القابض على موقف مبدأي عربي وطني كالقابض على الجمر في هذا الزمن العربي الردئ، الذي تشوشت فيه الرؤى وانقلبت المعايير وزبفت الخطابات. هذا ما تكشف عنه مقالة الكاتب اللبناني عن الفكر النقدي القومي العلماني في حقل ألغام الوضع اللبناني.

السيْر بين الألغام

واقعُ اليسار النقديّ القوميّ ـ العلمانيّ ‏في لبنان

سماح إدريس

سُئل أبو تمّام يوماً: «لِمَ تَكتبُ ما لا يُفهم؟» فأجاب: «لِمَ لا ‏تَفهمون ما يقال!». وحال الكتّاب والناشطين النقديين اللبنانيين، القوميين ـ اليساريين خاصّة، شبيهة بحال أبي تمّام في زمنه. ‏إلا أنّ مشكلة أولئك الكتّاب والناشطين مع مجتمعهم اليوم لا تعود ‏إلى صعوبة لغتهم، كما كان وضعُ أبي تمّام، بل إلى دقّة المواقف ‏التي يتّخذونها.

*     *     *

ثمة قرّاء كثيرون لا يَفهمون، وبعضُهم يسيئون الفهم عمداً، أين ‏نحن! فإذا كنا ضدّ إسرائيل وأميركا والرأسماليّة، ومع المقاومة ‏والعروبة، فلماذا لا نكون مع 8 آذار؟ وإذا كنّا ضدّ ممارسات النظام ‏السوريّ داخل سوريا، وضدّ سياساته في لبنان، وضدّ الهيمنة ‏الإيرانيّة على العراق، ومع مجتمع مدنيّ لا سلطة ثيوقراطيّة تستبدّ ‏به، ومع الحريّة والسيادة والاستقلال، فلماذا لا نؤيّد معسكر 14 ‏آذار أو نتقاطع معه في الأقلّ؟ وينسى أو يَجْهل قرّاءٌ كثيرون أنّ ‏مقاربات اليساريين النقديين العلمانيين لمفاهيم المقاومة والهويّة ‏والوحدة العربيّة تختلف (وأحياناً تتناقض تناقضاً تاماً) مع مقاربات ‏حزب الله والنظام السوريّ مثلاً، وأنّ مقارباتهم لمفاهيم الحريّة ‏والسيادة والاستقلال تتناقض دائماً مع مقاربات تيّار المستقبل ‏والقوات اللبنانيّة.‏

فعلى سبيل المثال، فإنّ المقاومة التي ننادي بها تشْمل مقاطعة ‏الشركات الداعمة للعدوّ الإسرائيليّ، مهما كانت جنسيتها، وهو ما يغْفله ‏حزب الله للأسف حين لم يتبنَّ مقاطعة شركات أوروبيّة تدعم ‏إسرائيل مثل نستله، على الرغم من أنّ حملتنا (حملة مقاطعة داعمي «‏إسرائيل») قدّمتْ لعدد كبير من عناصره وكوادره معلومات موثّقة ‏عن دعم هذه الشركات لدولة العدوّ (يمكن مراجعة وثائق الحملة ‏على موقع مجلة الآداب). كما أننا لا نوافق على تحويل الصراع ‏ضدّ الصهيونيّة والإمبرياليّة إلى صراع طائفيّ (ضدّ اليهود) أو ‏عنصريّ/ «حضاريّ» (ضدّ أميركا والغرب)، لا لأننا لا نرى قسمة ‏العالم إلى فسطاطيْن على الطريقة البنلادنية/ البوشيّة أمراً لاأخلاقياً ‏فحسب، بل لأنّ في «أميركا» وبين «اليهود» أيضاً منْ هم أكثر تأييداً ‏لقضايانا من آلاف المسلمين والعرب (ينبغي القول، مع ذلك، إنّ ‏خطاب حزب الله تطوّر تطوّراً مذهلاً في الأعوام الخمسة الأخيرة ‏على صعيد الوعي بالفوارق الواضحة داخل اليهود والأميركيين). ‏كما أنّ الهوية التي نطمح إليها ليست أمراً حصل وانقضى، بل ‏هي مشروع متطوّر متحرّك غير ناجز، وإنْ كان ذا أصول راسخة ‏في التراث العربيّ ـ الإسلاميّ. ثم إنّ الاستقلال الذي ننادي به إنما ‏هو استقلال عن التبعيّة للمنظومة الرأسماليّة المتوحّشة ككلّ، لا عن ‏النظام السوريّ وحده (على ما ينادي 14 آذار)، بل هو سعي إلى ‏ارتباط أكبر بسوريا الشعب والاقتصاد، إذ لا استقلالَ حقيقيّاً للبنان ‏في واقع الأمر إلاّ بمزيد من التكامل الثقافيّ ـ السياسيّ ـ الاقتصاديّ ‏مع محيطه العربيّ.‏

‏*     *     *

على أنّ ذلك كلّه لا يعني أننا على الحياد بين المعسكريْن اللذيْن ‏يكادان يشْطران المجتمعَ والدولة في لبنان شطريْن (رغم اتفاقهما ‏‏«تكتيكاً»، كما كان زياد الرحباني سيقول، أي انتهازيّةً ونفاقاً، في ‏محطّات «مفصليّة»، من قبيل قرار السعوديّة وإيران «ترطيبَ ‏الأجواء»). فنحن، كعلمانيين قوميين نقديين، أقرب إلى معسكر 8 ‏آذار بالطبع في ما يخصّ قضايا المقاومة والعداء للصهيونيّة ‏والسياسات الأميركيّة (رغم التحفّظات الجذريّة التي أوردنا بعضها ‏أعلاه). لكنّه يَصْعب، في القضايا التي تخصّ بناء الوطن وعلمنة ‏الدولة تحديداً، أن نميّز كثيراً ما بين 8 آذار و14 آذار، وإنْ كانت ‏مطالب 8 آذار وحلفائه في التيّار الوطنيّ الحرّ تأتي من قيادات ‏يُفترض أن تمثّل فئات تعرّضتْ للقمع والحرمان السياسيّ ‏والاجتماعيّ والدولتيّ عقوداً طويلة، بما يجعل أنصار التحرّر ‏والعدالة الاجتماعيّة أقرب موضوعيّاً إلى 8 آذار وحلفائه.‏

‏نعم، إنّ «المعارضة» (وأفضّل أن نضيف إليها صفة «الملتبسة») ‏لا تختلف كثيراً عن القوى الطائفيّة والمذهبيّة الأخرى في ما يخصّ ‏معظم الأمور الداخليّة. فطموحها الأبرز، في قطبيْها الأساسيّيْن، أي ‏حزب الله والتيّار الوطنيّ الحرّ، هو «المشاركة». والمشاركة، يا ‏سادة يا كرام، تعبير ملتو نوعاً ما عن المحاصصة، أو عن تقاسم ‏الغنيمة الطائفيّة، عبر الثلث الضامن، على أساس أنّ هذه هي صيغة ‏لبنان منذ الأزل، وأنّ «لبنان هيك» أو «هيْدا لبنان» كما قال السيّد ‏حسن نصر الله غير مرّة. لاحظوا، بالمناسبة، أنّ حزب الله يخيّرنا ‏بين «الواقعيّة» السياسيّة (أي الاستسلام للصيغة اللبنانيّة ‏المحاصصاتيّة الأبديّة) والعنف، وكأنْ لا إمكانية لتغيير النظام ‏عبر آليّات نقابيّة وشعبيّة، ناهيكم بالآليّات الدستوريّة، من قبيل ‏إرساء قانون انتخابيّ جديد يقلّص الطائفيّة ويعطي تمثيلاً أكبر ‏للشباب والنساء، بدلاً من القانون الحاليّ الذي يمهّد لاصطدامات ‏طائفيّة جديدة ولحروب أهليّة جديدة. صحيح أنّ خطاب المعارضة ‏الملتبسة، في قطبيْها الأساسييْن، مطعّم بتعبيرات العدالة الاجتماعيّة ‏والمساواة والحرمان (صدقاً أحياناً على أساس أنّ الشيعة أكثر ‏المحرومين الاجتماعيين، والعونيين أشدّ المحرومين السياسيين، ‏على امتداد عشرات السنين الماضية). إلا أنّ تلك التعبيرات تحاول ‏أن تطمس حقيقة التفكير الطائفيّ/ المحاصصاتيّ عند المعارضة ‏المذكورة، وهو تفكير لا يبني بلداً جديداً بل يرقّع صيغة متهرّئة ‏أظهر التاريخ وجوب زوالها نهائيّاً لمصلحة صيغة قائمة على ‏المواطنيّة.‏

والحق أنّ ذروة ما يطمح إليه حزب الله تحديداً في هذا المجال ليس ‏تغيير الصيغة الطائفيّة من أساسها، بل «تظبيطها» عبر استبدال ‏رموز برموز: فالحزب يفضّل أن يأتي الأفندي (رشيد) مكان الشيخ‏‏ (سعد)، وربما المفتي الطرابلسيّ (الشعّار) محلّ المفتي البيروتيّ ‏‏(قبّاني)، والجنرال (عون) مطرح الشيخ (أمين) والحكيم (سمير)، ‏والمير (طلال) بدلاً من البيك (وليد). وقد لا يمانع الحزب في أن «‏يتنازل» لليسار في الانتخابات النيابيّة المقبلة عن حصّة ضئيلة من ‏مقاعده، قد لا تتجاوز مقعداً واحداً، فيتحوّل النائب اليساريّ العتيد «‏لاجئاً سياسيّاً» (والتعبير الموفّق هو لنجاح واكيم) عند حزب الله، ‏يكون بمثابة إلياس عطا الله شيعيّ (يوازي إلياس عطا الله اللاجئ ‏السياسيّ المارونيّ الحاليّ عند سنّة الحريري). المهمّ أن تبقى ‏الصيغة «زيّ ما هيّ» (باستعارة عبارة شهيرة لرفيق الحريري، ويا ‏للمفارقة، أوردَها في معرض آخر). وهذا ما تعبّر عنه إحدى أغاني ‏المعارضة الملتبسة أيّام الاعتصام الشهير، الذي أدّى في النهاية إلى ‏مشاركة المعارضة في الحكومة فعلاً، ولكنه أسهم في بلوغ البلاد ‏وضعاً كارثيّاً أيضاً: ألا وهو استعداء عشرات آلاف السُّنّة، ونقلهم ‏‏(موقّتاً كما نرجو)، وبمساعدة المال السياسيّ، من الولاء للمقاومة ‏وفلسطين والعروبة (الملتبسة بالإسلام السنّيّ الأكثري على ما ينبغي أن نضيف)، إلى خانة السعوديّة والرجعيّة العربيّة. تقول الأغنية: «كِلّتنا لِبنانيّة/ بالدّمِ وبالهويّة/ شيعة وسنّية ودروزْ/ إسلام ومسيحيّة». ‏وهذه الأغنية، كما يتبين لكلّ ذي عين بصيرة، لا تختلف قيد أنملة ‏عن أغاني ثورة الأرز، ولا عن المغزى الكامن في صور تعانُقِ ‏الصليب والهلال في تظاهرات هذه الثورة: ففي الحاليْن يُختزل ‏المواطن اللبنانيّ إلى طائفته، وتُختزل هويّته إلى رمزيْن دينييْن ‏شهِدا من التصادم والاشتباك والتذابح عبر التاريخ اللبنانيّ أكثر ‏بكثير مما شهداه من العناق... والنفاق!‏

*     *     *

أما في ما يخصّ قضايا داخليّة أخرى، كالقضايا الاقتصاديّة ـ‏ الاجتماعيّة، وفلسطينيّي لبنان، فلا تمييزَ كبيراً يتعدّى مستوى اللفظ ‏بين 8  و 14 آذار. خذْ قضيّة الوجود الفلسطينيّ في لبنان مثلاً. فالتيّار ‏العونيّ يكاد يبزّ القوات اللبنانيّة في خطابه المعادي للفلسطينيين. ‏وأذكر أنّ أحد البرامج التلفزيونيّة على الأي. أن. بي. جَمَعَ بين أشدّ ‏غلاة اليمين، السيّد المتعجرف روجيه إدّه، وأحد ممثّلي التيّار ‏العونيّ (وقد فاتني اسمُه للأسف، ولكنّه يَحمل لقبَ دكتور)، فاختلفا ‏في كلّ شيء، نعمْ كلّ شيء... باستثناء اتّفاقهما الحاسم والجازم على ‏أنّ أساس الحرب اللبنانيّة هو الوجود الفلسطينيّ (قال إدّه للعونيّ: «ببصمْلك بالعشرة على موقفك من الفلسطينيّه!»).‏

وأما في معارك نهر البارد، فالموقف العونيّ كان مخيفاً من حيث ‏التأييد الأعمى الذي مَحَضَه للجيش اللبنانيّ بحجّة محاربة الإرهاب ‏‏(وهذا قبل إبرام صفقة الميغ الروسية... الله يستر) وكأنه لم يكن ‏يمكن التخلّص من «فتح الإسلام»، الذي يمثّل الفلسطينيون أقليةً ‏ضئيلةً فيه، والذي بتنا اليوم نعْلم الكثير عن كيفيّة دخوله إلى لبنان ‏وعن تسليحه وتمويله، إلاّ بتدمير المخيّم. أما حزب الله فلم يتخطّ ‏التحذيرَ اللفظيّ البليغ الذي أطلقه أمينُه العامّ في أول أيام حرب «البارد» حين اعتبر المخيّمَ الفلسطينيّ والجيشَ اللبنانيّ «خطّيْن ‏أحمريْن» لا يجوز تجاوزُهما. لكنّ المخيّم تجووز عمليّاً، وهُدم على ‏رؤوس أصحابه، وطُليتْ جدرانه بالشتائم والشعارات العنصريّة ‏المقزّزة المعادية للفلسطينيين، وبقي التحذير حبراً على ورق، رغم ‏نوايا نصر الله الحسنة.‏

ولا يختلف موقف المعارضة الملتبسة من معارك «البارد» كثيراً ‏عن موقفها من الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطينيّ في لبنان. ‏فالعونيّون، أسوةً بـ الأطراف الأشدّ عداءً للفلسطينيين داخل 14 ‏آذار، يشْهرون فزّاعة التوطين خشية أن يؤدّي إقرار تلك الحقوق ‏إليه، مع أنّ الحقوق المذكورة لا تتضمّن تجنيس الفلسطينيين على ‏الإطلاق. كما أنّ حزب الله لم يبادر إلى حشد كتلته النيابيّة ووزرائه ‏وقاعدته الشعبيّة الهائلة من أجل تنفيذ هذا المطلب الإنسانيّ ‏والوطنيّ والقوميّ (والإسلاميّ كما يُفترض في عُرف الحزب) في ‏المؤسّسات التشريعيّة والتنفيذيّة اللبنانيّة، مراعاةً ربما لحليفه «المسيحيّ» (عون) الذي يروِّج أحد مسؤوليه (الوزير جبران ‏باسيل) أنّ الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود (!)، أو مراعاةً ربما ‏لحليفه «الشيعيّ» (حركة أمل) الذي سبق أنْ خاض حروباً يندى لها ‏الجبين ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة في الثمانينيّات. وبالمناسبة، فإنّ ‏قواعد حركة أمل، وهي أحد أطراف المعارضة المذكورة، لا تزال ‏للأسف، ورغم انقضاء عقديْن على حروب المخيّمات، مشحونةً ‏بالعداء ضدّ الفلسطينيين في لبنان. وأذكر أنّ مسؤولاً طلابيّاً في ‏الحركة حمّل مسؤولية ما حلّ بـ «البارد» للـ «فلسطينيين»، وقد ‏حدث ذلك في أحد الاجتماعات الشبابيّة/ الطلابيّة التي حضرتُها ‏أثناء حرب البارد بهدف القيام بتحرّك ما تضامناً مع الضحايا ‏المدنيين في ذلك المخيّم.‏

*     *     *

وبالعودة إلى المقاومة ضدّ إسرائيل، وهي العامل الأبرز الذي يَجمع ‏العلمانيين الوطنيين إلى حزب الله، فإنه من البدهيّ القول إنّ‏ حزب الله هو المرحلة الأكثر انتصاراً في مقاومة الشعب اللبنانيّ ‏للاحتلال الإسرائيليّ، والأبلغ تحقيقاً للنتائج المرجوّة، ليس فقط على ‏صعيد تحرير الأرض والأسرى، بل أيضاً على صعيد بناء توازن ‏رعبٍ يدفع العدوّ الصهيونيّ إلى التفكير مئة مرة قبل تكرار ‏غزواته. لكنْ، فليسمحْ لنا بعض المعارضين بتذكيرهم بأنّ مقاومة ‏إسرائيل بدأتْ قبل المقاومة الإسلاميّة الباسلة بسنوات: هل ننسى ‏الفدائيين اللبنانيين الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، ‏وعلى رأسهم سمير القنطار؟ هل ننسى الحرس الشعبيّ (اليساريّ)؟ ‏هل ننسى الشهيديْن إيّاد نور الدين المدوّر (إيهاب) وراجي من «جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشيّة» ‏اللذيْن استُشهدا على يد القوات الفرنسيّة عام 1978 أثناء توجّههما ‏لقتال العدوّ الإسرائيليّ في الجنوب؟ وهل ننسى جبهة المقاومة ‏الوطنيّة اللبنانيّة، المكوّنة أساساً من تحالف أحزاب اليسار العلمانيّ ـ ‏القوميّ، وننسى شهداءها (يسار مروّة وسناء محيدلي وجمال ساطي ‏ومهدي مكاوي ونزيه قبرصلي...) وأسراها، لمجرد أنّ اليسار ‏اللبنانيّ (والعالميّ) انكفأ في نهاية الثمانينيّات أو قُمع (بل اغتيل ‏بعض قادته الميدانيين والإيديولوجيين أمثال محمد سليم وحسين ‏مروّة ومهدي عامل وكمال خير بك) على يد أطراف (مدسوسة؟) ‏داخل المقاومة نفسها أو في حروب صغيرة مشينة، أو لمجرد أنّ ‏النظام السوريّ شجّع حصر المقاومة في حزب واحد؟ هل ننسى ‏عمليّة بسترس في 20/ 9/ 82، وعمليّة الويمبي في 24/ 9/ 82 التي ‏قُتل فيها ضابط إسرائيليّ وجُرح جنديّان آخران باعتراف العدوّ، ‏وهما من العمليّات التي دشّنت مسار التحرير اللاحق؟ وهل ننسى ‏عمليّة كامد اللوز في 21/ 12/ 82 (3 قتلى و3 جرحى)؟ وعمليّة ‏الحدث في 5/ 1/ 83 (قُتل جنديّان)؟ ووادي الزيْنة في 13/ 3/ 83 (4 ‏قتلى من العدوّ)؟ وكاليري سمعان في 8/ 6/ 83 (3 قتلى ‏إسرائيليين)؟ وعمليّة عاليه في 3/ 10/ 83 (6 قتلى إسرائيليين و22 ‏جريحاً)؟ ومئات العمليّات التي دفعت العدوّ إلى الانسحاب من ‏بيروت والجبل وصيدا، وأسهمتْ في إسقاط اتفاق 17 أيّار؟

والحديث يطول في هذا المضمار. والهدف ليس الحنين إلى أيام ‏مضت وانقضتْ، ولا مجرد الالتزام بالتوثيق الذي كان لـ «أنصار ‏جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» شرفُ استهلاله عبر كتابيْن صدرا ‏بلغات وطبعات عدّة: «سنتان» (1984)، «والاحتلال والمقاومة» ‏‏(1986). بل إنّ مغزى الحديث هنا هو أنّ تأييدنا، كنقديين قوميين ـ ‏يساريين، لمقاومة حزب الله العظيمة كان ويبقى في أساس تفكيرنا ‏وعملنا ووفائنا لتضحيات شهدائنا القوميين واليساريين والعلمانيين، ‏اللبنانيين والفلسطينيين (نعم، لا تنسوا الشهداء الفلسطينيين الذين ‏قضوا بين عامي 1982 و 2000 دفاعاً عن المقاومة وعن عروبة ‏لبنان، والجبل خاصّة، من غير أن نرى ملصقاً واحداً يحمل ‏صور أكثرهم!). إنّ قضيّة مقاومة إسرائيل لا تحتاج إلى أن نبرّرها ‏اليوم بفتوى دينيّة من أيّ مرجع، أو ببيان سياسيّ من أيّ حزب ‏جديد، أو بتصريح لأحمدي نجاد أو لأيمن الظواهري: إنها في ‏صلب بنياننا، كيسار وقوى وطنيّة ـ قوميّة ترى نفسها امتداداً للثورة ‏الفلسطينيّة ولحركة القوميين العرب وللحركة الناصريّة ولجبهة ‏المقاومة الشعبيّة ولجبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة. وتواريخنا ‏تتجاوز 8 (و14) آذار، لتعود إلى الأعوام 1936، و1952، ‏و1965، و1967، و1978، وأيلول 1982... بل إنّ المقاومة هي ‏مبرّر وجود اليسار الوطنيّ ـ القوميّ أصلاً، ولا سيّما ذاك الذي لم ‏يلتحقْ بالأنظمة الممانعة لفظاً والراكدة فعلاً.‏

*     *     *

ولكنْ، مثلما أنّ المقاومة هي مبرّر وجودنا كوطنيين وقوميين، فإنّ ‏العلمانيّة والحريّة هما مبرّر وجودنا كيساريين. فلا معنى لوجودنا ‏إنْ لم نلتزم مبدأ العمل على الانتقال بأنفسنا من رعايا طوائف ‏وأذيال زعماء، إلى مواطنين أحرار ذوي إرادات حرّة وقامات ‏سامقة. ولا معنى لوجودنا إنْ لم نتنكّب الدفاع الأخلاقيّ الضروريّ ‏عن كلّ معتقلي الرأي وضحايا الاختلاف الفكريّ والإثنيّ والجنسيّ، ‏أيّاً كانوا، يمينيين أو يساريين أو إسلاميين أو مستقلّين، مثليين أو ‏نسويين، رجالاً أو نساءً، وأنّى كانوا، في سوريا أو لبنان أو الضفة ‏أو غزة أو تونس أو الأردن أو السعودية أو غوانتانامو أو مصر أو ‏العراق. ولا معنى لوجودنا إنْ لم نواجه الفكر السلفيّ التكفيريّ ‏والبطريركيّ من أيّ جهة أتى، وإنْ لم نتصدَّ لكلّ الذرائع التي تبرّر ‏الكبت والاضطهاد: من ذريعة «ضرورات المرحلة» إلى ذرائع «إثارة النعرات» و«المسّ بالذات الملكية أو الإلهية» و «قوانين ‏الطبيعة» و«احترام الكرامات». وفي ذلك كله لا يحتاج اليساريون ـ ‏العلمانيون النقديون إلى تبرير مواقفهم باللجوء إلى منظّمات «آخر ‏زمن»، المنظّمات غير الحكومية التي تفرِّخ كالفطر وتتلقّى تمويلاً ‏سخيّاً (وأحياناً مشروطاً) من الغرب الحرّ هناك (وبدرجات ‏فحسب) /القامع هنا: فالاتجاه الوطنيّ النقديّ العلمانيّ ذو جذور ‏تضْرب عميقاً في الواقع الثقافيّ والنضاليّ العربيّ، من المعلّم ‏بطرس البستاني وشبلي الشميّل، مروراً برئيف خوري وياسين ‏الحافظ، وانتهاءً بعبد الرحمن منيف وسعد الله ونّوس وجوزيف ‏سماحة وسهيل إدريس وعشرات آخرين.‏

*     *     *

أدركُ أنّ موقفنا اليوم أشبه بالسيْر بين الألغام: بين تأييد المقاومة ‏ورفض بعض أساليبها وأفكارها وتكتيكاتها، وبين تثمين المواقف ‏العونيّة المناصرة للمقاومة وإدانة التصريحات «المسيحويّة» ‏والعنصريّة، وبين المطالبة بعلاقات لبنانيّة ـ سوريّة متينة وشجب ‏الاعتقالات وإجراءات القمع في سوريا ولبنان، وبين دعوتنا إلى ‏الوحدة العربيّة ورفض السبل القسْريّة لتحقيقها، وبين حاجتنا ‏كمجتمع مقاوم إلى حليف استراتيجيّ كإيران وكرهنا للاستبداد ‏الثيوقراطيّ. المشكلة أنّنا قلّة، ولن يُحسب لنا حساب ما لم نتكتّلْ ‏ونوجِدْ قواسمَ مشتركةً بيننا للعمل... لا للتنظير وحده. ‏

رئيس تحرير مجلة الآداب البيروتية