تقرير فني من الأردن

البتراء .. مازالت تروي حكايتها

طلال معلاّ

الفن رغبة تحدد أسئلتها بما تتجلى عليه، فنقبله ونستلم له باعتباره المتخيل الفسيح، الممتد إلى ما لا نستطيع أن نحدده، رغم أنه موجود وملموس ومتعين. وقد تعددت وجوه هذا المتخيل في قوالب وأساليب ومواد واتجاهات ورغبات، حتى بتنا نفرق بين المعترف به وما هو خارج الاعتراف.. بين صورة وحلية، بين عمارة ومنحوتة، بين إبداع رجل وإبداع امرأة... وباتت تخدعنا غابات الآراء التي تُقصي صفاء السليقة لتقرب الضجر، تُبعد الفيوضات لتنشر ما يحجب النور. فيما نحاول - بما تبقى من أنفاس - أن نطلق حواسنا في فضاءات الحس والجمال، أينما كان، وكيفما انجذبت إليه، أو سلكنا دروبه.

في أصغر الأشياء، وأدق الأفكار يكمن الفن، الذي نحاول باستمرار أن نقبض عليه. لأننا بذلك نقبض على المطلق والجوهر، وربما كان من الضروري أن نستسلم للصياغات التي يأتي عبرها نور الإبداع، لنمنح الحياة عدالتها، ومساحة الحرية التي تطلق المبدع في تجربته.. أية تجربة تملأ الروح، وتبقي الوعي في صراع مع ما تقترحه الحدود التي تحجبه عن شهوة الحياة، والاستمتاع بما نحن عليه في هذا الزمان، كمعاصرين لما تنجزه البشرية.  وكما كان الإنسان موضوعاً للأعمال الفنية، منحها خصوصيته وآفاقه، وبخاصة المرأة، فقد نظر البشر في إطار الواقع إلى أجسادهم باعتبارها الوجودي من جهة، وباعتبارها الدلالي من جهة أخرى. ولهذا فقد تميز حضور الشعوب في حضاراتها، من حيث الشكل الذي نرى عليه صور ومنحوتات الملوك والرعية، لنستمد منها التأويلات التي تقرر سلوكهم الجمالي. وبالفعل، فإن المتاحف تغص بمثل هذه اللقى، التي تؤكد الإيحاءات التي تركتها نفرتيتي والزباء ومن قبلهن أمهات البشر والآلهات - على سبيل المثال - وصولاً إلى قطع الحلي الثمينة التي حفظها الزمن، لتفتح التصورات على قيمتها ووظيفتها، وإمكانيات وخبرات مبدعيها.

لا أزال أذكر بدايات لمى حوراني، وهي لا تكل بالسؤال عن المعاهد والمخابر التي يمكنها أن تتردد عليها داخل بلدها وخارجه، لتتخصص في صياغة تصوراتها للحلي التي كانت تحلم بتحقيقها.. كان الأمر في إطار الافتراض الذي يراود الكثيرين، ولكنها اليوم، وبعد أن باتت ذاكرتها مفتوحة على مختلف معالم هذا التوجه، تستحضر خصوصية مكانها الماثل في كل ذرة مما تصممه، وهو ما قادها من نجاح إلى آخر في المشاركات العربية والدولية، دون أن تغفل عن اعتبار كل ما تنجزه تمريناً جاداً وحقيقياً لما تطلع إليه في قراءاتها للحس، وما توفره نماذج المواد التي تتعامل معها من امكانات تعبيرية، باعتبارها تحتضن في شكلها ومضمونها نموذج الذوق المختلف في نسقه عن النماذج الأخرى.

قد يكون ما أرادته لمى هو الجمع بين الذات البدوية وطريقة الإدراك الجمالي لهذه الذات المتقشفة والسائحة في بنية الصحراء، إلا أن المؤكد أن نجاح وقبول ما تنجزه هو القيمة الفنية، التي يدركها كل من تقع عينه على تصاميمها المستوحاة من سر علاقة الإنسان بجسده، باعتبار هذا الجسد عيناً تَرى كما تُرى، ترى من يراها في غاية الكمال عبر هذه الرموز التي يحملها الساعد والقدم والإصبع والعنق والآذن، وأي مكان يجعل هيكل الجسد في بؤرة النظر، التي تشكل رؤيتها للآخر عبرها، ومن خلال مشترك بصري وأيقوني وثقافي يمكن التأسيس عليه لتحديد الماهية، والتعريف بالخصائص التي تجعلنا موضوعاً حياً للتصريح عن صورتنا.

ما تنجزه لمى هو اشتغال على النموذج باعتباره المتحقق كسلعة، وكذلك باعتباره الذهني والجمالي كأحد الصيغ الإبداعية الحاضرة في الحياة المعاصرة، من خلال مرجعياتها.. وعبر النوع المتجاوز لمعنى النسخة. فتصاميمها كيانات بصرية تحمل لغتها وثقافتها ووعيها للعالم؛ ولابد من تلمس التنوع الذي تلجأ المصممة إليه للتأكيد على فكرتها المحورية، المتأصلة في الممارسة الإنسانية الإيمائية التي تغنيها تصاميمها البالغة الدقة. وكأن منحوتاتها المصغرة تطلق برمزيتها الفعل التشكيلي الذي أرادت أن يكون مختلفاً ومتميزاً، ومتطابقاً مع روحها وشخصيتها، ومع السياق العام الذي يتمظهر من خلاله الفن في أعمالها المشتقة من وجودنا.

إن معاينة نماذجها - التي آمل أن تكون قد احتفظت ببعض منها - باتت تشكل فصلاً مهماً في تصميم الحلي، باعتبارها إنجازاً جمالياً وتجميلياً، إنجاز مبصور بكافة المعايير الإيحائية، يشكل بمجمله الزاوية التي تنظر من خلالها إلى موضوعها، لرسم معالم الشخصية الأنثوية في تواضعها وسموها.. تناسقها وانسجامها مع محلية وكونية الإنسان. وتجعل من التفرد توقاً للاندماج بعفوية طرق العيش، والمرور إلى الموحي دون تعقيد أو غرابة. فهي تبحث عن معادلات لشخصية الأنثى المسكونة بالطبيعي والثقافي معاً، والمتطلعة باستمرار إلى الجمال، وإلى الحكاية التي ستنسجها من هذا الجمال.

تشكيلي سوري