يدعو الباحث والشاعر الأردني هنا وفق رؤية منهجية تحليلية ومن منظور نقد ما بعد الاستعمار إلى تمحيص المفاهيم السائدة والمبهة بشأن العالمية وإلى تجاوز مركزية الثقافة الغربية وبلورة معاير خاصة بالثقافة العربية تخضع لمنطقها وأولوياتها.

نحو تجاوز مركزية الثقافة الغربية

من منظور ما بعد استعماري

رامي أبوشهاب

لابد أنه قد حان الأوان لتجاوز مركزية الثقافة الغربية المتمثلة تحديدا بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، من منطلق رفض المنطق الممارس أن كل منظومة علمية أو ثقافية أو فنية يجب أن تكون خاضعة لمعايير الغرب، بحجة التفوق العسكري والعلمي المفرغ ـ حقيقية ـ من المعاني والقيم الإنسانية، والتي يُلجأ غالبا للتبشير بها كأداة تغطية للممارسات السياسية الساعية إلى تلبية أطماع الإمبراطوريات الاستعمارية التي تحولت في شكلها إلى وجوه اقتصادية أكثر نعومة، مما ساهم في نشوء تيار حقيقي تلمس مدى فراغ وخواء الغرب من هذه القيم، فبدأت محاولات لإصلاح الخلل في المنظومة الفكرية والقانونية والتعليمية والثقافية لاسترجاع هذا الدور الإنساني بعد أن علا صوت المنطق الاستهلاكي والتجاري، وهيمنة ثقافة التشيؤ في المجتمعات الغربية كما تنص عليه دراسات لوكاتش وجولدمان وتيري إيجلتون ونعوم تشومسكي.

تأتي هذه الرؤية بناء على معطيات علمية ملموسة، ولاسيما بعد أن بدأت مظاهر المرض والتأزم تظهر في الجسد الغربي، ابتداء من الخواء الفكري والروحي الذي تعاني منه المجتمعات الغربية مرورا بالمشاكل البيئية كالاحترار الكوني الذي يهدد العالم، وانتهاء بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي سقط العالم معها. هذه المحاور الثلاثة تبرز الجانب الحقيقي لأي حضارة جاء العطب فيها نتيجة لخلل ما في البنية الفكرية والفلسفية، والتي تبناها الغرب لقرون عدة حين عملت تبني سياسية البنى الرأسمالية كنماذج منجزة وكخيار وحيد، وبناء على ذلك انتهت بنتيجة حتمية لمعنى الأفول الحضاري لأمة تعمل على تنحية الآخر، ومحاولة فرض قيمها الحضارية على أمم وشعوب وأخرى بحجة نشر الحضارة. والحضارة هنا مفهوم فضفاض ومشكل، فمن يحدد معنى الحضارة وأشكالها؟ وهل يمكن أن تكون مجموعة من الحروب الكونية، واستخدام السلاح الذري وتدمير البيئة واحتلال الشعوب ومحاولة القضاء على الثقافات المحلية حضارة؟

ضمن هذا الشكل الآلي والممنهج والمدروس تشكلت جرثومة تفوق الرجل الأبيض، الذي بات مخولا وقادرا على إعطاء شهادات الاعتراف بالجودة في مجالات الفن والإبداع، وأضحت مسطرته هي المعتمدة لقياس منتجات العالم الآخر. والثقافة العربية هي من أكثر الثقافات انتصاراً لمفهوم ورقة الكربون في عملية نسخ كل ما هو غربي اعتقادا منها أن المنتج الثقافي الغربي هو المطلق الوحيد، فبدأنا نستحدث أشكالا وقيما وفنونا وآدابا ومذاهب ومناهج غربية خالصة وبتنا منشغلين بمحاولة النسخ دون النظر إلى التفكير بالخلق أو الاستحداث، ولننظر إلى ما أحدثته هذه العملية من تفاقم لحالة العقم العربية في إنتاج الإبداع، كل ذلك طبعا مصحوب بمناداة أن تتشكل ذائقة الفكر والفن والموسيقى والأدب بناء على مقاييس غربية خالصة، انطلاقا من أن النموذج الغربي منطقة محرمة ومتعالية في التفوق ولا مجال للتشكيك فيها، وعلى ذلك فإن أي محاولة للاستحداث سيكون مصيرها الفشل!

إنها مجازفة كبيرة بأن تدعي مثلا أن أعمال شكسبير ما هي إلا أعمال عادية، وأن أي روائي أو مسرحي عربي أو صيني أو هندي ـ خارج المنظومة المركزية الثقافية الغربية ـ يمتلك من العبقرية والإبداع ما يفوق ما لدى شكسبير، وفي هذا السياق يشير تيري إيجلتون في كتابه "نظرية الأدب" حول مركزية المؤسسة الثقافية الغربية الأحادية الجانب حول تقديسها لأدب شكسبير ودراسته، ليس كونه أدبا عظيما إنما لأن المؤسسة الأكاديمية الإنجليزية ترى ذلك، وقياسا على ذلك، من منا يستطيع أن ينتقص من عبقرية الموسيقى الغربية بسيمفونياتها العظيمة ومقطوعاتها الخالدة؟ على حين ربما تكون الموسيقى التايلاندية التي تصدح في معابدها أجمل وأكثر ثراء منها، ومن منا لديه الحق في أن يشكك بشعرية ت س إليوت بقصائده القليلة على أنه أعظم شعراء العصر الحديث؟ فربما يكون هناك شاعر صيني يفوقه بمئات المرات، ومنا من يتجرأ على أن يرفض عبقرية أرنست همنغواي وفوكنر؟

إن الهدف من هذه الأمثلة ليس الانتقاص من عبقرية الغرب بكل معطياتها، إنما الهدف هو رفض هيمنة المركزية التي تقوم على الخوف من قدرات الشعوب الأخرى، والتشكيك بها على أن تكون متعالية على ثقافة الرجل الأبيض، فنحن نعود دائما وأبدا حين يظهر مبدع إلى إخضاعه إلى نماذج غربية، وبالتالي فإنه سيسقط حين يقع تحت سكين السلطة المطلقة للثقافة الغربية، والطريف في الأمر أن البنية الثقافية التي يدين لها المبدع ـ خارج الإطار الغربي ـ تعمل على تنحية عبقريته حين تصر على استعارة معايير الغرب وعبقرياته كآله يمتلك الحق في تقرير مصير المنتج الإنساني الثقافي...، فإلامَ سيبقى المسرح في ملكية شكسبير، والموسيقى في ملكية بتهوفن والسينما بملكية هوليود؟!

هذه سياسة نتجت عن وعي وقصد في فلسفات نظرية ما بعد الاستعمار، التي تعمل على تشكيل بنية متكاملة من الدراسات والسياسات عملت على تأطير وقتل الإبداع الكوني عبر الإصرار على مركزية ومغناطيسية النموذج الغربي، وعلى رأسه الرجل الأبيض الخارق، حيث يبقى العالم بكل ما فيه من حضارات وفنون وعلوم غير قادر على إنجاب من يفوق الرموز الغربية، بحيث أصبحت هذه الإشكالية تمثل مركب نقص لدى الشعوب الأخرى، ففي رواية الطاهر بن جلون إشارة طريفة لإحدى الشخصيات التي تعلق على إشكالية النقص التي يعاني منها العربي، وانعدام ثقته بنفسه، وفي أبناء جلدته. في رواية "أعناب مركب العذاب" يأتي على لسان إحدى الشخصيات ما مفاده أنه إذا ما جاء عامل عربي لإصلاح صنبور الماء في منطقة الضواحي الباريسية، فإن صاحب البيت العربي سوف يتأكد من جودة عمله بعد مغادرته بشد صنبور الماء، في المقابل فإذا ما قام عامل فرنسي بذات العمل فإنك لن تحتاج إلى التأكد من جودة عمله.

هذا الشعور المتولد من جراء انعدام الثقة، هو نتيجة لحالة اتخذت بعدا زمنيا عميقا من التحضير والعمل عليها ضمن خطاطات استعمارية وما بعد استعمارية، متحت أفكارها من سياسة شديدة الصلة بأدبيات الاستعمار، والإحالة لجهود المخزون الاستعماري الثقافي في تشكيل صورة الآخر بأنه لا يمتلك مواصفات الإبداع والإنجاز، ويعاني دوما من الكسل الذهني، وعدم القدرة على امتلاك المهارة، وباتت هذه الرؤى منتشرة في خطاطات أدبية وثقافية غربية ونصوص منتجة من قبل الكائن المتفوق، كما وضحت ذلك كتابات إدوارد سعيد حول هذه القضية في كتابيه (الاستشراق) و (الثقافة والإمبريالية)، وآنيتا لومبا في كتابها (نظرية ما بعد الاستعمار الأدبية) عوضا عن أعمال هومي بابا.  

إن الدارس لا يعدم تلمس بنى ثقافية، عملت على سلخ نفسها من الهيمنة المعيارية الغربية بأن انساقت وراء الإيمان بقدراتها الخاصة ـ على تواضعها ـ مع دفع عجلة البحث والتنقيب والاستفادة من منتجات العالم الثقافية والحضارية والعلمية، ضمن خطوات حثيثة لتشكيل صيغة خاصة تعمل على استنهاض طاقاتها البشرية بعيدا عن تسليط سيف معيارية الغرب، وأعتقد أن أي شاعر في أي دولة في العالم خارج نطاق الهيمنة الغربية، غير معني كثيرا بمطابقة منتجه الثقافي أو الفني قياسا على ما أنتجه الغرب إيمانا، بأن المعيارية تنبع من خصوصية المكان أو الإطار الفضاء الثقافي الخاص، وهنا تكمن إشكالية المنظومة العربية الثقافية العربية، وعقمها في الإنجاز، كونها رهينة وأسيرة عقدة التفوق الغربي، وأعتقد أن مفهوم العالمية هو من أكثر المفاهيم المغلوطة التي تعمل على قهر أي محاولة إبداعية في أي مجال من المجالات، فمن منا يستطيع أن يحدد التعريف المنهجي أو الثقافي لمبدع ما بأنه عالمي؟! وهل كل كاتب يكتب باللغة الإنجليزية هو كاتب عالمي؟ باعتباره مندرج تحت المنظومة الانجلوسكسونية والدول الناطقة باللغة الإنجليزية. ولماذا تبقى فكرة مبدع عالمي مقتصرة على الناطقين باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو أي لغة أوروبية؟

يمكن أن نلاحظ أن مبدعي الأمم الأخرى ولاسيما المستعمرَة في أغلبهم كانوا خاضعين للقوى الاستعمارية وثقافتها، ومنهم من ينهجون الاستعانة بلغة المستعمر كأداة تعبير لعدة أسباب منها مقاومة القوى المستعمرة، أو محاولة الدخول في مرحلة العالمية، فبدا إنتاجهم الإبداعي في بعض الأحيان مقحما في قالب غير قالبه لتحقيق القيم المعيارية لقوى المتفوق، هذا القلق الإبداعي هو مرحلة خطرة في خطوات تقهقر القيم الثقافية للأمم المبدعة، لأنها حينها تكون قد ابتعدت خطوات شكلها الحقيقية وقيمها، وربما لا يكون هذا واضحا وجليا على المنظور القريب، ولكن كلما اتسع الزمن بدأت الأعمال الإبداعية تغرق في الآخر، وتنسى وجهها وجذورها الحقيقية، وهذا أقرب إلى نظرية أرسطو في المحاكاة، حين اعتبر أن العمل الإبداعي يبتعد عن النموذج المثال خطوتين فكم خطوة نبتعد نحن عن ذواتنا. إن هذا المفهوم لعالمية المبدع يبدأ من تماه بتركة الاستعمار ومخلفاتها الثقافية، ولعل المتتبع سيجد تبعية حقيقية لدى مبدعي العالم الثالث الذين ينشدون العالمية بالكتابة بلغة المستعمِر، ربما يكون هذا مبررا لأمة لغتها لغة أقليمية ضيقة، ولكن لا يمكن قبول ذلك لدى أمة لديها لغة ذات تراث ديني وثقافي وحضاري كبير جدا، وذات امتداد جيوسياسي، ومن هنا فإن على هذه الأمم الخروج من عنق الزجاجة الذي تشكل بناء على الإصرار دوما نحو البحث عن شرعية الوجود ضمن المرور عبر البوابة الغربية.

ومما لا شك فيه أن أولى خطوات الاستنهاض الحضاري بكل أطيافه أن تبدأ الأمة بتشكيل معياريتها الخاصة بناء على مرجعيتها الفنية والتاريخية، والبدء بالنظر إلى ما يمكن أن نختلقه بناء على إيماننا نحن بقيمته الفنية دون الركض والهرولة لاستعارة منطق القوة، وذلك ضمن كل المستويات كافة، ومن اللافت للنظر أن أي تحول نحو اختلاق تلك الحالة من الوعي بالذات تبدأ من كسر سلسة القيود على الفكر الذي كبل القدرة العربية الخلاقة بسبب منظومة من الأنظمة والمؤسسات الدينية التي خنقت كل محاولة لتشكيل فضاء ثقافي حر، والمتأمل في التاريخ العربي والإسلامي سيعرف أن مشكلتنا بسيطة جدا، فتاريخنا كان أكثر تسامحا مع المبدعين والمفكرين، فكتب التراث والتاريخ تذخر بوقائع عن تعدد الفرق الإسلامية والعلماء والفلاسفة والأطروحات الجريئة والمؤلفات والأشعار المتعالية على كافة الخطوط الحمراء، تلك الأزمنة التي نرى أحيانا أنها تكبل تقدمنا وتمنعنا عن اللحاق بالركب الحضاري، هي كانت أكثر انفتاحا وتسامحا منا.

إن هذا الكم الهائل من المؤلفات التراثية التي تشي بحالة رفيعة من السمو الفكري هي التي أنتجت حضارة عربية وإسلامية سادت لقرون عدة، تلك العصور التي أنجبت ابن المقفع والتوحيدي، وإخوان الصفا، والمتنبي، والحلاج، وابن رشد ـ الذين عانوا في زمنهم ـ ومع ذلك يبقى فضاء الحرية لديهم أكثر اتساعا مما هو لدينا الآن، ولاسيما في ظل الأنظمة المتسلطة، وفي ظل التابو الديني والجنسي والسياسي، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن هؤلاء القوم لم يكونوا معنين كثيرا بتحقيق معايير الآخر، أو البحث عن شرعية منطقه ضمن فلسفة الآخر، بل كانوا ينطلقون من رؤاهم، فأينما يمموا في الفكر يلقون متاعهم، وبالتالي فإن التساؤل يبقى لدينا قائما، متى سننتهي من مواسم الهجرة إلى الغرب؟!

باحث وشاعر من الأردن
rabushehab@gmail.com