يرصد الكاتب والروائي العراقي هنا تحولات المثقف العراقي بعد الاحتلال الأمريكي البشع للعراق، وتعبير الفنان التشكيلي بصريا عن تلك المحنة وعن الوجع العراقي تحت وطأة الاحتلال الأمريكي والوحشية والمحاصصات الطائفية. وقد قدمت الكلمة في العدد الماضي تحليلا لروايته.

صدى وذكرى: الفن والوجع العراقي

سهيل سامي نادر

بعد نحو شهر من الاحتلال الامريكي للعراق اجتمع مسؤول الثقافة المعيّن من قبل قوات التحالف بعدد من موظفي وزارة الثقافة والاعلام المنحلة، وأخبرهم بالحدث الكبير: لقد اصطدنا فيلا ضخما! في تلك الايام كان الكلام عن الثقافة يبدو ترفا، وقد أدرك هذا المسؤول المشكلة فمارس دور الطباخ، متحدّثا لاولئك الذين كانوا قد خسروا وظائفهم عن أعجوبة هذا الصيد، وكيف يجب أن يطبخ على نار هادئة. أزاء الحدث الواقعي المروّع بدا ما قاله رمزيا على نحو تهكمي. ففي تلك الايام كانت شوارع بغداد المهجورة والمخيفة ما زالت تحمل رائحة شياط المطبخ الهائل الذي أقيم على انقاض الدولة العراقية المنهارة. كان الفيل الحقيقي قد قتل والتهم من قبل اللصوص ومشعلي الحرائق تحت مرأى ومسمع القوات الامريكية.

كنت قد أذعت هذه الرواية الحقيقية على الهواء من محطة الحرية في براغ الناطقة باللغة العربية في الوقت الذي كنت أسمع فيه رشقات من الرصاص وابنتي تهم في ايقاد مصباح نفطي. من كان يحاورني على الجهة الأخرى من العالم صديق لم أره طوال 25 عاما ويعرف انني كنت مثله أنتظر الحرية، في بلد كثيرا ما غررت به حرية ما تلبث ان تنقلب وحشا على يد أنظمة مجنونة. لم يخف هذا الصديق دهشته من حكايتي، لعله لم يصدق أن "مثقفي" قوات التحالف قادوا انعدام اللياقة الى هذا المستوى الهزلي. ولأنه مؤمن بأن الحرية سيواتيها الحظ في النهاية فقد طمأنني برواية أخرى يمارس فيها الفيل دورا تشبيهيا. قال أن اميركا تشبه فيلا ثقيل الخطى، لكن عليك أن تراه حين يهرول ويندفع بقوة! حتى هذه الساعة، وقد غادرت الوطن في عام 2006 بسبب العنف السياسي والطائفي، لم ينقشع الغبار الذي تسبب به هذا الفيل.

من الصعوبة مدّ الجسور ما بين الاحداث الجنونية والعمل الفني. الفنانون العراقيون بوجه عام حساسون من وضع فنهم في خدمة قضايا يقودها مهرجون واعلاميون، ناهيكم عن حكام قساة. لقد عبرت من فوق رؤوسهم الكثير من المآسي، كما مارست ضدهم السلطات والاديولوجيات الضغوط والاغراءات، بيد أن النخبة المثقفة منهم حافظت على توازنها وأبقت على الحرية الفنية تعمل بنشاط. لقد ناوروا دائما ما بين احتياجاتهم ومتطلبات عملهم الثقافي والفني ومطالب النظام السياسي، ونجحوا، مع بعض الخسائر، في الحدّ من التأثيرات الضارة للسياسة والاديولوجية. بيد إن ما حدث في نيسان 2003 هو صدمة يقف المرء ازاءها مصدوعا وخائفا ومنسحبا. في الماضي كان بالامكان الانحناء للعواصف والآن بات الوجود مهددا. في الماضي كانت المواطنة السياسية تعاني نقصا شديدا، فإذا بالوطن السياسي يختفي. إنني اتفهم صادق كويش الذي نفذ عملا كبيرا غير معتاد من حيث المساحة (8 امتار طولا و3 امتار ارتفاعا) فرسم وحشا لديه عدد من الرؤوس ابتلع الدولة العراقية، وتسبب بموت الالاف. نحتاج الى مساحة كهذه. مقارنة باعماله الرهيفة الانسانية التي بالكاد تتماسك خطوطها، اشكال ناقصة لرأس، لوجه، لفم او لا ادري لعله دائرة وخط اعتباطي، ملأ صادق بالحبر الصيني جسدا حيوانيا يصلح لفيلم رعب امريكي. أطلق على معرض أقامه في المنفى اسما تهكميا (مولود في التاسع من نيسان)، ولعله اسم يمارس لعبة بلاغية تشير الى تاريخ سقوط الدكتاتورية وولادة وحش آخر. أيا كان فالوحش الذي رسمه أقرب الى تجربتي الحسية: ففي ليلة ظلماء من يوم العاشر من نيسان 2003 شعرت ان بيتنا يهتز، ومن الشباك رأيت جسدا هائلا غامضا يصدر صوتا عاليا يندفع بقوة في شارع مقفر غير مضاء!

لقد عشت تفاصيل الاحداث المخيفة التي تلت الاحتلال، ورأيت بأم عيني كيف بات ميراث الدولة والشعب من حصة اللصوص والحرائق، وكيف جرى نهب مجموعات أثرية لا نظير لها تمثل الحضارات السومرية والبابلية والآشورية والاسلامية، مع المجموعات الكاملة للاعمال التشكيلية التي تمثل الفن العراقي الحديث كله. لقد انتهكت الكرامة العراقية من دون مسوغ وشعر الناس الذين لم يمتلكوا اية وسيلة للدفاع عن ميراثهم، ولا عن أنفسهم، أن معنى حياتهم في هذا الركن من العالم قد تبدد الى الابد.

حتى بعد ثلاث سنوات، لاحظت أن الفنانين في الداخل لم يكونوا قادرين على تسجيل هذه المأساة في أعمالهم الفنية أو مسّها بوضوح، فقد كانت صدمتهم هائلة استعصت على التحليل. البعض ممن ضغطت عليهم فكرة الواجب الوطني في انتاج اعمال فنية تعبر عن هذه المأساة لم يكونوا على وفاق مع المقاييس الفنية فتجاوزوها الى فعل المشاركة، والعدد القليل من المعارض التي أقيمت في تلك الفترة استهدفت تنشيط الحياة الاجتماعية التي اصابها الموت اكثر من تقديم فن يتلون بالحدث. والحال إن الصدمة باتت حالة دائمة بسبب استمرار تردي الوضع الامني الى حد اقترابه من الحرب الاهلية، مما دفع نخبة جديدة من الفنانين لمغادرة الوطن لتلتحق بالمئات الذين غادروه خلال السنوات العشرين الأخيرة.

في سنوات التسعينيات من القرن الماضي الملغومة بالحصار الاقتصادي ونتائج حربين كارثيتين، طوّر المثقفون العراقيون المهاجرون نوستالجيا مريرة الى وطنهم، في حين طوّر نظراؤهم الذين ظلوا في الوطن رغبة بالهرب منه. لا تناقض، فهذا هو السلوك النموذجي لجماعات المثقفين: أن لا يكونوا داخل قبضة ما. والحال إن المهاجرين والماكثين يلتقون في نقطة تقع ما بين الثقافة والذاكرة. الاثنان وسعا الأفق لوطن يتلون بالاحتياجات والاسقاطات الذاتية، ولماض نفسي وعاطفي يزداد اتساعا، يفيض على الحاضر، تعبر منه الأشباح والتذكارات والرموز.

في تلك السنوات نفسها شهدنا نشاطا فنيا غير عادي كانت السلطة بعيدة عنه، تكفلت به صالات عرض أهلية، وبدا واضحا من معروضاته ان اساليب فنية شقت طريقها الى الحركة الفنية تولي اهتماما زائدا للتقنية وللمواد الفنية مع إضعاف العنصر الذاتي الذي كان سائدا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لقد أسقطت الاساطير على الاشياء بعد أن كانت تسقط على الذات. إن الاعمال الورقية لهناء مال الله التي قدمتها في تلك الفترة تعد نموذجية في هذا الاتجاه، حيث تخترق الكتابة الرسم، ويمارس التلصيق دور كتابة اخرى، والملتقطات الارضية المستعادة بالرسم تشير الى البيئة، وهي تظهر في الرسم، مع خرائط وبيانات نفذتها كأبجدية يجب ان نحسن قراءتها. لقد كرّست هناء لفكرة ان العمل الفني هو نص كتابي الكثير من الجهد النظري والتطبيقي، وعملها الذي يصور خارطة اهداف امريكية معدة للقصف مترابط بتجارب قديمة مثلت اراضي محترقة منظوراً اليها من ارتفاع ما، او ثقبا اسود في ارض شفافة تكاد تعكس ما في داخلها. هذه الاعمال تود الفنانة أن نعاملها كقراءة عن كتابة، وبهذا المعنى ستحتاج الى أن تعكس من جهة قارئ لبيب. في معرضها الذي اقيم بعد انتهاء حرب الخليج الثانية قسمت هناء مساحات اعمالها الى مربعات تعتقد انها وحدة سومرية قياسية. هذه المربعات نفسها راحت تعبث بمسّاح خرائط ضائع في الفضاء في اعمال أخرى. لقد علمتنا ثلاثة حروب ان نرفع رؤوسنا الى السماء والان هاهي الارض منظور اليها من قبل آلة فضائية تخطم في هواء بلادنا المحترق.

في حدود عام 2000 وصل الينا فن الكتاب، وبدا فنا يناسبنا تماما، أعني يناسب حسّنا العراقي بافتقاد الوثائق والمصادر التي تتحدث عن مأزقنا السياسي او تقربنا مما يجري في العالم على صعيد الفكر والثقافة، فقد كنا ننسخ الكتب المهربة ونتداولها سرا. أزاء ذلك اقترن هذا التطور الفني بقيام المثقفين ببيع كتبهم في شارع أخذ اسمه من اسم اشهر شاعر عربي ظهر في القرن الرابع الهجري: المتنبي. ثمة تقاليد قديمة ترجع إلى العصر العباسي بشأن الكتب وصناعتها وصناعة جلاداتها الفاخرة ما زالت تواصل الحياة في هذا الشارع. إن اعمال كريم رسن في فن الكتاب تتصل بنسب مع اعماله التي مثلت أشكالا أخاذة تتشبه بالوثائق والأوراق القديمة حيث الكتابات والخطوط والرسوم المحفورة على الخشب تتراكب على بعضها البعض الاخر، مع محاولة اختراع ابجدية صورية جديدة. بانتقاله الى تجارب على المواد الفنية اللونية طور اكتشافاته في تعدد النسيج وقيمه الدرامية. إن مشروعه الاول لفن الكتاب كان سجلا لخواطر تخطيطية، طورت الى اعمال فنية منفصلة جاءت بمثابة سجل أثري وطوبوغرافي للسطوح والتضاريس الارضية والجدران المكشوفة التي تعرضت للقصف وأودعت اضاءات القنابل ودخانها وبريقها. بعد جريمة تفجير شارع المتنبي في 5 آذار عام 2007 التي خلطت ما بين الكتب المحترقة ولحم الضحايا المحروق، وأزالت تماما أقدم مكتبة ومقهى في بغداد، انجز كريم عمله المثير تكريما للضحايا وتمجيدا للثقافة العراقية التي سدد لها الارهاب ضربة قوية. كتابه التذكاري جمع ما فرقه التفجير: الاوراق والجلادات وبقايا من ملابس الضحايا المحترقة الملطخة بالدماء والبارود، ولم ينس حتى الروائح في محاولة لاشراك حاسة الشم التي باتت متيقظة على نحو مرضي في حياة العراقيين اليومية التي تبدأ بانفجار وتنتهي بانفجار الروائح توقظ النيام من نومهم وتحرك خيالات اجسادهم المهددة.

يسجل الفن موقفا ويمضي. في مكان الحادث نفسه اوقد المواطنون الشموع وألصقوا صور الضحايا والقى الشعراء قصائدهم. ثمة خبر مشجع يعكس الاصرار العراقي: المكتبة القديمة التي خسر صاحبها ابنه وأخاه في الانفجار تتهيأ لافتتاح جديد! في كتابه التالي "حضارة اليورانيوم" قدم كريم شهادة على جريمة اليورانيوم المنضب الذي استخدمه الامريكان في قصف المواقع العراقية ورفع نسب الاصابة بالسرطان في مدن الجنوب، ولاسيما في البصرة، الى اكثر من ثلاث مرات.

خارج الوطن سد فن الكتاب حاجة تعبيرية ملحة لعدد من الفنانين الذين حافظوا على اساليبهم في هذا المجال التعبيري: ضياء العزاوي، نديم كوفي، رافع الناصري، غسان غائب، وغيرهم. أرى أن أفق الاعمال المعروضة هنا لبعض الفنانين لا يمكن فهمها من دون الرجوع الى بعض التواريخ والاسماء المهمة والملابسات الثقافية. كما إن الحالة العراقية السياسية والاجتماعية لما بعد التاسع من نيسان ولّدت مشاعر جديدة ازاء الماضي الثقافي لا بد من المرور بها.

في عام 1951 أسس جواد سليم مع مجموعة ممتازة من الفنانين جماعة بغداد للفن الحديث واطلقوا جدلية حدّها الاول الفن الحديث وحدّها الثاني تعابير الثقافة المحلية. في الاربعينيات كان الفنانون يرسمون بيئتهم الفيزيقية للبرهنة على الهوية الوطنية، أما الجماعة البغدادية فقد عرّفت البيئة بألفاظ الثقافة، وبهذا التحديد أمكن وصف أهداف مشروع ثقافي كامل. يهمنا هنا الصياغة الفنية والجمالية التي قام بها جواد سليم نفسه، لأنها أثرت على ثقافيات الفن التشكيلي كله. لقد قام جواد بمجموعة من التوليفات والتسويات الأكثر جاذبية في الرسم العراقي وذلك على مستويات عديدة: ثقافية، فنية، جمالية، أسلوبية، وعاطفية. في هذه العملية كان النزوع نحو الطفولة يوازي البحث في التراث المحلي، والاستبطان ذو النغمة الصوفية يوازي التمثلات العاطفية، والتمسك بالحداثة الاوروبية في الرسم يوازي استلهام فن المنمنمات الإسلامية والإنتاج الفولكلوري. إن الثقافة والتجربة المعاشة عنده يتجاذبان على المستوى العاطفي ويشحنان العمل الفني بنغمة من الحنين المحزون والروح الحالمة.

رسم جواد مجموعة من الاعمال سميت بالبغداديات، وهي تكاد تمثل متحفاً أثنوغرافياً صغيراً عن مدينة بغداد، الواقع فيه محول بقوة مشروع ثقافي وجمالي. إنها تأخذ تلقائياً ترتيباً من صفوف متوازية عزلت حسب مواضيعها، كل صف منها ينتقي من العالم البغدادي أشياءه: فهنا صنف للتحف من مشربيات وأوان ودلال، وهناك صف للحكايات والأسرار، وصف ثالث للمشاهد المدينية، وآخر للحياة البيتية، وآخر للحالمات والمضطجعات. بمرور الزمن أعيد تقويم هذه الرسوم لتحظى بمكانة عالية في ذائقة الطبقة الوسطى المدينية، وذلك لما تمثله من تذكارات لا تشيخ، لا علاقة لها بملابسات التاريخ السياسي والاجتماعي، وتكاد تمثل مع مدينة بغداد ذات القباب لونا من الوان العيش والسلوك والتوقع والوعي لطبقة كانت تنمو وفي افقها صورة ازدهار قديم تريد تحقيقه. البغداديات مكان لا تجوسه آلهة التاريخ بل ربات الجمال اللواتي فضلن أن يصبحن ربات بيوت سعيدات: مشاهد ساذجة وهازلة بعض الشيء، لحظات صغيرة استعيدت من دون أحزان ثقيلة ولا أسف مزعج، ليس من اهتمامها أن تثير أسئلة شائكة أو تكترث بصراع، حزينة حزن الصور العائلية القديمة، صنعت في مشغل منزلي واحد منح الأهمية للذوق والصنعة والأسلوب والإحساس. البغداديات تصف بغداد المثالية، الهادئة، المبنية بخطوط ومساحات دائرية ولوزية تشبه الحضن، بلا صراعات لا طائل منها.

مقارنة بهذا الزمن السياسي المملوء باليأس تمنح البغداديات الامل بانتصار الاسطورة والعودة الى الزمن الجميل. ليس هذا مصدر قوتها بالطبع، لكن ليس هذا مركز ضعفها كذلك. فحنين الطبقة الوسطى الى سنوات الخمسينيات يشكل اليوم مصدرا لافكار سياسية واجتماعية مدينية تقف ضد ثقافة قوى ما قبل الدولة الريفية السائدة في عراق اليوم. بالنسبة للحركة الفنية شكلت الرواية البغدادية ارثا جرى تأويله وأعيد تقويمه وضمت من ثم الى تركيبات أوسع. عندما غادرت الميدان ظلت القيمة الثقافية لمشروعها مثمرة، بيد ان المشروع كله سيتحول من افق التجربة المحلية الى افق حداثة مفتوحة على مصراعيها، من افق التراث واستلهامه الى افق الاختراعات واعمال الخيال والتعبير عن الذات. إن الثقافة سيبحث عنها في الانجاز الفني وليس في المشاهد الخارجية الا في بعض الاستثناءات. نلتقي هنا بانجازات ضياء العزاوي ورافع الناصري وعدد من فناني الستينيين بتجاربهم المفتوحة.

يعد ضياء العزاوي فنانا لا يمكن للعين ان تخطئ اعماله، فقد حافظ دائما على اسلوب شخصي ومستوى عال من المهارة والقدرة على دمج مواد فنية متنوعة في صياغات انشائية ممهورة بمعالجة تقنية عاطفية. إن مراجعه الثقافية مترابطة مع التيار الثقافي البغدادي، الا انها أكثر غنى، فلم يحاصر نفسه في معطيات البيئة الخارجية بل تبنى ثقافة واسعة: آثار عراقية قديمة، اشكال والوان من الانتاج الفولكلوري، الشعر بوصفه ثقافة تعوّض عن الصور وتوحي بها وتدل عليها، الكتابة بوصفها خطوطا، والاخيرة بوصفها انظمة تعبير. تمارس خطته الجمالية ضمن هذه العناصر الموضوعية دورا تنسيقيا مثيرا، فتغير من وظيفتها وتلحقها باسلوبه التأليفي ولونه العاطفي. إن الوظيفة الجمالية لدى العزاوي تغطي على الوظيفة الثقافية، ومعالجته التقنية تخضع لموازنات بصرية يمارس فيها اللون دورا مغريا، مع ملاحظة انه يحتفظ في ذاكرته بسجل لوني يتكرر ويستعاد في مناورات مدهشة. عندما يقدم العزاوي طريقته في فن الكتاب يذكرنا بأنه اول من صاغ وثائق يتعاضد فيها الشعر والنصوص النثرية والرسم من دون أن يبدو عليه انه يمارس غير مهنة الرسام، كما انه عبر عن نفسه في يوميات بصرية: "يوميات عراقي" و"كتاب الصحراء". لقد نوّع في وسائل التعبير: الكرافيك والرسم والطباعة الالكترونيتين والنحت والتصوير التجريدي الذي يتفجر باللون.

في بداية الستينيات قيض لفن الكرافيك من يؤسسه: رافع الناصري. إنه الأكثر اهتماما بالتقنية والحس بالمشكلة الجمالية. ومثل كل فناني الستينيين المثقفين استخدم في اعماله الطباعية او في رسومه الزيتية الحروف وظل يجرد تأملاته عن الطبيعة والثقافة على حد سواء. انزلق الى التجريد من حسّه العالي باللون، ففي اوائل السبعينيات من القرن الماضي استلهم الافق البغدادي الطبيعي بألوانه المتدرجة منفتحا على فضاء ساحر، ومنذ ذلك الحين كان كثيرا ما تنمو رسومه افقيا ضامة اليها عددا هائلا من التأشيرات الشكلية التي فهمت كتذكارات وملاحظات شخصية. استعار شكل الزقورة ليجترح على جسدها نسيجا آخر يوازن نسيج الفضاء الذي يحيطها، وشكلها المتدرج يذكرنا بتدرجات الافق الطبيعية. صنع من دفاتره الفنية، كما في ورقياته بوجه عام، وثائق فاتنة.

فيصل لعيبي يختلف تماما عن زميليه السابقين من حيث التدريب والرؤى، وعندما كان في الوطن في اوائل السبعينيات أسهم في تأسيس جماعة الاكاديميين لمعارضة النزعات التجريدية التي كانت تحظى بمواقع ثقافية متزايدة في المشهد العراقي. في خارج الوطن استعاد اللحظة البغدادية المشهدية وأعاد تفسيرها في صياغة فنية جديدة. إن ثقافته الانسانية جعلت الناس هم المفردات الاساسية في اعماله، بيد انهم ناس عراقيون استعاروا جميعا اجسادهم من جسد الملك السومري الحكيم كوديا الذي صاغ اقدم وثيقة قانونية في العالم: إنهم مرصوصون، أقوياء، مستغرقون في عرض صامت وقور. حتى وهم في الاسواق والمقاهي يحافظون على وقارهم المتماثل واجسادهم التي تشكل حقلا للقوى، فكيف الحال وهم في حضرة شهدائهم الراقدين بنعوشهم؟ يقود رسوم لعيبي القوية ورع اخلاقي شبه ديني ونزعة سياسية مع الكثير من روح الجد. إن الاسطورة البغدادية الغنية باللون المحلي وجدت برسومه طريقا للعودة الى الميدان الثقافي والفني.