يعرض الكاتب الفلسطيني هنا لدراستين عن اليهودية كديانة، وأخرى عن التلمود ودوره في التشريع لتلك الديانة كتبهما باحث فلسطيني من فلسطيني 1948 الذين عاشوا تجربة الأسر والمثاقفة الإجبارية، كي يتعرف القارئ العربي على عقلية عدوه ومنطلقاته التصورية.

دراستان رصينتان حول اليهودية والتلمود

نبيل عودة

الكتاب الأول: اليهودية ـ ديانة توحيدية أم شعب مختار
قدم للكتاب البرفسور يوسف غينات واصفاً الكتابة عن الديانة اليهودية من قبل باحث عربي "كخطوة جريئة ويمتدح عدم تحيز الكاتب واسلوب البحث العلمي للكتاب. ويقول غينات بحق ان المكتبة العربية تفتقد لكتاب يصف مبادىء الديانة اليهودية بشكل علمي. الكاتب عمر مصالحة، يعد اليوم الدكتوراة في موضوع الصحافة الفلسطينية في العهد العثماني في جامعة سانت بطرسبورغ (لينينغراد سابقا) وبنفس الوقت يعد رسالة لشهادة الماجستير في التربية الاجتماعية في جامعة بار ايلان في تل ابيب. وهو من مواليد 1956، من قرية دبورية الواقعة على الطريق الى جبل الطور المشهور في المسيحية، وهو مترجم وباحث في الشؤون الفلسطينية والاسرائيلية، ومتخصص أيضا في الديانة اليهودية. له العديد من الابحاث المنشورة في الصحافة العربية والعبرية، الى جانب ترجمة العديد من الكتب الدراسية وقصص الاطفال، ويعمل مدرسا في ثانوية "عمال" في الناصرة. انهى تعليمه الاعدادي والثانوي في مدرسة عبرية ـ يهودية... الأمر الذي وضعه بمواجهة الديانة اليهودية والتعرف على تعاليمها، حيث درس التوراة والتلمود والكتب الدينية المختلفة.

بحق يمكن اعتبار هذا الكتاب موسوعة ـ أو ثبت شامل عن الديانة اليهودية وأصولها وخصوصيتها ومعتقداتها، ومواقفها من سائر القضايا المتعلقة بنظرتها الدينية. وحول من هو اليهودي مثلا واساليب تعاملها مع الاغيار، وموضوع الطعام الشرعي (الكشير). ويستعرض الكتاب بشكل شامل نشوء المدارس والاتجاهات اليهودية المختلفة، وتفسيرات للعديد من الظواهر في الدين اليهودي، ولم يبق اي موضوع يتعلق بالدين اليهودي واتجاهاته الا شرحه بوضوح وحيادية علمية، وبدون ان يطرح الكاتب آراؤه الخاصة، هناك شرح عن اليهودية الارثوذكسية ومدارسها ونشوئها، تيار الحرديم والصراع بين الجديد والقديم، بين التطور والانغلاق، ونشؤ الاحزاب الدينية، والتيارات "الحسيدية" ومدارسها المختلفة، ومكانة المرأة في الدين اليهودي ولدى مختلف التيارات، وبالطبع لا ينسى ان يعطينا شرحاً لنشوء التيارات الحديثة ـ التيارات الاصلاحية.

ويجيء هذا الكتاب في وقت تحتاج فيه المكتبه العربية الى تعميق معرفتها بالدين اليهودي، لفهم طابع وخلفية هذا الدين.

وحسنا فعل عمر مصالحة، بأن ترك الحقيقه المجردة للقارىء، ولم يتدخل ليلقن القارىء، كما نلاحظ في مؤلفات مختلفة، اقحمت النزاعات السياسية أو الاختلافات الدينية في مواقفها من الديانة اليهودية. ويعد هذا الكتاب مرجعاً ممتازاً لمن يريد حقاً ان يتعرف على المجتمع اليهودي في اسرائيل، على تركيبته الفكرية وصراعاته العقائدية، داخل المدارس الدينية، وداخل التيارات السياسية ـ الدينية، والمراحل التاريخية التي قطعتها هذه التيارات.. ويبدو بعض الصراع غير قابل للتجسير.. وليس سرا ان بعض "الساحات" (حاتسروت بالعبرية) الدينية لها موقف عدائي من الدولة نفسها، والمثال على ذلك مجموعة "ناطوري كارتا"، احد قادتهم الدينيين كان مقربا من الرئيس الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات.. وشاركوا أخيرا في مؤتمر طهران حول المحرقة اليهودية.. ولكن تأثيرهم في اسرائيل هامشي جدا.

ويجذب الكتاب قارءه بوفرة المعلومات التي يضعها أمام القارىء العربي، وبما يميز الكتاب من أسلوب مبسط في الطرح، بحيث لا يبق اي موضوع يتعلق بالعقيدة الدينية اليهودية وتشعباتها وانقساماتها عبر التاريخ دون توضيح وشرح... إنه حقاً كتاب هام، تفتقد له المكتبه العربية، خاصة بموضوعيته، ومرجع لا بد منه لفهم القاعدة الايمانية، والخلفية الفكرية التي تشكل اليوم ما يعرف بالدين اليهودي، بل وأكثر من ذلك دور التيارات الدينية في المجتمع الاسرائيلي، وفي السياسة الاسرائيلية في فلسطين المحتلة. 

الكتاب الثاني :التلمود ـ المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية
بعد كتابة الاول عن "اليهودية ـ ديانة توحيدية ام شعب مختار" الذي صدر قبل سنة، يعود الباحث عمر امين مصالحة الى اليهودية من زاوية أخرى ليكمل الصورة أمام القارىء العربي، عن خبايا الديانة اليهودية واصول التشريعات الاجتماعية الحياتية في الديانة اليهودية، المعروفة باسم التلمود، في بحث جديد شامل يحمل اسم "التلمود ـ المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية". وقدم للكتاب الاستاذ موفق خوري ـ نائب عام مدير وزارة الثقافة. وما يميز ابحاث عمر مصالحة، موضوعيته العلمية، واعتماده على المصادر الاصلية لمواضيع بحثه، هذا ما جعل كتابة الاول من افضل الدراسات عن اليهودية التي كتبت باللغة العربية، والمتميزة بالمصداقية والدقة العلمية، دون التدخل والتعليق واستنتاج مواقف شخصية، وهو بذلك اثبت نفسه كباحث ثقة، يمكن الاعتماد عليه في فهم اليهودية، واليوم يطل علينا بكتاب هام جدا لقراء العربية، حول التلمود كمرجعية للتشريعات. ويبدو ان هذا البحث، غير مسبوق في اللغة العربية، بموضوعه من حيث الالمام والشمولية وبموضوعيته غير القابلة للتهاون بنفس الوقت.

يشرح عمر مصالحة ان التلمود، يتشكل من عنصرين: الاول هو الجانب التشريعي والقانوني (هلاخي) الذي يذكرنا باحكام الفرائض والتشريعات الواردة في اسفار الخروج واللاويين والتثنية، والثاني: العنصر القصصي، الاسطوري (أجادي) بما يشمله من اقوال مأثورة، واخبار وخرافات وخيال، الى جانب السحر والتراث الشعبي. في الفصل الاول، يمهد الباحث عمر مصالحة لبحثه باستعراض نشوء أصول التشريعات اليهودية بدءا من الموقف في جبل سيناء، حين تسلم النبي موسى، حسب القصة التوراتية، الوصايا العشر من الله، ثم دخول أرض فلسطين، ومرحلة القضاة في التاريخ اليهودي (هشوفطيم)، وصولا الى اقامة مملكتي اسرائيل ـ المملكة الشمالية والتي سميت "مملكة اسرائيل"، والمملكة الجنوبية والتي سميت "مملكة يهودا"... مستعرضا اسماء ملوكها، وصولا الى هدم الهيكل واعادة بنائة وهدمه من جديد، والاحداث التاريخية التي عصفت بالمملكتين منذ ذلك التاريخ، مثل الاحتلالات المختلفة... وتشتت اليهود.. وسبيهم!!

ويطرح الباحث اجزاء المشناة التي تشمل مواضيع واسعة للغاية، مثل:

1 ـ الزراعة وقوانينها ـ ويشمل الري والحرث والحصاد، والموضوع الزراعي في المشناة يكاد يكون برنامجا زراعيا كاملا، وبالطبع له جانبه الديني، حيث يرتبط بالعبادة اليومية والتبريكات.

2 ـ العبادات والمواعيد ـ عن تبجيل السبت والعبادة فية ومواعيد الصيام والاعياد والاحتفالات والتقويم العبري.

3 ـ النساء ـ ويشمل قوانين الزواج والطلاق والجنس بين الزوجين.

4 ـ الجنوح والجنايات ـ ويشمل التشريعات المدنية ومسلكيات التصرف اليومي، وانواع العقاب، ونظم التجارة والسياسة.

5 ـ المقدسات ـ مخصص لاعمال الضحايا (القرابين) مهام رجال الدين وواجباتهم.

6 ـ الطهارة ـ ويشمل امور التطهر من النجاسة، ويتحدث عن الصلة بين بني البشر والانسان اليهودي والكائنات الاخرى، وما يجوز اكله من الحيوان.

يبين الباحث الخلافات والتناقضات في التشريعات اليهودية، ومع ذلك تحولت هذه التناقضات الى شرائع مقدسة لدى المجتمعات اليهودية. ثم يعالج اقسام المشناة الستة "سدريم" واسفار كل قسم، التي تشمل كل تفاصيل حياة الفرد اليهودي في جميع مناحي حياته اليومية والعامة.

ويوضح الباحث عمر مصالحه للقارىء العربي جذور الدين والعقيدة اليهودية، التي لا تدع للفرد مساحة للاجتهاد.. انما تفرض عليه اموراً جاهزة وفرائض نهائية. صحيح ان الباحث لا يعالج وقع هذه الفرائض على الانسان المعاصر، لكن القارىء يستطيع ان يصل الى النتيجة الاساسية، بان الدين اليهودي يتعامل مع الانسان باحكام وعقلية لم يعد شيء يربطها بالواقع الانساني المعاصر، وهذه اشكالية كل الديانات السماوية، ربما كون الديانة اليهودية ديانة محدودة بالعدد، يجعلها اشبه بالمحمية الطبيعية، ومع ذلك نجد في الغرب، والى حد ما في اسرائيل، تيارات يهودية لم تعد تستطيع التماثل مع قيودات الدين الاصلية، فأنشأت اتجاهات حديثة ليبيرالية، تقوم بينها وبين التيار الديني اليهودي المحافظ (الاورتوذكسي) حرب عنيفة، لدرجة عدم الاعتراف بيهوديتهم، ورفض التعامل معهم على كل المستويات.

ويفسر عمر مصالحة مصادر كلمة المشناه، والذي جاء من "شنه" الذي يعني بالعربية كرر أو ردد وذلك لان اسلوب التعليم كان يفرض على الطالب ان يردد ما يسمعه من المعلم. وقد استعمل هذا الاصطلاح للدلالة على دراسة "الشريعة الشفوية". الكتاب يستعرض أسماء مؤلفي المشناه والتلمود حيث بدأها الحاخام هليل الاول في بابل. ويستعرض الباحث ما اشتملت عليه المشناه. أما اسم التلمود فهو مشتق من الجذر العبري "لمد" أي درس وتعلم، وهو نفس الاصل السامي لكلمة "تلميذ" العربية. ويشرح الباحث ان التلمود من أهم الكتب الدينية عند الشعب اليهودي، وهو الموجه والمنظم للحياة الاجتماعية، وهو الثمرة الاساسية للشريعة الشفوية، أي تفسير الحاخامات للشرائع التوراتية. ويؤمن البعض ان نصوص التلمود أوصي بها من الروح القدس نفسه (روح هكودش) باعتبار انها مساوية للشريعة المكتوبة (التوراة).

ليس من السهل استعراض الكتاب بكل تفاصيله. فالكاتب لا يترك أي فراغ للتأويل، بل يطرح جميع التفاصيل بتناقضاتها احياناً، ليوضح جذور الدين اليهودي، ببحث واسع لم يغفل أي تفصيل. الكتاب يثري المكتبة العربية بمرجع هام جداً وضروري لفهم احدى اقدم الديانات ومصادرها، وطرق تفكيرها، بعيداً عن الاستنتاجات الارتجالية، وبهذا يخدم الباحث الحقيقة العلمية المجردة. 

كاتب، ناقد واعلامي ـ الناصرة
nabiloudeh@gmail.com