خلفت رواية الكاتبة المغربية "أخاديد الأسوار" احتفاءا متواصلا من طرف النقد المغربي والمغاربي، وهذه دراسة للناقد والروائي الليبي تساهم في إضاءة عوالمها الكتابية وخصائصها الأسلوبية والبنائية.

الحب لا يسجن لوحده

قراءة في رواية الزهرة رميج أخاديد الأسوار

محمد الأصفر

كل أفكار تطرح بصورة نظرية أي تكتب في كتاب أو تتمسرح على المسرح أو ترسم على لوحة أو تقدم للناس بأيتي وسيلة من وسائل التعبير السلمية هي أفكار شرعية وأفكار سلام ومحبة وغير ملزمة لأحد.. فالمفكر أو الفنان اقترحها ونشرها على الملأ في وضح النهار.. لكن مسلسل الدم والعنف يبدأ عندما يتبنى أحد ما يمتلك سلطة سياسية أو دينية أو مالية أو غيرها من وسائل القوة هذه الأفكار أو الرؤى ويحاول تطبيقها وإلزام الجميع بتنفيذها وتقسيم الناس إلى فريقين المؤمن بها معي والذي لديه عليها ملاحظات أو تحفظات أو غير مقتنع بها ضدي تليق به التصفية الجسدية أو الإقصاء المعنوي أو غيرهما من وسائل القهر التي يجيدها مُلاك القوة والسلطة معتقدين أن هذه الوسائل بإمكانها أن تغير وجهات النظر وتركعها وتعيد أصحابها إلى الحظيرة حيث القطيع يمارس غيبوبته ويقتات على أعلاف الوهم التي وفرتها السلطة له.

الروائية المغربية زهرة رميج في روايتها أخاديد الأسوار تطرح الكثير من الأسئلة وتشرّح عقودا زمنية مورست فيها كل أنواع العذاب والقهر والاغتيالات وغيرها بسبب الصراع حول هذه الأفكار التي في مجملها سياسية متغذية بصورة أو بأخرى من الحرب الباردة القائمة بين قطبي العالم آنذاك الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية ومبرقشة بنكهة سلفية أو شوفينية عقيمة. تلك الفترة كان العالم كله منقسما إلى اثنين مع أمريكا أو مع السوفيت وبناء على هذا الانتماء والميل ترسم كل دولة سياستها وتجارتها وثقافتها وكل شيء وبالطبع هناك دول تسمى دول عدم الانحياز وهذا العدم الانحياز أقرب إلى السوفييت من الأمريكان وطبيعة الحياة وتعقيداتها تجعل عدم الانحياز شيئا مثاليا لا يطبق على أرض الواقع ولا يقبل بتخيله الخيال أيضا.

(أخاديد الأسوار) رواية اشتغلت على التداعيات التي تفجرها كتابة اليوميات والخواطر الشعرية المسرودة.. في الرواية شخصية واحدة محورية هي شخصية الكاتبة وشخصية مستدعاة لتكون نواة المحور وهي شخصية الزوج السجين ثم الميت بعد حين متأثرا بالآلام التي خلفتها له الحياة والزوج المناضل هو صاحب المشكلة ومشاعر الزوجة الكاتبة هي تداعيات لمشكل السجن والموت.. الكاتبة تحكي قصتها مع هذا الرجل وأحيانا تسلم له خيط السرد ليغزل هو حكاياته.. بها حوار ديمقراطي مفقود في الحياة بين الكاتبة وزوجها.. بها جلب لذكريات جميلة عاشاها معا.. في كل سطر تبدأ الكاتبة سردها فتحكي عن نفسها قليلا ثم يدخل هذا الزوج ليحكي معها ويحاورها.. يتفقان أحيان ويختلفان أحيانا أخرى.. ينتقلان من مكان إلى آخر.. من غرفة النوم.. إلى الحديقة.. إلى الغابة.. إلى الشارع.. إلى المطبخ.. تحكي في روايتها بلغة شعرية فرضتها حالة الحب ثم حالة الفراق بواسطة السجن ثم حالة ما بعد السجن.. هذه الأحداث التي تهز حياة الإنسان تشعل مشاعره والشعر عبارة عن حفنة مشاعر.. على الرغم من الملعب الضيق الذي تلعب فيه الرواية إلا أن قلب الروائية الواسع وشساعة دفئه استطاعت أن تنتقل بمهارة من حالة إلى حالة.. سنجد تنوع انفعالاتها وتجددها وانتقالها بكلمة واحدة إلى سدة سرد جديدة بوضع لسان زوجها في فمها وتركه يحكي هو مقاطع عن معاناته في غاية الروعة والشفافية.. الرواية كلها مكتوبة بطريقة حوارية.. من الممكن جدا وبسهولة تحويلها إلى مسرحية ميلودرامية.. في الرواية الكثير من الحزن والكثير من الفرح.. في كل كلمة كوّة ضوء.. وكل من يقرأ الرواية خاصة من قراء العالم الثالث فلن يشعر بغربة وسيشعر أن أحداث الرواية ليست في المغرب إنما في بلده هو.. فالمشكلة التي تطرحها الرواية موجودة في كل دول العالم.. هناك أفكار.. هناك قمع.. هناك سجون.. هناك تعذيب.. هناك بيع وشراء مساجين.. وبيع وشراء أراء ودماء وذمم وغيرها..

تطرح الرواية قضية مهمة جدا وهي قضية تعويض السجناء السياسيين أو المسجونين ظلما أو الذين تمت تصفيتهم جسديا لسبب أو لآخر تكتب زهرة مقطعا رائعا حول هذا الموضوع فتقول:

«تذكر طبعا، ضحايا الأيام السوداء.. ضحايا السجون والمعتقلات السرية.. ألست واحدا منهم؟
تذكر أيضا التعويض عن تلك الأيام.. التعويض؟ تلك الكلمة التي أثارت فيك زوبعة من الغضب والألم.
تلك التي أثارت سخريتك السوداء..
"هل يمكن تعويض ما فات؟
وبأي مقياس تقاس الآلام والمعاناة؟
وبأي زمن يقاس ذلك الزمن؟"
كنت تصيح في وجه من يدعوك إلى المطالبة بحقك في التعويض.
لقد رفضت كلمة تعويض بكل إصرار وكبرياء.

ذلك أن المعاناة التي عانيتها والآلام النفسية التي ظلت كالسوس تنخر جذعك من الداخل، لا يمكن لمال الدنيا محوها والقضاء عليها.

لذلك لم تذعن لأحد ولم تستمع إلا لنفسك...
لجراحك التي تحتج بداخلك..
التي تصيح فيك:
"إياك أن تبيعنا! إياك أن تتنازل!"
كنت تتساءل في استهزاء:
كم سيقدمون مقابل كل لحظة..
كل دقيقة...
كل ساعة قضيتها وراء الشمس؟
كم ثمن كل اهانة تعرض لها جسدي؟
كم ثمن كل جرح انفتح بأعماقي؟
كم ثمن كل حلم غيبه الظلام؟
ما حجم المال الذي يستطيع إزالة كل الأخاديد المحفورة عميقا بداخلي؟
أي تعويض يعيد الحياة إلى سكّتها الطبيعية؟
يعيد للأحلام أجنحتها؟
يعيد إليها خصوبتها بعد أن تمَّ خصيها».

فهذا السجين رفض أن يبيع ألامه على الرغم من حاجته الشديدة للمال وحبّه للحياة والتمتع بها.. وأستطيع القول أن هذه الرواية الإبداعية خير تعويض له وهي أفضل من كنوز قارون.. لقد تحركت المشاعر التي رأت ألمه فأبدعتها ويتواصل السرد لتفكك لنا الكاتبة قضية الألم إلى تفصيلات صغيرة تغذيها الذاكرة فسجن زوجها هو سجن لها هي الأخرى وموته فيما بعد هو موت لها أيضا.. وعلى الرغم من تواجدها الخيالي على الورق إلا أن تواجدها في الواقع أعنف وأكبر.. فالحياة يعيشها الإنسان بصورة طبيعية وتتوالى الأحداث وتعتبرها أنت عابرة لكن عندما يغيب من شاركك الوجع تنتفض هذه الأحداث وتطلق رائحتها وحنينها كما في مشهد شعري جميل تصور فيه كيف أنها لم تغسل مخدة هذا الحبيب والزوج كي تظل رائحة عرقه في وبر أو قطن أو حشوة الوسادة إلى الأبد ودعونا نتخيل علاقة الوسادة بالرأس بالأحلام بالراحة بالكوابيس بالغضب عندما نرميها في المرآة..

بالفرح عندما نقفز ونرميها إلى أعلى..

بالحنين والشوق عندما نضمها إلى صدرنا ونعتبرها حبيبا وننام في انتعاش ودفء.

لقد تمردت الكاتبة عن غياب حبيبها وموته بأن أعادت إلى الحياة كل حياته السابقة بعد أن مزجتها بكائنها ولم تعرضها بوجهة نظر أحادية لكن سمحت للجميع أن يقول رأيه وأن يطرح أفكاره.. فالظلم أسفنجة تمتص دموع الجميع.. الجميع رأى عبر الورق كيف تخاطبت معه.. كيف أخرجت ألبومات الصور لتعيد إليها الحياة بتصفحها وتأملها بتمعن والتعليق على تفصيلاتها الصغيرة.. الجميع رأى عبر الألم الذي دسته لنا أثناء القراءة كيف تنزهت معه في الغابة ودخلت معه إلى السينما وشاهدت معه الفيلم وتناقشت معه في مضمونه حيث رأت معه ومع كل العالم أمريكا على حقيقتها وبشاهد من أهلها.. في الرواية الكثير من المشاهد البديعة ذات الدلالات العميقة تحكي في واحدة منها عن السجون والمقابر وعن السلاطين الذين يبنون السجون ويلحقون السجن بمقبرة.. بل أن بعض السلاطين بنوا السجون بهياكل السجناء وبفضل ذلك كما تقول الكاتبة كسبوا مساحات جديدة للزراعة التي يعمل في تدويرها السجناء أنفسهم بل أن جثث السجناء تطحن وتستخدم كسماد والسماد البشري مفيد جدا للنباتات فينتج ثمارا كبيرة طازجة لا يعلم مذاقها على رأي الكاتبة إلا السجناء أنفسهم الذين يرفضون بالطبع تناول مذاقات رفاقهم.

تتناول الرواية تفاصيل كثيرة من الحياة الحزبية في المغرب تبدأ بالانخراط في الحزب والانسحاب منه وتحكي عن البرلمانيين والمتاجرة في الأصوات وتحكي عن الكثير من الهموم التي يعاني منها المواطن العربي البسيط.. تصور حالة الصدمة التي يعيشها المؤمن بقضية سياسية عندما يكتشف أن الفكرة شيء وتطبيقها شيء آخر وأنه ليست هناك أفكار تطبق بصورة صحيحة فدائما هناك ظروف أخرى تجهض الأفكار أو تميعها وذلك بسبب النفس الإنسانية الطامعة والأنانية والنازحة دائما إلى الخيانة وحب التملك.. تقول الكاتبة في روايتها أن كل شيء مزيف في الحياة إلا حبها لهذا الرجل الذي عندما عرفته اضطرتهم الظروف أن يعيشا في بيت واحد بل في غرفة واحدة ولم يكن الجنس هو الهاجس الأكبر بينهما بل كان الوطن هو الهاجس فقلبا مقولة ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما بما اجتمع رجل وامرأة إلا والوطن ثالتهما وهما يعنيان حالتهما وانخراطهما في رؤية سياسية واحدة.

كل من يقرأ هذه الرواية سيعتبرها عبارة عن يوميات تكتبها الكاتبة عن حياة سابقة عاشتها ومازالت تلازمها إلى الآن وكذلك من الممكن جدا أن نعتبر هذه الرواية من أدب السجون فالرواية صورت نفس السجين.. صورت الإنسان السجين وأبرزت ألمه ومعاناته من السجن وربطت هذا الألم بشريكه أو شريكته خارج السجن حيث أن السجن جعلها أيضا سجينة فالحب لا يسجن لوحده أبدا ولا يوجد حب فردي أبدا.. ورواية زهرة رميج أخاديد الأسوار بعكس رواية الطاهربن جلون التي رويت له بواسطة سجين سابق ـ كما يروي محمد المرابط لبول بولز ـ ليصيغها بن جلون بخبرته روائيا حيث صور فيها أجواء السجن منتقلا من شخصية سجينة إلى أخرى متتبعها إلى نهايتها وهي الموت.

رواية زهرة رميج تصور لنا أحلام جيل وهو جيل السبعينات تقريبا الذي تغذى بالايدلوجيا فأبدعها شعرا ورواية وقصة ففي كل سطر تجد رؤية أو هدفا سياسيا وبإمكانك وضع حفنة من الكلمات من أي عمل من أعمال هذا الجيل في غربال ليظهر لك انتماء هذا الكاتب الفكري أو الفلسفي أو السياسي.. وجيل السبعينات نضج على العديد من المآسي التي عاشها العالم والوطن العربي أيضا.. فكل مرتكزاته وذخيرته الإبداعية مستمدة من الحراك الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية.. ستجد الماركسية والوجودية والقومية وإسلامية الأخوان المسلمين والثورات التحررية وتشي جيفارا وحرب الأفكار كلها لليسار نصيب الأسد منها وستجد الصدام الذي صنعته هذه الأفكار والاتجاهات السياسية مع الحكومات العربية أو حكومات الكتلة الشرقية.. فلا حوار ولا يوجد إلا الصدام والتصفية والسجن والتتبع والمراقبة وإن انتصر أي اتجاه من هذه الاتجاهات التي ذكرنا فلا توصي يتيم على بكاء فهو نفسه يقوم بنفس الممارسات القمعية و يهمل الشعب ويشتعل الصراع بين أعضاء الحزب الحاكم نفسه من أجل سرقة السلطة أو الانقضاض عليها ولا يحدث هذا الانقضاض إلا بالأعمال السرية وطرح أفكار جديدة والتعامل مع إحدى الجمرتين الباردتين أمريكا أو روسيا.

الملك يخاف على تاجه الرئيس على كرسيه الزعيم على زعامته الأمير على إمارته والدول الكبرى على مصالحها وبالأساس تواصل تدفق البترول بثمن بخس أو بمقايضات اقتصادية أو سياسية غير منصفة إطلاقا.

وجيل السبعينات سيعتبر الآن جيل محنك ينفع جدا في القيام بدور الوسيط بين الحكومات والأدباء وسيسيطر على الحياة الأدبية ردحا من الزمن كما فعل سابقه جيل الستينات، فهو جيل مميز والحكومات العربية خاصة تدلعه وتمنحه المال والتسهيلات والمناصب وتضعه في أمكنة جيدة كنوع من التعويض على فترة السجن ولا تقام ندوة إلا وتجد صوته مجلجلا ولا تقام احتفالية إلا وتجده فيها وكل أشعاره وكتاباته تتحدث عن السجن والنضال والمعاناة وهذه الأشياء مع احترامي لها إلا أنها الآن لا تعتبر أدبا جيدا لأن الموضوع استهلك كثيرا حتى تميّع ولقد نجحت الكاتبة الزهرة رميج في الخروج من هذا المأزق عبر كتابة روايتها هذه بطريقة بسيطة واضحة بها من الشعر والأحاسيس الإنسانية أكثر من ما بها من ايدلوجية تريد أن تمنح الإنسان الخير بطريقتها فقط.. عرضت مرادها من دون متاجرة.. حكت عن ذكرياتها معه.. استعرضت قيمه وآماله.. حكت عن لحظات حميمية معه.. عاشت معه على الورق كما عاشت معه على الأرض.. رأيناها وهي تدخل السينما معه وهي تتناول الطعام معه وهي تشرب القهوة وهي تتنزه في الحديقة.. لقد عرضت في روايتها الحياة وهمشت السياسة التي زجت بأحلامها في السجن ثم خلفت لها أمراض العنة التي قادت الزوج على الأرجح إلى الانتحار.

عندما خرج الزوج من السجن وجد حبيبته تنتظره ومازالت تحبه ووجد بيته ووجد أسرته ووجد كل شيء لكن لم يجد العديد من اشراقات الشمس التي لم يحضرها لم يجد الكثير من الآمال التي بناها وتركها تجف.. لقد تعرضت حياته لسرقة زمنية والسارق يعرض التعويض المالي والمال بالطبع ليس من جيبه إنما من جيوب الفقراء الذين يقهرهم في كل دقيقة.. الرواية عرضت تداعيات السجون.. عرضتها بطريقة مؤلمة.. تجعل الأخاديد تتسع والأسوار تتعالى.. وتحول هذه الأخاديد والأسوار من أخاديد طينية وحجرية إلى أخاديد وأسوار من الدم المتجلط المتعفن.

الرواية هي جرح والروايات التي لا تجرح روايات لم تؤدي دورها في هذه الحياة.. ولم تحارب الظلم أو الألم.. وعلى الأقل لم تزرع الأمل.. ومن لا يزرع الأمل فسأقول له ولماذا تكتب إذن؟.. وكما بدأت الرواية بمقاطع شعرية ذات رتم هادئ تستمر إلى نهايتها وهي تسرد بهدوء وكلما سنحت للروائية وهي شاعرة أيضا في التعبير بقصيدة ضمنتها السياق.. لقد تحركت في مساحة ضيقة وبشخصيات قليلة لكن هذه الحركات كانت رقصات معبرة رأينا خلالها كل شيء.. الحبيبة الصادقة والزوجة الوفية والمناضلة صاحبة المبدأ والشاعرة وعزيزة النفس والعاشقة للحياة وللحرية.. من السهل جدا أن نزرع بذور الألم ونسقيها بدموعنا لكن علينا أن نجد هذه البذور أولا.. أو نشع أكثر لتجدنا هي وتخرج لنا من ظلمات الأسرار..الرواية جاءتني فجأة عبر البريد وقرأتها بسرعة وأحببت هذه الكتابات الجميلة ونهاية الرواية كانت رائعة ومعبرة ومؤثرة جدا حيث انتهت بهذا المقطع الممطر بالأمل والداعي إلى التعدد من أجل صنع الحياة:

بذرة.. بذرة.. تولد غابة النخيل
زهرة.. زهرة يولد البستان الجميل
قطرة.. قطرة.. يولد البحر العميق
ومضة.. ومضة.. يولد الفجر المضيء

كاتب ورائي من ليبيا