ وجعَ الشهوة في أن تكتشف ما لم تعرف...
قالوا لك: ارحل من هنا، لئلا تقتلَ فينا حُمرة الطّين، ولئلا تُيبسَ فينا خُضرة الريح
أعمتك الحكاياتُ عن كونكَ عصرياً، وعن أن تدركَ نشوةَ تناولِ شطيرة برغر في مطعم أميركي، وأن تغازلَ نصفَ صبية ونصف شهوة.
لم تتعلم أن تصطاد إلا الحكاياتِ الذاهلة عن نفسها، نصفُها حشوٌ نسائيٌّ باردٌ، ونصفُها الآخر وطنٌ مسلوبٌ مصلوبٌ في مجرةِ الجنون...
تواضعتَ كثيراً في درسِ الجغرافيا
فالإجابةُ أحالتك على جَناح سنونو عاينته على شواطئ بحر لم تستكشفها إلا عند انحسارِ الزّوايا الأربعة لشاشةِ التلفاز،.
مضيتَ مرةً أخرى إلى بقيةِ السؤال لتُجهز الإجابة في دياجير عقلكَ المأفون بلعنةِ الدم، ورائحةِ دخانِ المدينة التي كساك ارتباكُها.
لعنتَ كلَّ طحالبِ البحر التي التفت حولك كسيدة أرادتك ولم تدرِ منها شيئا
سوى أن تستبيك في رقةِ اللحم دونَ أن تُشعل في جسدكَ حرائق اللغة المنبعثة من عوادم السيارات...
أنا...
لا نهرَ في المدن التي لوثتني لذا لم أدركْ أن أكونَ خفيفاً كقصيدة غزل لريتسوس
أو ـ ربما ـ رواية تثير غرائز الفتى الخَجل من مقاربته الأولى لرائحة الأنثى الخام التي علقتْ به
هي ذاتها من صبت في ذاكرتي رائحتُها
كنقطة لحام صدئت بعد قرون.. لم تكسرها الريح ولا الأمطار
كسرتها زقزقة العصفور حين حمل حقيبته من ذاكرتي
وقاد رحلة جبلية بصحبة القديس العجوز باحثا عن حقائق لن تكون...
حين تمزقني المساءات برائحة القهوة في زاوية الشارع، أتيهُ عن نفسي في أرض سرقتْني مني، والخفافيش حملت غربتي في الكهف، اختبأتْ ولن تخرجَ إلا إذا شهوةَ النساء بعد أن تنتشي بطعم الجسد الدافق بماءٍ حار
أنت
لزجةٌ كلُّ الشوارع التي مالت على نفسك، وملت أنت عنها فوجدتَ نفسك في الزّقاق وسعلاتُ باعة البسطات تنذرك بسموك المفتعل عن كل ما حولك، كونك قادرا على أن تكون بلا ماضٍ ولا مستقبل..
هي تلك الأشياءُ التي لا ندركها إلا حين تَمس منا عصباً فيحرق الذاكرةَ، وتترك أثراً لا تمحوه أمواجُ البحر الهزيل المُتشح بلونِ الرّماد المحايد..
لا تنهَ عن حلمٍ وتأتي بمثله، بأن تصبح إسكندرَ اللغة في منافي الأرض الأربع..
فكلُّ كلامٍ لا يسرقُ المعنى لا يُعولُ عليه، وكلُّ تفعيلةٍ أصابتك َبِحِيرة، اكسرها من سلاسلَ ما تَجاور منها فلا قيودَ لك إلا الشفقَ الأحمرَ، وبضع أرغفةٍ من الخبز، وشعرُ إبط حسناء عصرية اختلست مرآه عنوة...
تجسدْ بالموتِ حين يعلو الغبارُ في مدينةٍ تكتظُ بالنزق لقلةِ الموت، واكتظاظ الجوع على محطات الحافلات الغارقة في صراعها على ركاب الموت السائرين نحو العمل المَقيت والمُعتاد
كل على طريق الصراط المستقيم للضجر...
لا تلقي بي أيتها المدينةُ في مَصارفِ الماء الفائض..
ولا تجعليني سخاما على حوافِ الأرصفةِ الكالحة وأقماعِ السّجائر تحاذيني
شتائمُ الباعة تصنعُ تكويني الأزلي في لغتي التي سرقتُها منهم..
أردفني الحزنُ في المشاعات الصّاخبة لمخيماتِ الزّمن البدائي المُغلف في الوجوهِ
كورق الهدايا
أرهقني هذا الرصيفُ على امتدادِ تسكعي الصباحي..
لعنةٌ أن تعرفَ طعمَ الرّيح في نقائِها فتنفلتَ منك من حيثُ لا تحتسب،
تذوي في ظلال الغبار والدفء الزائدِ عن حاجة الكائناتِ الشّعرية المُتهمة بالانحياز لفوضى الحياة
هم العالقون في مَداراتِ خَيلاء الذات، ومحاولةِ قولِ ما لا يُقال... وتأويلِ ما ليسَ بحاجة للتأويل ـ إلا هذيانهم المحموم ـ كلما نزّتْ من أنثى رائحةُ عرقٍ لزج، تعلوهُم رغبةٌ مُؤكسدة جراء التقاطعات بين أنوثةٍ مَشاع وذكورةٌ طارئةٌ
 مدلوقةٌ في مدينة لا تشتهي إلا حثالتَها من الصابئين ورجال الدين والمومسات وساسة الحلم..
هو
الحنينُ منكسرٌ كالمرايا والأشلاء
دعيني أيتُها المدينةُ أَلي الشعرَ عن معناه
فلا معنى في المعنى إلا أعشاب الكلماتِ الضّارة في مزايدةٍ عاجلةٍ على الدّم
وشاهد القبر... فقط لا غير

rami-shehab@hotmail.com