يتناول الناقد العراقي المرموق في هذا الحوار المهم مجموعة من القضايا الأساسية حول بنية الثقافة الشفاهية وتجذرها في الثقافة العربية، ومآل السرديات القديمة التي سبقت ظهور الإسلام في هذه الثقافة، وما على الباحث النهوض به لدراستها بشكل معمق.

الإسلام والسرديات القديمة والثقافة الشفهية

حوار مع الناقد العراقي عبدالله إبراهيم

أجراه: إياد الدليمي وأبوطالب شبوب

من مدينة «النار الأزلية» كما يسميها زميله القاص جليل القيسي، مدينة (كركوك) العراقية، جاء عبدالله إبراهيم، حاملا أكثر من وجهة نقدية وفكرية ساعياً إلى إعادة قراءة النصوص القديمة، ما كتبه العرب المسلمون وغيرهم من الحضارات الأخرى، متوسلا بالنص القديم للوصول إلى الحقائق، سالكا طريق التحليل وتفكيك تلك النصوص بعيدا عن أية وجهة نظر مسبقة قد تؤدي إلى وقوعه في شراك الانحياز، أو تقديم تلك النصوص بطريقة تفضل هذا على حساب ذاك. لم يقرأ عبدالله إبراهيم النصوص القديمة كما قرأها آخرون، ومن هنا جاء تميزه، لقد فهم النص فهما ربما لم يشاركه فيه إلا القلائل من المفكرين العرب، ورغم ذلك وقف حذرا، فهو يرفض، رغم كل ما أوتي من قوة حجة وفهم لتلك النصوص، أن يصدر عليها أية أحكام، فهو يعتقد أن مهمة الناقد والمفكر هي تقديم النص وتفكيكه وتحليله بعيدا عن الأحكام. عبدالله إبراهيم، فتح خزانة أفكاره لنا في حوار صريح، فكانت هذه الحصيلة: 

ـ من أفكاركم اللافتة القول بأن الإسلام تحوّل إلى معيار قيمة في الحكم على الموروث السردي القديم، فما وافقه استُبقي وما خالفه أُتلف.. هل تعتقد أننا خسرنا جزءا مهما من ذلك الموروث؟

* إذن نحن نبدأ بقضية مهمة جدا، قضية إشكالية، فحينما تصبح العقيدة الدينية دعامة للمؤسسة السياسية، فإنها تقوم باجتثاث الموروث الروحي والعقلي الذي سبقها، وهو أمر ينسحب على المؤسسات القائمة على الإيديولوجيات أيضا، ونجد له تجليات لا تحصى في العصور القديمة والحديثة. يوصف الماضي عند الأديان والأيديولوجيات كافة بأنه مرحلة «فوضى» فيما تكمن الحقيقة المطلقة في العقيدة أو الأيديولوجية الجديدة. وبظهور الإسلام على أنه مؤسسة دينية-سياسية فقد سعى لجبّ ما قبله من العقائد والأخلاقيات، وكانت المرويات السردية الجاهلية تمثل ما امتلكه العرب من عقائد وثقافات وأساطير، نقض الإسلام الحامل (المرويات السردية) والمحمول (العقائد القابعة فيها)، وبذلك اقترح وظيفة دينية للقصة، ونفى ما يتناقض معها.

ـ كيف وقع ذلك؟

* تلك حكاية طويلة ومريرة، فقد أدّى الانعطاف التاريخيّ، الذي مثله ظهور الإسلام، إلى إقصاء الجانب الأساس من المرويّات السرديّة الجاهليّة، لأنها استثمرت وقامت بتمثيل العقائد القديمة، أي أنها عبّرت عن البطانة الدينيّة للمجتمع الجاهليّ. أمّا الأجزاء التي وصلتنا، فمثّلت الجانب الذي أذعن لضغوط الدين، واستجاب له، فتكيّف معه بأن انطوى على مواقف اندرجت في خدمة الرسالة الدينيّة. وهذه العمليّة المزدوجة من الاستبعاد والاستحواذ عطّلت أمر البحث الموضوعيّ في أصول المرويّات الجاهليّة، وطبيعتها، بوصفها مرويّات كاملة الصياغة، ليس فيما يخصّ العصر الجاهليّ، بل في الثقافات الشفويّة كافّة، ولعل أكثر المداخل عمليّة وفائدة في فحص طبيعة المرويّات السرديّة الجاهليّة، أن يتّجه البحث إلى السمات الأسلوبيّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، للنثر القرآنيّ والنبويّ باعتبارهما صورة ممّا كان شائعًا من تعبير نثريّ آنذاك.. وأدّت تلك التحوّلات إلى انكسار شديد في زاوية الرؤية، إذ انتقل الموروث الثقافيّ من «وسط جاهليّ كثيف» إلى «وسط إسلاميّ شفاف». وكانت «درجة الانكسار» كبيرة بين الوسطين، الأمر الذي أدّى إلى إعادة إنتاج المأثورات القديمة أو إقصائها بما يوافق الوسط الجديد الذي اقتضت رؤيته للعالم بأن ينتخب ما يمتثل لتلك الرؤية، ويستبعد ما يؤثر سلبا فيها. طبعت التناقضات التاريخيّة ـ الدينيّة مظاهر التعبير السرديّ بطابعها المتحول، لأنه كان حاملا لمنظومة قيميّة مغايرة، فجاءت الرسالة الإسلاميّة لاستبعادها، أو امتصاصها، فأقصى الحامل كما أقصى المحمول.

ـ هل توافق الرأي القائل بأننا خسرنا جزءًا هائلا من الموروث الثقافي؟

* لكي نعرف ما استبعد ينبغي أن نعبر حاجزين صار من المتعذر علينا عبورهما من ناحية واقعية، هما القرآن الكريم، والتدوين. جاء القرآن على وفق التفسير الرسمي بديلا للفوضى السابقة، فحجز بيننا وبين معرفة حقيقة ما كان قبل ذلك، ثم بدأ عصر التدوين في ظل المؤسسة الدينية فاستبعد ما لا يتوافق وشروط الإمبراطورية الإسلامية. قام التدوين بعملية تنقية للموروث القديم، وصفّاه من العقائد والأديان. ومعلوم أن عقائد الأولين وصفت بأنها أساطير، وجاء القرآن على ذكر نُبذ منها في سياق الذمّ والانتقاص. تمركزت دلالة «أساطير الأوّلين» حيثما وردت في سياق الخطاب القرآنيّ، حول معنى محدّد، هو «أحاديث الأوّلين، وأخبارهم الكاذبة التي سطّروها، وليس لها حقيقة، وأباطيلهم، وأسمارهم التي كُتبت للإطراف والتسلية». حيثما ورد ذكر لأساطير الأوّلين ارتسم أفق الذمّ، إنها أباطيل ينبغي محوها، والتخلّص من ضررها، لأنها تذكّر بحقبة تاريخيّة انتهت.

ـ بكم تقدر الخسارة عمليا؟

* يقول الفضل الرقّاشي، وهو أشهر قُصّاص البصرة في القرن الهجري الثاني «ما تكلّمتْ به العرب من جيد المنثور أكثر ممّا تكلّمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عُشره». لا يؤكد الرقاشي قِدَم المرويّات السردية، فحسب، إنما يؤكد الحقيقة المرّة، وهي ضياع تسعة أعشارها، وبالمقابل جرى حفظ تسعة أعشار المرويّات الشعرية. تلاشت المرويّات السردية في الفضاء الشفويّ الواسع لأسباب منها حوامل لعقائد الجاهليّين الوثنية، ومنها قصور الوسائل الكتابيّة، ومنها سيادة التقاليد الشفويّة.

وإذا خُصّ الحديث بالمرويّات السرديّة الجاهليّة، فالأمر يزداد التباسا، بسبب التداخل اللانهائيّ بين النصّ القرآنيّ بوصفه نثرًا، وضروب النثر الأخرى التي عُرفت آنذاك من جهة، وبين الرسول بوصفه نبيًّا ومحدّثًا وخطيبًا وطائفة كبرى من المتنبئين والقُصّاص والخطباء، ويزداد ذلك التداخل اشتباكًا إذا أخذنا في الحسبان شيوع الروح الدينيّة والتنبؤيّة في الأدب النثريّ عمومًا في تلك الحقبة، كما يدلّ عليه القرآن، والحديث، والشذرات المتناثرة التي وصلت إلينا من النثر المنسوب إليها. يضاف إلى كلّ ذلك، استراتيجية الإقصاء والاستحواذ المزدوجة التي مارسها الخطاب الدينيّ تجاه مظاهر التعبير النثريّ المعاصرة له، أو تلك التي سبقته، ففي عصر شفويّ التراسل كالعصر الجاهليّ، تزداد احتمالات التداخل بين الخطابات الشفويّة، ويذوب بعضها في بعض، وتتمازج، وتمتثل لنسق ثقافيّ واحد، ويعاد إنتاجها في صور مختلفة طبقًا لمقتضيات الرواية الشفويّة، وحاجات التلقّي، وأيديولوجيا العصر الذي تظهر فيه المرويّات، أو تعاد فيه روايتها. ما وصل إلينا وتم تداوله هو ذلك الذي توافق تماما مع المؤسسة الوليدة، أو اختلق ليعطي للأصول الدينية مشروعية دينية، فإذا كانت الرواية الرسمية أن العصر السابق للإسلام قد امتلأ بالتنبؤات الداعمة لظهور الإسلامي، فقد اختلقت المرويات لتوافق هذه الرواية الرسمية للتاريخ. 

ـ لكن الدراسات التاريخية تقول إن أقدم النصوص المكتوبة تعود إلى قرنين فقط قبل الإسلام، كما أن هذه المنطقة لم تكن تتحدث أصلا بعربية قريش، فكيف نحمّل المرحلة الإسلامية وزر إعدام شيء غير موجود؟

* يصح هذا الكلام لو اعتبرنا أن النسق الكتابي هو الوحيد الذي يعطي المشروعية للسرد، لكن النسق الكتابي لم يبدأ إلا بعد قرون من ظهور الإسلام، فلا ينبغي اعتباره الشكل الضامن لمشروعية السرد. ما وصلنا تم تدوينه حسب شروط المؤسسة الجديدة. ينبغي الحذر من الظن بأن عدم وجود كتابة يعني عدم وجود موروث، ثمة موروث هائل اصطلح عليه القلقشندي «أوابد العرب» وهي مجموع عقائدهم وخيالاتهم وخرافاتهم التي جبّها الإسلام. لكل أمة أو جماعة عقائد ومتخيلات تمثلها سردياتها، وبها تصوغ هوياتها، وما تسرب من الإسرائيليات، والأخبار، وأيام العرب، فقد كبحها الإسلام بوصفه مؤسسة، ولكن أعيد إنتاجها بعد قرون ضمن شروط المؤسسة الجديدة، والمدونات التاريخية الكبرى التي تركها الطبري، والمسعودي، وابن الأثير، وكبريات مدونات التفسير التي خلفها ابن كثير، والطبرسي، تعوم فوق السرديات الإسرائيلية.

لم تطوّر الثقافات الشفويّة ظروفا تسهم في حماية نصوصها الأدبيّة، وهي لا تستطيع ذلك، لأن تلك النصوص رهينة التداول الشفويّ الذي يتعرّض لانزياحات، وإقصاءات كثيرة. وغالبا ما تُدمج النُبَذ المتبقية من نصوص متماثلة في الموضوع والأسلوب، فتظهر من تلك الأمشاج نصوص جديدة تسهل نسبتها إلى هذا أو ذاك، وتخضع لروح العصر الذي تُعرف فيه. ويظهر الراوي بوصفه وسيطا بين جملة من النصوص ومتلقّيها، والنصوص القديمة، بما فيها الدينيّة، تمنح الوسيط (النبيّ/ الراوي) مكانة مهمة، فهو يوصل بين قطبين: مصدر النصّ ـ وغالبًا ما يكون مجهولاً، وفي النصوص الدينيّة إلهيّا ـ ومتلقّيه، وهذا المتلقّي يكون جمهورا قبليّا، أو طائفة دينيّة، أو نخبة في مجلس، أو فردا مخصوصًا، فقوة التواصل الشفويّ بين الوسيط والمتلقّي هي التي أكسبت المرويّات السرديّة الجاهليّة دلالاتها، وأهميتها، ووظائفها، لأنها أدرجتها ضمن سياق تداوليّ شفويّ، فلا يمكن تثبيت صورة نهائيّة للمرويّات الشفويّة لكونها نهبا للألسن، وتتغيّر تبعًا للإسقاطات الخاصّة بالراوي وبيئته وعصره، والظروف المرافقة لروايته.

ـ كيف إذن يستقيم القول بأن المرويات السابقة جرى إعدامها بينما لدينا نص نبوي بخصوص الإسرائيليات يقول بعدم تصديقها ولا تكذيبها؟

* أنت تشير إلى حديث الرسول «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». وهو الحديث الذي اختلف الفقهاء والمحدثون حول قصد الرسول فيه. ويرجّح جواز رواية الإسرائيليات التي تعنى بأخبار الخلق، والجنة، والطوفان، والأنبياء، والرسل، وقد استفحل أمرها عند الثعلبي، والكسائي اللّذين خصّاها بكتب سمّيت بقصص الأنبياء، وكانت تطوّرت من أخبار قصيرة، منسوب معظمها إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وعبدالله بن سلاّم، إلى مرويّات مستفيضة حول بدء الخليقة، والنزول من الفردوس، وما جرى للأنبياء من مآسٍ في أقوامهم. جردت الإسرائيليات من محمولاتها، فأصبحت داعمة للمؤسسة الإسلامية، ومدشنة لها، وليس على أنها كيان مستقل يختص بعقيدة أخرى. 

ـ ولكن لدينا نصا نبويا واضحا بعدم مس الإسرائيليات؟

* لا يمكن استنباط حكم نهائي من الحديث المذكور، ولم يتفق القدماء على الإطلاق بشأنه، وأنا أرجّح الجانب الاعتباري فقط من روايته. ولكن لا ينبغي إغفال السياق التاريخي لظهور الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية. يرى ابن خلدون أن بني إسرائيل كانوا على عقيدة، ودخل بعضهم الإسلام، فتخلوا عن عقائدهم وتبنوا العقيدة الجديدة، لكنهم لم يتخلوا عن ذاكرتهم الجماعية التي اعتبرت رصيدا رمزيا لهم. ما وصل هو أخبار جرّدت من أبعادها الدلالية وغلّفت بمعانٍ ودلالات داعمة وممهدة للعقيدة الإسلامية. 

ـ لكننا نلاحظ أن ما كان متصلا بالجاهلية قد تم إعدامه، أما ثقافات أهل الكتاب فكانت النظرة الإسلامية إليها قائمة على الاحترام.

* يتصل ذلك فقط بمفهوم التوحيد في اليهودية، وعقائد الشرك في شبه الجزيرة العربية، ولم يتعاط الإسلام بالدرجة نفسها بين الاثنين. ففيما يخص التوحيد لم ينظر الإسلام نظرة عمياء إلى الماضي، ولكنه مارس عنفا مفرطا بحق مبدأ عبادة الأوثان، وأصرّ على اجتثاثه. فكرة التوحيد، التي مثلها أهل الكتاب، كانت موجودة في الديانات السابقة، ففي الديانة الموسوية كان الإله مجسدا، فإله اليهود «يهوه» تراءى للمؤمنين بالتوراة على أنه ملك عابس منحاز لبني إسرائيل، وبمجيء المسيحية ارتقى التوحيد درجة فأصبح الإله مزيجا من التجريد والتجسيد، فعيسى عاش و«قُتل» في فلسطين، لكن اللاهوت الكنسي بتأثير الفلسفة اليونانية، ومبدأ «اللوغوس» وضعه في مصاف الإله، فصار مزيجا من إله وإنسان في المعتقد المسيحي الرسمي، وبذلك ارتقى التوحيد درجة عن التشخيص القديم، وبمجيء الإسلام تم الوصول إلى التوحيد المطلق، حيث لا يمكن أن يجسد الله بصفات عيانية، أتمّ الإسلام فكرة التوحيد التي انبثقت في الأديان الطبيعية الأولى ثم ارتقت درجة مع اليهودية ثم المسيحية، وأخيرا الإسلام.. كل ما يتصل بأهل الكتاب يندرج في هذا السياق. 

ـ ألا ترى أن عدم تبنّي الإسلام للكتابة أدى إلى القضاء على الموروث القديم؟

* الرسالة الإسلامية في جوهرها رسالة شفوية، وكلام الله هو أكثر تجليات الشفاهية في التاريخ، كلام الله متن شفاهي أوحي به من قبل جبريل للنبي، وبالتدوين استقرّ في المصحف. إذن لعبت الكتابة دور الحافظ للكلام الشفوي، والفكرة ذاتها انتقلت للحديث النبوي. وأصبح الإسناد داعما لمشروعية المشافهة، فيؤكد على هيمنة النسق الشفوي في التعبير والتفكير. لا يمكن القول إن الإسلام جاء لنقض المكتوب، لأنه، الممثل الأكبر للحالة الشفوية.

أورد الأشعري تعريفا للكلام، بأنه «معنى قائم بالنفس» ولما كان القرآن كلام الله، فهو إذن معنى قائم بنفسه، و«الكتابة رسوم تدلّ عليه، وليس بموجود معها». نفي الكتابة عن القرآن، وتخريج مفهوم كلام الله استنادا إلى الفصل بين المعنى القديم الجاهز، والمبنى المُحدث المتلفّظ به، قضيّة جوهريّة عند الأصوليّين، فالكتابة، اصطلاح بشريّ محدث، والقرآن معنى قديم كامن في نفس الله، ولا يجوز إلحاقه بها، لأنها رسوم تحيل عليه، ما تؤدّيه الكتابة أنها تعمل على «تقييد الألفاظ بالرسوم الخطّيّة» لأنّ «مادتها الألفاظ». الكتابة تحيل على لفظ، وهذا اللفظ يحيل على ملفوظ هو المعنى الخالد في النفس الإلهيّة. وقع فصل حاسم بين الكتابة ومحمولها المعنويّ الخالد. انتزعت الشفاهيّة شرعيّتها الثقافيّة من الدين، فالترابط بين التراسل الشفويّ والممارسات الدينيّة ظهر في عصر الرسول. 

ـ إذا كان هذا الافتراض صحيحا، فكيف نتعامل مع الأحاديث التي تحثّ على القراءة وتعلّم الكتابة، بل إن هنالك تكليفات نبوية لبعض أصحابه بتعلم لغات معينة.. هل يتفق هذا كله مع قولكم إن الإسلام كرّس الشفوية؟

* إذا أردنا أن ننبش في الاستثناءات فسوف نحصل على أدلة تثبت دعاوى متناقضة في كل النصوص الدينية، أتكلم هنا عن نسق شفوي كلي مهيمن على بنية الثقافة، لا عن معرفة أفراد معدودين للكتابة والقراءة. ورد عن الرسول قوله «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، ومَن كتب عني غير القرآن فليمحه»، ولما استؤذن أن يدوَّن حديثه، قال مستنكراً «أكتابا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضلّ الأمم من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله»، وورد عنه قوله «إنما ضلّ من كان قبلكم بالكتابة». هذه باقة مختارة من الأحاديث التي تكاد تغصّ بها الكتب القديمة، صحيحة وموضوعة، وهي ترسم أفق انتقاص للكتابة التي بشيوعها ينتهك ما ينبغي صونه: وهو كتاب الله، حيث تحظر المنافسة. الكتابة تفضي إلى ظهور منافسة تحول دون التفرّد، فالأمم السابقة ضلّت لأنها كتبت. كتب البشر تسبب الضلالة لأنها توهم الناس بأنها نظير كتب السماء. ولتجنّب ذلك ينبغي وقف أية محاولة. لماذا ضلّت الأمم من قبل؟ لأنها خلطت بكتبها المنزّلة كتبها المؤلّفة. لا يسمح، في التجربة الإسلاميّة، بتكرار الخطأ مرّة أخرى. ينبغي التحذير الكامل من إمكانيّة الوقوع في ضلالة جديدة. هذا ما يمكن استخلاصه من تلك الأحاديث. وما لبث أن تكرّس موقف لاهوتيّ يقول بأميّة الرسول درءاً لتهمة الأخذ عن كتب السابقين من الرسل، فتقرر معنى الأميّة بجهل القراءة والكتابة، وجُرّد معناها من الدلالات الدينيّة التي كانت شائعة في عصر النبوة.  

ـ إذن كيف تكرّست الشفاهية؟

* تدرّجت بمرور الزمن، ابتداء من الكلام الإلهيّ الذي هو معنى في نفس الله، مرورا باللفظ الذي يحيل عليه، وصولا إلى تقييد ذلك اللفظ كتابة. وتزامن ذلك، ممارسة وجدلا، مع تسويغ أميّة الرسول، وذمّ الكتابة، وإعلاء شأن السمع والحفظ. هذه هي الصورة التي تكرست بها الشفاهية، وهي توضح أنها نفحت بقوة دينيّة، فمنحت سمة شبه مقدّسة، أصطلح عليها شخصيا «القداسة بالمجاورة».  

ـ لو كانت الأمية شرفا لتباهى بها الخلفاء الراشدون، وهم الأقرب إلى فكر النبي، لكن هؤلاء جميعا كانوا كتبة.. فهل أخطأوا جميعا شرف الاقتداء بالنبي؟

* أتكلم عن أمة لا عن أفراد، أنا معني بالأنساق الكبرى لتداول الأفكار، وضمن النسق الشفوي وقع تداول الإسلام، ولطالما رفض أن يدون القرآن على الجلود والصخور لأن مكانه القلوب المؤمنة الطاهرة، والألسنة التي تتداوله مشافهة، وظل هذا التقليد راسخا إلى عصور متأخرة، بما في ذلك الحديث النبوي. 

ـ أنت تتحدث عن استثناء في التاريخ الإسلامي، ذلك أن الأمية لم تكن شرفا إسلاميا بالمرة، فالدين الإسلامي يحثّ على القراءة والكتابة.

* لا تمكننا الشذرات المنتزعة من سياقاتها على تأكيد هذا القول إلا بوصفه دعوة للتعلم، لكن بنية العقيدة، وطريقة نزولها، وكيفية نشرها، وتداولها، وتدوينها أخيرا في مصحف باعتباره حافظا لكلام الله الشفوي، يظهر لنا الخلفية الشفوية للحدث الإسلامي بأجمعه. ليس من المفيد للثقافة الإسلامية اختزالها بقول أو قولين، فحينما نستعيد تلك التجربة الثقافية الكبيرة، وكيفية تبلور ملامحها، نجد أنها عامت كلها على نسق شفوي من التداول، ولا سبيل لإنكار ذلك، لا يصبح الشذوذ قاعدة، ولا ينبغي له. 

ـ هل هنالك ما هو أوضح من ابتداء القرآن الكريم بلفظ «اقرأ»؟

* دعني أوضح هذا الأمر بالتفصيل لأن اللّبس قائم فيه. لقد خرّج الغزاليّ أميّة الرسول على أنها عدم القدرة على قراءة الكتاب البشريّ، لمكنته من قراءة الكتاب الإلهيّ، لا مقارنة إذن بين الاثنتين، فالحقائق الخالدة لا توجد في كتب البشر الفانية، إنما في كتاب الله، وذلك كتاب يعرف الرسول وحده قراءته. أمر جبريل الرسولَ أن يقرأ في الآية الأولى من سورة «العلق» قائلاً «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، فاعتذر الرسول «ما أنا بقارئ». فَهِمَ المفسّرون ذلك بعدم قدرته على القراءة. وهذا معنى مباشر للكلمة لا ترجّحه سياقات ذلك العصر، فمراد جبريل هو أن تتولى التبشير بالقرآن، أي استخراج الوحي من القلب وقراءته بالصوت باسم الله، أي نيابة عن الله. ولدينا تأكيدات قرآنية على ذلك فقد وصف القرآن الرسولََ في سورة «الأعراف» بأنه «النبيّ الأميّ»، قال تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». لكن الآية الثانية من سورة «الجمعة» أوضحت القصد العامّ من ذلك الوصف، حينما دفعت به إلى منطقة دلاليّة لا يفهم منها معنى الجهل بالقراءة والكتابة. قال تعالى «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأميِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ».

لا يخفى الفرق بين أن يوصف نبيّ بأنه «أميّ» وأن يوصف قومه كافّة بـ «الأميّين»، فذلك من المحال، إنما الكلّ يفسر الجزء، فالوصف يحمل دلالة أخرى، إذ هو نعت لذلك النبيّ الذي بعث لغير بني إسرائيل، لأنه، وطبقا للمرويّات التوراتية، لم يظهر نبيّ من غير بني إسرائيل. معنى «أمي» و «أميين» و «أمم»، يشير، في التراث العبرانيّ، إلى كلّ الأمم ما خلا اليهود، فدلالة «الأميّ» في القرآن تحيل على نبيّ من العرب أرسل إلى قوم من غير اليهود، فلم يكن لا هو ولا قومه من بني إسرائيل، كما كان شائعا من قبل في تقاليد ظهور الأنبياء والرسل. ولا يرشح من كلّ ذلك معنى الجهل بالقراءة، كما شاع في الثقافة العربيّة ـ الإسلاميّة. 

ـ إذن، هل ثمة خلاف حول موضوع أمية الرسول؟

* ليس القصد هو نقض الفكرة اللاهوتية الشائعة حول أميّة الرسول، إنما تعديل النظرة إلى مفهوم «الأمية» الذي كان يحيل على معان غير المعاني الشائعة في العصور الحديثة، فالتطوّر الدلاليّ للألفاظ ترك خلفه سيرة شبه مجهولة من المعاني المطمورة، لكثير من الكلمات. ولم تعنَ العربيّة بمعجم دلاليّ يتتبع معاني الألفاظ، وتحولاتها، ويكشف المتروك منها، ويبيّن المهجور، فيُظن بأن المعنى الشائع هو المعنى الأصل منذ ظهور الكلمة. على أن الأميّة، بالمعنى الحاليّ، لم تكن مَنقصة في عصور المشافهة الأولى، بل كانت فخرًا، ومباهاة، فالنسق الشفويّ صاغ الثقافة صوغا شفويّا، ولا يعرف عن كثير من كبار شعراء الجاهليّة معرفتهم القراءة والكتابة، وهم وسواهم من الخطباء، والقُصّاص، سبكوا نسيج اللغة العربيّة، وأقاموا صرح فصاحتها، وكانوا ينهلون من ذخيرة الألفاظ في عصرهم، ويتداولون بها أفكارهم، ويعبّرون عن أنفسهم، فطوروا أساليبها، ودلالاتها، وظهر النبيّ في وسط هذا المحيط الشفويّ، فلا مَنقصة، بأيّ معنى من المعاني، ألاّ يكون قد عرف القراءة والكتابة، فلم تكن بعدُ قد رسخت أهميتها، ولا يصحّ إسقاط مفاهيمَ ثقافيّة تعود لمرحلة تاريخيّة لاحقة على مرحلة سابقة.