تحاول هذه المناقشة امعان النظر فى سراب الانتخابات العامة والكارثة المحدقة بنا تحت الوية الديمقراطية مابعد الليبرالية واسلافها المتخاتلة جميعا وصولا إلى الدمقرطة Democratisation خاصة. وليست الديمراطية الغربية والدمقرطة شيئا واحدا. فلا علاقة للدمقرطة حتى بالديمقراطية التى لقّنا مزاياها التى تفتح لك ابواب الجنة، وإلا فجهنم التخلف، وعدم التحضر وبئس المصير. ذلك اننى ازعم ان الدمقرطة تنويع على، ونظير يتعالق مع، مفاهيم ممفصلة مثل مفهوم التمكين مثلا. فتميكن المرأة لا يستوي وحركة تحرير المرأة. وهذا موضوع اخر قد اكتب فيه قريبا. المهم أن كلا الدمقرطة والتمكين ـ لاحظ(ي) تفعيل الفعل. ان هذا مهم للغاية. ففعل التمكين مثلا هو بالانجليزيةEmpowerment أي مبنى للمجهول ـ يأتيان من الخارج ويستبقان الحركات الشعبية التاريخية ومشارفة الوعى الحقيقي للجماهير الشعبية بقوة جيوش قومية تحارب كلا من القومية وتجارب وتاريخ الشعوب.
والمهم فورا هو اننا لسنا ـ الواقع ان حكامنا ـ ليسوا براء مما يحيق بنا طبعا. فلا تتكشف عزلة معظم الاحزاب العربية الحاكمة، وحتى بعض زعامات أحزاب المعارضة المنظمة بقدر ما تتكشف عندما تضطر اي منهما أو كلاهما إلى مواجهة بعض ممثلي الجماهير المتعففين عن غواية السلطة. فليست المعارضات فى معظمها بأفضل حالا من الحكومات، وقد اصيب كلاهما بفيروس العزلة عن الشعب، وعن ممثلي الشعب الحقيقيين المترفعين عن الانتفاع بالسلطة بكل اشكالها الحكومية أو/و بسلطة بعض زعامة معظم الاحزاب المسماة جماهيرية. وقد اصاب معظم احزاب الحكومة والمعارضة اضطراب عظيم مثلما يصاب البط الداجن عندما تمر فوق سمائه اسراب البط البري على حد قول سانت اوكسبرى فى (أرض البشر) ازاء الشعوب وممثليها غير المنتفعين بانواع السلطة، وغير الساعين إلى السلطة والثروة ومزاياهما التى اصبحت لا متناهية. ذلك أن معظم الحكام واحزاب المعارضة باتت لا تعرف التعالم سوى مع القابلين على بيع انفسهم وارواحهم، لقاء ما بات معلنا على ؤءوس الاشهاد من شعارات تقاسم الثروة والسلطة، كلما امكن ولو على حواف الاخيرة، أو بأي ثمن كان، فقد تضورت المعارضات ـ كما الشعب ـ من كل شئ فيما خلا الهوان و/أو الموت جوعا. ولا تنى معظم تلك الكيانات ـ سواء رسمية أو حزبية، أحزاب السلطة أو أحزاب معارضة ـ تتعامل ـ بقدر لا يخفى من كل من الذعر والاستهانة معا ـ بالتراكمات العددية التى تنظر معظم الاحزاب الحاكمة ومعظم المعارضات المنظمة اليها والى من يمثلها من اؤلئك الافراد المعدودين على اصابع اليد الواحدة، وكأنهم جميعا زائدون عن الحاجة. ذلك ان تمثل تلك المجاميع المذكورة ومن يعبر عنها لا ينى يصيب معظم احزاب السلطة والمعارضة باضطراب عظيم مثل ما يصيب البط الداحن عندما يحلق فوق سمائه البط البري على حد قول سانت أوكسبرى. ذلك ان معظم احزاب السلطة وا حزاب المعارضة باتت لا تعرف سوى مقايضة خصومها وحلفائها على التهادن والتحالف بتقاسم السلطة والثروة، خصما على مفهوم إعادة توزيع السلطة والثروة.
كيف تروع الرأسمالية المالية من عاداها:
يدرك المجتمع الدولى ـ تدرك الرأسمالية المالية، تلك الكارهة للشعوب بدورها ـ أن الديمقراطية ما بعد الليبرالية أو الدمقرطة لا تزيد على تبرئة ذمتها وذمة الحكومات التى تبادلها الغزل أو/و تلك التي تروعها الرأسمالية المالية بغاية ترويضها. فالرأسمالية المالية تروع الحكومات قاطبة بمقايضة الأخيرة على اقتسام شرائح السلطة الصفووية، فتات السلطة والثروة، مقابل التواطؤ على شعوب تلك السلطة الصفووية. ولا يبقى مناص من أن تنكص الدولة فى المقياس المدرج إلى تنويع على ما هو اقل من الدولة الخراجية. الا ان الدولة الخراجية كانت تتشارك ورعاياها، اسلاف وقرابات، حتى لو كانت مفبركة، وتعبد وإياهم الهة مشتركة. وحيث كانت الدولة الخراجية وحلفاؤها تتمأسس فوق الخراج، والعشور، وحق الفأس، والدقنية، والنفير، والمساطحة، فقد باتت الدولة الخراجية الجديدة تتمأسس فوق رأسمال فائض انتاح النفط، أو ريع البترول أو/و المعونات الاجنبية المشبوهة تلك. ويصيب كمياء تلك المقاسمة المشبوهة المعارضات بدروها بما يشارف تصلب الاطراف أو شلل الاطفال. وأجادل ان المعارصة المنظمة ـ أي معظم الاحزاب السياسية فثمة معارضة لامنظمة حزبيا ـ لا تختلف عن معظم الاحزاب الحاكمة فى الزراية بالجماهير فى اسوأ الظروف. كما لا تختلف معظم أحزاب المعارضة المنظمة فى أحسن الظروف عن الاستهانة بمسئوليتها حيال الاعداد للانتخابات باكرا. بل يترك معظمها الامر حتى عشية التسجيل. فما لم تبادر الحركة الشعبية لتحرير السودان مثلا، بدعوة ممثلى معظم احزاب المعارضة فى بريطانيا، لتكوين وفد والدعوة لمقابلة أعضاء المفوضية الوطنية للانتخابات الرئاسية القادمة فى ابريل 2010 ـ بالسفارة السودانية ـ لما كان اللقاء ليتم ربما. هذا رغم ان التعبئة للمطالبة بحق الاقتراع للسودانيين فى الشتات كان قد مر عليها وقتها عام ونصف العام.
ويجلس الجميع لتبادل الاتهام بالتقصير، مما يمنح معظم الاحزاب الحاكمة ذريعة للمزايدة على معظم احزاب المعارضة واحراجها احيانا. وقياسا يتبادل الحزب الحاكم وبعض احزاب المعارضة "المنظمة" العتاب فيما بينهم فى افضل الشروط، وقد يتهم بعضهم بعضا بالتقصير، وقد يلجأ البعض إلى الابتزاز حول الحقوق الدستورية لمواطنين باتوا رعايا يزايد الجميع على استقطابهم للتصويت إلى جانبه في الانتخابات العامة. فلم تعد الانتخابات العامة تزيد فى كل مكان عن رياضة مراسيمية فى المقياس المدرج للاستعراضات الديجيتالية فى مراكز الاقتراع على شاشات التليفيزيون، واعلان نتائج معروفة سلفا على الطريقة الافغانية أو العراقية أو حتى الامريكية على عهد ولي الله بوش الابن الذى حدثه الرب، وامره باجتياح العراق مثلما تأمر المؤسسة العسكرية ـ ولا فرق بين الرب والاخيرة ـ باراك أوباما بصرف أكثر من مليار دولار، دون تفويض سوى من رب الارباب ـ الرأسمالية المالية ـ على تحرير افغانستان. فكلهم بات صفي وولي يسبح بحمد الرأسمالية المالية، وترس من تروس آلتها الجهنمية. وقياسا غالبا ما تغدو الانتخابات الرئاسية بهذا الوصف تحصيل حاصل.
الخيار بين الحياة والموت فى أروقة السفارة:
فى اجتماعات فريدة، بين معظم أحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية وبعض المسئولين فى سفارة جمهورية السودان بلندن، تبادل معظمنا اللوم، ولم يخلُ الامر من النقد الموضوعي فى جمل اعترضية بالطبع والتطبع. وكانت الانتخابات على الابواب، والسودان مواجه بما يشارف الخيار بين الموت والحياة، ان كان قد بقى له خيار. والعالم ـ الرأسمالية المالية: ولم يخرج العالم بعد من ازمة ملفقة، فيما بقيت الرأسمالية المالية ظافرة غانمة مع ذلك باموال هائلة لا يجرؤ احد بعد على النطق باسم من تعين على نهبها ـ هذا العالم يتربص بالسودان الدوائر. فقد كان العالم المذكور قد بيت النية باكرا على تقسيم السودان تحت شعارات ألاقة اخذب بألباب الديمقراطيين والاستبداديين جميعا. اذ كيف يجلس رعاع لا يشبهون البشر، ولا يملكون من امرهم شيئا، الا بقدر ما يلملمون أسمالهم ليقفوا فى طوابير امام خيام جماعات العون الغذائي، وقد باتت منظمات الاخيرة بمثابة دول داخل الدول، كيف يجلس انصاف البشر هؤلاء فوق ثروات هائلة كمثل ثروات السودان المعدنية والنفطية، ومياهه وارضه وسمائه وشطوطه ورماله؟ ذلك ان جلوس هؤلاء القوم فوق تلك الثروات ما هو الا تجديف بحق الحضارة الانسانية، كما كان بيير دى لا بيريه المعتمد الفرنسى قد رآى 1922 فى بقاء أهالى جزيرة مدغشقر وراء نبات التين الشوكى الكثيف ـ حرمانا للمستوطنين الاوربيين الغربيين من الاستيلاء على اراضي وقطعان الاهالي، وجباية الضرائب بوصفه تجديفا بحق الانسانية البيضاء طبعا.
إن المجتمع الدولي وهو ليس دوليا إلا بقدر ما تتواطأ بضعة دول، ربّاطة نهابة قرصانة على نهب غيرها، إن هذا المجتمع يجأر داخل قميصه حتى لا يسمع الرعاع بان هى «جريمة بحق الانسانية» البيضاء النقية الفاشية بالنتيجة. أن تجلس محض حفنة من أنصاف البشر، فوق اكثر من مليون ميل مربع، تعمر باطنها مليارات الامتار المكعبة من الماء، وتحفل بالمعادن الاستراتيجية والنفيسة التى قيضها الرب اصلا وبداءة نصيبا وقسمة بائنة Manifest Destiny للاقوام النقية البيضاء أو المبيضة؟ وحتى يقيض نهب تلك الثرواة ينبغى أن تغدو الارض التى يجلس فوقها انصاف البشر أرضا بلا سكان ولا صاحب. فتلك الارض فى المفهوم الغربى المسيحي الصهيوني ارض بلا صاحب. ولكم فيما يحدث فى فلسطين والعراق وبخاصة فى هايتى اليوم نماذج على ماهو آت للعرب، والمسلمين، والافارقة فى كل مكان. فقد نصح موشى ديان الامريكان بابادة الفيتكوج عن بكرة ابيهم عندما اشتكى له الجنرال الامريكى فى الفيتنام من عجزه عن هزيمة الفيتناميين. حينئذ قال له ديان افعلوا معهم ما نفعله نحن مع الفسطينين، وصولا إلى ابادتهم أو تهجريهم أو تسفيرهم. المهم اقصائهم خارج البلاد حتى لا يبقى مع مر الاجيال لقضية تسمى فلسطين أثر. فـ«نحن نشن حرب إبادة حتى لا يبقى فى فلسطين فلسطينى واحد، فتصبح عندئد ارتز ـ اسرائيل، أي أرض اسرائيل الموعودة بكل معنى الكلمة[i]. هذا ولا يغفر الغرب المراكمة الرأسمالية المالية النهابة ـ حركة المال من الشمال إلى الجنوب لأول مرة فى شكل ريع وعائد وفائض رأس مال البترول، بوصف أن ذلك شذوذ، بل هو تجديف بحق رب الرأسمالية وأعراب الشتات. اذ لا يستوي وما كانت الامور قد بقيت تسير عليه منذ سقوط غرناطة على الاقل. ويجأر هنرئ كيسنجر وزير الخارجية الامريكى الاسبق «ان حركة المال من الشمال إلى الجنوب هى خطأ، يتمثل لاول مرة وينبغى العمل على تصحيحه».
كيف باتت الشعوب موضوعا للمساومة؟
يلاحظ الناس فى كل مكان كيف بقيت الشعوب وما برحت فيما خلا كرايتها ـ بمعنى استئجارها من الباطن، من أجل تظاهرة تكرس جماهرية حاكم أو مرشح فى انتخابات ـ تؤلف تراكمات عددية لا وجوه لها من العامة الدهماء الغوغاء. وكان يوليوس قيصر ربما أول من قام بكراية جمهرة من عامة الرومان برشوتهم ـ حتى يتظاهروا أمام برلمان روما حتى يكبر كومه ـ فى مواجهة الشيوخ. وقد تآمر الاخيرون عليه، توطئة للانقلاب عليه فاغتياله، يوم 15 مارس سنة 37 ميلادية. وتنظر الطبقات الحاكمة وشرائح السلطة والنخب على مر التاريخ إلى الشعوب بوصفها "آخر" Other فقد غدت الشعوب خصوما، وحريا بها من ثم بأن توصم بالدهمائية بل بالشر. فهي تراكمات عددية لمن لا وجوه لها، مما يجعلها قابلة للاستغناء عنها كونها زائدة عن الحاجة، واقل من عديمة الفائدة، إلا بقدر ما يتم التقايض بها أو/و عليها مقابل مساومات لحساب أمراء وتجار واحبارهم، واسباط وقضاة "طبقة الحكام". فقد غدونا مثلما تنبأ لنا نزار قباني فى مهرجان إربد عام 1985
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق وموتى دونما كفن
نحن بغايا العصر
كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن
يلاحظ الناس فى كل مكان ان معظم شعوب الارض باتت فى المقياس المدرج مستهدفة لان تغدو اضاح بشرية على مذابح احتفاظ الحكام بسلطتهم وثروتهم. وغدت السلطة تورّث فى الديمقراطيات والدكتاتوريات على السواء، وكذا فى بعض معظم احزاب المعارضة. ويفعل ذلك معظم حكامنا فى كل مكان، بصورة غير مسبوقة بتواطؤ اعراب الشتات واثرياء الاولجاركيات العولمية. ورغم أن بعض حكام هذا الزمان قد استعار تلك العاطفة نحو شعوبه قياسا على بعض حكام المسلمين والعرب التاريخيين، ممن كان قد وقع تحت هيمنة اعراب الشتات فاغواهم، بتحقيق مصالح اعرا ب الشتات خصما At the expense of على شعوب المسلمين والعرب. ومع ذلك ورغم وقوع بعض حكامنا القدامى تحت براثن تنويعات من اسلاف المحافظين الجدد ـ فقد كان بعضهم رحيما بشعوب العرب والمسلمين. فحتى المأمون الذى انحاز إلى المعتزلة، وكانت معظم جماعات الاخيرين منذ عبد الله ابن سبأ تنويع باكر على الثورات الشعبية المشبوهة، أو الاحرى المضادة، التى تعينت عليها باكرا الاوليجاركيات وصولا إلى العولمية الماثلة ـ خصما على خاصة وعامة الناس فى كل مكان عبورا بشعوب الخلافات الاسلامية المشرقية. ومع ذلك فقد وجد المأمون فى قلبه تذكر الرعية ـ وقد شارف الموت ـ فاوصى المعتصم بان «لا تغفل الرعية، الرعية، الرعية العوام، العوام! فان الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة، لهم الله، الله فيهم وفى غيرهم من المسلمين. ولا يتعين لك أمر فيه صلاح المسلمين، ومنفعه لهم الا قدمته وآثرته على غيره من هواك. خذ من اقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم فى شئ، وانصف بعضهم من بعض بالحق وقربهم ... واعمل فى ذلك مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه»[ii]. وكان عمر ابن الخطاب يأخذ الولاة بالحزم والشدة «حين يبلغه عنهم شئ من اعمال الظلم للسكان. حتى كان يبادر إلى عزل بعضهم ومصادرة الاموال والممتلكات التى يكون هذا الوالى أو ذاك قد انتزعها من اصحابها ظلما، واستاثر بها»[iii]. فلا غرو ان لقب ب «عمر العادل».
الا ان مغبة عصف الحكام بالعباد، وتعسف ولاتهم فى استلاب الخراج، وفرض الضرائب، والافتئات على ما ملك الناس حلالا، فاقمت تشوه الخلافة الاموية، كما ورثت معظم الخلافات العباسية الاسراتية عن الاموين بعضا من سمات حكمهم. وقياسا فما كان الامويون ليرثوا من الخلافات الراشدية قسمات استبداد أو عدم اكتراث بالعباد الخ، لولا ان السبئيين اخترقوا الخلافة الراشدية باكرا، بالالحاح على الخروج إلى التوسعات مجددا، بعد ان انقضى زمان الفتوحات الكبرى ـ تطلبا للغنائم والفئ. ولم ينفكوا ان راحو يدبرون للقضاء على آخر الخلفاء الراشدين غيلة، وقد استعصت خلافة عثمان على اواخر ايامها على غواية التوسع.
ومع ذلك يقول بعض المؤرخين إن «حكم الراشدين كان سابق لزمنه بشكل عجيب، وقد كان فريدا فى العصر بمفهومه. اذ كان ذلك العصر هو عصر المأمون، وكان «عصر الحكم الفريد فى العالم». فهو حكم شورى بوصفه حكم المسأواة والعدل. ويقول اخرون «إن شكل الاقتصاد فى حكم الراشدين عجيب فى ذلك العصر. فهو اقتصاد مبنى على توزيع مال الامة على افرادها جميعا، سواء منهم المقاتل فى جبهات القتال، أو المقيم الذى لا يستطيع القتال. ولم يكن ذلك الاقتصاد مألوفا آنذاك»[iv]. إلا ان هذه السردية كثيرا ما تدحض مرة من قبل انصار عثمان والامويين، ومرة من قبل خصومهم. ولعل هذه السردية تحتاج إعادة قراءة فى سياق الاحداث التى تعاصرت، وحروب عثمان والبدو والقبائل العاصية ومعظم الاحزاب. وكانت الاخيرة قد بدأت تنتشر سريا زيادة على حروب بيزنطة، وحروب العباسيين والخزر، على مر 100 عام وغير ذلك مما تمثل فى زمان الشدة والفتوحات.
كيف يوصى الاسلام بالرعية ويستباح بيت مال المسلمين؟
كانت خلافة الامويين من عثمان فمعاوية (688-661) قد باتت مع ذلك وبايعاز من الحكم بن العاصي، وزير عثمان الاول والاكبر والمتحكم، وكان عثمان قد بلغ من العمر عتيا ـ وكأنها ضيعة اموية[v]. وقد جعلت خلافة معاوية ابن ابى سفيان ـ وقد ولاه عثمان ابن عفان على الشام ـ الدولة، وخلفه مروان، اداة لانتاج الثروة والسلطة واعادة انتاجهما. وقد قال الصحابة والمؤرخون فى حكم ابن العاص الكثير، وما قالوا مما جأر به ابو ذر الغفاري فيهم من «انهم اذا بلغوا ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا»[vi] وقد واجه ابو ذر الخليفة ـ لما باتت السلطة والثروة حكرا على الخليفة واهله واقاربه ـ مدافعا عن حق العامة فى مالهم؛ وهو يسأل عن اسراف الخليفة جراء كون الخليفة قد اعتقد انه ممثل الله تعالى ووريثه تعالى فى المال العام، فكان الجواب هو «ان المال مال الله، وان االخليفة خليفة الله، فما يأخذه الخيلفة هو له وما يتركه للناس ففضل منه». و فى رواية آخرى قيل ان ابن السبأ انتقد تسمية بيت المال ببت مال الله، قائلا لابى ذر «أرأيت كيف ان الخليفة سمى بيت مال المسلمين بيت مال الله، ليأخذ منه كما يشاء فلا يعطى المسلمين حقهم؟ فكلم ابو ذر الخليفة فقال له الاخير «رحمك الله يا ابا ذر ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والامر امره؟!»
وقد اكسب نقد ابي ذر للخليفة عداءهم له، مثلما يحدث اليوم لمن يسدي النصح للسلطة من باب انصر اخاك ظالما أو مظلوما. فقد شجع الامويون على افساد السلطة تزلف المتزلمين بلا احتشام. وكان أبو ذر قد ترك المدينة جراء خلافاته مع الخليفة، واخذ بالتنسك والزهد،[vii] وقياسا باتت الدولة بهذا الوصف تتصرف فى اموال المسلمين،[viii] وكأنها ملك خاص للامويين.[ix] أما بتحريض اعراب الشتات او/و تقاسم الاخيرين السلطة والثروة، ومواجهة هؤلاء للحكام والشعب مجتمعين. وقياسا لم ينفك معظم حكام العرب والمسلمين ان راحوا من بعد يقايضون على مناصبهم ومكاناتهم ووراثتهم مع تنويعات اسلاف اعراب الشتات، من سادة الكون العولميين، مقابل العصف بشعوبهم. فقد كان الخليفة يتصرف فى مال المسلمين يأخذ منه ما يشاء، وينفق منه لشراء النصراء والمحاسيب وقمع المعارضين، ويتفضل بما يشاء على الرعية. وكانت الدولة الاسلامية على درجة عظيمة من الثراء، جراء الخراج والاتاوات، زيادة على الفئ والغنائم على زمان الفتوحات. ذلك انه بات للخلاقة من الخراج والمال ما دفع الخلفية يوما ان يقول لسحابة مارة «امطري حيث شئت فان خراجك لي».
كيف تحورت السلطة إلى أداة مراكمة عولمية خصما علي الشعوب فى كل مكان؟
يتعالق مفهوم الدولة الخراجية بالوصف اعلاه والارض التى بلا صاحب. فالحيازة جماعية وليس ثمة سبيل إلى مثول مفهوم المكية الخاصة ـ على الطريقة الغربية ـ مع الحيازة. فالحيازة ملكية جماعية فى المحصلة النهائية، بوكالة الدولة الخراجية. ومع تحور Mutated الدولة المذكورة إلى أداه مراكمة للثروة والسلطة ـ و كل منهما يتعالق؛ والاحرى يصبان في بعضهما ـ لم يعد ثمة سبيل إلى سلطة لا تسعى إلى المراكمة بكل من الخراج بتنويعاته اللامنتاهية، من حق الشهيد، وحق الذبيج، وحق كل من لاحق له، زيادة على بيع المال كسلعة. ذلك انه حيث باتت الدولة رهينة للرساميل عابرة القارات، فقد راحت الدولة بدورها ترتهن ما عداها. وقياسا عصف بالطبقات الوسيطة التى كنا نعرفها فى كل مكان فقد ازرت بها الرأسمالية ما بعد الصناعية المالية، فتحورت تلك الطبقات إلى ما يشارف خيال المآتة، فلم تعد تزد فى كل مكان فى المقياس المدرج عن طبقات ثرثارة Chattering Classes وإجرائية Operational classes وكل شئ الا طبقة فى حد ذاتها Anything but a class-in-itself.
وقياسا لم يبق بعد من يمكن رشوته بين تلك الطبقات، ولا من بين غيرها من التراكمات العددية، التى لا وجوه لها من الدهماء. ذلك انه ليس واردا حسب وضع الاشياء التاريخية الجدلية ان يرشى الدهماء ـ العامة، مثلما كانت روما ترشو عامة الرومان خصما على العبيد والنساء. ذلك ان رشوة العامة ـ الشعوب ـ ليست سوى مصادرة على مطلوب تكريس السلطة والثروة فى ايد اقل فاقل، وعلى استلاب الفائض. وقياسا فيما راح تداول السلطة يتحول إلى صراع حول المراكمة المالية اكثر من أي شئ اخر، لم تلبث معظم احزاب المعارضة المنظمة Organised opposition مقارنة مع ما يسمى المعارضة غير منظمة أي الجماهيرية/ الدهمائية/التى تنذر ـ حسب قول خصوم الجماهير ـ بالفوضى غير الخلاقة بالطبع، والحروب الاهلية، مما جأر به اليونان منذرين الحكام والفلاسفة والاقوام النبيلة ـ وقد تستر الفكر الغربى على ذلك ـ لم تلبث معظم احزاب المعارضة المنظمة أن وطد نفسه على قبول احتمال الا يقيض له تداول السلطة، فراحت الاخيرة تحث الخطى نحو تقاسم الثروة بأي صورة، والسلطة كلما أمكن.
وسوف نرى تباعا كيف ان المعارضة المنظمة وهى تنويع على تمثل ما يسمى بالديمقراطية، سواء ليبرالية أو دمقرطة، ليست سوى آليات مساومات بين الحكام والطبقات الوسيطة، بين الحكام والمحكومين وتنويعاتهم، يتواطأ معظمها على خذلان الحكوميين باستباق كل بادرة من شأنها ان تقيض تعين المحكومين على مشارفة الوعى الحقيقي. فالتفكير فى امرهم وتنظيم انفسهم في مواجهة الحكام وحلفائهم المعلنين والمتستر عليهم، على مر التاريخ غير المكتوب والمسكوت عنه. وقياسا فقد راحت المعارضات المنظمة تنادي بتقاسم الثروة ـ وقد قنعت المعارضات المذكورة بهذا الوصف فى الواقع من الغنيمة بتقاسم الثروة. وتدرك الحكومات القائمة ذلك فتتعين على رشوة بعض المعارضات. ولم يبق فارق بين الاولى والأخيرة من حيث ان برامج معظم الذين يطرحون انفسهم لاعتلاء سلطة، لا يخرج عن استدعاء النموذج الامريكي للتنمية، من اقتصاد السوق، والخصخصة، وبيع القطاع العام فى المزاد العلني، خصما على اعادة الانتاج، وانتاج الكفاف والمتاجرة فى ارض الله، التى تدعى الدولة مليكتها باسم الله، خصما على من بقوا يملكونها على الشيوع، على مر الاف السنين. ذلك ان أعراب الشتات، وصندوق النقد الدولي، وامثاله حرضوا الدولة بل أغووها بمزيد من الثراء والفساد على تكريس مفهوم جديد، على معظم المجتمعات السابقة على الرأسمالية، هو مفهوم الارض التى بلا صاحب. فكل ما هو مملوك على المشاع لا يرقى إلى الملكية، كونه ليس مليكة خاصة بالمفهوم الرأسمالي الربوى. وقد راحت مجاميع لا حصر لها تستلب من الملكية الجماعية، والملكية على الشيوع والمساطحة والمخاصصة ونظام الخماسيين.
لا يعنى هذا الاتفاق المشبوه غير المعلن بين معظم الانظمة القائمة ومعظم المعارضات سوى انه لم يعد ثمة فرق ـ ولعله لم يكن ثمة فرق الا فى الرياضة الاكاديمية التى قد تقلصف Mystify القول بين الدولة والحكومة وبين الاخيرة من يطلق عليهم المستثمرين، وليسوا سوى المخربين. فالاستحواذ يملك إطلاق مفردات ألقة على النهب والسرقة، فيسمى الاستيطان وسلب الجماعات اوطانها استعمار، ويعود الاستحواذ فيسمى الاستيلاء على اخصب الاراضى التى كانت مصدر رزق وحياة غير العربيين استثمارا. وحيث لم يعد ثمة فرق بين الدولة ومعظم الاحزاب الحاكمة غالبا وبين غالبية الاحزاب الحاكمة ومعظم أحزاب المعارضة المنظمة اصيبت المجتمعات بتفاقم الاصابة بفيروس التعالق بين الدولة ومعظم الاحزاب الحاكمة. نسيت الدولة مسئوليتها تجاه من تدعى تمثيلهم. وتنسى معظم الاحزاب الحاكمة، حتى تلك التى كانت قد جاءت إلى السلطة باسم الديمقراطية المزعومة، تمثيلا للشعوب ونيابة عنهم وباصواتهم انها جائت هكذا. فقد كان ذلك التعالق قد تعولم Universalised منذ القرن السادس عشر وتباعا. هذا فان كانت معظم الاحزاب الحاكمة منتخبة ـ تكاذبا طبعا على طريقة حامد كارزاي وجورج ووكر بوش ـ ولم تعد ثمة انتخابات نزيهة أو منصفة للشعوب فى أي مكان، حتى امريكا التى تصدر الدمقرطة من فوق الدبابة ابراهام 8 ـ فان الدولة ـ معظم الاحزاب الحاكمة باتت بهذا الوصف مرتهنة باقتصاد السوق. ويتحور معظم تلك الكيانات التى تشوه معظمها، إن لم يكن جلها، ولم يعد يشبه نفسه ـ إلى سمسار في عمليات المراكمة بالمال وبيع المال كسلعة، ومن ثم إلى مشاريع رأسمالية بغض النظر عن اي عباءة ايديولوجية، قد تتلفع بها تلك الدولة الحكومة ـ النظام ـ تلك الكيانات التى بات معظمها معدلا جينيا.
وتتعين الرأسمالية ما بعد الصناعية/ المالية/ العولمة ـ على ارغام شرائح السلطة ومن هم في مكانها أو/و المجعولين للوصول اليها، والذين يطرحون انفسهم بوصفهم اصحاب احقية فيها والطامحين إلى السلطة والمدافعين عنها اؤلئك اللذين يطلقون على انفسهم مفكرين وفلاسفة ـ لمحض تخرج الواحد منهم من كلية الفلسفة ـ والمثقفين الوظيفيين كما يقول جرامشي، وهم ليسوا سوى نخب سلطوية، تتعين الجماعات المذكورة بتشجيع الاوليجاريكيات العولمية ـ على ارغام معظم المفكرين والمثقفين فى كل مكان على السمسرة فى المراكمة المالية الربوية فى كل مكان تقريبا، والا أوقع بحقهم حكما بالاعدام المدني، أو أغتيلت شخصياتهم فى افضل الشروط أو/و قطعت رؤوسهم السياسية أو الجسدية[x].
مقايضة الشعوب على الديمقراطية بالتضور والحرمان منها رغم هزالها
تتعاطى معظم الحكومات ومعظم المعارضات روشتة الدمقرطة المتخاتلة تلك التى تصرفها فى البنك الدولى صندوق النقد الدولى بحراسة حلف الاطلطي الذى بات عابر للمحيطات والقارات بوصف ان تلك الروشتة أو ذلك العقار أضعف الايمان وربما دونه الكفر والتجديف بحق سادة الكون. ومن المفسد تذكر ان الدمقرطة رة تفرض على الشعوب من فوهة البندقية فى حين كانت الديمقراطية الليبرالية التى كنا نعرفها-ناهيك عن الديمقراطية المركزية-محصلة نضال تاريخى وتضحيات شعبية وبطولات عظيمة على مر مئات السنين. فما هو التعريف الاجرائى للديمقراطية تلك؟ وماذا تنوي الدمقرطة لنا؟ تدعى الرأسمالية ان نظاما غير الديمقراطية لم يوجد رغم انها افظع نظام: هذه فرية كبيرة اخترعها الغرب باكرا منذ اليونان، الذى نسبت اليه الديمقراطية الاثينية. ويزعم الغرب أن سفر تكوين الديمقراطية التى بقينا نفهمها ونؤمن بها بوصف ان ليس ثمة بديل لها كان سفر تكوين الاخيرة قد اتصل منذ القرن الخامس قبل الميلاد فى أثينا. والواقع ان بديلا معافا من الديمقراطية. بمعنى حكم الاغلبيات المنتجة للحياة والكفاف فى مواجهة أقليات طفيلية لا منتجة. كانت قد وجدت باكرا جدا فى الهند وفارس وفى وادي النيل الاسراتى، وقرطاح التى ازعم ان صحيفة المدينة كانت قد استلهمتها تنظيم اول مجتمع اسلامي. وكان معظم فلاسفة اليونان الذين نعرفهم يرون ان الديمقراطية معبر اكيد لديكتاوتورية العامة. فالديكتاتورية تنشأ عن، أو هى محصلة الديمقراطية. ذلك أن للديمقراطية جانب ردئ هو خكم الاغلبية خصما على الاقلية. وينبغى تذكر من الذى يقول بهذا التصريح ولمصحلة من ذلك التصريح. ذلك انه ليس من الموضوعى تصور ان العامة ـ الاغلبيات المحكومة هى التى يمكن ان تجأر بذلك التصريح. وكان اصحاب المصالح كافة هم الذين يعرفون ويكتبون ويكرسون المفهومات والتاريخ والقيم.
وكان اليونان يكره الديمقراطية ويتعقب الصوفيين الكلاسيكيين كونهم كانوا اكثر ديمقراطية بمراحل من الفلاسفة المعروفين. وحتى بمقياس الغرب نفسه فان الديمقراطية الاثنية لم تنضج حتى عصر التنوير. ويبقى كل من المفهومين الديمقراطية والنهصة من المفهومات الغشاشة المدلسة الممفصلة حتى اليوم. وحتى بعد النهضة فقد بقي مفهوم الديمقراطية طريقا يقود إلى الفوضى والدهمائية وحكم الرعاع. وكان الرومان يكرهون الديمقراطية، وقد تمثل ذلك اكثر ما تمثل على ايام جستنينان فى القرن الرابع. وكانوا يمثلونها بالشغب والانتفاضات الشعبية. وكان الرومان يرون أن أفضل شي هو تكريس أقلية محلية يسيطرون بها على لااغلبية. ومع ذلك بقيت الخشية من ان تكون تلك الاقلية من الساسة، لأن الاخيرين حريون بأن يبقوا فى السلطة، وهم يحرصون على الابقاء على تلك السلطة، بأي شكل مما كان بدوره حريا بان يخلق شرط السخط الشعبى الذى كان الرومان يتطيرون منه. ولم تكن الماجنا كارتا (1215) التى اسقطت على انجلترا فباتت بها بريطانيا ام الديمقراطيات الا تخاتلا على التاريخ الموضوعى وبخاصة الشعبى. فقد كانت الماجنا كارتا محصلة صراع بين الملك والبارونات ـ أي الرجال الاحرار، وليس الاقنان، حيث اعتبر وصولهم إلى السلطة شارط لحلول الفوضى وبربرية الديموغاغيين. ولم تزد الديمقراطية البريطانية على ثلث المعادلة التحريبية كما قال الملك تشارلز الثانى بعد عودة الملكية، وهزيمة الجمهوريين منتصف القرن السابع عشر. فثمة العرش وثمة مجلس اللوردات، ويليهما مجلس العموم الذى يمثل العامة مجازا[xi]. وقياسا فان مقولات الحرية والحريات، مثل حرية التنظيم والتعبير وحرية القضاء وحرية الرعى وحرية الزراعة فى ارض الله والحركات المنادية بتأميم الارض بوصفها ملك الشعب، تعود جميعها إلى جماعات افرزتها الحرب الاهلية الانجليزية، والاستقطاب الذى تعينت عليه حركة الجمهوريين فى منتصف القرن السابع عشر، أي إلى حركة جماعات شعبية مثل حركة الحفارين Levellers . وقد اعدم أوليفر كرومويل زعامات تلك الجماعات الشعبية، جراء مطالبهم الشعبية وامتناع الجنود الذين ينتمون إلى تلك الجماعات عن اجتياح ايرلندا. وعندما منحت بريطانيا فى 1918 حق الاقتراع للذكور العائدين من القتال، فلان انجلترا كانت قد وعدت المجندين بذلك عشية الحرب العالمية الاولى، غواية مثلما راحت امريكا تعد المجندين من غير الامريكان ـ ابان اجتياح العراق وقبلها الحرب على الفيتنام ـ بمنحهم البطاقة الخضراء.
ولعل من المفيد تذكر ان نشوء الطبقات الوسيطة ثم المتوسطة كان حريا بان يسلب العمال والفلاحين، ومن يسمون بالعامة، الحق فى الجلوس فى البرلمان بهذا والوصف. فرغم قوة الحركة المطلبية والوجود الماثل للعمال الا ان حزب العمال البريطانى مثلا ليس سوى تجمعا لافراد تعينوا على تسلق السلم الاجتماعى، ليصلوا إلى مراتب الطبقات الوسيطة والمتوسطة بتنويعاتها خصما على العمال والفلاحين وكافة المنتجين للفائض والثروة[xii]. وفيما تعتبر بريطانيا «أم الثورة الصناعية»، مما تحولت به إلى اكثر المجتمعات الاوربية تصنيعا، فبريطانيا رابع دولة مصنعة فى العالم، وتعد بثورة تكنولوجية هامة. فلم يقيض للطبقة العاملة الصناعية البريطانية مع ذلك أو بسببه انشاء اكثر، ولا ابعد من حزب يسار الوسط حتى السبعنيات، مما لم ينفك ان تحول ـ أو حوّل ـ إلى واحد من حزبين: اليمين الجديد وما بعد اليسارـ الطريق الثالث The Third Way يتقاتل كل منهما على يمين الوسط[xiii]. ذلك ان الطبقات العمالية البريطانية مثلا لم تجد لها سبيلا ـ حتى اندلاع الثورة البلشفية فى 1917، وما بعد الحرب العالمية الاولى ـ إلى تنظيم نفسها فى حزب طبقى بهذا الوصف فقد نشأ حزب العمال غب الحرب العالمية الاولى ولم يكن حقيقة حزبا عماليا بالمعنى الطبقى[xiv].
وقياسا فقد كان تحولا جذريا قد نشأ فى فرنسا مع الثورة الفرنسية، حيث اعلن الثوار أنهم ديمقراطيون، ليس على الطريقة الاثينية، وانما على طريقة المساواة أو السواسية Equality or Egalité دون استثناء، وليسوا رعايا الملك قياسا على ما كانوا عليه قبل الثورة. هذا وقد اعتبر كثيرون ان ديمقراطية الثورة الفرنسية لا تزيد على غوغائية بربرية دموية[xv]. وقال اعداء الثورة الفرنسية إن السلطة لا تتمأسس فوق قوى السلام، بوصف الاخيرة ضمان ضد الفوضى والحروب الاهلية واشاعة حقوق الانسان، ليست سوى سلطة رعاع.
وكان الامريكان المحافظون والجمهورين جميعا يجأرون «انظروا ماذا فعلت ديمقراطية الثورة الفرنسية بفرنسا؟» هذا رغم ان أفكار الثورة الفرنسية الهمت حرب الاستقلال الامريكية، وكانت فرنسا تساعد الامريكان فى مواجهة الانجليز. ومع ذلك فقد كان اباء الامريكان الاوائل مثل جيفرسون وماديسون يرون ان الديمقراطية حرية بخلق شرط الفوضى فقد كانوا يتمثلون الرومان خفية، ويعلنون اعجابهم باثينا فيما، يعجب الصهاينة منهم ومن اسرائيل باسبارتا. وتصدر امريكا عما يسمى الاطلاقية Absolutism. وكانت الاخيرة تعنى السماح فى البدء لاقلية بالاقتراع بانتظار تحقق شرط احقية من عداها بالتعليم ـ ومعناه التلقين indoctrination ـ استباقا للحركات الديماغوغية، التى ينشرها الجهلاء، بمعنى كل من استعصى على التلقين وغسل الامخاخ. ومن المفيد تذكر ان حق الاقتراع بالوصف الامريكى كان قد تعالق وما يطلق عليه ب "التقدم". وقد يفسر ذلك التدخل الملحاح في عقول العامة بالمناهج التعليمية مثلما يحدث اليوم فى العالم العربي والمسلم. ويعنى اختراق المدارس القرآنية ومنع تدريس آيات بعينها. وقد بات اخيرا على المدارس العربية التعين على تدريس المحرقة، وقد حظرت اسرائيل بالمقابل تدريس النكبة[xvi].
وفى المانيا كانت الافكار القومية ـ الفاشية ـ قد الهمت امثال هتلر فى 1941 ديمقراطية موقوفة على الاقوام الراقية ـ الآرية. فهناك اعتقاد بان الديمقراطية من شأنها ان تلهب الحس القومي، فادعاء سيادة الشعب الآري دون سواه، وظيفة الحس القومى. وقياسا ففيما كان المفكرون الغربيون يدركون فى قرارة انفسهم ان الديمقراطية الغربية ناقصة ومتخاتلة، كان السوفيت يرون ان ديمقراطيتهم افضل من ديكتاتورية الديمقراطية البرجوازية الصناعية. فالاولى اقرب إلى الديمقراطية الحقة بمعنى سلطة الشعب ممثلا فى نوابه بالسوفييت الاعلى وفى والدوما الخ. وكان ماركس يكره الديمقراطية الغربية، ويراها ديكتاتورية البرجوازية الصناعية، والطبقات المتوسطة. وقد بقى السوفييت يحاولون تجويد الديمقراطية المركزية حتى ثمانينات القرن العشرين. فقد كانت ديمقراطية السوفيت اقتصادية اولا، وقبل كل شئ، تقوم أكثر ما تقوم على مجانية العلاج، والتعليم، وضمان السكن، والعمل مدى الحياة، لاغلبيات الناس، مهما كانت الفوارق بين الفئات الاجتماعية، فيما يتصل بالعمال اوالفلاحين والادباء والمثقفين والساسة الخ. وفي نفس الوقت كانوا يهمون بنشر ديمقراطية متصلة بمزيد من حرية التعبير الخ. الا ان الرأسمالية المالية لم تنفك ان انقضت عليهم فحولت الاتحاد السوفيتى بغواية الديمقراطية السياسية، وحق الاقتراع كل 4 أو 5 سنوات، إلى روسيا المرسملة. ولم ينفك الروس ان باتوا اقنان مجددا، يتقايضون بالمنتجات الزراعية، ويتقاضي الجنود اجورهم بطاطا فى احسن الاحوال. ذلك ان جنود الجيش السوفيتى العظيم راحوا يعملون فى الملاهى الليلية، ويمارسون الاستريبتيز Striptease على طريقة ما يسمى رقصة التشيبينديل Chippendale فى النوادى الليلية النسائية تسلية للمرأة الروسية النسووقراطية المرسملة. وكان العمال العاطلون فى شيفيلد، يقومون بالمثل فيخلعون ملابسهم بصورة درامية ومثيرة، فيما يتحرشون بالنساء فى نوادى خاصة بالمرأة بالطبع ـ على نحو شديد الاثارة تسلية للمرأة النسووقراطية البريطانية[xvii].
مغبة تضور الشعوب للحرية والديمقراطية والخبز جميعا:
يلاحظ الناس كيف افقرت الشعوب فى كل مكان من الجمهوريات الاشتراكية السابقة عشية سقوط حائط برلين، إلى دول الاقتصاد المخطط مركزيا سابقا مما كانت تتمتع به مقابل غواية تلك الشعوب بالحرية حتى الموت جوعا، وبدمقرطة متكاذبة. ولم يزد حال مجتمعات الاقتصاد المخطط سوى ان راح يتحور نحو مجتمعات العصر الحجري، فلم تجد شعوب ما يسمى بالعالم الثالث ما تستدعيه، فراح البعض يتحسر علنا على زمان الاستعمار الكلاسيكي أو/و يقع تحت غوية الاستقلال الذاتى والانفصال. ولعل تلك الحركات والانظمة التى انتحتها الانتفاضات والحركات الشعبية تعبيرا عما يسمى بالمعارضة غير المنظمة، كانت حري بان تؤلف استباقا واعيا أو غير واع ـ لاعادة انتاج الاستعمار وقد راح الاخير يعيد انتاج نفسه في تنويعات مجددة كخصخصة الارض والماء والانسان، ليغدو الاخير اجيرا فوق ارض فلحها على مر الاف السنين، وقد فقد حكمته الشعبية بالهجرات العنيفة، من كل مكان إلى كل مكان. فقد راحت الشعوب من المانيا الموحدة إلى روسيا الفيدرالية تتحسر على ما فات، وتندم على ما كانت تلك الشعوب قد فرطت فيه، فاخذت تستدعى المجتمع القديم، وقد راح معظمها يفكر لنفسه، ويتنظم خارج الاحزاب. وباتت الاخيرة تشارف تنويعات بائرة وزائدة عن الحاجة بدورها. وقياسا لم ينفك الالمان الشرقيون اما ان راحوا يتنظمون فى جماعات خارج القانون و/أو يهجسون بالزمان الجميل(انظر/ي) فيلم (وداعا لينين Goodbye Lenin). هذا وقد بات ستالين ـ فى استفاء عقد فى اكتوبر 2009 ـ اكثر ابطال روسيا الفيدرالية شعبية، وغير ذلك من تمثلات الحنين إلى الماضى.
وقد عبر ذلك مما عبر عن نفسه فى فوز العديد من الاحزاب الشيوعية فى جمهوريات القفقاز الاشتراكية السابقة، وعودة الساندونيستا فى نيكاراجوا، ومثول هيو شافيز فى فينيزويلا، وايفو موريلليس أول رئيس من الاهالى الاصليين فى امريكا الللاتنية إلى رئاسة بوليفيا، بل وفاز اجناسيو لولا الزعيم العمالى بسلطة البرازيل. ذلك ان معظم الشعوب كانت قد راحت تدرك ان المجتمع الدولي ـ الرأسمالية المالية ـ تثابر على مقايضة الشعوب المفقرة على دمقراطية متخاتلة، والاحرى على ما يسمى بالدمقرطة Democratisation مقابل حنطة العون الغذائي. كما قايض يوسف شعب وادي النيل الشمالي على حريته بالخبز. إلا ان معظم قائمة المقايضة لا توفر للشعب حتى الخبر، وانما لا تفعل أكثر مما فعل رجال الفاتيكان، حين قايضوا الناس على الغفران بالصكوك. وبالمقابل راحت بعض الشعوب المستحوذ على مقدراتها تخرج فى حركات انفاصالية اثنية اقلياتيه، خصما على الدولة الامة أو الدولة الوطنية Nation state.
تقسيم الاوطان العربية تيسيرا لابتلاعها:
كيف لم يعد ثمة قنوات للتعبير عن السخط الشعبى سوى الحركات الانفصالية ـ الاثنية والنوعية؟ وينبغى أن أفرق فورا بين القومية والوطينة والاثنية. فقد باتت القومية تنويع على الاثنية، بغاية أبلستها. والواقع أن الوطنية والقومية لم تختلفا الا بقدر ما بوعد بين المفهومين، بغاية تكريس الاثنية، بوصفها تعريفا للقومية. المهم فورا ان فرضيتي هي أن الحركات الاثنية والنوعية، ما هي إلا مثليات تطرح وتطرح نفسها كبدائل للدولة ما بعد القومية، وللخطاب ما بعد القومي. وأن تلك البدائل هى وظيفة أو محصلة تحلل الدولة إلى ما هو إلى اقل من عناصرها التقليدية السابقة، على راس المال الصناعي الخاص تحت حصار وهيمنة شرطيات تراكم راس المال ما بعد الصناعي، عابر الحدود شبه الكاملة. ويصدر هذا الادعاء الباطل كما تدركون عن اقتدار وتسييد مايسمى بالمجتمع الدولى ـ و هو ليس دوليا ولا يحزنون ـ ويتمأسس فوق قوات السلام الدولى ـ وهو ليس سلاما دوليا وانما حروبا عالمية "ممحللة" localized world wars لصالح الراسمالية ما بعد الصناعية. وازعم انه مع ارتهان الدولة باعادة انتاج وسائل المراكمة الرأسمالية المالية، وقد حوصرت الدولة بما يسمى شرطيات البنك الدولى وصندوق النقد، وحلف الاطلنطى الذى بات شرطي دولي، يفرض الانضباط فى الصف لكافة الدول، في المقياس المدرج، بغاية تكريس نموذج التنمية الامريكي.
فلم يعد للدولة بهذاالوصف دور فى اعادة انتاج المجتمع، وقد خصمت اعادة إنتاج وسائل مراكمة واعادة مراكمة الرأسمالية المالية، على اعادة انتاج المجتمع المضيف لرأسمالية المذكورة تلك[xviii]. وحيث باتت الدولة وكأنها لا تكترث كثيرا بمواطنيها، ولا لهم، الا بقدر ما تقمعهم بتحريض المجتمع الدولي نفسه، أو تواطؤه ـ إلا اذا كان الاخير غير راض عن بعض اعضاء السلطة القائمة، مثلما فى ايران وكوريا الشمالية وزيمبابوى وفينزيويلا وكوبا طبعا ـ فان التراكمات العددية التى لا وجوه لها، لا يعود امامها سوى التعبير عن سخطها بالحركات الانفصالية. وكلما رفعت تلك التراكمات العددية التى لا وجوه لها صوتها، ناهيك عن رفع رأسها، تطيّر المجتمع الدولي، وتواطأ على قمعها وترويعها. وقياسا لم يبق لتلك الاعداد التى لا وجوه لها سوى ان تنظم نفسها فى حركات انفصالية، أو حركات اثنية خصما على المشروع القومي، وقد باتت تلك الحركات هى القنوات الوحيدة للتعبير عن السخط الاجتماعي والشعبي والفئوي والنوعى جميعا تقريبا. ذلك ان تلك الكتل الجماهييرية ماانفكت أن راحت تبحث لها عن ملاذ، إما فى الارحام القبلية والصوفية او/و فى الحركات الانفصالية بتحريض المنظمات غير الحكومية، نيابة عن الممولين والمجتمع الدولى.
و كانت معظم الشعوب العربية والاسلامية قد تحولت بولائها ابان حركات التحرر الوطني والاستقلال إلى الدولة القومية. الا ان الاخيرة خذلت معظم الشعوب فى كل مكان، وكان مقدرا للدولة ان تفعل ذلك بحذافيره، تحت شرطيات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والمعونات الخارجية، والديون. وأزعم ان التنويعة الماثلة للتتمأسس فوق رأسمالية ربوية بالمفهوم السابق على الرأسمالية. وقياسا ترتهن تلك التنويعة الفاحشة فوق الدور، فترتهن الدولة فى كل مكان فى المقياس المدرج. ويحوّر ذلك التعالق الدولة بالضرورة إلى تنويعة مشوهة من الدولة الخراجية فى كل مكان، فى المقياس المدرج فى كل مكان بالنتيجة. فقد كانت الدولة الخراجية الاصل تقوم على الرعية، وكان الحاكم أبو الرعية، وكان يفتح مطاميره، وشوناته، ومصامع غلاله ومناحله ـ من النحل ـ للرعية فى اوقات الشدة. وكان الحكم الخراجي يتعين على جعل النهر يفيض، ويضمن سعرا عادلا للحنطة فى السوق، قياسا على منظمة التجارة الخارجية، التى تستلب طعام الناس وكسائهم وعلاجهم، وتنيب عنهم الدلالين والسماسرة والفاسدين وكلاء لدى سادة الكون.
عزلة المفوضيات الخاريجة جراء تعالي بعضها على المواطنين:
لا يخفى ان بعض اعضاء المفوضيات العربية فى الخارج غالبا يتصرفون فى احوال السفارة وكانهم وكلاء دولة خراجية، فيتعاملون مع المواطنين وكأنهم رعية. وغالبا ما يكون معظمهم من حديثي العهد بالتعامل مع مواطنيهم فى الخارج. الا انهم مع ذلك يحاولون تجويد اساليبهم والتماشي مع وضع غريب عليهم، وجد معظمهم نفسه فيه على حين غرة. ويجنح بعضهم إلى اشكال شتى فى مواجهة هذا الوضع الغريب عليهم، مرة بجريرتهم بمغبة عزلة اعضاء السفارات، ومرة جراء عزوف معظم المواطنين العرب عن اي صلة بالسفارات. ذلك ان معظم المواطين يرى السفارات وكأنها عين واذن تتلصص عليهم، وليس على المجتمع المضيف، مثلما تفعل سفارات الغرب. وقد تعينت السفارات على تمثيل الحكومة ـ اى حكومة ـ قائمة ومصالحها. وقد كرست علاقة السفارات بالمواطنين فكرة ان ليس للسفارة علاقة بالاخيرين فى افضل الاحوال، الا بقدر ما تستخرج القنصلية لاحادهم تأشيرات دخول بلده طبعا، حسب الاستحباب أو عدمه. تصور عليك ان تستخرج تأشيرة لدخول، بلدك وبخاصة للخروج منه. فى حين تتجول بجواز سفر اجنبى فى ارجاء أوربا بكاملها، واحيانا امريكا بدون تأشيرة. المهم فورا قد تتبادل معظم الحكومات والمعارضات ـ فى المقياس المدرج الشعوب ـ ذراية متسترة ومنها اشاعة معلومات خاطئة Misinformation ـ و قد تصور بعضهم انه أعلم الجميع. فمن سوء تقدير القيمة الحقيقية للجاليات العربية بالخارج، تعين معظم سفاراتها على استلاب تلك الجاليات، بدلا من رعاية مصالحها مثلما يفعل الغرب. الا ما خلا اعضاء الحزب الحاكم. هذا ولا يعدم الامر من ان يتعامل بعض اعضاء تلك السفارات مع الشعوب وكأنها كائنات متخلفة عقليا، فيتعالون عليها بكل من سلطة القرار، وحق معظم الاحزاب الحاكمة، ومعظم احزاب المعارضة المنظمة في ان تمنح وتمنع. كما تتباهى كلاهما على العامة بادعاء العلم ببواطن امور، من طبعها ان تستعصي على من عداهم هم، من العامة الدهماء الغوغاء.
محاصرة القدرات الابداعية الشعبية بالتجويع المادي وغير المادي:
مع ذلك وربما بسببه فما نبرح نملك ان نحتكم للبصيرة والتأمل فى عشم ان تبقى بعد كل شئ مصائرنا بيد شعوبنا. فليس لنا غير الشعوب، لو امعنا النظر فى التاريخ الاجتماعي الموضوعى فادركنا اليقين. ذلك ان ثمة بعد كل شئ عشم فى ان تصنع الشعوب وتكتب، الشعوب تاريخا معافا وناضجا بالبصيرة والتأمل اللا متسرع، مهما كانت الشعوب مستلبة مغييبة ومبعدة عن مجريات الاحداث. وكانت الشعوب وما تبرح قادرة على الابداع، وكانت الدولة غالبا ما تدعى الابداعات الفردية والشعبية اما لمصادرتها او/و لاستغلالها ضد اصحابها. فقد بقي الابداع الشعبى وما يبرح يصيب خصوم الشعوب على مر الزمان بالفزع. فامتلاك الشعوب القدرة على ابداع فكر وتنظيم التغيير الاجتماعى لحسابها ـ مما كانت الشعوب وقد بقيت تمتلكه على مر الزمان ـ من شأنه ان يخصم على مصالح خصوم الشعوب. فالشعوب حرية بان تمتلك معرفة من أين يأت ذلك الابداع الذي روع خصومها على مر اتاريخ غير المكتوب والى اين يذهب-لتغيير العالم. وحيث تملك الشعوب قدرة على ابداع لا ينازعها فيه احد على مر تاريخها غير المكتوب يدرك خصوم الشعوب أن الابداع هو امتلاك الفرد والمجاميع الشعبية شئ لا ينازعها فيه أحد. فالابداع هو الايمان بشئ وجعله يحدث لكون المبدع على استعداد لدفع ثمن المثابرة على الخلق، يقينا فى محصلة ذلك الخلق. وقد بقيت الشعوب على استعداد لدفع الثمن دائما مهما كان غاليا. ذلك ان عاطفة والرغبة فى تغيير العالم او ـ تغيير ذاتها ـ تدفع الشعوب للابداع بادراك بصير ومتفائل بامكانية ذلك.
وقد يبدو هذا الكلام ربما من باب التفاؤل التاريخي الساذج الا ان العولمة وسماسرتها لم يتركوا للناس فى كل مكان حق أو فضاء ـ ابتداءا بحق الحياة احيانا ـ تتعين فيهما الشعوب على تنظيم نفسها لحماية مصالحها من مصالحها الدنيا إلى تغيير واستعادة عالمها الذى يخصها هي ويدل عليها. بل تشغل الحكومات نيابة عن العولمة الناس بانفسها. ذلك ان الرأسمالية المالية ـ العولمة تعمل على شغل الكتل الجماهيرية بانفسها بتوريطها في مواجهة من تسميهم الارهابيين. وقياسا يغدو كل من يناضل ضد حكومة قائمة من حلفاء الرأسمالية المذكورة إرهابيا. ولا تفعل الرأسمالية ذلك على طريقة واشغل اعدائى بانفسهم وحسب، وانما تخلق الرأسمالية خصوما ملفقة، ثم تعود وتطالب الشعوب العربية والاسلامية على الخصوص بمواجهة الارهابيين مثلما تفعل فى العراق وافغانستان والباكستان. فالرأسمالية تحمل تبعة الارهاب لكافة المسلمين، وتطالبهم بتنظيف صفوفهم منه، فتروع كارزاي وزرداري حتى يقبضا على أسامه بن لادن وأيمن الظواهري.
التحديق فى الكارثة:
كنت قد كتبت ما يلى فى جريدة (الفجر) لصاحبها ورئيس تحريرها يحي العوض فى 1998 أي منذ اكثر من عشرين عاما، وقلت انه لا يفوت علي كل من الحكومة والمعارضات أن مسألة تداول السلطة بكل تعقيداتها وخصوصياتها، تنفعل احداثها المعاصرة والآنية (من الآن) وما حواليها من احداث، فتؤلف فى مجموعها واحدة من مؤشرات ما يخطط على صعيد وفى سياق أوسع واشمل من القارة الأفريقية أو الوطن العربي والاسلامي. وان هذا السياق هو سياق تشطير الاوطان وتجزئتها، تيسيرا لابتلاعها خصما على اهلها وتاريخهم، وكل ما يدل عليهم جميها. واقول ان ذلك كان حريا بان يغدو اكثر مثولا بعد احداث الثلاثاء 11 سبتمبر المشئوم الملفقة. وعلى الرغم من أن قولا كمثل ما أورد قد يتهم بالتبسيطية الساذجة، إلا أن البديهي هو دائما ما لا يقيض لنا استبصاره. اننا حيث نبدو اليوم وكأننا مساقون بلا ارادة أو حول منا، انما ننفذ ما يكتب ويخطط لنا وكأننا لا نملك له دفعا. فنحن لا نصغى لبعضنا الا كي نزاود على بعضنا ويكاد الحوار ان تم يغدو كمثل ساقية بلا ماء. ولا نتوقف لنتفكر كما نقول عندنا، وانما نتعاند متخندقين كل خلف متراس خطابه واجندته المنتهية، التى لا تقبل الجدل ولا المراجعة، رغم ان معظم الاجندات والخطابات لا تختلف فى المحصلة النهائية. فكل ما يطمح له الذين يدعون الاحقية فى السلطة هو اقتسام الثروة مثلما تفعل معظم الدول وبخاصة دول النفط مثلا فى كل مكان.
واذ نتعاند نفعل بأنفسنا وبأيدينا ما لا يملك أعداؤنا ان يفعلوه بنا علنا أو مواجهة. ان مسألة السودان وحلها يتوقف على أمر غاية في البداهية وربما كل ما بقى لنا من مبادرة كسودانيين ينتمون إلى السودان الحالى وقبل ان نسلب سوداننا مذعنين لوقاحة السمسرة والتسييد الصلف «فنرغم بحد السيف او/و بطائرات بلا قبطان Drones، وقياسا فعلينا الا نتعاند بشان الحل حتى يأتينا الحل المعد سلفا من الخارج، فنذعن له اقتهارا وخصما على المصلحة الوطنية ـ تلك الكلمة التى استعارها ويستعيرها بلا تحفظ اللذين يمكرون بالسودان اكثر مما يفعل الأوفياء له ـ وإلا فقد لا يبقى من السودان ما يحكم ولا ما نتقاسمه. وحتى يتيسر سياق أوسع واكثر جدلية لتاريخ مخطط تجزئة السودان وكافة الأوطان بلا استثناء، فقد بات مبدأ التقسيم والتشطير مما قد يتبدى للبعض وكأنه فكرة أو مبدأ «تقدمي» دارج فى كل مكان من الدول الغنية إلى الدول المفقرة. وقياسا فلتنذكر ان مخطط التجزئة والتشطير باسم حق تقرير المصير والحكم الذاتي ليس اختراعا جديدا.
فحق تقرير المصير الذي يؤدى اليوم إلى الحركات الانفصالية وتشطير الأوطان باسم الدمقرطة والتعددية الحزبية أو بعدمها معا ان هو الا مخطط قديم يشارف عمره ـ وعمر مفرداته الحالية ـ قرن، أي منذ اعلان ويلسون فى فبراير 1919 غب الحرب العالمية الاولى لمشروعه ذى الاربعة عشر نقطة. ان الأحداث التى تجرنا معها بلا مبادرة حقيقة منا بشأن ما يصار إليه السودان تتبدى وكأنها استجابة إلى عصاب ردود أفعال على أحداث تتمثل فوق سطح الارض، وحسب وعلى ممفصلات الكلام، وليس حول الواقع الموضوعي ومترتباته الرهيبة. فلا شك عندى ولا يغيب عليكم مؤكدا، ان هذه الآلية: أي آلية حق تقرير المصير المتخاتلة تلك، كانت قد استخدمت مرارا فلا تزيغ ابصارنا لبريق ادعاءاتها ووعودها ومفرداتها الالقة ـ كمثل قولة حق أريد بها باطل. وازعم ان تلك المقولة هى كغيرها «عظمة» يلقى لنا بها فنركض خلفها مزاودين على واضعي المخطط في تبني المخطط والدفاع عنه، اكثر من مخططي تلك الفخاخ، وهي لصالحهم اكثر من صالحنا نحن، وكأننا مساقون بلا إرادة سوى إرادة تدمير الذات. فنحن نصدق الغرب وهو يكذبنا ويكذب نفسه بالضرورة والنتيجة صباح مساء. وننساق لمخططاته بوصفنا ديمقراطيين، فنحن معنيون باثبات اننا ديمقراطيين، يستحيل ان نقف هكذا امام وجه مطلب ديمقراطي، وقد بات بعضنا محيرا بين خندقى الباطل. فقد أعمى الإلحاح على أذهان معظمنا ـ مع غياب الفكر المنفطم عن الاحتفال بسقط القول ـ الذى قد يعلو بأجنحة من الترديد. فان غييب الوعي فان العقل حريا بان يقع فى أحابيل نظريات مرتهنة، بممارسات وسياسات لم نبدع فيها، ولم نبادر بكلمة منها.
وقياسا تلاحظون سادتى ان التنظيمات الشعبية تتغضن وتكسر عضلة الحركات المطلبية وتخلخل تراتبات المجتمع الاهلى وتخترق المنظمات المسماة غير حكومية Non-governmental organizations (NGOs) وهى اخطر من حكومية، بل هى انغال حكومات اجنبية وبتمويل الاخيرة، تخترق المجتمع الاهلي والمدني الذى كان بازغا صبيحة الاستقلال السياسي. وتلاحظون سادتى كيف ان المنظمات غير الحكومية الجهنمية تلك تخترق المجتمع المدنى الذى كان بازغا، وان ظهر معظم الاحزاب السياسية، سواء احزاب السلطة أو معظم احزاب المعارضة، بأشكالها في كل مكان يكسر لحساب الحركات العرقية والانفصالية والاثنية والنوعية ـ و قد احلت الحركات النسوية المغالية-النسووقراط وتمكين المرأة بدورها مكان الصراع الطبقي ـ في المقابل. وقياسا ففيما خلا الحركات الاثنية والانفصالية فقد بات كل تعبير شعبى مستهدف لتهمة العنف أو الارهاب. ذلك انه لم تعد ثمة قنوات تعبير عن السخط الشعبى، وقد تعين خصوم الشعوب على اختراقها او/و محاولة تلغيمها. وحيث كانت العولمة وسماسرتها قد استقطبت العالم بين اثرياء ومفقرين فقد بات الامر فى كل مكان فى المقياس المدرج وكأنننا حيال خندقي خصوم الشعوب والشعوب وبخاصة تلك الشعوب التي تعيش عند حواف عالم المترفين الممتازين. وقياسا فلم يعد امام العولمة وسماسرتها سوى استدعاء كافة الاستعدادات لمواجهة السخط الشعبى العام القادم لا محالة ـ بترويع التراكمات العددية لمن لا وجوه لها فى كل مكان وخلق شرط تضور تلك التراكمات حتي الموت ـ محاصرة الناس العاديين فى كل مكان بارقى تكنولوجيا التلصص عليهم ساعات الليل والنهار ـ تدريب قوات الامن فى كل مكان تقريبا على حرب عصابات المدن الخ استباقا لذلك السخط. قياسا لا يبقى للتراكمات العددية لمن لا وجوه لهم من المفقرين فى كل مكان سوى اللياذ بقدراتهم هم الابداعية على مواجهة الطوفان القادم بيقين اللا قارب نجاة يذكر أو ينسى لخصوم المفقرين فى كل مكان انشاء الله.
أكسفورد: مايو ـ ايار ـ 2010
[i] انظر(ي) محمد قبرطاي فى العرب العالمية-الاثنين 17 مايو-ايار-2010 العدد8464 الصفحة الثالثة.
[ii] انظر(ي) الطبرى فى حسن ابراهيم حسن: "تاريخ الاسلام السياسى والدينى والثقافى والاجتماعى":الجزء الرابع: "العصر العباسى فى الشرق ومصر والمغرب والاندلس-1055-1258" :ص:75 وص:587.
[iii] انظر(ى) حسين مروه:1979:الملامح المادية فى الثقافة العربية والاسلامية:دار الفارابى–بيروت:ص:435-6.
[iv] انظر(ي) يوسف العش: شرحه:ص: 132-3.
[v] كان عثمان قد رد الحكم ابن العاص إلى المدينة وقرّبه منه وأعطاه وولده المال الكثير من بيت مال المسلمين، مع علمه بأن رسول الله « ص » لعنه وطرده ولعن وُلده، وهذا غاية العجب من عثمان حيث أنه خالف صريح عمل رسول الله « ص » وأحب من يبغضه.انظر(ي) البيان وو التعريف ص:266 الوكيبيديا الحرة
[viii] كان النبى صلعم قد قال في ابى ذر ما معناه "سبعيش ابو ذر وحده ويموت وحده وسوف يحشر يوم القيامة وحده
[ix] قال ابو هريرة : اذا بلغ بنو العاص ثلاثين كان دين الله دخلا ومال الله نُحلا وعباد الله خولا. وقال الزمخشري الدّخل ( بفتحين ) هو الغش والفساد، وحقيقته ان تدخل في الأمر ما ليس منه، أي يُدخلون في الدين امورا لم تجر بها السنة. والنّحل ( بالضم ) من العطاء ما كان ابتداءا من غير عوض والمراد انهم يُعطون بغير استحقاق. الخول ( بفتحتين ) الخدم : جمع خائل. شرحه
[x] لك ان تتذكر(ي) ان انطوني جيديينجز كان اهم واكبر مفلسف للطريق الثالث التى انجب مفهوم حزب العمال على عهد تونى بلير رئيس الوزراء البريطاني ونظائره فى بريطانيا والولايات على عهد الرئيس الامريكي بيل كلينتون.
[xi] BBC/radio4/Tuesday 18th.May 2010 Democracy on trial Michael Portill
[xii] انظر(ى) منشأ ومآل حزب العمال البريطانى بعناون : حزب العمال-"حزب يليق بالامبريالية" تاليف Clough Robert :1992: Labour; A party Fit for Imperialism: Larkin, pp. 97-9.
[xiv] مما يرجع ذلك الواقع ان حزب العمال ناصر الحروب الكلونيالية فى الخمسينات والستنيات –الهند الصينية مثل- مما اودى بالبرجوزاية الصناعية تباعا لحساب الكوننة أو الامبريالية الرابعة. ويلاحظ ان حزب العمال كان قد بادر بجملة ممارسات وسياسات مهدت لمارجريت ثاتشر-اليمين الجديد فى اقصى تنويعاته يمينية فى نهاية السبعينات والثمانينات مما تجذر فى السياسية البريطانية- بتشريعات عمالية مواتية لاعادة هيكلة سوق العمل. ويجادل هذا البحث تلك الممارسات بوصف انها كانت بدورها سبيل ما بعد اليسار-الطريق الثالث The Third Way–بوصف انه وريث اليمين الجديد–لمواصلة برامج اليمين الجديد بعض التعديلات المظهرية :انظر(ى) : Clough لمزيد من التفاصيل حول تاريخ حزب العمال البريطانى
[xv] رفضت شخصبات غربية من امثال مارجريت ثاتشر الاحتفال بذكرى 200 عام على الثورة الفرنسية بوصفها كانت قد اطلقت عقال بربرية الغوغائيين.
[xvi] انظر(ي) العرب العالمية-الاثنين 17 مايو-ايار-2010 العدد8464 الصفحة الاولى.
[xvii]. انظر(ي) فيلم The Full Monty a 1997 British Comedy It tells the story of six unemployed men, four of them former steel workers, who decide to form a male Striptease act (à la Chippendale dancers in order to gather enough money to get somewhere else and for main character Gaz to be able to see his son. The film show was claimed to be better than the Chippendales dancers because the men went "the Full Monty meaning stripping all the way hence the film's title. Despite being a comedy, the film also touches on serious subjects such as unemployment, fathers’ rights, depression, impotence, working class culture and suicide. See Full Monty Free Wikipedia
[xviii] يتألف حلقالاطلنطى من 2 مليون جندى وتبلغ ميزانيته 2 ترلياردولار ويؤلف 70% من ميزانية دفاع معظم اعضاء الحلف.