تكتب قصيدة الشاعر المصري هنا جدليات مراوغة الكتابة وتوتر العلاقة بين الشاعر والنص، بين الفتى وجواد الشعر العنيد، الذي يروضه بتنويع الأيقاعات ومغالبة الصور كي يقهر الشعر الصمت وكل العوائق التي تقف في طريقه.

الفتي والجواد

أحمد سويلم

أتعيرني قلما وأوراقا
لأزرع ألف قافية ومعني
أم أن ما أرجوه يغدو مستحيلا
في زمان القهر.. والصمت الذي يعلو الرءوس.
أنا لا أعيرك أي وقت كي تفكر..
ها أنا بدمي.. أخبٌِر جلديّ الممتدٌ
أنزع من يدي سبابتي قلما
فإن قصيدتي في داخلي تأبي الركود
تتوق أن تتفتت النطف السجينة
أن تطيح بكل أقفاص القيود
قصيدتي صقر سجين جائع
إن لم يجد ما يشبعه
ينقض فوق يديه أو قدميه
أو يقتات نور القلب
أو حلم الطفولة
*   *   *
أتراك عشت طفولة الشعراء؟
لو عشت يوما ما تردد فكرك الملتاث
أن يحنو عليٌ
ويعيرني قلما وأوراقا
لأزرع ألف قافية ومعني
ما عشت مثلي..
ما كنت هذا الطفل
يقبض في الليالي المقمرة
وهجا من النور الذي ينسل بين غصون
أشجار الحقول
ويطير فوق جواد هذا الخيط
نحو نوافذ الشوق البعيد
ما كنت هذا الطفل يلبس جبة الشيخ
التي ضمت قصائد ذات أجنحة
أطير بها لآفاق من الوجد المعطر
لا أريد أعود للأرض اليباب
الطفل شب..
وبعلٌّة الشعر العنيدة قد أصيب
وليس يشفيها دواء
خيّرت بين الشعر والدنيا الرخيصة
لم أفكر..
ملكان حطا فوق صدري
ينزعان كآبة الأصوات والألوان والأحلام
حتي أهتدي..
ملكان جاءا قدما قدحين من خمر وماء
فانتزعت الخمر حتي أنتشي
وأعيد أحلامي إلي نائي القلاع
أسدد الطلقات للصمت الكئيب
وللطغاة القاهرين
أحطم الأقفاص والأصفاد
أطلق للحياة قصائدي
مدنا
وأبراجا
وساحات
حدائق وارفات الظل
أطلقها مرافيء تحضن الغرباء.. تأويهم
تبوح لهم بأسرار البحار
الطفل شب..
وكان يحسب أن حلم الشعر
درب من ظلال أو ورود.. أو عطور
ما همٌّه أن يبهت الحلم الطفولي القديم
ويعيش حلما مستحيلا
لكن عدته القديمة لم تعد تجدي..
الطفل شب..
وراح ينحت من صخور القصر عدته
ويتخذ الرياح جواده
والحرف سيفا
الطفل شب..
وفاجأته عرائس الليل الشريدة
راودته ـ فتي وسيم القدٌِ ـ
لكن الفتي لم يستجب
كانت مشاغلّه البعيدةّ
ـ نجمة تبكي
ـ وزهرة حمراء تبهجت
ـ واحتراق القلب بالوجد المقدس
ـ والملائك والشياطين العنيدة
ـ والخطي ما بين قوسين
ـ اختراق البرق أجسادا فيصعقها بدفء الحب
ـ أسئلة بلون الموج
ـ أمكنة بلا أسماء
ـ أسماء بلا معني
ـ عيون تعشق الألوان
ـ أجنحة تذوب بشهوة الشمس العتية
ـ أطفال بلا أباء
ـ موتي يحمدون الله أن ماتوا
ـ وأحياء تمنوا أن يحل الموت
ـ أمطار بلا ماء
ـ وأشجار بلا ثمر
ـ وأحلام من الأوهام
الطفل شب فتي..
فما بال الفتوة تستريب به
تزج به إلي نفق بلا ضوء
وقيل له: أضيء هذا الظلام الآن
أخرجّ قلبه.. فأضاء
قيل له: تقدم خطوة أولي..
خطا.. ولم تقف الخطي
فإذا جدار من عتاة الجند يوقفه
فيصرخ..
أخرج البلورة المسحورة
انطلقت تفتت حشدهم
صهل الجواد بخارج النفق
احتوي حلم الفتي..
كانت أميرته بشرفتها البعيدة في انتظار
الشعر علته الوحيدة
ووسامه..
والعشق والمعشوق
والجمر المضمخ بالبخور
وبحره.. وسماؤه
والتوق في صحرائه..
ـ صهل الجواد..
ومد خطوته براقا عند غاية ناظريه
عرج الفتي للشرفة الحسناء
سدرته الأثيرة
وأراه لم يحمل هدايا.. أو عطايا
كانت قصيدته الهدايا
والمسافة..
والعلامة..
والحدائق..
والدروب..
شب الفتي.. صهل الجواد
وأطاح بالصمت القديم
وعاد بوحا لا يكف..
قيل: انتبه..
هذا الزمان يفتت الأضلاع فوق الصخر
لم يحفل بهذا الخوف..
قبض الزمان وقيد الأيام
في طوق من الفولاذ
فاتسعت دروب الحلم
واجتمعت بحضرته
فراشات..أساطير
وموجات.. وأزهار.. وحوريات
صار العالم المفقود
بين يديه كنزا
من رحيق الزهر
والمدن الأثيرة
والدروب الخضر
والسفن التي حملت مفاتن
رحلة الغرباء
صار العالم المفقود
ساحات من الأحلام
والعشاق
والأطفال
والأصوات
والألوان
شب الفتي.. صهل الجواد
هو لا يود كهولة الزمن الكئيبة
سيظل يحمل عدة الفتيان
يزرع في الدروب قصائد الريحان
يشعل أحرف اللغة الندية
في تلال الشوق
لا لا تنطفيء!