يقدم الكاتب والقاص العراقي المرموق هنا قراءته الخصوصية لمجموعة قصصية عراقية عالجب صنوف القسوة والتعظيب والتنكيل بالإنسان في المجتمع العراقي، معتبرا قصصها السبع أناشيد هجائية سبعة لقسوة الإنسان وقدراته التدميرية والوحشية.

سبعة أناشيد تهجو قسوة الإنسان على أخيه

قراءة في مجموعة «كلاب الألهة» لنعيم شريف

سلام إبراهيم

يعمق القاص العراقي نعيم شريف في مجموعته القصصية الثانية (كلاب الألهة) الصادرة عن دار تكوين، دمشق 2008، تجربته الأدبية التي أبتدأها في مجموعته الأولى (عن العالم السفلي) الصادرة عام 2000، من خلال التركيز في نصوصها السبعة على ثيمة جوهرية تتعلق بمحنة الإنسان الوجودية وهو يواجه القتل والتجويع والتغييب في سجون الأنظمة القمعية، مركزاً على تفاصيل عذابه، باحثا، ومقلباً تلك المشاعر التي تنبثق لحظة السحق، حيث يشعر المسحوق بقدرية هرم الدولة الديكتاتورية المتجسد بالجلاد وهو يمارس سلطته على جسد السجين المستسلم لقدره، فكانت هذه الرؤيا الكاشفة التي مستني وذكرتني بهذا الإحساس الذي أمتلكني وأنا أسحق في دائرة أمن عراقية قبل ثلاثين عاما، إذ رأيت، كما رأت شخصية الجندي المعتقل بوحدة عسكرية في قصة «كلاب الألهة» في لحظة الضعف المطلق تلك، تحول الجلاد إلى رب قادر يتحكم في مصيري، فهاهو يذيقني صنوف العذاب وكأنني في يوم الحساب، وقادر على بعثي إلى العالم الأخر متى يشاء. لنقرأ هذا المقتطف الذي يلقي الضوء على ثيمة نصوص المجموعة الستة:

«كنتُ أحس أن كعب حذائه سيسحق عظام وجهي، ضاع صوتي تماماً، اردت أن أصرخ فقط.. وقال لي. لو أتى ربك اليوم لما خلصّك مني. وكنت أرى السماء بعيدة وأنا تحت حذائه.. وقال لي أن كل من يهرب من الحرب سنكسر رأسه.. وظننت أنه يقول أن كل من عليها فان، وبدا صوته لي ليس أرضياً وأنه قادم من سماء ليست زرقاء، بل سماء أسمنتية لها رب قادر فاتك كبير شامل ويرتدي الكاكي أيضاً وفي حزامه مسدس استيل براووننغ عيار 13، بشع الفوهة يؤدي إلى الجحيم، وأنه ينتعل حذاءً بنية صلبة القاعدة يطأ بها عباده الفانين الهاربين من ملكوته. وأن هذا الأله له ملمس مادي مرئي محسوس جداً، وأنه يتجسد في هيأة، نقيب أو عقيد أو جندي استخبارات وأنه يحي ويميت وأنه على كل شيء قدير» ص20.

تبحث نصوص الكتاب في هذه الثيمة المطلقة، مقلبة شأن الإنسان الذي يجد نفسه لا حول ولا قوة له مقادا إلى مسلخ الحرب والسجن، حيث يرى جهنم ملموسةً.

يفتتح النصوص بكلمة مستلة من العهد القديم/ مزمور 137 يقول:

«على أنهار بابل، جلسنا
هنالك..
وبكينا».

ممهدا لنص إفتتاحي صار تقليدا منذ أن قدم القاص المعروف ـ محمد خضير لمجموعته (في درجة 45 مئوي) منتصف سبعينات القرن الماضي. لتهيئة القارئ لأجواء الكتاب وعرض مكثف لرؤية وثقافة كاتب نصوصه.

والشهادة التي يقدمها هنا القاص ـ نعيم شريف ـ الموسومة ـ رؤيا يوحنا.. العالم وفق ضحاياه ـ أعتبرها نصا من أفضل نصوص الكتاب، إذ يفتتحه أيضا بمقتطف مكثف من رؤيا يوحنا التي تتنبأ بدمار بابل، ويجدر الإشارة هنا أن القاص من مواليد مدينة ـ بابل ـ العراقية. والمقتطف لم يدع إلى دمار حكام بابل بل إلى دمار المدينة وحضارتها. ليتسائل عن عمر هذه الرؤيا رابطا بين بابل القديمة والعراق المعاصر، فبابل هي لكش وأشور وكيش وبغداد والبصرة، حسب تعبير السارد. ومن هنا يتساءل عن مدى قدرة الكتابة على التعبير عن الإنحياز إلى جواهر المشاعر من ألم وحق وجمال!.

يستشهد لاحقا بنص المتصوف ـ النفري ـ الذي كانت رؤياه كشفاً وهذه الفرضية ستثبتها براهين نصوص المجموعة، من هنا ينتقل السرد تحت عنوان جانبي ـ خامة السرد ـ مصورا بوابة مستشفى زمن الحصار وبالضبط عام 1996 حيث الأمهات ينتظرن أستلام جثث أطفالهن الذين قضوا بسبب نقص الغذاء والدواء في سردٍ مؤثرٍ بضمير المخاطب، وكأنه يأخذ بيد القارئ نحو ذاك البراد، غائرا في حزن الأمهات والأجساد البريئة، ليعلق على المشهد الذي صوره مشيراً إلى قيام النظام الدكتاتوري السابق بتسيير جنازات جماعية للأطفال في ذلك الوقت مؤكدا أن الأدوية تسرق في فساد الأجهزة الحكومية الذي أستشرى ذلك الزمن، وهو نفسه ما سيذيق شخوص النصوص الويل وجهنم كما سنرى لاحقاً. وفي المقطع الختامي يعود إلى الحاضر حيث أحتل الأمريكان بلاد ما بين النهرين جالبين معهم القتل والدمار والأرهاب، فيصف مشهد تفجير دموي وسط سوق شعبي بمدينة بابل، ليخلص إلى أن العالم صار مقلوبا عاليه سافله، والضحية هو الإنسان الذي فقد حق الحياة في تلك البقعة الدامية منذ فجر التاريخ.

النص التمهيدي يسلمنا إلى ـ كلاب الألهة ـ أول النصوص الستة وأهمها، فالمادة التي أشتغل عليها الكاتب شائعة وكتبت عنها عشرات النصوص العراقية عما يجري في سجون الوحدات العسكرية العراقية زمن الحرب العراقية الإيرانية 1980 ـ 1988 لكن قاصنا يهبط بنا إلى عمق ذات الجندي الذي رفض الحرب فهرب من الجبهات وقبض عليه. والقصة يسردها علينا أحد الجنود مصورا حدثها الدرامي والمأساوي، من خلال تسليط الضوء على ذاته ولحظات ضعفه أمام سلط الجلاد الجبارة وعن صديقه الجندي الآخر الذي كان قاوم بصمت وشجاعة حتى الموت تحت الضرب منحازا لكرامته، في بلد تحولت فيه كلمة لا إلى حكمٍ بالإعدام.

يبدأ النص بايقاع ثقيل يمهد لثقل ودرامية الحدث:

ـ تاك
...
...
ـ تاك

قطرات الماء في مرحاض وحدة عسكرية، يحاول فيها الجندي المسجون أستجماع أخيلة عن تجربة جنسية له ليمارس العادة السرية، لكن يفشل وتموت الأخيلة والرغبة عندما يقرأ ما كُتِبَ على الباب الخشبية للتواليت من فشار على السجان وجنوده. يحاول مرة أخرى ويفشل أيضا تحت وطأة الواقع حينما يتماهى لهاث خياله وهو يحضن أميرة في لهاثه ورأسه يفركه الجلاد عند القبض عليه.

في المشهد التالي يدلنا السارد مقدار ضعفه الإنساني وهو ينهار حينما أرادوا إجلساه على فوهة قنينة زجاجية. فيهجم محاولاً تقبيل يد الضابط مرددا (دخيلك سيدي.. دخليك). اللازمة العراقية الشهيرة في لحظات الضعف القصوى. يجسد بالصفحات المتبقية للنص أقصى العنف وكأننا في يوم الحساب إذ سيكون الضرب والتعذيب مطلقا ليس لأنتزاع معلومات كما هو الحال في أول الأمر، سيصفوهم في دائرة تدور حول محورها، وينقسم الجلادون إلى قسم داخل الدائرة وأخر حول محيطها ويقومون بالضرب والضرب وسط صراخ وتوسل الجنود المساجين، ثم يرغمون واحدا واحدا على دخول الدائرة والعواء. الوحيد الذي يرفض أن يمشي على أربع والعواء هو صديق السارد فيضرب حتى الموت، يصور القاص نعيم شريف الحدث بسرد يمزج فيه الوصف بالمشاعر الداخيلة الدفينة للشاهد غير المحايد فهو صديقه، ليبلغ النص ذروات إنسانية متعددة، فالسرد الحزين مشوب بالشعور بالذنب كما فيه التمييز الحاد والدقيق بين صلابة اإنسان وضعفه، أولها تسائل السارد وهم يحملون جثة القتيل ملفوفا ببطانية

«وكنا نسير؛ كلابٌ أربعة تحمل جسد إنسان قتيل وقلت:

ـ لماذا لم ينبح مثلنا ليبقى حياً، لماذا لم ينبح؟» ص27

أو الذروة الأخفت نبرة والأعمق فهي عندما يعود السارد إلى غرفة السجن ويجد مكان صديقه فارغاً فيتلفلف ببطانيته وكأنه يحضنه، والقصة مكتوبة عام 2000 ومنشورة في مجلة المسلة اللندنية كانون الثاني 2001 أي قبل سنوات من ظهور حفلات التعذيب بعد إحتلال بغداد وعرض مثل هذه المشاهد في الفضائيات.

القصة الثانية «قيامة وليم» عن فتاة مسيحية عراقية ـ مرغريت ـ تحلم بقيامة حبيبها ـ وليم ـ الجندي العراقي الذي أعدم في حفلات الإعدام التي كانت تقام في الساحات العامة، مازجة بينه وبين قيامة المسيح.

نص «تلك البلاد» مفتوح البنية يمهد لدخول عالم الشخصية ـ رياض ـ المحورية في مقطعٍ فكري مكثف تأملات في الألم والقسوة قبل أن يدخل في ذكرى بعيدة عن ذهابه مع أخته ـ زينب ـ إلى حمام النساء فيرسم لغةً بعيني طفل إبن التاسعة تلك المشاعر والرؤية التي تتحول لاحقا إلى شيء يشبه الحلم لكنه ذكرى راسخة مبعث الخدر والشرود عند تقدم العمر وتعقد الحياة، ولغة القاص في هذه المشاهد تمكنت من رسم ما ذهبت إليه بالضبط في مقاطع مكتملة فنيا حيث تختفي اللغة ويبقى الأحساس والأمكنة والوجوه. يضع عنوانا جانبيا ـ زمن زينب ـ وفيه نطل على تفاصيل العلاقة الشفيفة بين رياض وأخته زينب التي تصاب بسرطان الثدي عام 1978 وتموت. ويبقى الحمام ونسائه في أخيلته، فلا يكف عن الحلم بدخوله المستحيل، مواضبا على الأنتظار قرب مدبغة سيد نور وسط مدينة ـ الديوانية ـ كل أربعاء خروج الأوزات من حمام النساء.

كل هذا النص هو تمهيد للثيمة التي يشتغل عليها القاص، الألم والقتل والقسوة، إذ ستكون هذه الذكريات العذبة فسحة الفرح الوحيدة لإبراهيم إذ ينقلنا السرد عبر رائحة السوق المكتظ ببائعي الباجة ورائحة الجلود المدبوغة إلى قاعة في معتقل ـ قصر النهاية ـ الشهير حيث حل ـ إبراهيم ـ معتقلا ليشهد مشهد من أبشع مشاهد التعذيب إذ يقوم ـ ناظم كزار ـ الجلاد المشهور أوائل السبعينيات بمحاولة كسر إرادة سجين يصمد رغم التعذيب، فيجيئون بطفله إبن العاشرة ويجلسونه على قنينة مكسرة الفوهة أمام أنظار أبيه:

«بينما تقدم رجلا أمن من الطفل ونضوا عنه دشداشته فبدا جسده، تحت ضوء الصالة، شاحباً ونحيلاً، كان يتنفّسُ بصعوبة وهو يبكي بذلك النغم المكسور الجارح ناظراً إلى الأب، المكبل، والأب كالمأخوذ، يكرر لازمته.. ناظم الطفل لا.. ستريد بس الطفل لا. كانوا قد نضوا عنه لباسه الداخلي، أمسك كل واحد منهما بقدم وذراع فبدا الطفل كما الجالس في الفضاء.. ثم بقِّوة أجلساه على القنينة المثلمة الحواف، كانت صرخة واحدة فقط، لم تكن أبدا صرخة طفل في العاشرة من عمره، كانت صرخة لحشدٍ لا يُعد، كما لو كانت لشعبٍ أُجلس بقوة على عنق زجاجة، لا شك أن بغداد كلها قد سمعتها» ص54

ينتشر النص المفتوح البنية على مساحة أوسع حينما يأخذنا في نهايتة إلى ـ رياض ـ فنكتشف أنه كان تلميذا لدى الرسام العراقي الشهير ـ فائق حسن ـ الذي يدعوه يوم أفتتاح معرض ـ رياض ـ الأول في قاعة الأورفلي، إلى رسم شيئ أخر في بلد لها وجود واقعي، ويتأمل السارد مصيره والبلاد الواقعية التي حلم بها معرجا على جداريته، ليجد نفسه في وادٍ وصرخة الطفل في قصر النهاية تدوى في نفسه أبدا، ليخلص إلى أن العراق الواقعي يقلب أحشاء مواطنه رأسا على عقب، كما في لوحة لمارك شاغال، ـ لوحة من تلك البلاد.

في «أكياس الخيش» يدور يقلب نفس ثيمة الكتاب القسوة والقتل تحت التعذيب، موثقاً لحدث إعدام خمسة عشر رجلاً من أبناء مدينة الديوانية في حزيران عام 1988 من خلال مداومة محامية على الذهاب الى نهر المدينة وأشعال خمس عشرة شمعه في نفس الموعد كل عام على أرواح المغدورين، متأملة عودة أخيها الذي لم يستلموا جثته، والحدث المركزي هو زيارة صديق اخيها ـ كامل مزهر ـ الذي كان معه في نفس السجن إذ يصطحبها هذه المرة إلى النهر ويدور حديثهما عن أخيها فيخبرها بالكيفية التي قضى فيها تحت التعذيب في ليلة من ليالي سجنه، زمن السرد هو زمن الأحتلال الأمريكي للعراق، والنص يتميز بسرٍدٍ ذي نبرة خافته، يركز على رموز صغيرة في أفعال الشخصيات كما فعل المغدور حينما أشتري كيسا مليئاً بالزرازير البرية وقام بأطلاقها فطارت في السماء وسط تصفيق من كان في السوق، أو لقطة معوق الحرب الذي يقترب منه لحظة الأطلاق معتذرا لعدم قدرته على التصفيق، وعن مقدم رجال الأمن وأبتزاز أمها مأمليها بأطلاق سراحه مقابل المال، لكنهم لم يفعلوا فماتت كمدا عقب شهر من التبليغ باعدامه، حتى إيقاع سرد واقعة القتل ينساب هنا متناسبا مع نبرة القصة الخافتة، أما الذروة الفنية فهي بهذا السرد الذي يرصد رد فعل الأخت على قصة موت أخيها:

«أسرع عبد الزهرة لُيبلغ عن موت السجين في الزنزانة رقم 4 عندما كانت تستمع إليه، أنتبه، إلى أنها كانت تشهق بقوةٍ، كما لو أن العالم فرغ، فجأةً من الهواء، ورآها تطلب النَفَس. احتضنها وصعدا الدرجات إلى الشارع» ص72.

في قصة «ليلة القدر» يقوم جندي بربيئة للجيش العراقي السابق بالتعري وقت صلاة الغروب وحرق نفسه أمام جنود الربيئة بعد أن يخبر الراوي بالكيفية التي قتل فيها آمر السرية أمراة كردية وأطفالها الثلاثة، وهي زوجة بيشمركة هارب بقنبلة يدوية أما أنظاره. أما النص الأخير «معرض العظام» فيتناول أيضا نفس الثيمة، إذ يعرض لحال امرأة وطفلها يبحثان في مقبرة جماعية أكتشفت قرب ـ بابل ـ أيضا عن عظام زوجها الذي أعتقلوه أمام انظارها في زمن النظام السابق دون أن يعرف هو أو هي لماذا أعتقل، ولم ينفع دعائها لعلي بن أبي طالب القائم على صورة معلقة في الجدار إذ لم يحضر لينقذ زوجها بل ظل ساكنا وهم يسحلونه بقسوة من باب الغرفة.

ستة نصوص برهنت على فرضية النص الأفتتاحي مشكلة نشيدا يهجو قسوة الإنسان على أخيه الأنسان في أزمان بلاد ما بين النهرين المضطربة منذ فجر التاريخ. 

كاتب وقاص عراقي يقيم بالدنمارك