بلغة سردية صافية تشارف الشعر يكتب القاص العراقي مأساة عودة العراقي المنفي إلى أطلال بلد يعمره الخراب ويرزج تحت الاحتلال، بعدما عانى طويلا من نير القهر والاستبداد، ويبلور عبرها تراجيديا البهاء والصلابة والمقاومة.

القديس

سلام إبراهيم

مهداة إلى أبو ليلى ـ جاسم شبلي

تسللت من البيت وحدي فجراً، فمنذ وصولي لم تسنح لي فرصة تأمل أمكنة مدينتي بهدوء، ضيوف وضجيج منذ بكرة الصباح حتى ساعات الليل المتأخرة. تسللت نحو حلمٍ عاشرَ لحظتي في المنفى طوال عشرين عاماً. أن أتمشى على مهلٍ من بيت أهلي في "الحي العصري" إلى السوق المسقوف، مروراً ببقايا أزقة الجديدة الضيقة. السير خطوة.. خطوة.. ببطءٍ، والتملي بالجدران ووجوه البشر والسماء وسماع الضجيج ومناداة الباعة بشوق لا يعرفه من لم يغادر مدينته.

فتحت الباب المفضي إلى الحديقة الصغيرة. رشقتني نسمات الفجر، فعببت منها عميقاً، منصتاً لضجة العصافير على شجرة نارنج تستقيم جوار باب البيت، هي كل ما تبقى من حديقة أبي إذ حولوها وقت الحصار إلى دكانين مؤجرين إلى مصلح سيارات. خطوت نحو الباب وكأنني ذاك الطفل المغبش كل فجر إلى فرن خبز حاج جاسم. ملأتني النشوة، فندمت على تبرّمي من ذلك المشوار، وتمنيت لو عدت طفلا من جديد كي أُسعِدُ أمي التي كانت تتضايق من تبّرمي. أمي ماتت في غيابي. كدت أجهش في غمرة الفضة المتساقطة من سماء بيت طفولتي.. من سماء أمي، وشجرة نارنج أبي الضاجة بعصافيرها. قلت مع نفسي:

ـ ستبكي مع كل خطوة تخطوها إذن!.

كنت أقف جوار الباب الحديدي العريض وتحت شجرة النارنج. قلت مع نفسي:

ـ لن أستطيع التمتع بتراب وجدران وهواء وضجيج ووجوه مدينتي ما دمت محملا بهذا الشجن. ففي كل خطوة من باب البيت الداخلية إلى باب البيت الخارجية رواية تحكي قصتي مع التراب والمكان. وعَبر الباب وما أن أخطو في الشارع حتى أجد نفسي في حومة رفاق الطفولة وتاريخ نشأتي. ستبكيني كل خطوة إذن وسوف لن أصل إلى سوق التجار المسقوف إلا بعد سنوات تعادل عمري.

خطوت بحزم. ليس لدي وقت. وهاجسي منذ يومين مختلف لم أبح به إلى أكثر الناس قرباً مني في المدينة. كنت مشغولا بمصير رجل مرَّ خطفا بحياتي، وبقى مثل ملاك يحضرني وجهه الآن، وكأنه يجلس جواري حتى أني أستطيع وبعد أكثر من ثلاثين عاما سماع نبرة صوته، وهو يحدثني همساً في غرفة بائسة بفرع دائرة ـ زراعة أل بدير. وجه مدور أبيض مريّع يشع نوراً. ينظر نحو الآخرين وكأنه يطل عليهم من عالمٍ أخر غير عالمنا. هذا الانطباع رسخ في نفسي أول ما دخلت تلك الدائرة، كمشرف تعاوني صغير السن يرتدي بنطلون ـ الارلس ـ المعيب في تلك البيئة القروية، ويطلق شعره الناعم منسدلاً حتى أسفل الكتف. وقتها كنت لا أعير للمحيط شأناً في المدينة، فكيف في الناحية النائية التي لا أمكث فيها إلا وقت العمل. وجه عاشرني، وظل يزحم لحظتي كلما دخلت كنيسة. وجه يشع سلاما وحبا.. وجه نبي.. تسللت قائلا مع نفسي:

ـ فرصة أسلك الطريق إلى سوق التجار وحيدا، أتناول الفطور ببسطة جابر الشطاوي، باقلاء وبيض، وأتوجه نحو كراج أل بدير لما يقترب النهار من الانتصاف!.

لكنني.. وجدت نفسي غاطساً بالشجن ما أن عبرت عتبة باب الغرفة المطلة على حديقة الدار المندثرة. نفضتُ رأسي كما كنت أفعل في الجبل والمنفى لما تحاصرني الأشواق. نفضته وخطوت بحزم نحو الباب. أزحت لسان القفل، وظهرت إلى فضاء الشارع. فوجدتني بغتة محاصراً بأخيلة الطفولة من جديد. تسمرتُ جوار الباب شارداً. أسكرتني أخيلة الصبا حينما كنت أقع في الحب بغتة، وأعارك من أجله، وأسهر وأكافح لأخسر في كل تجربة عصفت بي. شخصت غريزيا نحو باب دار مقابل أذاقني الويل في طفولتي وصباي، وكتبت عن الصبية ـ أمل ـ ذات العينين الخضراوين قصصاً، وكدت أُغتَصَبْ بسبب وردة جوري سرقتها من بستان ـ عبيد ـ المندثر.

ـ ليس للحنين ضفاف ولا مرسى!.

هتفتُ بصوت عالٍ أمتزج مع غناء العصافير على شجرة النارنج المطلة بأغصانها من خلف السياج الواطئ، وخطوت باتجاه المدينة لابساً ثوباً تعلمته بين جنود الجبهات وقت الحرب، والثوار في الجبل، وفي المنفى.. ثوب التماسك كي أستطيع فعل شيء، لعلي أصل إلى ساحل ذاك الملاك القديم.. الوجه النبي. خطوت مستمتعاً بالنسيم، بالدكاكين المغلقة التي منحتني سيولة الخطو دون الحاجة إلى عناق من يصادفني من أبناء المدينة. خطوت شارداً مع وجه عاشر منفاي وتحول مجرد رؤيته حلماً من أحلامي في الجبل والمنفى. نقلت خطوي راجف القلب، غراً، كأنني لم أرَ الهول في جبهات الحرب والجبل حيث الجنود ورفاقي الثوار احتضروا حتى الموت بين يديَّ. الأمر مع ملاك أل بدير مختلفٌ..

ـ سأعثر عليه وأعتنقه هذه المرة دون وجلٍ ولا خجلٍ بل عزمت على مكاشفته بسيل مشاعري وذكراه التي أذاقتني نشوة لا يباح بها حتى لأقرب الناس. نشوة أمدتني بالقوة في مواقف كدت أضعف فيها في المعتقل!.

لكن:

ـ هل سأجده هذا اليوم؟!.

أنعشني الخاطر، فانزلقت مبتلاً برذاذ الفجر، في الشوارع الغاصة بالعمال المتعبين بوجوههم الصخرية الصدئة، وخطاهم المتعثرة وعيونهم الشاردة، حتى بلغتُ السوق المسقوف. وعلى تخت خشبي منزوٍ في مقهى يطل على النهر جلست شارداً أتأمل كل ذرة وصوت ووجه وجدار ولون شاعراً بنصرٍ لا يفهمه سواي..

فها أنذا لم أمت في المخاض الذي مررت به.. بقيت حياً لأشاهد انهيار من شرّدني.. هاأنذا أتلذذ جالساً على كرسي في مقهى "قدوري" القديمة وكأنني ذاك الشاب الثوري الفتي الذي كان يظن أن بمقدوره تغيير الدنيا. سرحتُ قليلا والشمس تمد ذهبها إلى حافة الرصيف عبر واجهة المقهى الزجاجية.. وجدتني أدخل أول مرة تلك الدائرة الزراعية النائية، وقتها لم أجد سواه في غرفة النظار التعاونيين ـ وفرحان ـ كاتب الذاتية. عرفني بنفسه قائلا:

ـ أبو ليلى ـ جاسم شبلي ـ ناظر تعاوني

عرفتُ نفسي، فبدا أن خبر تعييني قد وصل. إذ قال لي أن الجميع ينتظرك لكنهم خرجوا إلى الحقول بمن فيهم مدير الدائرة. ولما كان كل شيء في ذاك الزمن محسوباً وواضحاً فقد عرفوا أيضا بأنني لم أكن بعثياً، وذلك ما جعله ينتهز وجودنا وحيدين في الغرفة كي يحكي لي بمرارة تشي بها نبرة صوته عن جهوده المضنية مع زملائه منذ بداية السبعينيات كي يقنعوا الفلاحين بفكرة ـ الجمعيات التعاونية ـ إذ كانوا يؤمنون بأن في ذلك خلاصا من الفقر المدقع لفلاحي ريف آل بدير إلى أن نجحوا في هيكلة قرابة ستة عشر جمعية غطت ريف الناحية كلها. عند هذه النقطة كف عن الكلام وفي قسماته ألم وحزن وأسف جعلني أخاطبه بوضوح:

ـ ليش سكتت!. كمل!. ولا تخف!

ردَّ واثقاً:

ـ من وجهك عرفتك لا من الكلام اللي وصل قبلك!. ما أخاف منك لكن شنو الفائدة.. صارت الجمعيات دوائر أمن بدلاً من جمعيات تساعد فقراء الفلاحين!.

قالها بمرارة. لم أزل وأنا أحدق عبر زجاج مقهى ـ قدوري ـ بعد أكثر من خمسة وعشرين عاما أسمع نبرة الأسف في صوته المخذول وهو يجلس منهكاً على كرسي الدائرة الحديدي قبالة المنضدة التي أجلس خلفها. قلت له:

ـ أبو ليلى.. أنت يائس!.

التفت نحوي بهدوء وببطء وقال بصوت خافت:

ـ لا مو يائس بس ماكو عدالة، كل ما حولك يكذب، والفكرة اللي فنيت أكثر من سبع سنين من عمري عليها طلعت كذبة، لا الفقير همهم ولا فكرة المساواة فكرتهم!.

منذ ذلك اللقاء، صرنا نختلس الخلوة في الدائرة، لنفضي لبعضٍ همنا المتشابه. كنا نحكي بوضوح عن بنية الكذب والتملق السائدة بين الموظفين، ساخرين من ذل الرجال مزدوجي السلوك أكثر ممن كان جلاداً بالسليقة ومصطفاً مع الشر والسلطة. في لحظة وجدٍ باغتني بسؤال محرج:

ـ أنت نبيل ليش ما تترك الشيوعية وترد للإسلام.. أصلك وفصلك!.

كان في نبرة صوته حباً وحرقة وكأنه بمثابة أخٍ كبيرٍ. كان ذاك الحس يسعدني ويبهج لحظتي في تلك الغرفة الرثة المغبرة النوافذ والخزانات وفوضى الأوراق المكدسة وكأنها قطعة مما وصفه كافكا في محاكمته. أمعنت في الصمت والتحديق في ملامحه الصافية الشاخصة نحوي منتظرة.. أمعنت مبحراً في شجن قسماته وصفائها، فأحسست كأنه ولي من أولياء الله، من الذين كنتُ أتخيل أشكالهم في طفولتي، حينما تقص لي أمي في ليالي الشتاء الباردة قصصهم، أو يقص المقرئ من على منبر جامع ـ حي العصري ـ قصصا عن شيعة قديسين ضحوا من أجل الكلمة عقب شهادة الحسين. وجدته مثلهم، لكنه لا يعرف مدى حيرتي منذ بكورة وعيي، في البحث عن سر الوجود والإنسان والخلق، والمستمرة حتى هذه اللحظة، وأنا أجلس على كرسي في مقهى وأتذكره بعد قرابة خمسة وعشرين عاما.. حينما سألني في خلوة غرفة بائسة كنت بنفس الحيرة ضائعا في يمّ الخلق والفكر والأسئلة وحاسداً قناعته المطلقة بمدينة الشيعة الفاضلة المستحيلة والتي فشل شيخي وشيخه عليٌّ ـ ع ـ في أقامتها زمن الإسلام في ذروته، فاغتيل وهو يركع فجرا في جامع في الكوفة.

قلت بنبرة خافتة:

ـ وهل تعتقد يا أبا ليلى أن في ذلك جدوى يصّلح الوضع؟!.

أربكه السؤال وجعله يقترب مني حد المزج حتى أنه قال بعد صمت طويل:

ـ راح تُرْبِكْ كل وضعي وأنت ابن المدينة الطالق شعرك واللابس ما يعجبك والضاحك طوال الوقت وكأن الدنيا مجرد لعبة.. أربكتني!.

وقتها لم أستطع شرح رؤيتي للدنيا لكنني قلت له همساً:

ـ لا تظن يا أبا ليلى أن كل من لا يصلي ملحد.. وغير المسلم سيئ!.

ردّ لاهثاً وكأنه أبي في لحظة خوف غريزي:

ـ أخاف عليك من عذاب الآخرة والنار وأنت الطيب الشريف!.

قلت له بهدوء:

ـ لا تخف عليّ فأن ربك إن كان عادلا فستجدني جوارك في جنة الخلد!.

وأطلقت ضحكة مجلجلة جعلته يرمقني بذهول ويصمت قبل أن يتمالك نفسه ويهزُّ رأسه يائساً من صلاحي، لكنه أزداد تشبثاً بيّ كنافذة وحيدة لسجين زنزانة انفرادية يفضي لها بما كان يضطرم فيه ويحتدم. ظل مُربكاً طوال زمن وجودي كمشرف تعاوني في الدائرة، مُربكاً وهو يسعى للتواجد معي وقت انشغال الجميع كي ينفّس عما يثقله ويقول ما يبغيه دون خوفٍ من واشٍ.

خنقتني الأشواق. دفعت ثمن الشاي وغادرت المقهى. لم أتناول فطوري، فمن طرف الشارع لمحت حشداً من المعارف، فالح عبد حاجم، فيصل القصاب، عطية عبادي، سعد كتان، ووووو.. يحيطون بجابر الشطاوي المنهمك في أعداد أطباق الباقلاء بالدهن. تسللت إلى المقهى القريب متلافيا مرآهم، وإلا سوف لا أستطيع رؤية ـ أبا ليلى ـ. توجهتٌ صوب سينما الجمهورية، لا يشغلني سوى ركوب السيارة المتوجهة نحو (آل بدير). خطوت بعزمٍ نافضاً غبار الشارع النافث بهدوء قصص طفولتي وصباي وكأنني لست أنا، وإلا سوف لا أبلغ أبداً الكراج. وجدته في غير مكانه القديم، يشغل ساحة خلفية كانت ملحقة بمتوسطة الديوانية للبنين، التي تبعد عن مقهى "قدوري" مائة متر فقط. سوف لا أصل لو تركت نفسي تلجُ عالِم أشواقها وشجنها في شارع شكل ركناً في كينونتها. كغزالة شاردة من النسيم قطعت المسافة شاردا من سرائر مكاني وتفاصيل تملأ كتباً، فوجدت نفسي في ساحة المدرسة القديمة، جوار سيارة أجرة، ينادي صاحبها طلباً لراكب يقصد ما أقصد. اقتربت من المنادي. ودسست نفسي على المقعد الخلفي جوار شابين رثي الثياب تنازعا مع السائق على ثمن الأجرة، فتدخلت ناسيا تحذيرات أخوتي عن عدم تبيان أني قادم من أوربا في وضع مضطربٍ خوفا من الخطف أو التسليب. كنت شارداً واثقاً من أبناء مدينتي، أحملق ساهيا بالأفق الضائع بالشمس الساطعة، في نثار النخيل البعيد، أحاول تجميع تفاصيل تخصني معه، مفكراً بمصيره وحاله الآن. فوقت وصولي إلى تلك الدائرة النائية عرفت أن لديه سبع بنات كبراهن ـ ليلى ـ ولم يرزق بولد، وكان يردد شاكراً حكمة الله غير آبهٍ لجنس المولود، كما أسر لي في حواراتنا التي تشعّبت لتشمل تفاصيل التفاصيل فجعلتنا نقترب من بعضنا إلى حدود وكأننا واحد حتى أنني مرة قرأت عليه بيت الشاعر ـ طارق ياسين ـ:

تشبهني وأشبهك
               والشبه ثاني وضوح
من تضيع تلاني
               وتلاني من تضيعني
ومن نتلاه أني وياك
               نتضيع سوه ونحتار
ظلي وظلك يصيرن رقم واحد.

فأنفجر بضحكة عاصفة أول مرة أسمعها وعلق:

ـ ما تلي وين تلي هاي الأشعار!.

كنت منغمراً بتلك اللحظة القديمة المنبعثة من تراب السنين، منغمراً بدهشة عينيه الواسعتين المحدقتين صوبي في غرفة النظار البائسة، وهو يرسو من عاصفة ضحكته الهادرة معلقاً. كنت في ذروة نشوة التذكر أجمّع فصوص مشاعرنا المشتركة في التجربة حينما أُقحمت في الحوار بين السائق والشابين وهم يدعونني لحسم الخلاف.

قلت للسائق:

ـ كافي سأدفع الفرق!.

أراد الكلام. أقفلت الحوار قائلا بحزم:

ـ لت كافى!.

صمت الجميع، ليتعالى أزيز محرك السيارة المزمجر وضجيج تلك الأيام، فرأيته في ظهيرة يومٍ قائظ، يدخل عليّ غرفتي البائسة، بوجه مرتبكٍ، متسائلٍ، مهموم ليقول:

ـ بار انتخابات النقابة!.
ـ أدري!.
ـ أعرفك تدري.. لكن منو راح تنتخب؟!.

كان ينضح منفعلا في وقفته على بعد مترٍ من المنضدةِ الفاصلةِ بيننا، وكأن ما سوف أقوله حاسماً بالنسبة له. أجبته:

ـ هل توجد قائمة أخرى؟!.

 أحرجه السؤال فصمت للحظة. كنت وقتها أفكر في اللعبة السمجة.. قائمة واحدة، وورقتين، واحدة بيضاء والأخرى خضراء. فمن يوافق على القائمة الوحيدة يرفع الخضراء، ومن يعترض يرفع البيضاء وأمام الجميع. أجاب شاردا:

ـ أعرف ما تريد توله، لكنهم هذوله سفلة.. لا بل أسفل ما في الوجود، فكيف أرفع ورقتهم الخضراء؟!.

كان يكلمني شارداً وكأنه يكلم نفسه، ويحملق في وجهي مثل من يلاحق نجما بعيدا. ردد تعليقه والسؤال أكثر من مرة قبل أن يسألني:

ـ هل سترفع ورقتهم الخضراء؟!.

بدأ ينضح، وحبيبات العرق تتلألأ على جبينه الناصع منتظراً كلمتي. كنت مرتبكاً إلى حد لم أعانِ مثله بقية عمري في مخاضي الشرس والعنيف، مرتبكاً، فماذا أقول له؟!.. وهو مؤمن من خلال نسيج علاقتنا برفضي دجلهم وكذبهم وضحالتهم، لكن الشيء الذي بت واثقاً منه، أنه لا يعرفه درجة قسوتهم في قمع من يجاهر بمعارضتهم. إلى ذلك التاريخ أواسط عام 1979 كنت ذقت ذلك ثلاث مرات، لما أخذوني إلى أقبيتهم وأذاقوني الذل، بالضرب، والشتم، وتكبيل اليدين، وتكميم الفم، وعصب العينين حتى يشعروك بأنك وحيد في الدنيا، ووحدهم من يقرر مصيرك.. فيستحيل المعتقل كائنا بائسا حلمه تنفس هواء الشارع.. ورؤية الشارع ولو لمرة واحدة فقط.

وثقت وهو يحاصرني ناضحاً، أنه لم يتعرض لتجربة الإذلال تلك، فبات يعتقد أن قول الحق فضيلة كما تملي عليه الشريعة والمبدأ، وقتها كانت الثورة الإيرانية في أوجها، والخميني الذي يسميه " جاسم" ـ السيد ـ في حواراتنا، والذي كانت تصريحاته عبر أجهزة الأعلام، اكثر من جمرة تشعل حواس أبناء الطائفة. باغته بالسؤال:

ـ هل اُعتقلت يا أبا ليلى؟!.
رمقني باستفهام وقال:
ـ لا!.
وصمت لحظة، ثم أردف:
ـ وهل تعتقد أن ذلك سيجعلني أخاف منهم!.
ـ..!.
لم أعلق.

بعد يومين جمعونا في قاعة بناية واسعة. لم أعثر عليها لما عدت بعد قرابة خمسة وعشرين عاما. لكن ما أتذكره من ذلك اليوم الحشد المتجه نحو تلك القاعة التي كانت بطرف الناحية قرب المستوصف الجديد. حشد مبتهج عدا ثلاثة جاسم شبلي و ـ هاتف حسين ـ الناظر من أهل الدغارة الشيوعي الذي سيلتحق بثوار الجبل ويحاصر بحملة الأنفال عام 1988 في ـ رميان ـ ويلقى القبض عليه ويعدم في سجن "أبو غريب".

دخلنا القاعة والعيون شاخصة نحونا، منتظرة ما سيصدر منا. وكأن الانتخابات أقيمت كي تختبر ولائنا ليس إلا. حشد من القرويين الهتافين بحياة البعث، كلما تقدم واحد، رفع ورقة خضراء يريها للجميع، قبل أن يضعها في الصندوق الوحيد. نوديَّ على أسمي. خطوت نحو الفسحة الأمامية غير آبه بالعيون الملاحقة خطوي. كنت مشغولاً بعينيه المتتبعتين خطوي، المقترب من طاولة البطاقات. على عجل رفعت بطاقة خضراء، وأسرعت بدسها في الصندوق. لما التفت نحو الجمهور القروي رأيت وجوه الحشد ترمقني مندهشة، دهشة ممزوجة بارتياح. تحاشيت عينيه وكأنه غير موجود.. شعرت بالذنب، وكأنني خِنْتُ ما كنا نسرّ به لبعضٍ في خلوة غرفة النظار البائسة شاكين من حيف بشر شُوهوا!. شعرت بذلك ووقفت لصق جدار القاعة لاهثاً معروقا، أنصت لصوت المناداة على أسمه. خطا ببطء كتم الأنفاس. كانت كل ـ آل بدير ـ تنتظر تلك اللحظة بمزيج من الفضول والرغبة الجارفة في كشف موقف ملاكها مما كان يجري ذاك الزمن. تتبعتهُ مع عيون الحشد حتى توقف جوار طاولة البطاقات وصندوق الاقتراع. تخيلته تلك اللحظة ـ هاملت ـ في مسرحية شكسبير الخالدة، لكن هنا في ضيق بيئة ريفية عشائرية جعلتها سلطة البعث ساحة للنميمة والتجسس وفقدان الضمير. سكن ورفع ذراعه بهدوء وكأنه ربّ القرار، وليس فردا معزولا. مدَّها بكفها الظاهرة من كم قميصه الأبيض، ورفع بطاقة بيضاء. لم يدسها في شق الصندوق، بل التفت نحو الحشد، وحدق بعينين فيهما من السخرية ما أخجلني تلك اللحظة. رمقهم باحتقار. وشخص نحوي وفي نظرته عتب. لوَّحَ بالبطاقة الرافضة.. هزّها قبل أن يسقطها في شق الصندوق، مما جعل الأشد جبنا ينطلق بهتاف يشيد بحياة البعث والثورة ويخّون كل معادٍ. لم يهزّه سيل الهتافات والشتم لأعداء الثورة. رمى خطوه بكل هدوء، عائداً إلى مكان وقفته جواري على شفتيه بسمته، وفي عينيه شرود.

قلت مع نفسي:

ـ سيرى هذا القديس الويل!.
ـ هل يستطع نبي مهضوم مثل المسيح، مثل جاسم شبلي مثل هاتف حسين، كفاح عبد سوادي، صلاح مهدي الصياح، كريم ناصر، حازم الصمياني، علي عبد الباقي، عدنان حسين، جميل مط، التألق زمن القتل والذل؟!.

كنت مع نفسي حاسماً، عارفاً فداحة البوح، في الموقف والدفاع الصادق عنه، واثقاً من الأذى والذل التي سوف يلقاه صاحبي.. وهذا ما جرى له فعلا، ففي الليلة نفسها اقتحموا بيته وأخذوه، وسط صراخ بناته السبع وزوجته. ضيعوه قرابة ستة أشهر. وقتها نُسِبْتُ لعملٍ في دوائر أخرى، لجان تسويق حبوب في ـ عفك ـ، ولجان تسويق رز في ـ الشامية ـ، لكنه عاش فيَّ في كل لحظة. يجلس معي، ويقوم، ويسير، في النوم أراه بأحلامي، في الصحو أشرد متخيلا ظلمة الزنزانة التي يمكث فيها وحيداً، ممزق الثياب، مكبلاً، يصرخ ألماً وقت التحقيق في حفلة التعذيب. كنت لما أحل بآل بدير وقت الراتب شهرياً أسأل عنه فيجيبونني همساً:

ـ بعده عدهم!.

إلى أن باغتني يوما. كنت ذاهباً لاستلام مرتبي، فلمحته عبر زجاج السيارة يجلس في المقهى على الرصيف الضيق المقابل، فندت مني صرخة خافتة، وكأني وقعتُ على كنز. فتحت الباب، وأسرعت إليه. عانقته وشددت جسده إليّ، وكأنني أريد التيقن من وجوده الحي. شكرني بلهجة خافتة. جلست جواره أتأمل ملامحه فوجدتها مخذولةً فقدت كبريائها. أصبح صوته خافتا، حذرا. تحدث باختصارٍ شديدٍ. لم يجبني عن أي سؤال، يتعلق بما فعلوه معه طوال نصف عام. الشيء الوحيد الذي عرفته، أنهم أطلقوا سراحه بعدما تأكدوا أن لا علاقة له بأيٍ من التنظيمات الدينية الشيعية السرية. كان ذلك في أواخر عام 1979.  

عقب كل جملة يتلفت يمنة ويسره، ويُدني رأسه حتى يكاد يلاصق وجهي قبل أن يجيب على أسئلتي. بِتُ واثقاً أن شيئا ما تغير في كيانه وهو يتحاشى الإجابة على أسئلتي الدقيقة عن تفاصيل يوم الزنزانة الطويل:

ـ الحمد لله.. الحمد لله.. شميت الهواء.. الحمد لله!.

 قلت مع نفسي وأنا أمعن فيه تأملاً:

ـ الكلاب.. أخذوا شيئا من بهائه!.

 يئست من استعادة لحظة بوح واحدة منه، مما كنا نفعله في غرفة النظار، وقت خلو الدائرة وانشغال الموظفين، في تفقد الحقول. يئست. قمت من كرسيَّ فقام، تعانقنا وبأذني همس جملته بودٍ ومحبة:

ـ دير بالك على نفسك!.

وهذا ما لم أفعله قط. كيف يدير الواحد منا باله على نفسه، وهو منشغل بهموم الناس، ولديه موقف مما يجري حوله.

كانت السيارة تنهب الطريق المبلط عابرة القرى الصغيرة على جانبي الطريق، مضارب الغجر، مخازن الأسلحة القديمة، ناحية نفر، لدي في كل ما أمرّ به خطفا قصة وحكاية. حرصت على عدم الانزلاق إلى مناحي تلك القصص، كي أتمسك بطيف قديسي " جاسم شبلي" الذي أحلم برؤيته وقد كبر وأمعن في التأمل والزهد.. عبرنا "عفك" ولم يبق سوى كيلومترات عديدة ونصل. كنت منفصلا تماما عن الركاب الثلاثة والسائق وما كانوا يتحدثون فيه. تدخلت مرة لما أشعل أحدهم سيجارة، فطلبت منه إطفائها بسبب متاعبي مع التنفس فأنصاع معتذراً. عدا هذا كنت سارحاً مع أفق الصحراء المترامية على جانبي الطريق، وطيف ملاكي البعيد الغائر في الماضي الحميم:

ـ هل سأعثر عليه في المقهى مثلا، كما وجدته لما أطلقوه قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً؟!.

أمّلتُ نفسي بذلك، وهبطت من جديد محاولا لمَّ شتات تفاصيل صغيرة تخص علاقتنا.. لا أدري كيف مرت تلك الفترة المحتدمة. سافرت إلى بيروت، وعدت. تنقلت بين دوائر عدة، وتزوجت في نفس الوقت قامت الحرب مع إيران.. كنت في أيام زواجي الأولى. في مساء معتم أخذت زوجتي إلى الطبيب لفحص الحمل، وفي عتمة فرع جانبي يتفرع من شارع الصيدليات في صوب الشامية الصغير، أضاءت مصابيح سيارة قادمة من خلفنا قامتة المتجه صوبنا بخطواته المتمهلة. هزّني الفرح هزاً إذ كنت قد حكيت لها عنه كل هذه التفاصيل التي سردتها في السطور السابقة.

قلنا بصوت واحد لبعضنا ضاحكين:

ـ بعدك عَدِلْ!.

فقد كان هاجس قتلنا حقيقيا يزحم كل لحظة تمرّ بنا!. بعد التحية

الحارة، أشرت إليه قائلا:

ـ جاسم شبلي الذي حدثك عنه!.

أطلق ضحكة بهيجة وشتْ بها النبرة وقال:   

ـ أش حت يمعود تره أنا إنسان بسيط لا تكبرني ويكتلوني بعدين!.

كنا نتبادل الحديث في العتمة وعلى ضوء مصابيح السيارات المارقة التي تضيء وجهي تارة، وتضيء وجهه في أخرى. أشرت لزوجتي معرفا بها. ولما سألته عن سبب مجيئه قال لي:

ـ لدي مشاكل بالكِليةِ من يوم أخذوني!.

كان يراجع طبيبا مختصا. ودعّنا بعضنا. وكل منا يأمل باللقاء مرة أخرى ما دمنا أحياءً، لا سيما أننا نعمل في دائرة واحدة. لكن ما حدث بعد ذلك يشبه الزلال. كما ذكرت لم أنصع لنصيحته، بل وجدتني أجهر بكل شيء، لما أخذوني جنديا لجبهات الحرب.. فهربت إلى الثوار في الجبل لأجد نفسي بعد عشر سنين لاجئا منسيا في الدانمارك أعاني من رئتين تعطَّلَ أكثر من نصفيهما في قصف غازات سامة في الجبل. ووجدتني أنتظر أكثر من عشر أخرى حتى يحتل الأمريكان (عراقيَّ) كي أستطيع العودة لشم نسيم وتراب وأنفاس أسلافي. زلزال عصف بي عصفاً وشتت حواسي وكياني. وهاأنذا أحاول تجميع ما أستطيع بالبحث، عمّن رسخ بنفسي طوال النفي بين ثوار الجبل ومعسكرات اللجوء ولغة غريبة تزحم يومي. من بعيد وعبر زجاج السيارة الأمامي بانت بقعة سوداء داكنة ترصع أفقاً أصفر ذهبياً، سرعان ما كبرت، فبدت بناياتها الواطئة قال السائق:

ـ وصلنا بالسلامة!.

عبر زجاج النافذة تأملت البيوت. الناحية توسعت قليلا، لكنها بدت كالحة بائسة رثة بالمقارنة مع الناحية القائمة في ذاكرتي من رماد السنين. وجدتها شديدة البؤس.. لحظتها أدركت هول ما جرى في غيابي. ترجّلتُ في السوق. لم يعرفني أحدٌ حتى أن ناظراً تعاونيا كنت أشرف على جمعيته شَخَصَ نحوي كغريب وسارَ إلى حال سبيله. لم أسع كي أذكره. سرت صوب الدائرة. اقتربتُ منها. البناء نفسه لكن بدا هرما مشققاً بائساً. ولجت الباب وإلى اليمين، حيث غرفة المدير، هبَّ نحوي من كرسيه شخص آخر ما أن رآني من خلف المنضدة. عانقني. عرفته فوراً كان طالباً معي في المعهد الزراعي الفني ببغداد. أخبرني أنه عاد قبل أشهر من إيران، وأنه خاض الكفاح المسلح بصفوف "قوات بدر" التابعة للحكيم. أصرّ على أن يأخذني إلى بيته لتناول الغداء وفعلت ذلك. خضت مع موظفي دائرتي القديمة تفاصيل لم تمس "جاسم" كنت وجلاً وخائفاً مما قد يجلبه السؤال من فاجعة، لكنني نفضت رأسي ونهرت نفسي قائلا:

ـ لم جئت إذن؟!.

ودون مقدمات قلت ببداهة:

ـ أدر أشوف "جاسم شبلي" أبو ليلى؟!.

كأنني فجرت قنبلة في الغرفة، ساد صمت كثيف أتاح لي الغور في الوجوه التي كانت في القاعة نفسها تهتف بحياة البعث التي أخرسها سؤالي. تَشاغَلَتْ في التحديق بأرض الغرفة، في الباب، في الشباك البعيد عن موقع جلوسي. أربكني الموقف، فكررت السؤال دون جدوى.. إلى أن بادرَ المدير الجديد قائلا بصوت خافت ودود:

ـ أستشهد منذ منتصف الثمانينات في المعتقل، وما عثروا أهله على جثته بالمقابر الجماعية!.

أحسست بشيء ينكسر في نفسي، وكأنني فقدت ركنا جديدا من أركانها. تمالكت نفسي حتى لحظة مغادرة آل بدير، لكن حال وصولي إلى طرف الديوانية ترجلت من سيارة الأجرة وركضت مثل مجنون في البرية صارخاً صراخا مبهماً.. ركضت. وركضت حتى عتبة بيوت الغجر الضاجة بالغناء عصراً وعلى عتبة غجرية سقطت على وجهي ناحباً!.

الدنمارك