يكتب القاص المصري هنا غنى اللحظة الباريسية بالزخم والوعود والحياة، وكيف تفتح باريس له ذراعيها، وتزعزع بمنطقها المترع بالحياة كل خططه السابقة بشأنها، فهي مدينة تتألق أبدا بحياة ووعود، بل بحيوات ثرية وجديدة.

الحيـاة الجديـدة

عبدالرشيد الصادق محمودي

أخذ عزمى رشفة من كأسه فامتعض. وأطفأ سيجارة الحشيش بسرعة بعد أن شد نفسا منها. هكذا تبدو الحياة مثيرة للقرف حتى لو جلست مرتديا العباءة المطرزة فى الشرفة المطلة على برج إيفل. ولكنه يعلم أن هناك فى هذه اللحظة ذاتها أناسا يرون نفس البرج وينعمون بالسعادة. بل انه لا يستبعد أن يكون هناك الآن شاب يقطع المسافة الممتدة بين الكلية الحربية وبين البرج مبتهجا بالحياة: يشعر بتدفق الدماء فى عروقه وبالدفء الذى تبعثه الصحة ويتنفس بعمق ويعتقد أن كل شئ ممكن. ولو أنه طاوع نفسه لنهض عن مكانه ليطل من الشرفة بحثا عن مثل ذلك الشاب. ولكن الأمر ليس فى حاجة إلى دليل.

لا يدرى كيف سمح لنفسه بأن تفلت الفتاة منه بعد أن تركت يده على ركبتها فى ظلام السينما. كانت على وشك الوقوع فى حجره كالثمرة الناضجة. فما الذى أبكاه فجأة أثناء عرض الفيلم، والمصيبة أن الفيلم كان كوميديا هزلية؟ وكيف يسمح لصورة زوجته بأن تقتحم خياله فى تلك اللحظة على وجه التحديد لتفسد عليه المغامرة؟ لم يكن ذلك ليحدث عندما بدأ حياته فى باريس. فماذا جرى له؟

كان فى المطار عندما ترامت إلى سمعه أطراف من حديث يدور بين سيدتين تجلسان بالقرب منه. من الواضح أنهما أمريكيتان، وتبين أن إحداهما ـ سوداء الشعر ـ كانت مثله في طريقها إلى باريس، بينما كانت الأخرى تودعها. وكانتا تتساءلان عن موقع متحف الأورانجيرى. وهم بالتدخل لولا أن زجره ما يشبه الصوت الصادر من أعماقه. أنت يا عزمى لا جدوى منك. فاسد حتى النخاع. أصبحت الخيانة جزءا من كيانك. ولقد ضبطت متلبسا. كان ينبغى أن تكون مكسور القلب بعد وداع البنت. ولكن بدلا من ذلك ماذا حدث؟ ما حدث لا يمكن أن يكون مشرفا. كان ينبغي على الأقل أن تكون حزينا لفراق المسكينة، ولكن حتى هذا الحد الأدنى من الإنسانية استعصى عليك. وها أنت ذا لا تريد أن تبتعد عن النساء. ألا ينبغى أن تكون هناك هدنة، فترة من الحداد؟ يا بارد! ونهض عن مكانه بالقرب من الأمريكيتين، وابتعد.

كانت جولييتا دامعة العينين طيلة ليلة الوداع. وقالت له:
ـ الحائل الذى بيننا رقيق. ولكننى كاثوليكية، وأهلى محافظون. ولا بد أن تفهم. يكفى أن تقول كلمة واحدة حتى أسلمك كل شئ. فقال:
ـ ولكنى غير مستعد. أنت تعلمين أننى مقبل على حياة جديدة فى باريس. أريد أن أستقر قليلا قبل أن أقدم على الزواج.
قالت:
ـ لم أطلب إليك أن تتزوجنى. اخطبنى وسأنتظرك. ولا تحمل لأى شئ هما. أبى من كبار الصناعيين فى ميلانو. ستأتى معى إذا قررت أن تخطبنى، وسأقدمك إلى الأسرة، ولن توجد بعد ذلك أى مشكلة. أو لكى أكون صادقة معك، ستكون هناك مشكلة صغيرة ولكنها لا تستعصى على الحل. أمى ستعترض لأنك أجنبى ولأنك مسلم، ولكن أبى لن يرد لى طلبا، فأنا ابنته الوحيدة.
قال عزمى:
ـ أنا أحبك ولكنى لا أستطيع أن أتخذ هذا القرار الآن.
أنفها أحمر من شدة ما بكت. وظلت تنشج بالبكاء كالأطفال إلى أن تمالكت نفسها وجففت دموعها:
ـ سأسافر إذن ولك أن تفكر فى الأمر. أرجو أن يهديك الله إلى القرار السليم. فإذا حدث ذلك فما عليك إلا أن تكتب. وتستطيع أن تتصل بالهاتف بطبيعة الحال. سأنتظر منك أى كلمة أو إشارة ترسلها.
وكان آخر ما قالت والقطار يتحرك:
ـ لا ينبغى لهذا الحب الذى بيننا أن يضيع هدرا.

طيبة وبنت ناس. وكان حبها صادقا. وررغم ذلك فلم تسمح لك بأن تعبث بها. وكانت ستكون زوجة صالحة. ست بيت من الطراز الأول. ما إن تدخل الشقة حتى تخلع البلوزة وتعيد كل شئ إلى مكانه الصحيح. ولا يفوتها شئ من ملابسك. لم تكن تسمح لك بالخروج قبل أن تعاين أناقتك وتسوى رابطة العنق. ولأنها كانت تعرف عنك حبك لبطنك، فقد كانت تطبخ لك المكرونة كما ينبغى أن تكون. أما الأوسو بوكو الذى كانت تقلى له الأرز مع النخاع، فلن تعرف له نظيرا طيلة حياتك. وأما قبلها التى كانت المسكينة تضع فيها كل ما لديها من عاطفة وشهوة، فحدث ولا حرج. ولا تنس أنها هى التى أقبلت عليك، وهى التى اختارتك. يعلم الله أن البنت كانت تحبك، وأنها هى التى سعت إليك. كانت تجلس وراءك فى قاعة المحاضرات, ولمست كتفك والتفت، ووقع بصرك عليها لأول مرة. كانت تسألك عن شئ ما. وأجبتها. وكان من الممكن أن ينتهى الأمر عند ذلك الحد، لأنك على فسادك أبله وبطئ الفهم. ولولا أن صديقك الذى كان يجلس بجوارك همس فى أذنك أن هذه البنت تريدك، لضاعت الفرصة النادرة منك. ولكنك ضيعت الفرصة فى النهاية. أصابك الذعر. لماذا؟ لأنك بكل صراحة كسول وجبان ويصيبك الرعب عندما تتخيل تروس المرأة وقد بدأت تدور. بعد الأحضان الناعمة، يأتى الأب الصناعى الكبير، ووراء الأب تتخفى الأم، ومن وراء الجميع تقف الكنيسة ويقف بابا روما والأب والإبن والروح القدس. والزواج رابطة مقدسة وحكم بالمؤبد، ورحت فى داهية.

وفى الطائرة كان المقعد المجاور للنافذة من نصيبه. فجلس وربط الحزام. ودعا الله أن يكون المقعد المجاور من نصيب رجل. قلبه مرهق بالحزن على جولييتا. وهو لن يغفر لنفسه ما حدث فى محطة السكة الحديد. عبارتها عن الحب الذى ينبغى ألا يضيع هدرا أرسلت الدمع إلى مآقيه. وكانت البنت جميلة فى ثوبها الحشمة: جونلة بسيطة وبلوزة والمنديل الملتف حول العنق. وكانت إذا لبست نظارتها الشمسية السوداء بدت أرستقراطية. ومن يرى ذلك الثوب البسيط لا يمكن أن يتخيل الجسد الرائع من ورائه. الجسد الذى حرمته عليه. وقبل أن يتحرك القطار بها قالت: "يصعب على أن أفارقك. أخبرنى بصراحة: هل كنت على صواب عندما رفضت الاستسلام لك؟"، فقال: "ماذا تتوقعين منى أن أقول؟ أن أحضك على الخطيئة؟ حاشا لله وحسنا ما فعلت. احتفظى بعفتك". وكان دامع العينين، ولكن ما إن تحرك القطار بها، وسار بين الجموع فى طريق الخروج من المحطة حتى أفاق إلى نفسه، وأصابه ما يشبه الصدمة. كان يسير على مهل، ويداه فى جيبى البنطلون، وكان... يصفر، وكان اللحن مرحا. أغنية "أحب عيشة الحرية". يا عزمى يا قليل الأصل!
وفتح عينيه عندما أحس بأن شخصا يهم بالجلوس فى المقعد المجاور. ولم يكن ذلك الشخص سوى الأمريكية صاحبة الشعر الأسود. وهتفت على الفور:

ـ هاي. لقد التقينا من قبل.
ـ بالفعل.
ـ اسمى بيكى. كيف حالك؟
ـ بيكى؟
ـ اختصار لربيكا.
ـ آه. اسم جميل.
ـ شكرا. وأنت ما اسمك؟ يبدو من ملامحك أنك شرقى. يا إلهى كم أحب هذه السمرة.

قال عزمى لنفسه: "بدأنا إذن". وخلع نظارته لينظف عدستيها. ودقق النظر فى جارته. كانت فى حوالى الأربعين من عمرها، ولا بد أنها متزوجة. الحمد لله. تأكد ذلك عندما رأى دبلة الزواج فى إصبعها. ما له وللمتزوجات؟ وهى ليست جميلة على أى حال. ولا بأس إذن من تمضية وقت الرحلة معها، ونسيان وجه جولييتا عندما تحرك القطار بها. وقالت الأمريكية:

ـ لا تتخيل مقدار فرحتى بالمجيء وحدى هذه المرة إلى باريس.
ـ تعنين أنك تأتين عادة مع زوجك؟
ـ تماما. ولكننا تناقشنا فى الأمر، واتفقنا على أن أقوم بالرحلة وحدى.
ـ وما هى الفكرة من وراء ذلك؟
ـ حسنا. لقد قلنا نحن شخصان ناضجان، وكلانا يحترم حرية الآخر على أى حال. ولا بد أن أذكر لك أن بيرنى ـ وهو اختصار لبرنارد اسم زوجى ـ له صديقاته، وهو يتواعد معهن ويتغدى مع واحدة منهن أو أخرى عندما يروق له ذلك. ولا أشعر بقلق من هذه الناحية، فصديقاته هن صديقاتى بالضرورة حتى لو لم يقدمهن إلى، وأنا أعلم أنه مخلص تماما على أى حال. وأنا بدورى لى أصدقائى من الرجال. ألعب مع بعضهم التنس أو أسأل أحدهم أن يصحبنى إلى السينما أو إلى أحد المعارض. بل لقد حدث فى إحدى المرات أن سافرت إلى سانت جيمس مع هنرى ـ وهو شخص رائع بالمناسبة ولا يكف عن مغازلتى و...
وقاطعها عزمى:
ـ وهل هنرى صديق لزوجك أيضا؟ وتقولين إنه لا يكف عن مغازلتك؟
ولكنها استمرت وكأنها لم تسمع سؤاله:
ـ شخص رائع وذو حس فكاهى خرافى. المهم أننى سافرت معه وقضينا ويك إند رائعة فى سانت جيمس. ولم يمانع بيرنى على الإطلاق.
قال عزمى:
ـ هل أنت مخلصة لبيرنى؟
ولكن سؤاله لم يثر اهتمامها فيما يبدو، فقد غيرت الحديث. قالت:
ـ أول ما أريد عمله عندما أصل إلى باريس هو أن أزور متحف الأورانجيرى. أريد أن أرى أعمال الانطباعيين. وعليّ فى اليوم التالى أن أجد من يصحبنى إلى الفولى برجيه. لا تتخيل كم أنا متشوقة لكل ذلك. وأنت ماذا تريد عمله فى باريس؟
ـ أنا فى الواقع أنوى الإقامة لمدة طويلة. فقد عرضت على هذه الوظيفة فى منظمة التنمية والتعاون فى الميدان الاقتصادى. واليوم هو بداية حياة جديدة بالنسبة لى.
ـ أعنى ماذا تنوى عمله اليوم؟
ـ اليوم؟ أشياء كثيرة فى الواقع. أريد أن أقابل صاحبة الاستديو الذى سأسكن فيه لأوقع عقد الإيجار. ولما كان اليوم هو السبت، فإنى أريد أن أقضى بعض الحاجيات استعدادا للأحد.
وبعد فترة من الصمت قالت بيكى:
ـ لقد خطرت لدى فكرة. لماذا لا نلتقى فى المساء؟
وفوجئ عزمى بالسؤال، ولم تسعفه بديهته بأى إجابة. ولكن بيكى أنقذته من الحرج:
ـ أعنى أننى سأذهب إلى المعرض، وستذهب أنت إلى صاحبة الاستوديو وما إلى ذلك. وفى المساء... أنا شخصيا لست مرتبطة بأى مواعيد فى المساء. وأنت؟
ـ الواقع أننى ليس لدى ما أعمله على وجه التحديد. ولكن... ولكن...
وأنقذته بيكى من الحرج من جديد:
ـ أفهم ما تعنى تماما. ستكون متعبا وتريد أن تستريح. لتسترح الليلة إذن. وسأعطيك رقم الهاتف فى الفندق، ولك أن تتصل بى غدا إذا شئت.

وكان كل شيء واضحا فى ذهنه عندما وصل إلى الاستديو. سيفرغ حقائبه ويضع كل شيء فى مكانه، ثم يخرج ليتغدى ويشترى بعض اللوازم من السوبرماركت القريب ثم يذهب إلى المالكة فى الجزء الآخر من العمارة. وبعد ذلك يستحم ولعله يشاهد فيلما فى السينما المجاورة. وهكذا ينبغى أن تبدأ حياته الجيدة فى باريس. فى هدوء من فضلك وطمأنينة وراحة بال. وليس هناك مجال للنساء ـ أرجوك ـ لا اليوم ولا غدا. أمامك حياة طويلة عريضة فى باريس. أما الزواج فسوف يأتى أوانه. ولا بد أن تشبع من الحرية أولا. وأنت لا تريد عواصف فى حياتك. ولا تريد فى الوقت الحاضر أى علاقات معقدة. وأحب عيشة الحرية.

وكان يرتب ملابسه عندما دق جرس التليفون. وخفق قلبه: لا بد أنها بيكى. أعوذ بالله. ألم يقل لها ـ أو ألم تقل له بالأحرى ـ إنه يريد أن يستريح الليلة؟ ولكنها لم تكن بيكى. بل كانت صاحبة البيت تريده أن يذهب إلى شقتها فورا. قالت:

ـ مدام إيميه على الخط. أنا آسفة لإزعاجك. لا بد أنك واصل لتوك. ولكنى أريد أن ننتهى من مسألة العقد هذه بسرعة حتى يعرف كل منا ما له وما عليه دون أى التباس. بالإضافة إلى أن لدى بعض الارتباطات فى أواخر العصر. ولكن أخبرنى أولا: هل يروق لك الاستوديو؟

ـ الاستوديو جميل.
ـ إذن أنا فى انتظارك.

وأنهت المكالمة قبل أن ينطق بكلمة. فاضطر إلى التوقف عن ترتيب ملابسه. وكانت السيدة إيميه التى تناهز السبعين من عمرها تعد القهوة فى المطبخ عندما أتيح لعزمى أن يدور بعينيه فى غرفة الجلوس. كانت غاصة بالأثاث والتماثيل البرونزية والتحف والأوانى الفضية والساعات الأثرية. كيف يمكن لإنسان أن يعيش فى قلب هذا المتحف دون أن يصاب بالاختناق؟ ولكن السيدة النحيلة ذات الشعر الفضى بدت وكأنها ما وجدت إلا لتحرس تلك المقتنيات الثمينة. وسألها عزمى ما إذا كان لديها أبناء فأجابت بالنفى، وأضافت: "فيما عدا هذا". وكانت تشير إلى الكلبة "أوليمب". ثم استدركت لتقول إن لها أيضا ابنة بالتبنى. وعندما عادت بالقهوة قالت: "كانت تسكن معى هنا حتى الشهر الماضى، ولكننى قررت التخلص منها". قال عزمى فى هلع: "كيف تتخلصين من بنتك؟ أرجو ألا تكونى قد تبرأت منها". وهتفت المدام: "وكيف أتبرأ منها؟ هى يتيمة من فييتنام تبنيتها. لعلنى أسأت التعبير عما أريد. أعنى أننى قررت أن تسكن وحدها وأن تدبر أمورها بنفسها. فقد بدأت أقلق بشأنها". قال عزمي: "كيف؟" قالت: "لقد بلغت التاسعة عشرة من عمرها، ولكنها منطوية على نفسها وما زالت شديدة الارتباط بي. وهى لا تبدى أى اهتمام بالشبان. وليس لها صديق. ألا توافقنى أن ذلك أمر مثير للقلق؟" ووافقها على ما تقول.

كانت المرأة تحب الكلام. ولعلها كانت تدرك أنه لم يكن يفهم بعض كلامها، ولكن ذلك لم يمنعها من مواصلة الحديث. والتفت إلى أوليمب. كانت من نوع البودل لونها يشبه لون الشمبانيا وعلى رأسها فيونكة حمراء وفى عنقها طوق من الجلد مرصع بفصوص بيضاء متلألئة. وأشار إليها متوددا، ولكنها أعرضت عنه. وأخذت المدام تتحدث عن شبابها وصداقاتها مع أبطال المقاومة ودورها فى النضال ضد الاحتلال النازى. ثم جاءته بالعقد، فألقى عليه نظرة سريعة ووقع. وعاد يحاول التواصل مع أوليمب دون جدوى. وتبين أن هناك ورقة أخرى كان عليه أن يوقعها: قائمة محتويات الشقة. قال عزمى: "أنا لم أنظر فى محتويات الشقة. أهى ضرورية حقا؟" قالت المدام: "ذلك هو العرف المتبع فى هذه البلاد. تستطيع إذا كنت تفضل ذلك أن تذهب إلى الاستوديو لتعاين محتوياته ثم تعود للتوقيع". ولكن الفكرة لم ترق له. ولو أنه طاوع نفسه لأخبرها أنه قضى فى لندن سبع سنوات تنقل خلالها من سكن إلى آخر دون أن يوقع عقدا أو قائمة أو أوراقا من أى نوع. كان كل شىء يتم بناء على اتفاق جنتلمان. ولكنه لم يطاوع نفسه. يبدو أن أصحابنا الفرنسيين شعب قانونى محب للنصوص المكتوبة. فوقع.

وأخيرا جاءت "أوليمب" الجميلة لتلتصق بساقه دون أن تعير شخصه أى اهتمام. تعتقد أن من حقها أن تلتصق بساقه كأنها ساق مائدة أو مقعد. وسأل عزمى المدام فجأة: "لماذا لا يتصف الباريسيون بالمودة؟" فأخبرته ـ وهى تميل نحوه باهتمام بالغ وقد انزلقت نظارتها على أرنبة أنفها كأنها معلم يريد لطلابه أن يحفظوا الدرس ـ أن الفرنسيين بصفة عامة قوم متحفظون، وخاصة بإزاء الأجانب. وأرجعت ذلك إلى تماسك الأسرة الفرنسية وانغلاقها على نفسها. فقال: "ومع ذلك فالفرنسيون يتميزون ـ أو يقال إنهم يتميزون ـ بحدة العاطفة". فقالت: "لا تصدق كل ذلك الهراء الذى يشيعه الفرنسيون عن أنفسهم. حدة العاطفة هنا لا تخرج عن نطاق الذهن". وأشارت إلى رأسها: "نحن ذهنيون. أنت تعرف بالطبع ديكارت". قال: "أعرفه". فقالت: "ديكارت قال: أنا أفكر إذن أنا موجود. أليس كذلك؟ إننا نحن الفرنسيين موجودون لأننا نفكر. نحن ديكارتيون. هل فهمت ما أعنيه؟"

وعاد إلى مسكنه ليستعرض محتويات الشقة بعناية، فأدرك أنه تسرع فى التوقيع على قائمة المحتويات. وشعر بالانقباض. كيف أحصت المدام كل شيء بما فى ذلك عدد رفوف الكتب، وفناجين الشاى والمغارف والشوك والسكاكين والملاعق ـ حتى ملاعق الشاى! ـ ولم تلاحظ أنه لم يكن هناك عدد كاف من الملايات، ولا عدد كاف من البطاطين، وأن أكياس الوسائد هى من الوساخة بحيث لا تصلح إلا لصندوق القمامة؟ وكيف فاتها أن تلاحظ أن الاستوديو كان ينبغى أن ينظف استعدادا لاستقبال الساكن الجديد؟ انظر إلى قذارة البانيو! وليس هناك مواد للتنظيف. وأخرج من جيبه قائمة المحتويات، ثم دسها فيه من جديد. وليس هناك مجال الآن للرجوع إلى مدام إيميه. آه من الشعب القانونى! ستقول له لو أنه عاد إليها إنه قد وقع العقد وفات الأوان، وإنها نصحته بأن يراجع محتويات الاستوديو قبل التوقيع، ولكنه عاند ورفض. وعليه إذن أن يستخلص النتيجة المنطقية ـ وهى مريرة ـ من كل ذلك: عليه أن يخرج قبل إغلاق المتاجر ليشترى ما ينقصه، وأمامه أعمال شاقة كريهة فى الشقة لا يمكن أن يهدأ له بال قبل أن يؤديها، وهو لم يتغد بعد. أهكذا تستقبله باريس فى أول يوم من الحياة فيها؟

وعندما نصب قامته بعد أن فرغ من كنس الباركيه ودهانه بالشمع وتنظيف البانيو وفرش السرير، شعر بأن ظهره يكاد ينقصم، ورأى من خلال زجاج النافذة أن المطر يهطل بشراسة. وقد اكتملت المأساة إذن. كان ينوى أن يقوم بجولة فى الحى ويستكشف معالمه، وهو لا يستطيع أن يفعل ذك الآن. أقصى ما يستطيع عمله هو الذهاب إلى السينما. فهل يذهب إلى السينما؟ كلا، لم يعد له رغبة فى ذلك. إذن فليذهب إلى أحد المقاهى القريبة ويطلب سندوتشا ـ فالجوع يكاد يمزق أحشاءه ـ وقهوة ويرقب المارة وهم يعدون يمنة ويسرة بحثا عن مكان يلوذون به من المطر. فهل تلك هى الطريقة المثالية لقضاء أول أمسية فى باريس؟ محال. ليست هذه بالطريقة المثالية. ورفع سماعة التليفون ليطلب ربيكا. وجاءه صوتها وهى تهتف:

ـ هاي.
كان لا بد أن يعلن استسلامه. وانتهزت هى الفرصة لتسجل هزيمته. فبعد تمنع وتدلل بسبب "تعبها" تارة والمطر تارة أخرى قالت:
ـ ولكن عدنى أن تكون الدعوة إلى العشاء دعوة صادقة.
ـ ماذا تعنين؟ لقد اتفقنا على أن نتعشى معا.
ـ هذا صحيح. ولكن دعنى أكون صريحة معك. إننى أتخوف من دعوات العشاء. عندما أخرج مع صديق للغداء تكون الأمور واضحة. أما العشاء فهو مسألة أخرى. فالرجل عندئذ لا يفكر إلا فيما قد يحدث بعد العشاء.

انظر كيف غيرت النغمة. يالطيف! ما أدهى النساء! وأكد لها عزمى أنه لا يفكر إلا فى الصحبة الحسنة، ولكنه كان يقول لنفسه: لا تلق بالا إلى ما تقوله. ولا تستبق الأحداث. قد يتغير كل شىء عندما تشرب الكأس الثانية أو الثالثة. عندئذ يسرى الدفء فى الأجسام. ولعلها هى التى تبدأ لعبة الأقدام تحت المائدة. وأنت على أى حال فى موقع الضعف. ولا تستطيع بأى حال أن تقضى الأمسية وحدك كالقرد البائس.

وجاءت متأخرة عن موعدها بحوالى الساعة، ولكنها عوضته عن طول انتظاره بأن عانقته عناقا حارا كأنه صديق عزيز لم تره منذ سنين. واعتذرت عن التأخير. لم تذهب إلى الأورانجيرى فى نهاية المطاف، ورأت أن تزور صديقا ـ رساما كنديا ـ لم تكن تنوى قضاء وقت طويل معه، ولكنه جذاب الشخصية إلى أقصى حد ولا يمل حديثه، وذلك فضلا عن أعماله الفنية الرائعة التى تشد الرائى وتخلب لبه ولا يستطيع منها فكاكا. ثم كان عليها أن تذهب إلى صالون للحلاقة، فليس من الممكن ـ كما قالت ـ أن تأتى إلى لقائه إلا وهى فى أحسن صورة. وكان عليها أخيرا أن تجد سيارة أجرة، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، وهلم جرا.

وتأبطت ذراعه إلى مطعم دافئ وثير. وكانت مبهورة بكل شىء ولا تكف عن الكلام. وكانت تقاطعه كلما هم بالحديث. فكم هى سعيدة بالقدوم إلى باريس، وبلقائه. إن المرء لا يتعرف كل يوم على صديق من هذا القبيل. وكم هى ممتنة لأنه انتظرها ولم ينفد صبره. فلو انه لم ينتظر لسافرت إلى بلادها كسيرة الفؤاد. "ما كان أتعس حالتى لو أننى لم أتمكن من مقابلتك". وصديقها الفنان الكندى يمتلك بيتا من طراز قديم بديع يرجع إلى القرن التاسع عشر. وهو ملتح، وله صديقة فاتنة شاركتهما الحديث. وكان الحديث ذا شجون، ولقد عرض عليها بعض أعماله التى لا يكشف عنها إلا لأصدقائه المقربين. وكان التفاهم بينهما ـ بل وبين ثلاثتهم ـ عظيما وباهرا: فلقد أدرك أنها نفذت إلى أدق أسرار فنه وإلى أعماق اهتماماته. وكان موقف الوداع غريبا مؤثرا. فلقد زارته بصفتها المهنية (فهى تعمل فى متحف)، ولكنها لم تخرج من بيته إلا وقد أصبحت صديقا حميما. وعانقته قبل أن تمضى كما عانقت صديقته الفاتنة.

كان عزمى يشعر أن فى حديثها قدرا من المبالغة، ولكن الطعام كان ممتازا، وكان للنبيذ عبق جميل يذكر بالفاكهة البرية. فترك نفسه على سجيتها. ماذا يعنيه من صدقها أو كذبها، المهم أن تأتى معه إلى الاستديو فى آخر السهرة. وهى متزوجة، وسيقضيان الليلة معا دون أن يعرف الصباح ما جرى فى الليل. وأخذ يتأمل وجهها. كانت ملامحها قد أخذت ترق (فهل كان للنبيذ أثر فى ذلك؟) وبدت له فى صورة تختلف عن صورتها الأولى، صارت على درجة من الجاذبية. قالت: "أرجوك لا تنظر إلى على هذا النحو. كلا لا أستطيع تحمل تلك النظرات". قال وقد خفض بصره وصوته: "ليس فى الأمر ما يقلقك. كل ما هنالك أننى أشعر برغبة جارفة فى أن أقبلك". قالت وهى تأخذ رشفة من كأسها: "ذلك أمر طبيعى". قال: "فهل تشعرين بنفس الرغبة تجاهى؟" فأجابت: "بطبيعة الحال". قال: "جميل. نحن إذن صديقان وليس بيننا خلاف". قالت: "نحن على اتفاق كامل".

وأعجبها الطعام والمطعم: "ولكننى لا أريد أن أخرج من هذا المكان دون أن أحمل منه ذكرى. هل تعتقد أن بإمكاننا شراء زجاجة من نبيذهم؟ إنه رائع، وسوف يجد تقديرا كبيرا لدى بيرني". بكل تأكيد. لا أعتقد أنهم يمانعون. وكان النبيذ غالى الثمن، وكان يكره إنفاق كل تلك النقود وهو فى أول يوم له فى باريس، ولم يتلق أول مرتب له بعد. ولكن لتذهب الفلوس إلى جهنم طالما انعقد بينهما ذلك "الاتفاق الكامل". وتشجع ونادى الجرسون. وعندما خرجا من المطعم لم يكن قد أفاق بعد من هول الرقم الذى رآه على الفاتورة. ولكنها سارعت إلى تأبط ذراعه، وكان الجو باردا وهبطت على المدينة غلالة رقيقة من الضباب. وسرى فى جسمه دفء جسمها. المهم ألا يقضى الليلة فى فراشه وحيدا فى هذه الليلة الأولى الباردة فى باريس.

وسارع إلى الهجوم فحاول تقبيلها. فاستمهلته: "دعنى أخلع معطفى أولا". معقول. لديها كل الحق. كيف غابت عنه هذه الفكرة: أنها يجب أن تخلع معطفها أولا. وساعدها على خلعه وعلقه برفق على مشجب وضعه فى دولاب الملابس. وعاد ليجدها جالسة على حافة السرير، فجلس لصقها وحاول أن يعانقها. قالت: "أرجوك". وأمسكت بيديه: "أرجوك أن تفهم". قال بصوت انتابته بحة: "نحن متفاهمان تماما". وانتابه ذهول عندما سمعها تقول وهى تضغط على يده بحنان: "ليس من طبعى أن أخون زوجى". وقال لها من بين ما قال: "إذا كان الأمر كذلك، فما الداعى إلى كل ذلك التمثيل طيلة المساء؟" وأخذت تعتذر عن سوء تصرفاتها وجموح خيالها بها: "ولكن أرجوك ألا تكون غاضبا منى وأن تتفهم وضعى. لا تتخيل كم أستلطفك. بل لن أكون منافقة فأخفى أنك تجتذبنى. أنت أمنية كل امرأة. ولكن ليس من السهل على أن أخون زوجى". وكأنما انقشع النبيذ من رأسه. ها هي امرأة تريد أن تكون وفية لزوجها. كيف يمكنه أن يجادل فى ذلك؟ ليست لديه أي حجج.

وزادت رغبتها فى الاعتذار عندما أصر على اصطحابها إلى موقف سيارات الأجرة. فقد أخذت تضمه وتقبله: "هل تكتب إلى؟" وتجاهل السؤال، ولكنه قال: "أعتقد أنك تصرفت تصرفا حسنا. كوني وفية لزوجك إذن".

وفى يوم السبت ـ أول عطلة من عطلات نهاية الأسبوع ـ كانت بداية حياته الجديدة بحق. لا مكتب، ولا عمل ولا حرص على النوم مبكرا. بل حرية تامة. وكان قد أطال الوقوف أمام المرآة، وشذب شاربه واستخدم العطر الجديد لما بعد الحلاقة وتهيأ لاستقبل باريس كما ينبغى. بل انه قبل أن يخرج فتح نافذة البلكونة وسمح للهواء بأن يندفع إلى داخل الاستوديو. ورأى برج إيفل والحديقة التى تجاوره ـ "ساحة مارس" كما يسمونها. وكانت خطته لقضاء اليوم تقتضى أن يتسكع فى الحى والحديقة حتى يشعر بالجوع وعندئذ يذهب إلى مقهى قريب قيل له فى لندن إنه لا يبارى فى أم الخلول المحشوة بالثوم والبقدونس. فالحياة الجديدة يا عزمى يمكن أن تكون احتفالا دائما.

واستوقفه عند باب الخروج خطابان فى صندوق بريده. ولما أخرجهما عرف على الفور أن الخط على أحد المظروفين هو خط جولييتا. فدسهما فى جيبه وقرر ألا يفتحهما إلا على مائدة الغداء بعد شرب كأس أو كأسين. وكان يهم بنزول الدرجات الأربعة المؤدية إلى الشارع عندما رأى مدام إيميه بالقرب من مكتب البواب، وكانت تناديه. وقدمته إلى فتاة كانت بصحبتها: "ها هى نادين ابنتى التى حدثتك عنها". وتردد عزمى قليلا قبل أن يمد يده ليصافحها: "بونجور يا آنسة". وقالت المدام: "والآن ما رأيك؟ أليست رائعة الجمال؟" وماذا عساه يقول ردا على مثل هذا السؤال؟ إن أى كلمات يمكنه أن يفكر فيها لا بد أن تعجز عن وصف جمالها. حاول أن ينظر إليها فلم يتمكن من إطالة النظر. ولكن لم يفته أن يلاحظ بشرتها الخمرية وسواد عينيها وشعرها الفاحم المنساب ـ وآه من تلك القصة المنسدلة على الجبين! ـ ورشاقة جسمها. وهز عزمى رأسه: "أنشانتيه يا آنسة". وقالت المدام: "إنها جارتك تسكن الاستوديو أربعمائة وسبعة فى آخر الممر الذى تقيم فيه". وحياهما من جديد: "نهاركما سعيد".

لماذا يصيبه الذهول والارتباك عندما يرى امرأة جميلة؟ لماذا انصرف على الفور؟ كان بوسعه أن يتمهل ويثرثر معهما قليلا. ولكنه تهيب الموقف. فغض بصره بعد نظرة خاطقفة، وقال لنفسه: "ها هى تحفة أخرى تحرسها السيدة إلى جانب مقتنياتها الثمينة الأخرى". وتذكر الخطابين، فقرر ـ وهو لم يشرب شيئا بعد ـ أن يبدأ بالخطاب الذى يجهل مرسله. وما إن فتحه حتى امتقع وجهه:

"الأحد صباحا....
عزيزى...

ما زلت فى فكرى وفى قلبى لا تبرحهما منذ رأيتك فى آخر لحظة من سهرتنا وأنت تقطع الشارع وحدك فى طريق العودة إلى مسكنك. وما زلت أرى عينيك وأحس بما فيهما من تعبير عن مشاعرك العميقة. لقد نفذت نظراتك إلى أعماق روحى فى المطعم. ما كان أغبانى وأسفهنى. ليس هناك من الكلمات ما يعبر عن شعورى بالندم. الجو بارد هنا والسماء رمادية، وكم أود أن أكون فى باريس معك. ويا ليتنى أستطيع أن أعود معك إلى مسكنك مرة أخرى. كيف أمكننى أن أخيب ظنك؟ ولكن الوقت المتاح كان قصيرا كأشد ما يكون القصر، وحدث كل شئ على نحو فجائى. ولم يكن هناك وقت كاف للتروى. فماذا عساي أقول لك الآن سوى أننى أشعر بالأسى الحقيقى على ما ضاع منى.

ولقد تبدو الكلمات دون جدوى، لكنى أردتك أن تكون على علم بهذه العواطف التى شعرت بها عندما غلبنى النوم ليلة أمس وعند استيقاظى الآن. ولقد سألتك عما إذا كنت ستكتب فلم ترد. وأحسب أنك لن تعرنى انتباها إذا دعوتك إلى أن تأتى لزيارتى فى أمريكا. ولذلك لن أوجه إليك مثل هذه الدعوة، وسأنتهز بدلا من ذلك أول فرصة كى آتى إلى باريس. فلا تدهش إذا وجدتنى ذات يوم ببابك. إليك قبلاتى الدافئة. ربيكا".

وكان ما زال تحت وطأة خطاب ربيكا عندما ظهر الجرسون ليسأله عما يريد. وبعد قليل من التردد غير رأيه فقرر أن يطلب بدلا من أم الخلول المحشوة بالثوم والبقدونس نصف دستة من المحار. لم يكن جربه من قبل، ولكن كان ذلك فى نظره سببا وجيها للإقدام على المغامرة. و"ماذا يريد السيد أن يأكل بعد المحار؟" قال عزمى: "سأفكر فيما بعد". وعاد الجرسون ليسأله: "ماذا يريد السيد أن يشرب مع المحار؟" قال عزمى دون مبالاة: "بيرة مثلجة من فضلك".

وكم كانت دهشته عندما جاءه الجرسون بالمحار وكأس من النبيذ الأبيض، وانصرف بسرعة. فاستوقفه: "طلبت بيرة. لماذا تأتينى بنبيذ أبيض؟" ولم ينطق الجرسون بكلمة، واكتفى بهز رأسه ووضع يده فى جيب المريلة. كان فى نظرته ما يدل على الضيق. وهم عزمى بأن ينهره لولا أن نظرة الضيق تحولت إلى ما يشبه اليأس. كأنما كان الرجل يقول لنفسه: "آه من هؤلاء الأجانب!" وفهم عزمى على الفور وأدرك أنه ارتكب عملا مشينا عندما طلب بيرة مع المحار. تستطيع أن تفعل ذلك فى بلاد الانجليز: ناس على قد حالهم يشربون البيرة مع كل شيء. ولكنك الآن فى فرنسا. وعليك أن تتعلم أصول الحياة الجديدة. وأول هذه الأصول أن المحار لا يشرب معه إلا النبيذ الأبيض.

"حبيبى عزمى يا جوهرتى يا كنزى
لا يمكنك أن تفهم ماذا تعنيه مفارقة لندن. فأنا الآن وقد أصبحت في بلدى وبين أهلى وأصدقائى أشعر بالضياع، فكأن الفترة التى قضيتها في لندن كانت حلما. ومثلى الآن مثل شخص عاش لسنوات طويلة فى مكان آخر ـ على سطح القمر مثلا ـ ثم وجد نفسه فجأة بين أناس غرباء. ويزداد شعورى كل يوم بأن وطنى هو القمر. أنت قمرى، وطنى هو أنت. كيف هان على أن أتخلى عنك؟ لا حياة لى بدونك. وثق أننى فور انتهائى من هذه السنة الدراسية الأخيرة سآتى إليك لأعيش معك فى باريس. إنتطرنى، أرجوك. المخلصة إلى الأبد جولييتا".

وقال له الجرسون عندما رآه يطلب الحساب دون أن يتناول من طعامه وشرابه إلا أقل القليل: "يبدو أن طعامنا لم يعجب السيد". قال عزمى: "بل أعجبنى تماما. كل ما هنالك أننى أصبت بتعب مفاجئ". ولم يكن يكذب: كان بالفعل يشعر بالدوار. ماذا عساه يفعل لو أن الأمريكية المجنونة أو العذراء الإيطالية المولهة نفذت تهديدها؟ بل ماذا يحدث لو أنه وجدهما كلتيهما ذات صباح ببابه؟ وكان مضطربا وهو يعالج قفل بابه بالمفتاح فلا يستطيع فتحه. وكانت يده ترتعش والهواجس تجتاحه عندما سمع انفتاح آخر باب فى الممر، فتلفت. ثم أخذت الأحداث تتوالى بسرعة مذهلة. كأن المخرج ـ إن كان لتلك الأحداث مخرج ـ قرر أن يسرع إيقاع الفيلم. ظهرت الآنسة نادين فى نهاية الممر. ووقعت عيناها عليه، فاندفعت نحوه وهى فى حالة من الاضطراب الشديد: "آه أيها السيد. وصلت فى الوقت المناسب. أكاد أجن". وكان قلبه يخفق بشدة عندما أخبرته أن جهاز التلفزيون أصابه عطل وأنها لا تستطيع أن تستدعى أحدا لإصلاحه فاليوم سبت، وبواب العمارة سافر ليقضى عطلة نهاية الأسبوع فى الريف، ومكتبه مغلق، وهى لا تستطيع أن تجد من ينجدها، ولا تستطيع أن تقضى نهاية الأسبوع بدون تلفزيون، يا له من بؤس! وسألته إن كان على دراية بعمل التلفزيونات. ولم تكن لديه فى ذلك المجال أى دراية خاصة. ولكنه أجاب دون تردد: "سأحاول". لم يكن لديه ما يخسره على أى حال. وشكرته على لطفه. قال: "لا أعد بشيء، ولكن سأحاول". وزاد اضطرابها عندما وصلا إلى بابها وسألته أن يتفضل بالدخول. فلما دخل بدا عليها الحرج كأنما ندمت على تهورها بدعوة شاب غريب إلى مسكنها. وصارت تعتذر عن الفوضى العارمة التى واجهته عندما دخل: الكتب والاسطوانات ملقاة على الأرض والجوارب منشورة بعد غسلها على المقاعد والملابس الداخلية مبعثرة على السرير. وكانت فى عينيها السوداوين نظرة تشبه التوسل، كأنها طفل ضائع. هنالك أشرق وجهه بابتسامة عذبة مطمئنة: "لا تقلقى. سأفعل ما فى وسعى. وكل شيء سيكون على ما يرام. صدقينى. أوكيه؟"

ألف وتسعمائة أوكيه. وتذكر ابتسامته تلك بعد ربع قرن من إشراقها. حلت محل الدوار الذى أصابه ساعة الغداء، وكان معناها أنه نسى جولييتا وبيكى: لتأتيا ـ إذا شاءتا ـ معا أو فرادى، فلم يعد الأمر يعنيه. ولم تكن هناك صور دخيلة تعكر صفو اللحظة الحاضرة. "إحنا ولاد النهار ده". وأصبحت البنت ذات الشعر الفاحم والعيون الآسيوية هى موضع الاهتمام. فما الذى حدث إذن؟ أنت فى شبابك مشروع واعد. جدواك ظاهرة وليست فى حاجة إلى دراسة. والكل يريد أن يستثمر فيك. جولييتا أرادت أن تصحبك إلى أبيها الصناعى الكبير لتتزوج مجانا، وبيكى أرادت أن تتخذك عشيقا وكان من المحتمل أن تقدمك إلى زوجها، ومدام إيميه قدمتك إلى ابنتها بالتبنى، وهذه اصطحبتك إلى عقر دارها. وعقر دارها على بعد خطوات من مسكنك. وأنت واقف فى ساحة مارس موقف المتلقى ولسان حالك يقول: "هاتوا ما عندكم". وحتى أوليمب... حتى الكلاب تستطيع التمييز بين الشيوخ والشباب. وضج بالضحك حتى صعدت الدموع إلى عينيه.

* هذه القصة جزء من جزء من مجموعة قصصية جديدة عنوانها "زائرة الأحد" وستصدر فى يناير 2009 عن دار أخبار اليوم (القاهرة) فى سلسلة كتاب اليوم.