أثارت تصريحات الشيخ القرضاوي حول الشيعة جدلا واسعا، يتوقف عنده هنا الباحث الفلسطيني المرموق بالتأمل والتحليل الرصين للتصريحات والردود المختلفة عليها، كاشفا عن المسكوت عنه في هذا الجدل ومفندا مضمراته الفكرية والسياسية.

حول تصريحات القرضاوي

هل من سبيل لتحويل «الطائفة» إلى «مذهب»؟

محمد شاويش

«الأمة بكل مذاهبها تبدع حين تتخفف من رهق الدولة»
راشد الغنوشي

تمهيد:
في هذا المقال أريد أن أقرأ بصورة نقدية السجال الذي أثارته تصريحات القرضاوي الأخيرة عن الشيعة وإيران، لأصل في النهاية إلى الدعوة إلى فتح طريق جديد في رؤية الإشكالية الطائفية المحتدمة حالياً، وهذا الطريق يتمثل في اعتقادي في العمل على تحقيق هدف كبير هو تحويل الشيعة من «طائفة» إلى «مذهب إسلامي»، وهو طريق يساهم في شقه الفريقان معاً من سنة وشيعة. فكل اجتماع بشري يمكن تقسيمه إن شئنا وفقاً لهويات كثيرة جداً، والفرد الواحد كما هو معلوم له هويات عديدة، الفرد "س" مثلاً هو في آن واحد عامل في مصنع، وعربي، وسوري، ومسيحي، ومن مدينة حلب، إلى آخره.. وأي واحد من هذه الانتماءات (ولنقل مثلاً الانتماء "ع") ليس قدراً مقدوراً أن يشغل كل تفكير الفرد المذكور ويدفعه للتظاهر في الشارع مع أصحاب الانتماء المماثل ضد أصحاب الانتماءات المخالفة، وحين يشغل الانتماء "ع" الصدارة في الاهتمام فليس علينا من كل بد أن نظن أن هذا ينتمي إلى طبيعة خالدة كامنة فيه، وإن كان ظاهر الواقع السياسي في البلد والأيديولوجيا التي قدمت هذا الانتماء إلى صدارة الاهتمام والفعل تدعي أن هذا الانتماء دون غيره هو "الأساسي" بل هو الوحيد "المشروع" وغيره "تضليل" أو "ضلال"!.

لو كان واحدنا في أوروبا عام 1917 والأعوام التي تلته لظن أن الهوية العمالية هي الهوية البديهية التي من شأنها أن تدفع العمال في أوروبا إلى الفعل السياسي، والماركسية ادعت ذلك بالفعل فعدت هذه الهوية هي الهوية الوحيدة المهمة المقررة بطبيعتها الخالدة للفعل (الهوية الطبقية) وما عداها هو إما ثانوي الأهمية، أو هو مجرد تضليل من الطبقات الأخرى، فالواقع آنذاك كان حافلاً بثورات عمالية تقوم، وأخرى تقمع، وثالثة يدعى لها ويحرض عليها، وجموع العمال تتقبل التحريض وتستمع للمحرضين. ولو كنا في بلاد العرب عام 1957 لظننا الهوية القومية العربية هي الهوية الوحيدة القادرة "بطبيعتها" على دفع العرب للشارع، فهذا كان حال المزاج الجماهيري العربي آنذاك كما نعلم. وحين نرى الآن الهوية المذهبية تتصدر الاهتمام السياسي (محوّلة بذلك "المذهب" إلى "طائفة"، والأخيرة أعرفها ببساطة أنها المذهب الذي تحول إلى هوية فاعلة سياسياً) فإن من قصر النظر أن نظن هذا هو القدر النهائي للجماعة، وإن كانت الأحداث الطائفية تملأ السمع والبصر.

تتصدر هوية معينة الاهتمام وتبرز للفعل حين تصبح الهوية عصبية لأيديولوجيا فاعلة (وكل أيديولوجيا تغييرية تتمحور حول دعوة عصبية معينة في المجتمع للفعل العام) محركة للمجتمع أو لشرائح مهمة فيه، وهذه الفاعلية تظهر لأسباب متعددة منها الداخلي ومنها الخارجي، ولكن هذه الأسباب كلها لا تستطيع تخليد هذا الاهتمام بهذه الهوية وتثبيته. وكما أن العامل الأوروبي فقد الاهتمام بهويته الطبقية كمحرك سياسي خلال عقود قليلة، فلا أشك أن الانتماء المذهبي سيعود لوضعه القديم عندنا خلال سنين قليلة لينشغل مجتمعنا بالتحديات المصيرية التي تواجهه. هذا المقال يهدف إلى تسليط الضوء على رؤية المسألة الطائفية من خلال وجهات نظر الفريق الذي هو في اعتقادي أكثر فرق التيار الإسلاماني سعة أفق ودقة في رؤية الواقع، وهو تيار أصدقاء القرضاوي الذي انقسم في الموقف من تصريحاته بين مؤيد وناقد.

1 ـ استعراض للتصريحات والتعليقات عليها:
أثارت التصريحات التي أدلى بها الشيخ يوسف القرضاوي حول الشيعة وإيران عاصفة من الأصداء بعضها متهجم وبعضها مناصر وبعضها نقدي في صفوف أهل الشأن من الفريقين السنة والشيعة، والتعليقات الإعلامية على هذه التصريحات لا تعكس هذه التصريحات بحقيقتها الكاملة، كما تحققت من ذلك شخصياً، فبالعودة إلى موقع جريدة "المصري اليوم" التي نشرت مقابلة للقرضاوي مع المراسلة رانيا بدوي في يومي 8 و 9 سبتمبر ـ أيلول 2008 اتضح لي أن موضوع الشيعة شغل حيزاً صغيراً من المقابلة التي تناولت قضايا كثيرة، ومن أهم هذه القضايا التي ركزت عليها الصحفية التي أجرت المقابلة الأوضاع الداخلية في مصر السياسية والاقتصادية حيث نصح الشيخ الرئيس مبارك أن لا يورث ابنه الحكم، وقد استغربت أن هذه النقطة الهامة لم أر أحداً من الذين تناقلوا التصريحات قد ركز عليها، ومثلها نقاط مهمة جداً وضع بعضها في المانشيتات العريضة للجريدة، مثل إعلان القرضاوي أن قانون الطوارئ يتعارض مع الشريعة، وقد تناول الحديث مسائل أخرى كحكم الغناء، و صوت المرأة ونقل الأعضاء والتوارث بين المسلم وزوجته الكتابية وما إلى ذلك، وهذه النقاط تطرق إليها القرضاوي كما يرى القارئ لأن مراسلة الجريدة طرحتها عليه.

لكن هناك فقرة واحدة لا شك أن الشيخ لم ينزلق إليها انزلاقاً بل قالها بقصد وقرار، مبتدئاً بذلك عملياً مرحلة جديدة من نهجه الفكري في مسألة العلاقة بين السنة والشيعة، بعد مرحلة طويلة كان فيها في طليعة الأصوات الفقهية السنية الداعية إلى التقارب بين السنة والشيعة، وتجاوز الخلافات العارضة لصالح الوحدة في وجه التحديات المصيرية التي تواجه المسلمين بعمومهم. ذكر الشيخ الشيعة أولاً في معرض الموازنة بين قوة علماء الشيعة الذين يعتمدون على تمويل الناس مقارنة بضعف علماء السنة الذين يعتمدون على الدولة، بعد أن صودرت الأوقاف. وعندها طرحت الصحفية سؤالاً لا يبدو منطقياً في هذا السياق ـ لم تذكره طبعاً الأوساط الوهابية في العالم العربي التي استقبلت بحماس كبير تصريحات الشيخ التي بدت كأنها تدعم مواقفها المعروفة الموروثة من الشيعة والعلاقة معهم. والسؤال هو التالي: «أيهما ترى أنه الأخطر والأكثر نفاذاً: المد الوهابي أو المد الشيعي؟».

وفي الإجابة تكلم الشيخ عن الوهابيين ممن يعتبرون أن رأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب، ثم تكلم عن الشيعة: «هم مسلمون، ولكنهم مبتدعون وخطرهم يكمن في محاولتهم غزو المجتمع السني، وهم مهيئون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات، وكوادر مدربة علي التبشير بالمنهج الشيعي في البلاد السنية، خصوصاً أن المجتمع السني ليست لديه حصانة ثقافية ضد الغزو الشيعي، فنحن العلماء لم نحصن السنة ضد الغزو المذهبي الشيعي، لأننا دائماً نعمل القول «ابعد عن الفتنة لنوحد المسلمين»، وتركنا علماء السنة خاوين». ثم قال إنه للأسف وجد في مصر مؤخراًً شيعة، ولم يحدث ذلك منذ أيام صلاح الدين، وهناك بلاد عربية وإسلامية تتعرض للغزو الشيعي داعياً العلماء للتكاتف لصد هذا الغزو.

وتسأله الصحفية: "هل الخلافات الدينية بيننا وبين الشيعة بسيطة أم أنها في أصل الدين؟" فيقول: "الخلاف في الأفرع ليس مهما لكن الخلافات في العقيدة هي المهمة. فكثير منهم يقول إن القرآن الموجود هو كلام الله ولكن ينقصه بعض الأشياء مثل سورة الولاية، نحن نقول إن السنة سنة محمد، أما هم فلديهم سنة المعصومين محمد والأئمة الأحد عشر، ويعتبرون سنتهم مثل سنة محمد. نحن نقول أبوبكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها، وهم يقولون لعنهم الله. فهم يرون أن الرسول قبل أن يموت أوصى علي ابن أبي طالب أن يكون الخليفة من بعده. ويعتبرون الصحابة خانوا الرسول ووصيته واختاروا آخرين". وتعود الصحفية لتسأل: "كيف يكون هناك خلاف في العقيدة، وهي أصل الدين ومع ذلك يكونون مسلمين؟" فيجيب "هم يؤمنون بالله والقرآن والرسول".

وفي تفسير هذا الموقف شبه المفاجئ من القرضاوي راجت تفسيرات: منها ما هو من نوع شخصي كالشائعة عن تشيع ابنه الشاعر، ومن المحتمل أن كل ما فعله هذا الشاعر كان كتابة قصائد مديح في قائد حزب الله حسن نصر الله، وهو ما لا يجعله متشيعاً إلا عند غلاة التيار الذي سميته في مقالات سابقة "الوهابية الشعبية"، وهو الرائج في بلاد الخليج، وله أنصار كثر في البلاد الأخرى، ويتميز بالكراهية الشديدة للشيعة ولغيرهم أيضاً من المذاهب والاتجاهات الفكرية الإسلامية التي لا تتطابق مع عقيدة ابن تيمية كما يفهمونها هم طبعا. وفي العلاقة بين مفهوم كثير من أهل الخليج عن العالم وبين نظيره عند أهل بلاد الشام ومصر ثمة فرق مفهوم لا بد من أخذه بعين الاعتبار، فثمة انفصال دام عقوداً طويلة في نوع الرؤية السياسية والاجتماعية والدينية بين الجناحين، إذ بينما ركز الجناح الشامي ـ المصري لعقود على مركزية المسألة الفلسطينية، والمواجهة مع الاستعمار الغربي (مع فوارق بين الشام ومصر تبدت خصوصاً بعد عهد السادات، حيث ظل الوجه المعادي للصهيونية في مصر بضع سنين في عصر السادات محدود النفوذ الجماهيري، ومقتصراً على من تبقى من اليساريين والقوميين إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية لتعيد هذا الوجه من جديد خصوصاً بعد الدخول القوي للإسلامانيين في المجتمع المصري) ركزت الدعاية السعودية ـ والنظام التربوي أيضاً عندهم كما يبدو أيضاً ـ على أولوية المسائل العقدية، كما تقررت في مفهوم الوهابية للتوحيد، ولم يكن هذا التمركز خالياً من الدافع السياسي الناتج عن الصراع الناصري ـ السعودي الطويل. ونتيجة هذه التربية تتمثل في غياب أي أولوية للمسألة الفلسطينية والصراع مع الصهيونية، فهي مسألة ينظر إليها في أحسن الأحوال بصفتها واحدة من مسائل كثيرة ليس لها أهمية كبيرة قياساً بالمسألة العقدية الأساسية (محاربة "الشرك" و "البدع"، بالمفهوم الوهابي الموسع جداً لهما خصوصاً عند هذا التيار الشعبي). وهذا ما يفسر الموقف الفاتر لقاعدة شعبية وهابية كبيرة من انتصارات حرب تموز في لبنان، وتقبلها لادعاءات في غاية السطحية واللامعقولية عن كون الحرب مسرحية هدفها "تلميع حزب الله الرافضي"، وللمقارنة نرى المواجهة مع الصهيونية وما يجد من تطورات في هذه المواجهة أمراً في الدرجة الأولى من الأهمية عند كل من يفكر في السياسة في بلاد الشام ومصر (سواء أكان من الاتجاه المتأمرك أم من الاتجاه الوطني!، وكل من منظوره طبعاً).

على أن تصريحات لاحقة للقرضاوي (رده على رسالة الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وأستشهد بالنص الموجود في جريدة "التجديد" المغربية 15/ 10/ 2008) تبيح لنا أن نقدر أن أحداث السابع من أيار 2008 في بيروت كان لها تأثيرعليه، ولعل الأوساط الإسلامانية السنية اللبنانية المتحالفة مع الحكومة الحريرية كان لها دور في إقناع الشيخ بضرورة أن يأخذ موقفه الجديد، ويتبدى ذلك في الرد المذكور في تفسيره لتحذيره من الخطر الشيعي بالتذكير بالأحداث الطائفية المأساوية في العراق و"في اجتياح حزب الله أخيراً لبيروت، وما صاحبه من جرائم لا تكاد تصدق"، فهذه الرواية لما جرى في بيروت تتطابق مع الرواية الحريرية ورواية من يتحالفون معها مثل دار الفتوى.

من الأمور المميزة أن موقف الشيخ لقي نقداً من كتاب مصريين ينتمون عملياً إلى اتجاهه الفكري نفسه، وهو اتجاه يمكن وصفه بأنه اتجاه منفتح على المذاهب الإسلامية، وعلى التفكير المحبذ لإدخال النظام الديمقراطي في السياسة الإسلامية، ومن هؤلاء النقاد الكاتب الإسلاماني المعروف أحمد كمال أبو المجد، والمؤرخ الممتاز طارق البشري، والكاتب المعروف فهمي هويدي. في جميع كتابات هؤلاء كان التركيز على التأثير الضار سياسياً لتصريحات القرضاوي فهي في رأيهم تدعم الحملة الغربية على إيران وحزب الله وتشجع الانقسام الإسلامي فتجعله تناقضاً رئيسياً على حين أن التبريرات التي ساقها صاحب التصريحات لذلك غير كافية.

أحمد كمال أبو المجد (http://pulpit.alwatanvoice.com/content-147765.html ) نقد القرضاوي لأنه نشر هجومه على محاولات تشييع السنة علناً، ولم يطرحه في دائرة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حيث يوجد علماء شيعة من العقلاء والحكماء، وأضاف أن توقيت التصريحات جاء "مثيراً للقلق والإشفاق من عواقبها.. فالحملة علي الإسلام والمسلمين لا تزال في ذروتها وأسلحة المهاجمين فيها أمضي من أسلحة المسلمين مجتمعين، فكيف إذا تفرقوا، وأنفقوا ما بقي لديهم من طاقة وجهد في ملاسنة وحروب كلامية". وفهمي الهويدي في مقاله "أخطأت يا مولانا" (الدستور 21/ 9/ 2008) ذكّر القرضاوي بفقه الموازنات الذي طالما تكلم عنه وعلّمه: "لو وازن بين الأضرار الحاصلة التي تحدث عنها ونسبها إلي الشيعة، وبين الأضرار التي ترتبت علي كلامه لأدرك أننا صرنا مخيرين بين ضررين أحدهما أصغر والآخر أكبر، أو مفسدة صغرى وأخرى كبرى، وعند الأصوليين الذين هو في صدارتهم، فإن الموازنة بين الضررين أو المفسدتين، تدفعنا إلي تقديم الضرر الأصغر علي الأكبر، بمعني السكوت مؤقتاً عن الضرر الأول، لتفويت الفرصة علي وقوع الثاني، وذلك لم يحدث للأسف".

وأما النقد الأعنف (وعجبت لعنفه) فهو نقد الأستاذ طارق البشري ("فتنة السنة والشيعة" ـ الدستور 27/ 9/ 2008) فهو لم يستعمل أقل من تعبير "الفاشية" في وصف اتجاه بعض العلماء السنة: «فشت الفاشية في الأيام الأخيرة، من عدد من علماء المسلمين من السنة والمهتمين بالشأن الإسلامي العام، حول ما وصفوه بأنه نشاط للتبشير الشيعي في صفوف سنة المسلمين، وإحياء لما ردده بعض غلاة الشيعة قديماً عن الصحابة، مما تستنكره الغالبية منهم، وتعميماً لأقوال قديمة لهذه القلة بحسبانه من أصول المذهب الشيعي، ومؤاخذة لجمهور العامة بأقوال هذه القلة المستهجنة». وتعبير "الفاشية" غريب في هذا السياق، ولعل الأستاذ البشري غاضب من التعميم على كل الشيعة في الحكم الذي لا يصدق إلا على بعضهم، ووجد لذلك هذا التعبير الذي احتكرت استعماله لسنين التيارات اليسارية عندنا (استعمله أيضاً منذ مدة بعض لقطاء التطبيع التافهين منعدمي الجذور في وصف التيار الوطني المعارض للتطبيع مع العدو الصهيوني). ومن المحتمل أن البشري كان في ذهنه عندما كتب هذا الوصف كتابات أخرى ضد الشيعة هي ما نراه في صفحات "الوهابية الشعبية" في الإنترنيت من هجوم وشتم عام على الشيعة يتضمن من الأوصاف ما يكفي لإثارة حرب دموية تحرق الأخضر واليابس إن أخذناه على محمل الجد، إذ الشيعة عندهم أبناء متعة، مجوس، شر من اليهود والنصارى.. إلى آخر منظومة الشتم الذي يقطع كل صلة ممكنة مع هذا الفريق في المجتمع الإسلامي، ولا يترك من سبيل لغير الحرب داخله، على أن هذا التيار كما يرى القارئ لا علاقة له بالقرضاوي، بل من المألوف بالعكس أن يجد القرضاوي نفسه موضع تهجم دائم منه.

وبعد هذا الهجوم الماحق يذكّر البشري بأن الشيعة وفقاً لرأي جمهور المسلمين مذهب لا يختلف عن مذهب أهل السنة إلا في الفروع، وهو مع أنه يحذر من احتكاكات قد تنتج عن حراك ضمن المذاهب الإسلامية، إلا أنه يرى أننا «في ظروف تاريخية وسياسية تستوجب علينا أن نجعل معيار التصنيف والتمييز للمواقف والجماعات والأحزاب والمؤسسات والأشخاص، هو مقاومة العدوان والتهديدات الاستعمارية والصهيونية على شعوبنا وبلادنا وأراضينا وثقافاتنا دون تفرق بين فريق وفريق داخل أهل كل مذهب، فلا ننظر للموالين لكل مذهب بحسبانهم جماعة واحدة، ولكن نتعامل مع كل فريق بموجب اندراج أهله في صفوف المقاومة والمنعة، أو في صفوف المتخاذلين والمتهاونين». ثم يعود ليحذر من الفاشية التي تنطق باسم السنة جميعاً ضد الشيعة بعامة لأن هذا «يحوِّل بأس المسلمين إلي بعضهم البعض، بدلاً من أن يكون بأسهم على المعتدين عليهم الغازين لأرضهم المستعبدين لأوطانهم». ومن غير الواقعي في رأيه أن يخوف بعضهم أربعة أخماس المسلمين، من الخمس الخامس، بدعاوى تبشير غير محققة، وللأغلبية السنية بحكم حجمها ووزنها المسؤولية الأكبر في حفظ وحدة الجماعة، واحتضان فصائلها والتقريب بين بعضهم البعض».

ثم ينتقل إلى ذكر السياق السياسي الذي تجري فيه الحملة فهو سياق محاصرة حزب الله الداعم للمقاومة الفلسطينية وضرب «النظام الوطني الإيراني»، على حد تعبيره، المناوئ للعدوان الأمريكي الإسرائيلي، وتحويل الكراهية عن خطر الصهيونية إلى خطر شيعي متوهم. ثم يرى أن «الفاشية» «نكاد نلحظ في دوافعها موقف بعض الدول بالمنطقة، التي اعتادت أن تنطق باسم الإسلام والسنة، واعتادت مناصرة السياسة الأمريكية المناصرة للموقف الإسرائيلي، وهي ذاتها من كانت تضع أيديها في أيدي شاه إيران الشيعي الفارسي «الصفوي» في ستينيات القرن العشرين، ضد سياسة مصر الوطنية ومنها السياسات العربية الوطنية وقتها، رغم أنها كانت سياسات عرب وسنة مسلمين. فليس الثابت هو الموقف من الشيعة، ولكنه الموقف المؤازر للسياسة الأمريكية.»

الجانب الآخرمن أصدقاء القرضاوي أيد موقفه، ومن هؤلاء الأصدقاء صديقان مهمان من المغرب الكبير هما راشد الغنوشي وأحمد الريسوني. الغنوشي في مقاله "كلنا يوسف القرضاوي" (جريدة "التجديد" المغربية عدد 22/ 9/ 2008) رد بعنف على التهجم السفيه لمحرر في وكالة "مهر" الإيرانية الذي ربط فيه القرضاوي بالماسونية وحاخامات اليهود الذين يحذرون من المد الشيعي بعد الهزيمة أمام حزب الله، وقارن هذا المحرر بين هزيمة "الجيوش العربية السنية" وانتصار الشيعة ممثلة بحزب الله. في مقال الغنوشي مساندة لتنبيه القرضاوي إلى خطر الاختراق الشيعي لمجتمعات لا تعرف المذاهب منذ قرون بعيدة، ومنها تونس التي اشتغلت حكومتها بملاحقة المجتمع المدني الذي كان يستطيع الوقوف في وجه هذا الاختراق ممثلاً بالحركة الإسلامية، وشجعت في المقابل جمعيات شيعية تأتي مدعومة بأموال طائلة شعبية، وربما رسمية، لتحدث فتناً مذهبية نحن في غنى عنها. وذكّر الغنوشي بموقف اتجاهه الثابت من دعم إيران في وجه المخططات المعادية، وأنه كان دائماً ينوه بدورها الإيجابي في دعم القضية الفلسطينية.

وفي رأيه أن الدعوة ضمن البيت الإسلامي الواحد عبث إذ هي يجب أن تتوجه لدعوة الغالبية الكبرى من البشر في الأرض الذين يموتون على غير الإسلام، وفي مقال الغنوشي نجد تأكيداً لموقفه الثابت المعروف ضد التكفير، وإن كان هنا ـ بمناسبة الموقف السفيه للمحرر في الوكالة الإيرانية ـ يبدو كما لو اكتشف خطورة ذلك الاتجاه في الشيعة الذي خطر لي مرة أن أسميه "الوهابية الشيعية"، وهو اتجاه يتطابق مع ما أسميه "الوهابية الشعبية" التي نراها تملأ صفحات الإنترنيت الخليجية، وتوجه الشتائم المقذعة بلا تمييز "للصوفية" و"الأشعرية" و"الرافضة المجوس" وما إلى ذلك. فالمحرر المذكور لم يتورع عن الشتم المقذع للقرضاوي ناسياً تاريخه المشرّف القريب في الوقوف ضد التكفيريين الذين يسمون أنفسهم زوراً "أهل السنة والجماعة". بل ينسب بطائفية حاقدة هزائم الجيوش العربية للسنة متناسياً بطولات هذه الجيوش نفسها في حرب العبور عام 1973 وبطولات المقاومة في فلسطين والعراق، وهو ما أزعج الغنوشي فذكّره بهذه الحقائق، و كما يرى القارئ كان الغنوشي يمكنه أن يضيف أيضاً لمعلومات ذلك المحرر التاريخ الحافل بالانتفاضات ضد المستعمرين في ليبيا وتونس وسوريا والجزائر إلى آخره.

ظل موقف الغنوشي، ضمن حدود الرصانة التي عرف بها، وهذا ما فعله أيضاً المفكر المقاصدي الرصين أحمد الريسوني في مقال قصير نشرته جريدة "التجديد" المغربية (15/ 10/ 2008) بعنوان "أهل السنة يدافعون عن الشيعة والشيعة يشتمون إمام أهل السنة!" لاحظ فيه أن بعض تلاميذ القرضاوي، ممن يعدونه شيخهم وإمامهم، خالفوه وردوا عليه، وهو ما يؤكد عقيدة أهل السنة في أنهم لا يرون العصمة لأحد بعد النبي عليه السلام، وأن بعض أهل السنة دافع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية علناً، على حين أنه لم ينبر أحد من الشيعة لينصف إمام أهل السنة القرضاوي ويرد على السفاهات التي وجهت له. ورجا أن بعض علماء الشيعة الذين يحاولون تخليص طائفتهم من "قاعدة السب والشتم والقذف" الشنيعة التي تلازمهم في التاريخ لن يبقوا ساكتين على "الشتائم والسفالات الصادرة من صفوف طائفتهم" مع إبقاء باب حق الاختلاف والمخالفة والاعتراض والمعارضة مفتوحاً. 

2 ـ ملاحظات على السجال:
ينتمي أصدقاء القرضاوي من الطرفين: من انتقده ومن أيده في رأيي إلى الاتجاه الذي يمثل بحق روح "أهل السنة والجماعة" التاريخي، إذ أن هذا الاتجاه الأكثري في الإسلام كان يمثل النزوع إلى الاستيعاب والتسامح مع الاختلافات بأقصى ما يمكن أن تسمح به ظروف المجتمع المسلم العيانية. والأستاذ طارق البشري، كما يرى القارئ، تميز عن الآخرين بذكره البعد الإقليمي للجدال، فهو هاجم النظام السعودي وذكّر بموقفه التاريخي المساند للمحور الأمريكي. والتنوع في اللغة وبؤرة التركيز في هذه المجموعة التي استشهدنا بها يجعلنا نرى التركيب الغني لهذا الاتجاه الواسع الأفق الذي وصفناه بأنه الأقرب في الكتابة الإسلامانية المعاصرة لروح "أهل السنة والجماعة"، فالبشري جاء من أرضية ناصرية ـ يسارية، وجاء الريسوني من أرضية فكرية علمية أصولية ـ مقاصدية (نسبة لعلم أصول الفقه ولعلم مقاصد الشريعة) مقترنة بتاريخ في العمل السياسي الإسلاماني (هو كما يعلم القارئ من مؤسسي "حركة التوحيد والإصلاح" التي تشكل المكون التنظيمي الأهم في "حزب العدالة والتنمية" المغربي)، أما الغنوشي فهو يمثل واحداً من أكثر دعاة الاتجاه المنفتح على الفكر الديمقراطي في المجتمع والسياسة في الاتجاه الإسلاماني المعاصر انسجاماً مع الذات وعمقاً في التفكير. وفهمي هويدي قريب منه في هذا المجال، وإن افترق عنه في مدى الانخراط في التجربة السياسية العملية. وأبو المجد يمثل اتجاه الإخوان في مصر في تيارهم السائد (وفقاً لملاحظتي على الأقل).

أما النقيض التام لمفهوم "أهل السنة والجماعة" فيمثله في رأيي ذلك التيار الذي سميته "الوهابية الشعبية" انطلاقاً من دفاعه عن شكل لمبدأ التوحيد الوهابي متسم بالغلو والذهاب إلى أبعد حدود النزوع الإقصائي، وهذا الغلو كما هو معلوم هو الأقرب إلى الانتشار في الأزمنة العاصفة، على خلاف الأزمنة التي يسودها الاستقرار حيث تتضاءل شعبية تيارات الغلو الجذري لصالح تيارات الاستقرار والتصالح مع النظام الاجتماعي القائم. وهو نقيض لمفهوم "أهل السنة والجماعة" لأنه أكثر من يحرص على تفريق "الجماعة" وإقصاء من يستطيع سبيلاً إلى إقصائه منها! من هنا لا أخص بهذا المصطلح "الوهابية الشعبية" كل اتجاهات "السلفية" العربية، ولا بد لي هنا من أن أذكر أن بعض هذه الاتجاهات لا يكاد يتميز عن اتجاه المفكرين واسعي الأفق الذين ذكرتهم أعلاه، ومنهم عقول مفكرة ذكية في السعودية من نوع الشيخ سلمان العودة، وفي الكويت من نوع حاكم المطيري، ومنهم الكاتب الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، ولقد رأينا منهم اتجاهاً في لبنان حاور حزب الله، ثم أجبره العمى السياسي الحريري على وقف الحوار قبل الوصول إلى نتائج مثمرة.

ولا شك أن القرضاوي هو بحق واحد من أهم رموز أهل السنة والجماعة، بمفهومها الأصلي الحقيقي في عصرنا، لكن هذا الموقف الأخير الذي وقفه في التصريحات يستلزم منا العودة النقدية إلى هذه التصريحات لنرى أنها في نقطة معينة تمثل خطوة إلى الأسوأ، لا إلى الأحسن، سار فيها عملياً في طريق "الوهابية الشعبية". هذه النقطة هي تصوره عن "التقارب" بين السنة والشيعة، فهو الآن في رده على أبو المجد ذكر العقبات التي تحول بين الفريقين وبين التقارب هي: الموقف من القرآن الكريم، وأنه لم ينقص منه شيءو الموقف من الصحابة وأمهات المؤمنين، والتوقف عن نشر الاعتقاد في البلاد الخالصة للمذهب الآخر، والاعتراف بحقوق الأقلية السنية والشيعية. ولا خلاف على النقطتين الثالثة والرابعة في رأي جميع المساجلين من التيار واسع الأفق الذي ذكرته. ولكن النقطتين الأوليين ينمّان في رأيي عن سوء فهم. إذ من غير الواقعي مثلاً أن تطلب من علماء الشيعة كلهم أخذ موقف من مسألة مهمة جداًً وتاريخية في مذهبهم، وهي الاعتقاد بأن علياً كان الوصي الشرعي، وأن كثيراً من الصحابة عارضوا تنفيذ الوصية أو سكتوا عن عدم تنفيذها.

إن نقاشاً كهذا وارد طبعاً في المستوى العلمي الصرف، لكن التقارب السني الشيعي يجب أن لا يستند إلى تقارب عقدي أو حتى فقهي. بل يستند إلى واقعة وجود المسلمين في مجتمع واحد يجب أن ينزع منه فتيل الاختلاف على أسس تاريخية، بحيث يترك للمسلم حرية اختيار وجهة النظر التاريخية التي يراها صحيحة. علماً أن الخلاف على الإمامة خلاف نظري بحت، (أو ظل كذلك حتى ظهور نظرية "ولاية الفقيه") لأن الإمام الشرعي الأخير عند الشيعة الاثني عشرية غائب غيبة كبرى، وعلى هذا فلا يوجد موضوع للخلاف، إلا إن أصررنا على "قلة العقل" (إن أردنا استعمال تعبير صريح لا أجد أدق منه في وصف الحال!) التي تجعل من تقرير الموقف من شخصيات التاريخ مقرراً لعلاقاتنا العملية الآن. إن التقارب له طابع عملي لا نظري، ووجهة النظر العقدية لهذا التقارب تجعله مستحيلاً عملياً. والصحابة ما كان ليرضيهم الإصرار على شق الأمة الإسلامية باسم الدفاع عنهم.

وجهة النظر هذه التي ترى أن العلاقة بين المسلمين يجب أن تمر من خلال الاتفاق على هذه الأمور العقدية الأساسية كما نرى لا توجد عند علماء السنة فقط، بل هي موجودة عند علماء الشيعة بالقدر نفسه أو أكثر. وتجاوزها في رأيي شرط أساسي للعودة إلى مجتمع إسلامي تسود العلاقة بين الفريقين فيه روح الوئام والمواطنة الصحيحة، والمقارنة هنا مفيدة مع العلاقة بين الأكثرية المذهبية والأقليات الدينية الأخرى، فمن المعلوم أن مطالبتنا بعلاقة مواطنة كاملة بين المسلمين والمسيحيين مثلاً في المجتمع المسلم متعلقة بوضع الطرفين كمواطنين لهم حقوق وواجبات وعلى أساس سلوكهم يجري التعامل معهم، وليس على أساس عقائدهم وآرائهم. وهذا لا يعني الحياد في ميدان العقيدة، ففي المجتمع تسود بصورة طبيعية الآراء العقدية التي اقتنعت بها أغلبية السكان، ومن حقنا أن نؤيد هذه الآراء ولكن بدون قهر وبطش.

3 ـ نحو تفكير جديد: الشيعة يجب أن يتحولوا إلى مذهب ولا يظلوا طائفة:
في أوضاع تاريخية ضاغطة على أعصاب المهتمين بالشأن العام يسود فيها ضجيج الإعلام في البلاد كلها، وفي بعضها ضجيج ما هو شر من الإعلام وهو القنابل والطائرات القاذفة، من الصعب تمييز الظواهر الخارجية والوقائع المؤقتة من الجوهر الحقيقي للأشياء والوقائع الثابتة الدائمة وهذا هو حالنا الآن. وفي هذه الحال من البديهي أن ينظر إلى الطرح عن تحول الشيعة إلى مذهب إسلامي ليس له وضع طائفي على أنه طرح خيالي طوباوي يقفز فوق الواقع. لكنني أدعو المشتغل العربي بالشأن العام إلى محاولة تجاوز هذا الضجيج لتذكر وقائع اجتماعية لا ريب فيها أصبحت حقائق منذ بداية العصر الحديث. من المفارقات التي جاءنا بها النظام السياسي في "لبنان الكبير" تحويل السنة إلى "طائفة"، وقد نتج عن "تحرير العراق" من قبل الأمريكان هذا الوضع أيضاً، فصار من المألوف الحديث عن "طائفة سنية" رغم ما في هذا التعبير من مفارقة تاريخية، لأن هذا القطاع من المجتمع الإسلامي لم يكن أقلية لتوصف بأنها "طائفة" بل كانت هي الكيان المكوّن لجماعة الإسلام. وحول هذا المركز الكبير كانت تتوضع الجماعات الأخرى التي سميت ذات مرة "مللاً" ثم صارت تسمى "طوائف".

في وجه "تطييف" ما لم يكن قط طائفة، وهو أهل السنة والجماعة، لا بد إن أردنا حقاً بناء مجتمع إسلامي متماسك يستطيع أن يثبت وجوده في العالم من أن نسير في الاتجاه المعاكس، أي في اتجاه نزع صفة "الطائفة" لا عن السنة فقط بل عن الشيعة أيضاً لتتحول بلاد الإسلام إلى بلاد يغلب على سكانها انتماؤهم إلى مذهبين كبيرين من مذاهب أهل الظاهر (وهذا المصطلح أضعه في مقابل المذاهب الباطنية كالإسماعيلية وغيرها، ويجب تمييزه عن الاتجاه الفقهي المعروف لداوود وأصحابه) مذهب أكثرية سني ومذهب أقلية شيعي، يقوم إلى جانبهما مذاهب باطنية صغيرة وأديان أخرى كتابية وغير كتابية واتجاهات فكرية لا دينية في تعايش سليم قائم على مبدأ المواطنة والانتماء لدائرة ثقافية واحدة من دوائر العالم الثقافية الكبرى.

فيما يتعلق بأهل السنة والجماعة فإننا نشهد عملياً اندثاراً للمذاهب القديمة بدأ مع دخول العصر الحديث، إذ اختصرت تفصيلات الاختلافات الفقهية في العبادات اختصاراً كبيراً في مبسطات عامة تحتوي أهم ما في كل عبادة بدون تفريعات وأقوال كثيرة، وأما الجوانب الأخرى من الفقه كالمعاملات، وتفصيلات علم الكلام فتراجعت أهميتها بعد أن ظهرت المنظومات القانونية المستوردة من الغرب، واندثر علم الكلام عملياً فلم يكد يعد له جمهور أو دارسون. بحيث ظهرت أجيال لم تعد كثرة فيها تعرف ما هو المذهب الذي تنتمي إليه، وهو ما سهل الأمر على التيار السلفي الذي يتميز برفضه لمبدأ المذاهب، فالحداثة التي يفترض أنها العدو الأول للسلفية هي في الحقيقة الممهد الأكبر لها والميسر لنفوذها على المسلمين المعاصرين.

ولكن هذه السلفية بهذا الجانب التوحيدي يمكن أن تأخذ في ظروف الأزمة وجهاً مرضياً تقسيمياً يركز على الفروق بين المسلمين بدلاً من مفهوم السلف الذي يركز على الأصل العام المشترك قبل ظهور الفرق الإسلامية، وهو حال ما دعوته "الوهابية الشعبية" و "الوهابية الشيعية"، و"الاتجاه السلفي" مصطلح يطلق في تاريخ العرب المعاصر على حركتين مختلفتين أرادتا الرجوع إلى الإسلام الصافي وتخليص الإسلام من "البدع" التي شابته في القرون المتأخرة: سلفية محمد عبد الوهاب التي ركزت على التخلص من البدع والعودة إلى النص (على طريقة أهل الحديث) دون أي طرح حضاري عام، فكأن المشكلة العقدية عندهم هي أول وآخر المشاكل في حياة المسلمين! وسلفية الأفغاني وعبده وهي التي طرحت العودة إلى الإسلام الصافي انطلاقاً من رؤية حال المسلمين الحضاري الدوني في العالم (وكان جل عالم الإسلام مستعمراً مباشرة وما لم يستعمر منه مباشرة كان تحت النفوذ العسكري والاقتصادي الغربي). وما من ريب في أن السلفية الثانية مهما أخذنا عليها من مآخذ كانت هي التي تتحسس لب المشكلة وتتعامل معها محاولة حلها انطلاقاً من وعي كوني يزداد تطابقاً مع الواقع (إن أردنا استعارة تعابير ياسين الحافظ الشهيرة مع تغيير مدلولاتها)، أما الأولى فتمخضت عن نزعة تفريقية انعزالية تتناقض في جوهرها مع مفهوم "أهل السنة والجماعة" الذي يجمع أهل الإسلام تحت مظلته، وتتميز بحالة فصام مريع عن الواقع وما يجري في العالم، وهذه النزعة التفريقية الفصامية المستمرة في تيار "الوهابية الشعبية" الذي نرى كتاباته في "المواقع السلفية" في الإنترنيت يحاول تعديل مسارها الآن عدد من النبهاء في السعودية والخليج أشرت إليهم في هذا المقال. وبالتوازي مع هذه "الوهابية الشعبية" نشأت نزعة سلفية ضيقة الأفق عند الشيعة تصر على تفريق المسلمين أيضاً انطلاقاً من رؤية متعصبة ضيقة الأفق للنصوص الشيعية.

ونقيض هذين التيارين المتعصبين عند السنة والشيعة هو الرؤية الإسلامية العميقة واسعة الأفق التي ترى أن المسلمين يواجهون مهمة إثبات وجودهم حيال العالم الثاني وليس حيال بعضهم البعض! وهذا هو ما قرأناه في الرؤية الصادقة العميقة لراشد الغنوشي التي ذكرناها آنفاً حين ذكّر بعبث محاولات الدعوة ضمن البيت الإسلامي الواحد!.

ما نشهده الآن في المجتمع المسلم هو اختصار مذاهب أهل الظاهر في مذهبين هما السنة التي تكاد تتوحد وتزول اختلافاتها الفقهية التي قسمتها يوماً إلى مذاهب كبرى، والشيعة الاثناعشرية (ومن المعلوم أن الزيدية والإباضية منذ زمن بعيد تلاشت الفروق المهمة لهما مع التيار السني العام، بحيث لا يهتم بهذه الفروق أحد في زماننا إلا غلاة التكفيريين). وتوحيد المذاهب هذا هو من سمات عصر الحداثة عموماً، التي يجب أن نذكر أنها بسطت أبعاد الإنسان وأزالت كثيراً من التنوع في المجتمع، علاوة على مركزتها للدول وسيرها في طريق إحكام السيطرة على الفرد والجماعات المتنوعة التي كان المجتمع يتألف منها قبل عصر الحداثة، ومنع الفرد والجماعات الجزئية من اتخاذ طرق خاصة. بهذا المعنى ما من ريب في أن إلغاء المذاهب كان تمريناً للناس على التعصب ونكسة لمبدأ التسامح مع المختلفين، وهذا الجانب التوتاليتاري من الحداثة الذي هو جانب جوهري فيها وليس عرضياً يغفله المثقف العربي الحداثي عادة بسطحيته المعتادة التي تتخيل أن "تفتح الفردية" ومبدأ التسامح مع المختلفين هما نتيجتا الحداثة الوحيدتان.

حين نتكلم عن "غزو شيعي" فنحن عددنا الشيعة جماعة غريبة معادية تريد فرض نفسها علينا، وهو المنطق نفسه الذي يمكن أن يأخذه شيعة (مثلاً في إيران) إن سمعوا أن هناك من تحول إلى مذهب من مذاهب أهل السنة من الشيعة. والأصل في المذاهب عندنا كان أنها ليست لها عصبية تسندها بالقوة، وكل ما لها هو موقف فقهي يدعمه من يؤيده بالأدلة، والأصل أن لا تجد شافعياً ثارت فيه الحمية إن سمع أن شافعياً آخر صار مالكياً مثلاً، إذ لا تكمن مصالح جمعية وراء الانتماء المذهبي من شأنها أن تتضرر إن تحول قوم من مذهب إلى آخر. والمذاهب ليس لها أحزاب تمثلها ويتعصب الناس لها في الانتخابات أو في الحروب الأهلية، إنها باختصار ليست كيانات سياسية. وحتى تبني الدولة لمذهب معين، كما كانت الحال عليه في الأندلس والمغرب ثم الدولة العثمانية لم يترافق مع ظهور عصبية مذهبية للمذاهب الفقهية، فقد ظلت هذه المذاهب ضمن إطارها المحدود بوظيفتها العبادية ـ الحقوقية ولم تتحول إلى كيانات سكانية منفصلة لها طموحاتها ورؤاها السياسية الخاصة المنفصلة عن طموحات ورؤى المجموع المسلم.

وهذا يكون إن كانت المذاهب جميعها ليس لها وضع حزبي أو سياسي خاص، فشأنها يصبح شأن أي انتماء فكري لا يكفل لصاحبه مزايا دنيوية ولا يحرمه من أخرى.

إن هذا الحال تغير مع العصر الحديث عبر تفعيل دور سياسي لاتجاهين مذهبيين واحد منهما قديم هو الشيعة الاثناعشرية والثاني جديد هو الوهابية. وللمذهبين تاريخ من الصراع تفاقم الآن مع انتشار التأثير الوهابي في بلاد المسلمين بنسخته الأضيق أفقاً بحيث صار المشهد الظاهر الآن يوحي وكأن أهل السنة بمجموعهم يقتربون من مواقع "الوهابية الشعبية" والشيعة بمجموعهم يقتربون من مواقع "الوهابية الشيعية"! ومن أسوأ ما جاءت به العقود الأخيرة تحول الانتماء الشيعي والسني إلى انتماء يفيد صاحبه ويضره وهو أول صفة تميز الانتماء المذهبي عن الانتماء الطائفي. في حالة الشيعة فالانتماء للشيعة في بلادنا يعطي للمرء مزايا أحياناً (كما في إيران مقارنة بالسنة هناك) ويسلبه منها أحياناً أخرى (كما في السعودية مثلاً)، وفي حال السنة فالانتماء السني أيضاً أصبح ميزة مفيدة أو ضارة للفرد في بلاد عديدة منها دول الخليج وإيران والعراق وسوريا ولبنان! ونشوء أحزاب سياسية تعد نفسها معبرة عن الطوائف لم يترافق مباشرة (خلافاً للتصور الشائع) مع نشوء الحركة الإسلامانية المعاصرة، فنشوء جمعية الإخوان المسلمين وتحولها السياسي لم يعكس نشوء عصبية مذهبية، وأما تحوّل الإخوان إلى تنظيمات مقتصرة على المنتمين للمذهب السني فظهر لاحقاً بعقود في العراق وسوريا ولبنان مع ظهور الاستقطاب السياسي الآخذ شكل صراع طائفي ومعه نشأت تنظيمات سياسية مقتصرة على الشيعة وأخرى مقتصرة على السنة.

وقد جاءت نظرية "ولاية الفقيه" بمكاسب عملية معتبرة للمسلمين، إذ تحت رايتها أزيح واحد من أسوأ نظم الطغيان التي كانت تقوم بدور الوكيل والشرطي للقوى الكبرى ولا سيما بريطانيا وأمريكا في الخليج، ولكن هذا التطور من ناحية أخرى كان له سلبية مهمة جداً في التحول الاجتماعي لوضع الشيعة، إذ نقل جزءاً مهماً منهم من وضع كانوا فيه مبتعدين عن التفكير في تحويل مذهبهم إلى كتلة متجانسة متميزة في المجتمع لها تمثيل سياسي إلى وضع ينظرون فيه إلى أنفسهم ككتلة متميزة لها قيادة الطاعة لها واجبة. إن النظر إلى الشيعة على أنهم عصبية خاصة هو أصل المشكلة، وبدون حل هذه المشكلة تظل كل محاولات بث الوئام بين الفريقين عرضة للانتكاس عند أصغر مشكلة. هل هناك من طريق لذلك؟ أعتقد أن حل هذه المشكلة الكبيرة من مشاكل مجتمعنا تتبع القانون نفسه الذي يجب أن نراهن عليه لحل مشاكلنا الداخلية كلها: يجب أن تكون هناك تجربة ناجحة يقتدى بها.

كنا ننتظر أن يكون التعاطف العربي الكبير مع حزب الله عاملاً ميسراً ليشرع هذا الحزب في تحويل نفسه من حزب شيعي إلى حزب إسلامي عام (والهدف الأبعد يجب أن يكون تحوله إلى حزب وطني عام، وأعيد هنا القارىء إلى الآراء التي عبر عنها أخيراً الأستاذ راشد الغنوشي التي يقترح فيها على "الإسلاميين" التمييز بين جماعة دعوية هي بطبيعتها تقتصر على اتجاه ديني خاص و حزب وطني يجب أن يتوجه إلى جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم العقدية، وهو طرح هام لا يتسع المجال هنا لمناقشته، وأكتفي بالقول هنا إن الفقير لله كاتب هذه السطور يؤيده) ولكن هذا لم يحدث إلى الآن، وليس من العدل وضع المسؤولية بكاملها في ذلك على عاتق الحزب، لأن هذا التحول في الوضع الراهن هو فعلاً صعب، وصعوبته لا تتعلق بوضع فريق واحد من الفريقين دون الآخر، بل هو عائد لموقفهما معاً.

إن قيام الحزب بدعم المقاومة في فلسطين كان له تأثير كبير طبعاً في الجموع السنية كان يمكن أن ييّسر فعلاً البدء في تحول الحزب إلى حزب جماهيري متعد للمذاهب. وتجربة حرب تموز التي أتت بتعاطف لا نظير له مع الحزب كانت فرصة للبدء في هذا التحول. ولنتصور لو أن الحزب في ذروة شعبيته بين الجماهير فتح أبوابه فعلاً لأبناء المذاهب الأخرى، ألم نكن عندها فعلاً قد وضعنا أقدامنا على طريق تحول الشيعة من طائفة معزولة لها عصبيتها الخاصة إلى مذهب مندمج اندماجاً كاملاً بالمجتمع المسلم الكبير؟ ومما حال دون ذلك امتناع الحزب عن أخذ موقف من السلوك الفاجر للأحزاب الشيعية الطائفية العراقية، فالموقف التضامني العصبوي العملي لحزب الله مع الطائفيين الشيعة في العراق يسر الطريق للتكفيريين السنة للتشكيك بتعصب هذا الحزب الطائفي.

وهذا التضامن العصبوي الشيعي لا يؤشر إلى السير في طريق تحول الشيعة من طائفة إلى مذهب مندمج في المجتمع. واستياء الأستاذ أحمد الريسوني من صمت علماء الشيعة عن سفهائهم له ما يبرره بلا شك، وقد رأينا هذا الصمت قبل هذا عند هذه القوة التي هي أكبر قوة شيعية الطابع تنال شعبية في صفوف الجماهير السنية العربية في التاريخ منذ أيام سيف الدولة ربما، فهذا الحزب صمت صمتاً مطبقاً في المواقع التي يجب فيها الكلام عن فجرة طائفيي الشيعة في العراق ومجرميهم الموصوفين، خلافاً لعلماء الفريق الآخر ومفكريه الذين حددوا موقفاً صريحاً من مجرمي الطائفيين السنة. وهذا التضامن الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه تضامن طائفي يجب على عقلاء الشيعة تجاوزه من كل بد، إن لم يكونوا يريدون تسهيل مهمة المخطط الصهيوني الأمريكي لتقسيم المنطقة وإثارة الطوائف على بعضها.

تحول الشيعة إلى مذهب، على طريقة سيف الدولة الذي وجد في التاريخ وجاهد وعرف بين المسلمين لا على أنه مع بني حمدان "طائفة" في الدولة المسلمة، بل على أنه سيد قبيلة مجاهدة من قبائل المجتمع المسلم تصادف أن مذهبها شيعي! هذا هو الطريق الذي علينا أن نسلكه، ولكنه لن يسهّل سلوكه الوعي الواجب فقط، بل سيسهله استنفاد البرامج الطائفية لطاقتها التجييشية للجماهير، والتجربة العملية مقرونة بهذا الوعي الجديد ستثبت بالتجارب الناجحة أن وظيفة السياسة في العصر القادم في بلادنا ستكون النهضة بالمجتمع المسلم كله، وليس بكسرات طائفية منه هنا وهنالك. 

كاتب وباحث فلسطيني