يتناول الناقد والروائي المغربي هنا مسألة مكانية الرواية وزمانيتها ودورها الأساسي في تجذير التجربة الإنسانية في جغرافياها من خلال تحليل عملين مهمين للروائي الفلسطيني المرموق يكشف عبرهما أهمية المكان ودور الرواية في تجذيره في الوعي الفردي والوطني معا.

عِشقُ الأرض بدُربَة السّرد ودرايته

في رواية رشاد أبو شاور الجديدة

أحمد المديني

لا رواية حقيقية، مقترنة بوعي ودراية فنية إلا انشدت إلى المكان انشداد المادة إلى الجاذبية، أو يتعذر دون ذلك تحقق الجنس الأدبي الذي همُّه أولا الاحتفال بمادة مكانية، والحصول من ثمّ على الخصائص والمؤهلات المرتبطة بهذا الانتساب. لا تكون الرواية تجريدا، أبدا، ولا مضمارا لتداول وتطريز الاستيهامات الموحية عن المجال الذي يحيا فيه الإنسان، توجد فيه الشخصيات وتتفاعل، بل وهي مجبولة من طينها، منبثقة من تربتها، هويتها تتحدد انتسابا ومعنى، وفعل حياة من صميم هذه العلاقة، أو هي لاغية أساسا. هذه أول محصلة تلزم قارئ القاص والروائي رشاد أبو شاور، وهو يتقلب فوق تراب نصوصه السردية، منتقلا من عمل إلى عمل، ومحمولا بين أجواء ومحيطات كبيرة وصغيرة، لكن مغروسا في فضاء واحد، وإن غير موحد، أي متعدد ومتنوع، هو الأرض الفلسطينية، سواء الممتدة في تلادة التاريخ، الشاهدة على وجدان أمة وحَمِيّة وطن، أم الثانية، المنهوشة، جزءا، فالمغتصبة كُلاًّ بعد ذلك، قد انفصل الرحم منها عن أولادها، فيما انتقلت لتسكن لحم وحنين من رحلوا وطردوا منها، قد ترمّلت، وتغربت، واستوحشت، واستشهدت مرات.

أحب أن أعود اليوم إلى هذه الثنائية لتذكرها واسترجاع أهميتها التي تبدو كأنها خفتت في الرواية العربية، في نصوصها الأخيرة، أو ما هو محسوب عليها، حيث بات يسود التجريد والتعميم، وتتقلص الملامح والعلامات، ويتضاءل الوصف أقل منه يضمر التشخيص حدا يصيب الرواية بفقر الدم، قد تحولت عند بضع هواةٍ إلى نصوص مائعة، أو مستنسخات فجة.

نعتقد أنه لا يكفي الانطلاق من عنوان أو بيئة للزعم بجعل السرد متعينا في المكان، بل لا بد له من أن يتماهى مع أفراده وشخصياته، وأن يكون هذا لذاك لحمة وسَدَا، وشرط حصوله بعد الدراية والمهارة، لا غنى عنهما، عزّ رصدهما في مائع النصوص تلك ومتكلفها، إحساس يتعشّق هذه البيئة، فتتمثل فيها التضاريس والبنيات والمعالم البرانية، هي عنوان وإنسان معا.

هذا ما يجعل الكتابة، هنا، أكبر، وأجدر من معالجة تيمة، أو نقل رؤية عن واقع بالصيغة السردية، تصبح بمثابة شهادة مفعمة بشغف الوجود يتغذى من إيمان عميق بالأرض، وبوَطن الإنسان، قائما ومفقودا، مرسوماً بالمعاينة في شقيها التفصيلي والاشتمالي، ومحدوساً بذات متأملة، مستقرئة، تتمتع بفرادة تجديد نظرة العين، وبالتالي تكثير منظورات الرؤية. ففي الرواية الصحيحة فنيا حيث ينبني المكان بجميع ما يشترك في صنعه المتكامل بين جغرافيا وتاريخ وحضارة وثقافة وأحداث، في قلبها فعل إنساني متواتر ومتموج، حيث يتخلق الكائن المتشرّب بدوره لعناصر التكوين هذه، إضافة إلى خصوصيته الذاتية عندما يسبغها على محيطه، في حالي التجانس والمفارقة، القرب والبعد، بالاستيطان وبالطرد، أيضا.

عنينا من هذا وذاك ما يوليه النقد الروائي القارئ من اعتبار لقوة حضور المكان، الأرضية الصلبة بدونها لا قيام لسرد فني، وهو شأن متأصل في الرواية العالمية، منها النموذج العربي وإلا فأنظروا معنا صنيع شيخها نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وخلفه عبد الرحمن منيف في ملحمته "مدن الملح" وجيل فيه عديد مواهب، بين مشرق ومغرب، يشغل منه رشاد أبو شاور موقعا مريحا ومتأصلا. نحب أن نزيد من هذه العناية بإعادة قراءة عملين لهذا الروائي، هما على تقدمهما الزمني نسبيا، يشفان عن إدراك ناضج بقدرة التزويج بين الوعي بالتفاعل الحي بين الإوالية الفضائية بوصفها محيطا شاملا، والإواليات الزمنية البشرية الواقعية والتخييلية، المتحركة ضمنه، المنتجة أخيرا للمتن السردي التخييلي. هذا الأخير الذي يتحرك بدوره في مدار أوسع منه، قد يعد للوهلة الأولى تيمة وطنية، أوَلا يتعلق الأمر بفلسطين، التي هي في كل كتابة بمثابة علامة أيقونية بمرجعياتها ودوالها، مبثوثة وقابلة للتوليد، لكن وضعها على صعيد التخييل ينقلها من واقعيتها المعطاة، تاريخيا وإيديولوجيا، إلى مستوى المحتمل، الخاضع لمبادئ التحويل والتذويت والاشتغال اللغوي الاستعاري، وهذه هي المعول عليها لا على أي مسبق مضموني أو شعارية ضاجة أو نفحة وجدانية، لإنتاج المعنى الروائي بواسطة الأدوات المخصوصة به.

فمن المتن الغني والمتنوع لأبي شاور، الحافل في الاتجاه الذي رسمنا، نختار للقراءة نصين ينسجمان في مقروئيتهما مع التأويل المستنتج منهما، ويسمحان بتوليد نظرة نقدية من منتوج أدبي صرف، نعني تحديدا "العشاق" (1977م دائرة الأعلام والثقافة م. ت. ف، نعتمد ط السادسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م) يليها "شبابيك زينب" (دارالآداب، 1994م) علما بأن روايات الكاتب، ومجاميعه القصصية الوفيرة، أيضا، غير المعتمدة، قلّ أن تنزاح في الغالب عن اشتغال منظوره، أداءاته الحكائية الفريدة والمتجددة من نص إلى آخر، تجدد العوالم بناء عالمه الروائي، حتى ولو ظهر أنها تتخذ تيمة واحدة، القضية الفلسطينية بمهيمناتها وأبعادها المختلفة، بين ماض وحاضر، وعلى امتدادها في صنع أفق المنفى المديد.

تعتمد رواية "العشاق" أول شيء على دعم مقولة الجغرافيا الروائية، حيث يستطيع نص مفرد، قابل للتناسل، أن يصنع خريطته الخاصة به، يستعير بكل تأكيد خطوطها العامة من الخريطة الحقيقية، ليحوّرها فتنتقل إلى درجات من التحويل في الصور، والتوليد في الدلالة حسب محافل السرد ومقامات الخطاب. فمقام العشق، مثلا، لا يُعلى عليه في الخطاب الشعري الصوفي، يتوسل إليه بلغة وبلاغة مخصوصتين، إلا أنه إذا استعير للرواية، واستبطن سيرة شخصياتها، ومضمار اشتغالها، تحول وتحدد بما يعطيه صورة الظاهر والباطن، الواقع (= في جغرافيته الطبيعية، الطوبوغرافية) وما فوقه أو محتمله، مهماز الروائية، (= في خريطة تتولى الشخصيات رسمها حسب هواها ومنازعها الذاتية، وإن بقيت محكومة، في النهاية، وكيفما بلغ هوس العشق وشططه، بالشروط الخارجية (= الموضوعية السابقة عليها) وهذا بحكم أن الجنس الأدبي الذي تندرج فيه هو خطاب ذو طبيعة موضوعية، أو بالمصطلح الحديث ملزم بالتقيد بشعرية السردية، التي تخضع فيها مراتب التمثيل والتعبير لقوانين مختلفة عن جنس النظم، مهما بلغت في الانزياح والاختراقات المابينية للأجناس. من هنا نجد رشاد أبو شاور وهو صانع الجغرافيا الملائمة لتحركات عشاقه حريصا على إقامة أكبر قدر من التوازن بين إقامة الموضوع (= القضية) وإقامة الذات (= أشجانها) ـ وهما لا ينفصلان بتاتا، وأي فصل منا هو لغاية إجرائية بحت ـ وهو توازن مفتر ض فقط ما دام مقترنا بجغرافيا روائية.

في "العشاق" تستهل الرواية بتقديم المكان، بوصفه الرُّكح الذي ستدور فوقه أحداثها والتعريف به من نواح مختلفة، وهو يأخذ عنوان "مدينة القمر" وصفا لمدينة "أريحا" الفلسطينية قبل أن تتعرض للاحتلال. اللافت أن هناك كاتبا ينضم إلى الروائي ـ هو ذاته ـ للقيام بالتعريف بالصيغ التاريخية، بدءا من الألف الثالث قبل الميلاد، وصولا إلى نكبة 1948م، ومنها إلى عشية حرب 1967م أو نكستها، حسب التسمية. بين هذه المراحل الثلاث نحن مع مدينة عاشت العز والصمود وتناوبت عليها الأهوال، وابتلى الدهر ساكنيها باختبار الغزاة والنفي والتشرد، كما بمغالبة الأيام وغش الوطن والاستسلام لمكر الأجنبي أو التعامل معه، في مواجهة إرادة صابرة، يقينية البطولة، بالروح الوطنية الاستشهادية التي ستواجه الغاصبين وحلفاءهم من المتربصين. لتختصر جزءا وكلا في كونها: "بوابة فلسطين، منها دخل الغزاة، ومنا خرجوا. أرضها ارتوت بالدم، وامتلأت بأجساد الرجال الشجعان. ونسوتها ما زلن يرتدين الأسود. إنها مدينة الأساطير، والواقع الشرس كشمسها". (ص 32).

وإذا كان هذا هو الإطار العام، فإن أرض الرواية هي الفضاء الذي يحيا فيه أبطالها، شخصيتها، بتعدد منازعهم وسلوكهم، وهم جميعهم عشاق، كل على طريقته، بمن فيهم عتاة المجرمين أحيانا، وهذا فهم ذكي للبطولة، ونبذ لمثالية ساذجة لا تتعامل إلا مع الطهراني، وإلا هل هناك وطنية خالصة، بل أجملها ما يدخل في صراع، ويتشابك مع عاطفة الحب، كما في مسارالفاعلين هنا، وتناقضات حياتهم وسِيَرهم الصعبة، المتراوحة أغلبها بين "مخيم النويعمة" و "مخيم عين السلطان" حول أريحا، والسجن الذي يمتحن فيه أبناء المخيمين، ويديره الأوصياء على قضيتهم. هؤلاء والظلال المحيطة بهم، كل الساكنة الفاعلة، باعتبار تمثيلاتها متباينة المضامين والرموز، وبالمحكيات الكبرى والدنيا الواصفة لحياتهم في كونهم بالدرجة الأولى أبناء مخيمات، وأصحاب قضية، وبشرٌ من لحم ودم يحب، يفرح ويتعس، وبينهم من يخون: محمود المدرس، المناضل والمولع بندى المدرسة في تعليمية المخيم، يقابله أخوه المتيم بعوده والغناء لفلسطين، وحسن المقاتل، شبه المتهور، ومناط حب الجارة زينب، والأمّان اللتان ربطتا مصيرهما بمن قضى من الأزواج، وبحب صوفي للأرض عبر رعاية الأولاد، وآحاد يوسعون دائرة التمثيل للعلاقة الوطنية والوجدانية مع وطن يتوهج في قلوبهم ويكبر كلما مرحوا في طرقاته، وسهروا في ضوء قمر أريحا، ضوئه، نضم إليهم عطوة الذي لم ينسه كونه شرطيا انتماؤه الأصيل لأبناء شعبه، ولا أبو صالح، الذي بدأ مستخفا بشأن قومه، لكن ضميره الوطني اهتز دفاعا عن عقيدته، غيره، حيث نتعرف على عينات من رجال ونساء أريحا، ونسمع أصواتهم ونعيش معهم كأننا فيهم، نتذوق ونشم، نفرح قليلا، ونأسى كثيرا، هم عشاق، عشاق لمعشوقة، طبعا، وهذا هو الرهان الفني والإيديولوجي للكاتب، قصده أن تبئير البطولة في الأرض، وجعلها بؤرة العشق، ثانيا، وثالثا، وليس أخيرا، توحيد بطولتها بسِير وعشق المولودين فوقها، في الحل والترحال، في الإقامة وبعد التشرد والنفي، وكذلك هي سيرة فلسطين مع تاريخها وأبنائها، منذ الكنعانيين وإلى اليوم، ترى ماذا بعد اليوم؟

في "شبابيك زينب" لا تكاد الرؤية تختلف إلا باختلاف حجم النص وتبديه البساطة حدا يحول الرواية إلى مقام المحكي العادي جدا، تحسبه قابعا في كل نفس، منبثقا منها، وليس صنعة فنان في قلمه نبع فياض للسرد، وهو ما سنراه لاحقا مفردا كخاصية لازمة لنص أبو شاور. هناك "أريحا" وهنا "نابلس"، شكيم (الكتف) تارة، لذا أكتاف النابلسيين عريضة، نيابولس (المدينة الجديدة) تارة أخرى، أو دمشق الصغيرة.(ص 8). المدينة كنعانية، عمرها المعروف 9000 سنة، وهي مدينة البركات، منها السامريون الذين يملكون في أسفارهم تاريخ الخليقة منذ بدء النشوء والتكوين(11)، مدينة العيون، ومدينة النار والياسمين والموسيقى والعود، وإذا كان هذا كله تمتد جذوره في التاريخ العريق، بما يسمح بالنظر إليه بعيون السحر والغرابة، لم لا أسطَرَتُه، فهو موضع مرتبط، شأن أريحا بأرض النبوات والمقدس، وفي الآن عينه هاكَه، كما يحرص المدخل الوصفي للعمل على تقديمه ضمن صورة الطبيعة،

وإن تلك التي تبقيها مجللة بسحر الغيب والنذور: "ارفع رأسك، فأنت في حضرة مدينة على جبلين يأخذان عينيك إلى الأعلى، تأخذ المدينة عينيك وتصعد بها بين الجبلين، عيبال وجرزيم (...) إن مدينة تلاتفع على جبلين، يرتفع واحدهما عيبال الشمالي 941 مترا. ويرتفع ثانيهما ـ جرزيم الجبل الجنوبي، المقدس عند السومريين ـ أصغر طائفة في العالم ـ 881، لابد ستبعث الرعشة في روحك، لأنك في حضرة جغرافيا وتاريخ وقداسة ومصائب كابدها النابلسيون عبر العصور". (ص 7). فماذا عن ناسها؟ إنهم ببساطة عنيدون، في هذه الصفة كل المعاني.

من بدء كل نص يفهمك أبو شاور أن المدينة الروائية، جغرافيتها الطبيعية والبشرية والدرامية، لا تنهض على فراغ، يفعل ذلك بتدخل المؤرخ الذي يستشهد بالمعلومة الموثقة، يعلنها مباشرة دون ارتياب أو تردد، لا يبالي هل سينعت نصه بالتاريخي، وإن بدا مشوبا به، ولا الدعاوي، وإن احتج فيه وهتف، أحيانا، بلا تبجح، أي كتابة عن فلسطين، عن مكان ولدت فيه القداسة منذ بدء الديانات السماوية، وتزوج التراجيديا حتى تماهى معها، فغدت له مرادفا لا يمكن إلا أن يمتح كل متعاط أدبيّ معه ضرورةً من ضرعه التاريخي، ويسبح في دمائه المسفوحة، من تم هي طريقة الأداة لا الهدف، والجغرافيا الروائية المركبة هي عمدته. وبدلا من نابلس، نحن في "مدينة برج الجوزاء"، ومما يشبه الأسطورة، تظل متشربة، نحن في شرقي المدينة في قرية بلاطة، وقرب المخيم الحامل للإسم نفسه والبشر القدامى، السّامريون، يرثهم رجال ونساء، ربما أشد صلابة وعنادا، أسماؤهم فدوى وزينب، عزالدين الأمين، الحاج فخري، صالح عكاوي، ناصر، الشاب مصطفى، الشيخ حسام وأم حسام، الحاجة راضية، وكل الأماكن والمواقع التي تتنقل فيها هذه الشخصيات، تفعل فعلها، وتتناوب على أدوار صنع الحدث والتأثير القادرين مع مؤثرات أخرى على تشكيل مدونة روائية متكاملة من كل ناحية، خاصة ما يقصد إليه كاتبها الذي ليس روائيا عاديا، وهو في الآن مناضل وصاحب شهادة.

نلتقي في "شبابيك زينب" مع الخطاطة والعلاقات ذاتها، القائمة في "عشاق"، وذلك في شكل أزواج ومتقابلات تمثل الشيء ونقيضه، لخلق الصراع والتبادل، وللإسهام على المستوى اللغوي والتعبيري للشخصيات في نسج تعددية منتجة، تكسر وحدة الإيقاع وفرضية النمط إلى جانب أي هيمنة ممكنة للسارد: أريحا/ نابلس، مخيم النويعمة/ مخيم بلاطة، محمود/ ندى، محمود/ زينب، أم حسن/ الحاجة راضية، حسن/ ناصر، الخال الإقطاعي/ الصحفي يوسف. تمثل كلها شخصيات تيمة المقاومة في مقابل أخرى ذاتية ورمزية صادمة، تمثل تيمة التقاعس أوالتذبذب أو العمالة العارية. تتضمن كلا التيمتين محمولا ثقافيا وإيديولوجيا هو مرجعيتهما بلا شك، غير أن الروائي يبحث لهما عن التشخيص الحي الذي يمنحانهما قوة التمثيل، بواسطته يعبر الخطاب، وإلا تهافت إلى هرج وشعارية وتبشيرية فجة يمكن لخطابات أخرى أن تتقاسمها، وتكون أجدر بوظيفتها. محذور يرافق دائما النصوص السردية المنافحة عن قضية، ويقترن عموما بما يسمى "رواية الأطروحة" تشغل التيمة فيها موقعا مركزيا. وبالنسبة لسرود اختصت وتختص بالحق الفلسطيني المغتصب، بل الأدب المرتبط بهذا الحق كله ـ وهو موضع نقاش وسجال طويلين ـ يصعب حقا كما في الأدب الملتزم عامة، فصل المقال بين مهمتي الفن والتوصيل، ولا الاتفاق نقديا على الإيقاع الضابط للتوازن بينهما.

حسبنا القول هنا، وفي حدود المتن المقروء، بأن لرشاد أبو شاور تنبّها للمحذور المشار إليه، خاصة لنمطية التمثيل في الشخصيات الروائية، سواء بين مشاعرها وبنيتها الاجتماعية، أو في طبيعة انخراطها بالسياق الموضوعي الذي يفرض عليها سلوكا بعينه، هي نمطية معايَنة، متواترة في النصين المعنيين، لا يفلت منها أي نص سردي ذي صلة بالمكون الفلسطيني كيفما تناغمت منازعه الفنية ومزاعمه، والفرق بين النماذج المؤسسة للمتن العام، ولكسر نمطياته ومستنسخاته المتراكمة، يوجد لدى الكاتب هنا تحديدا في:

1 ـ تحويل الأرض إلى شخصية مركزية هي أم الشخصيات، حاضنتها، مناط صراعها على امتداد الفعل والتحولات روائيا، ونحت ملامحها تاريخيا وأسطوريا، ووجدانيا، ثم وشم جلدها بكل حوادث الدهر، فهي ذاكرة وحياة وجرح بلغاتها الخاصة ضمن اللغة العامة، إن الأرض تتكلم هنا فلسطينيا بنبرتها واحتفاليتها، السرد الفني مؤهل أكثر من أي جنس غيره لتصعيده.

2 ـ تحويل هذا السرد، بالتبعية، إلى محفل واسع ومتنوع بالمشاهد والصور واللقطات، إذ يتم بواسطتها رسم الصورة البانورامية للمجتمع، وهي نمطية، أيضا، فاحتفاليتها، كما يرصدها أبو شاور وحده، تضفي عليها ميسم الخصوصية، وبالتالي تفردها وهي تؤسسها أولا بأول. لنتذكر أن باختين اعتبر، انطلاقا من وصف رابلي، وسانده في ذلك دارسون آخرون، بأن النزعة الاحتفالية، وليس الفولكلورية، كما قد يتوهم البعض، من أهم مقومات المحكي الحديث.

3 ـ ثالثا، وهو أبرز وأنجع أدوات روائي "عاشق"، اتخاذه لأسلوب سردي بالوسع القول اقتداره عليه وتميزه فيه دون أقرانه ومجايليه، وقلّ من يضاهيه فيه، نعني اعتماده ألوانا وتنويعات في الحكي، فيما تعلن عن دربة لدى صاحبها على إحكام السرد، تعلن تطويعه له وترويضه ليصبح الفضاء وأهله وطباعهم وأشجانهم وأشياء بيئتهم، هذا كله وسواه مرويا، مبسطا ومُبدّها، منبثقا من لسان الأرض الأم، على لسان أبنائها العاشقين لها، بسلاسة وطلاقة وتلقائية كالمجرى الذي يغتسل فيه ناس المخيم، والنكتة التي يصنعها الخلاليلة (أهل الخليل)عن أنفسهم، والأغنية الشعبية والمثل السائر، والظُّرف المحلي، والنادرة، مع عناصر أخرى لا تنتمي ضرورة إلى البنية السردية بقدر ما تنوب عن وظيفتها.

فإن نحن أضفنا إلى الخصائص الثلاث المذكورة ما أكدناه من كون الأرض تحوز قيمة مركزية في هذا العمل بوصفها تتجلى جغرافيا روائية ناهضة على جغرافيا طبيعية وتاريخية ووجدانية، منها تتغذى، وجدنا عندئذ أننا إزاء نصوص تتضاعف في شكل تركيب يحتاج في كل مرة أن يُستقرأ ويكتشف في شكل إعادة رسم ورصد بأدوات التلقي النقدية المختلفة، وهو ما لا يتأتى إلا مع التجارب الأدبية القمينة بالتسمية، تجربة أبو شاور الروائية في قلبها. هي بالإضافة إلى ما سبق تجربة تبين لمن يتواصلون مع العمل الأدبي بأنه وهو يقتضي باعه الفني اللازم يحتاج قبل ذلك إلى إيمان مخلص بقصديته وقضيته، وهنا تتلازم الصنعة مع القضية في تناغم حميم يذكرنا بأهمية الأدب في الدفاع عن حق الإنسان الدائم في كل ما يصون كينونته وكرامته، بينما يتهافت الكلام في أيامنا مسفا ويتساقط أصحابه سقوطا مريعا.  

كاتب وروائي من المغرب