يتناول الناقد المصري في هذا المقال رواية مصرية جديدة لكاتب بدأ يوطد مكانته في حقل السرد المصري، كاشفا عن دلالات جدليات انغلاق النص وانفتاحاته، وعن فرادة تعامل الكاتب مع مفردات عالمه، ومع رؤى الواقع المصري وشخصياته.

تيار جديد للرواية المصرية

قراءة في رواية «دموع الإبل»

شوقي عبدالحميد يحيى

مثلما الطفل يتشبث بلعبته ولا يتنازل عنها لغيره. يكون الكاتب في بداية ممارساته للكتابة. لصيقا بذاته يكاد لا يغادرها، تعلو الأنا وتتضخم. وبعد الاستمرار في الكتابة وطول الممارسة، وكلما نضجت موهبته وتقدمت حرفيته، ابتعد عن تلك الأنا. إلا أنه أبدا لا يستطيع الخروج عن تلك الذات. وهذا بالضبط ما نستطيع قوله بعد قراءة محمد إبراهيم طه في روايته الجديدة "دموع الإبل"(1). والتي تأتي كخامس عمل له، بعد روايتين ومجموعتين قصصيتين. فقد ابتعد في هذه الرواية عن العالم الذي اعتصر فيه كيانه وإبداعه كطبيب تمر به العديد من التجارب التي حولها إلي إبداع إنساني خلاق، إلا أن الموت ليس ببعيد عن ممارسات الطبيب كذلك، كما أن السارد لم يزل يتحدث بضمير المتكلم، غير أن الرؤية هنا جاءت فوقية وشاملة، حيث جاء الحديث عن الموت ليس كممارسة يومية، ولا كقضية فلسفية، وإنما كقضية إجتماعية جمعية إن جاز التعبير، حيث أستطيع القول أن محمد إبراهيم طه في هذا العمل يتناول علاقة الإنسان المصري ـ تحديدا ـ بالموت، تلك العلاقة الممتدة من الفراعنة، والتي تتمثل في أهم معالم مصر وهي الأهرامات التي تعتبر أكبر نموذج في العالم رمزا للموت.

وإذا كانت كتابات محمد إبراهيم طه السابقة قد تميزت بالانغلاق، فإن "دموع الإبل" تأتي أكثر انغلاقا. فعلي الرغم من سلاسة السرد وبساطته في الكثير منه، إلا انها البساطة المخادعة والمستدرجة لرغبة القارئ لتوقعه في العديد من الرؤي والكثير من التأويل، والبحث عن بداية لخيط كي يتتبعه، لكنه ـ القارئ ـ سرعان ما يشعر أنه يسير في شوارع المعادي أو جاردن سيتي الموصلة كلها إلي بعضها البعض، فما أن يسير في إحداها حتي يجد نفسه يعود في كل الحالات إلي ذات النقطة، وهنا يصبح البحث في عتبات النص من لوازمه وضروراته، ويأتي في بداية هذه العتبات العنوان "دموع الإبل" حيث نجد دموع توحي مباشرة بالحزن والألم والفراق. والإبل توحي بالصحراء والصبر والجلد والإصرار، وعلي الفور أيضا يتوارد علي الذهن، ومن أيضا تتوافر فيه هذه الصفات؟

أليس هو الإنسان المصري؟

ثم.. متي دمعت الجمال؟: (قالت "سلمي" إنها لم تتعب، ولم تكن دموعها من إجهاد المسير، بل لأنها رأت ما وراء الغلالة التي رأيتها أنا معتمة، ولذلك ماتت في اليوم التالي)(2). فالجمال ماتت عندما تكشف لها الغيب. فهناك إذن علاقة ما بين الجمال وما هو وراء الحياة. غير أن العنوان بهذه الكيفية يصبح غير مشبع لفضولنا، وإن كان قد أشار لطريق محدد يمكن الدخول منه. لذا كان البحث عن عتبة أخري من عتبات النص. وسرعان ما تفاجئنا الجملة الأولي فيه: (لم أقصد حين غنيت أن أخدع الإبل المحملة بالبطيخ...)(3). إذن فعناصر العمل كما يبدو من الوهلة الأولي والعبارة الأولي هي الغناء والخدعة والبطيخ. فإذا ما سلمنا بأن الإبل تشير إلي الإنسان المصري ـ كما سيتضح فيما يلي ـ فمتي خُدع هذا الإنسان بالغناء؟ أليست فترة ستينيات القرن الماضي والتي استتبعت بالنكسة؟ ثم لماذا البطيخ بالتحديد، والجمال تسير للصحراء، فلمن تحمل الجمال هذا البطيخ؟ ألا يستتبع ذلك أن يكون استخدام البطيخ هنا أيضا مجازا للتعبير عن العشوائية أو القدرية أو عدم تحديد المستقبل يقينا، وبعيدا عن العلمية؟ في الريف يشبه الزواج بالبطيخ، إذ من الممكن أن تكون العملية أحد احتمالين. ألم يكن الدخول فيما آلت إليه مصر من نكسة، هو أيضا خبط عشواء، وبعيد عن التخطيط والتنسيق؟

ثم نتبين من السطور التالية لهذه الجملة الافتتاحية أن عشرين جملا من القافلة قد ماتت.

وإذا قفزنا مباشرة إلي الجملة الأخيرة في الرواية نجد: (لم يكن بوسعي سوي أن أميل برأسي علي كتفها، وتجيبها عيناي: لماذا أدخلتني وهي تعلم أن باب الخروج قريب جدا من باب الدخول؟)(4). ولنتساءل كذلك: أليست الحياة هي التي فيها باب الخروج قريب جدا من من باب الخول؟

إذن فالرواية تبدأ بالموت، وتنتهي بالحياة. ولتصبح الرواية رحلة بين هاتين النقطتين. أليس ذلك أيضا يعبر عن البعث؟ ثم أليس الإنسان المصري منذ قدمه هو من يهتم بالبعث أكثر حتي من اهتمامه بالحياة. خاصة إذا ما لاحظنا ضغط الكاتب علي ذكر الأربعين (عودة النطق إليه بعد أربعين يوما، تيهه الأول خلال أربعين يوما، الريح التي تهب علي النجع كل أربعين عاما) ولا يخفي بالطبع ماللرقم اربعين من دلالات تتعلق بالموت خلال الموروث المصري.

وهنا يمكن جمع النقاط إلي النقاط وإعادة ترتيب ما تناثر علي صفحات الرواية لنحدد أحد تأويلات الرواية بأنها تتحدث عن ثقافة وفلسفة الإنسان المصري الناظر إلي ما بعد الموت، عوضا عما لم يستطع نيله في الحياة، وأملا في عيشة أخري أفضل له من حياته الدنيا. وعلي هذا نبدأ الرحلة.

تخلو الرواية تماما من عنصر الشخصية الروائية، فما من أحد شخوص الرواية يمكن أن نحدد معالمها ونعترف بأنها شخصية حية من لحم ودم، لذا فأنها تقف جميعا عند حدود الرمز. ويأتي في بدايتها "سلمي" والتي جاء اسمها، وكل الأسماء كذلك، موحي ودال، خاصة إذا ما علمنا أن المقابل لها والكمل لدورتها الحياتية هو الراوي "سالم" ليكون معا ـ كما قالت "عبد أبو دراع" (العاشق والمعشوق) وكلاهما يهدف إلي السلم والسلام والأمان. فعندها ـ سلمي ـ كان الجميع يجد السلام النفسي، خاصة سالم، الذي رضع من ثدييها، إلا أن عملية الرضاعة هذه، لم تكن رضاعة جسدية، بقدر ما كانت رضاعة معنوية، فقد تمت وسلمي بكامل ملابسها وبينما يضع سالم رأسه علي فخذها:

(أمسكت ساعدها، خمشته بيدي، فتأملتني بعينين حانيتين، وضمت رأسي إلي صدرها. كقاعود صغير يدس وجهه قي ضرع الناقة، مرغت وجهي متلمسا موضع حنانها الحقيقي. انتصبت حلمتاها من خلف الهدوم، فوضعت فمي كما رأيت الرجال، ورضعت بنهم، بينما كان اللبن ينبثق عبر الهدوم إلي فمي)(5) . فمثل هذا المشهد لا يوحي بالفعل الحقيقي للرضاعة، بقدر ما يوحي برمزيته. فضلا عما بالعبارة من تشبيه يؤدي كذلك إلي الرمزية (كقاعود صغير يدس وجهه في ضرع الناقة) ليزيد الرابط الذي نراه بين الإبل والإنسان. هذا في الوقت الذي يردد فيه دوما، ويصبح الوسيلة التي يستخدمها أصدقاؤه (كامل وعابد) لإخراجه من ضائقته، ترديده للنشيد (يا مصر أنا رضعت هواكي، من الصبا وجري في دمي) وكأن الكاتب يشير بشكل صريح للعلاقة بين فعل الواقع وفعل الرمز.

يهيم "سالم" عشاقا بـ "سلمي" وتهيم به عشقا لكن الحياة لم تطب له هنا، ورأي السفر هو الحل، غير أن "سلمى/ مصر" لا تريد لأبنها أن يفارقها، فهي في حاجة إليه: (باستسمحك يا حاجة.. تدعي لي.. أنا انقسم لي السفر..

بكت وقالت: ماتسبنيش يا سالم، وقربتني منها، فشعرت بالدفء. فكشفت صدرها وقالت بتوسل: هذا ما أملك يا سالم فلا تسافر)(6).

لكن لماذا أراد سالم السفر، لماذا أراد ترك "سلمي/ مصر"؟

عندما ماتت منه الجمال في نوبة غماء استسلمت لها الجمال حتي أنهكها التعب والإعياء فماتت، وبموتها، مات الصبر، ومات الجلد، وماتت القدرة علي التحمل، خاصة بعدما كشفت له "سلمي" عن ذلك التقرير الذي يخرجه من زمرة المستحقين للدفاع عن الوطن. ففي الوقت الذي أراد فيه سالم أن يتطوع في الجيش، رغم إعفائه، يفاجأ بطرده من الخدمة، ولماذا؟ لأن التحريات جاءت عنه تفيد بأنه من الطبقة الدنيا، من طبقة الفقراء والمهمشين: (بس... بس آه.. ده ولد تربية مرة، والمرة دي من عائلة البط، والبط نفران ورد وعبد الفتاح، أولاد محمود البط الي يعلم الله من أين حط علي البلدة.

ورث الهطل من أبيه فمات علي يديه عشرون جملا تساوي رقبته ورقبة أهله، كل جمل كان محملا بسبعة قناطير، لأنه مشي بها في الصحراء 300 كيلو بدون ما يريحها)(7). أي أن سالم طرد من خدمة البلاد لمجرد التحريات أثبتت فقر منبته، فلم تعد (مصر) بلده إذن، ففقد الحب، وفقد الانتماء، فطلب الهجرة، في الوقت الذي تحاتجه فيه سلمي/ مصر. وإذا ما عرفنا بأن "سلمي" تزوجت من كامل ـ وقد رفضت العمدة وابنه ـ إلا أنه كان زواجا شكليا، فلم يكن له من دور معها سوي الحراسة وتلبية أوامرها، حتي أنها جعلته (يُخدّم) علي سالم الذي اعتبرته هو زوجها الحقيقي وهو معشوقها. في إشارة إلي اعتلاء السلطة لمن ليس بأهل لها.

يشترك الترزي "عبد أبو دراع" مع سالم في عشق سلمي ونلاحظ أن اسمه "عبد" وليس عبده مثلا. في إشارة دالة أيضا لرمزية الشخص وخروجه عن الشخصية المحددة المعالم. فكلاهما اشترك في إطفاء اللمبة التي تحملها سلمي عندما كانت تدير الساقية لري الغيط مع زوجها كامل. وهو الذي يتنشق الحديث عنها مع عاشقها ومعشوقها سالم. هذا العبد يعمل ترزيا، غير أنه لا يهم وينشط إلا في حياكة الأكفان. حتي عندما أوكل إليه "الحاج نار" ـ ويلاحظ هنا أيضا رمزية الاسم ـ حياكة (لباسان) تلكأ في حياكتهما سنين، وهنا أيضا نلحظ الرمزية في مادة الحياكة المطلوبة، والتي تعني ستر العورة. وقد تخاذل عبد أبو دراع في صنعها، علي عكس ما يحدث عندما يطلب منه حياكة كفن.

وإذا ما نظرنا إلي طلب "سالم" منه حياكة بدلة، نجد أنه لم يتمها إلا بعد سنوات، وكأنه يحيك له كفن. فإذا كان سالم قد أراد خياطة البدلة حتي يتمكن من دخول الأوبرا ومقابلة المايسترو سليم سحاب. أي ليطور نفسه وفنه والخروج من العشوائية في الغناء إلي العلم والمنهج. هنا أيضا نستطيع القول بأن عبد أبو دراع يلعب الدور الريئسي في المسألة. فهو وإن كان أحد عاشقي سلمي/ مصر فقد وقف بتمسكه بالموت (صناعة الأكفان) وتقاعسه عن حياكة أي شئ آخر، تقاعسه عن صناعة البدلة، فإنه وقف حائلا أمام العلم، وأمام التقدم وأمام الحياة. تلك الحياة التي يمكن أن نراها أيضا في "سلمي" في قراءة أخري للرواية، لتصبح هي واهبة الحياة لسالم/ للجميع، رغم سعيه للخروج منها، بحثا عن الجنة الموعودة المتمثلة في بحثه عن "سندس" (ويلاحظ دلالة الاسم هنا أيضا وعلاقته بالجنة). وهي المرتجي لعبد، رغم ممارسته لما يخالفها، ولتصبح المقابلات هي العنصر الأساسي في الرواية بهذه القراءة.

فضلا عن إمكانية القراءة علي الوجه المباشر، ولتصبح التيمة الشعبية ودورها في الحياة الاجتماعية، من أمثال وألغاز ومواويل، هي الغاية والمتعة في الرواية. الأمر الذي يؤكد غناء وثراء الرواية وقدرتها علي التخريجات والتأويلات المتعددة، والتي تسمح لأكثر من مستوي من القراء دون أن تفقد في أي منها متعة الاستمتاع بالعناصر الفنية. وإن كانت أعمال محمد إبراهيم طه السابقة تؤكد أنه ليس بالجالس في برج يتأمل ويتفلسف بقدر ما هو إنسان يعيش قضايا مجتمعه ويتفاعل معها، الأمر الذي يرجح القراءة الأولي، دون أن يمنع القراءات الأخري التي يمكن الخروج بها من هذا العمل الغني. 

التقنية والإسلوب
من الأمور التي تعضد قراءتنا السابقة، والدائرة حول بحث الإنسان المصري عن الموت وهو في الحياة، ذلك الإسلوب الذي تلاشت فيه الحقيقة والخيال، أو الواقع وما اعتمل في جوانية الراوي "سالم" حتي أصبح القارئ عليه أن يتأمل جليا، متي كان السارد علي السطح، ومتي غاص به في أعماق الواقعة أو أعماق الأرض. وأصبح السرد صعود وهبوط ناعم وسلس، وكأن الكاتب طيار ماهر، معه لا يشعر الراكب/ القارئ، متي صعد إلي عنان السماء، ومتي لامست عجلاته الأرض. فبدا كما لو كان هذا الإنسان يعيش ما تحت الأرض/ ما بعد الموت، كما يعيش ما فوقها/ الحياة، ولا فاصل بينهما. فضلا عن تداخل الغيبي (رؤية سلمي والأعرابي، لما هو في الغيب) وما يحمله من وقوع في ماض أو مستقبل، والواقع المعاش الذي يعيشه السارد في الآن. وهو ما ساعد علي اختفاء المكان، وتشظي الزمان فأدخل قارئها في دوامة البحث عن مكان يضع فيه قدمه، ويتطلع لأعلي بحثا عن موضعه من الشمس أو القمر، فيعجزه معرفة ما إذا كان الوقت ليلا أو نهارا. فلا يستطيع القارئ أن يتتبع سير الزمن إلا بإعادة التفكيك والترتيب والتجميع. إذ كثيرا من نجد النتيجة تأتي قبل المقدمة أو الأسباب. فإذا كان التسلسل المنطقي يبدأ بالمقدمة أو التمهيد، ثم يسير لأسباب تؤدي إلي نتيجة منطقية منبعثة من هذه الأسباب، فإن هذا التسلسل غير موجود. ففي بداية الرواية ـ مثلا ـ نبدأ بمعرفة أن هناك رحلة صحراوية، وجِمالٌ ماتت. ولنبدأ فيما بعد الرجوع للوراء للتعرف علي أسباب هذه الرحلة، وكيفية موت الجِمال، وما أدي إليه ذلك. ليس أيضا بهذا الوضوح، حيث يتخلل ذلك التعرف علي بعض الشخوص الأخري،أو الدخول في واقعة ـ ولا أقول حدث ـ أخري ربما تسحب الذهن عما كان يدور الحديث فيه. الأمر الذي يتطلب اليقظة التامة من القارئ، وإلا تاهت منه الخيوط ووجد نفسه ـ كما سبق أن ذكرت ـ في شوارع المعادي يبحث عن كيف الخروج.

وقد يضاف إلي هذا التيه ـ ويلاحظ أن السارد سالم عاش التيه أربعين يوما ـ الذي يدخل الكاتب قارئه فيه، ذلك التداخل بين الكائنات، وتبادل الأدوار فيما بينها ـ وهو ما يرجح كذلك ما ذهبنا إليه من تأويل. فتارة نجد تداخلا بين أم السارد "ورد" وبين "سندس"، ثم بين "سندس" والناقة، ثم بين كل من "سلمي" و "سندس" لندور في فلك هل كل منهن شخص مستقل، أم أن لكتاهما شخص واحد، وكأن الكائنات كلها توصل لبعضها البعض، فما أن يشعر القارئ أن السرد يسير عن سندس حتي يكتشف أنه إنما يسير عن الناقة. فعلي سبيل المثال، عندما استوقف ضابط الأمن في الكمين "سالم" ليسأله عن الناقة التي تسير خلفه، وليس معه مايثبت أنه صاحبها، فاراد الضابط التحقق من تبعيتها له: (قال كل الإبل ينطبق عليها ما قلته، قلت : ما عدا العِشرة وناديت: يا سندس فالتفتت نحوي. وقال هو يا سندس فلم تلتفت)(8).

ثم يصل بنا الكاتب للتداخل بين السارد ذاته "سالم" وبين "عوف" وكأنه يحيل سالم إلي "عوف الأصيل" في الصورة الشعرية المعروفة، لا من حيث التسمية التحتية ـ إن جاز التعبير ـ وإنما كذلك باستخدامات الشعر والموال. والتي تعتبر أحد الثمات الرئيسية في الرواية. فقد اتسع استخدام هذه المواويل الشعبية المعبرة والمترجمة للموقف أو الحالة، والتي في ذات الوقت تعبر عن تركيبة الإنسان المصري المستخدم للموال والتكتة والفزورة للسخرية من تلك المواقف الهزلية التي يعيشها.

إلا أن ما تمتعت به الرواية من شاعرية تملك بتلابيب القارئ فلا تجعله يخرج بل يطلب المزيد من هذا التيه المحبب. فإذا ما تأملنا مثل هذه الفقرة، لنلحظ كمفيها من شفافية اللغة، علاوة علي التكثيف، الذي يجعلها مشحونة بالإيحاءات، وحبلي بالدلالات والتأويلات. لوقفنا علي ما تحمله الرواية من شحنات شاعرية:

(قلت حدثيني عن شخص أضير بسببك، فقالت: تقصد عوف؟ قلت أقصد حنا الذي لم تنطقي بشأنه سوي كلمتين أثبتِ بواحدة براءته من تهمة الكذب، وبالثانية ألصقتها به، فقالت مندهشة إنها لا تعيد الكلام، والجواب بقدر السؤال: بلح المرج يثمر كل عام، وثماره لمن في المرج ولم يحدث أن ذاقها أحد خارجه إلا كبير العلما، ولذلك احتمل المقصلة، والبلح العوامري ليس إلا بلح السياج، يثمر عاما ويخيب عاما، وصديقك كان يقصد بلح المرج، وعدوه كان يقصد بلح السياج، كلاهما كان صحيحا لكن الحجة كانت في يد العزو)(9) .

وإذا كان محمد إبراهيم طه قد نجح في مزج العامية بالفصحي، حتي جاءت كل في مكانها وزمانها، فأصبحت عامل مساعد لنقل الإحساس بالحالة والموقف. إلا أن كلمة واحدة منها جاءت في غير مكانها، بل أصبحت منفرة في المكان والزمان الذي جاءت فيه. فعندما كان يستغرق في وصف "سلمي" ويضفي عليها من آيات الجمال والجلال، دخلت الكلمة للتعبير عن الدخول الفجائي، فخانها التوفيق، حيث أعطط إحساسا مخالفا للسياق في الصفحة الحادية عشر.  

رواية القرن الجديد
منذ باديايات القرن الجديد، والرواية المصرية خاصة، والعربية عامة، تنحي منحي الكتابة المباشرة الفاضحة للواقع والناقدة لسوءاته، متخذة من وسط المدينة مسرحا لأحداثها. غير أنه صدر في نفس توقيت صدور "دموع الإبل" رواية أخري لـ "أحمد أبو خنيجر" بعنوان "خور الجمال" تدور في نفس الفلك. وبين الروايتين الكثير من نقاط الالتقاء، في الرؤية والرؤي. وكلتاهما تخرج عن المدينة أو القرية وتزحف باتجاه الصحراء متخذة من الجمل سفينة للإبحار في جوهر الإنسان، وبعيدا عن مشاكله الحياتية اليومية. فهل يعني هذا، اليأس من المواجهة المباشرة، والإحباط في مواجهة الحياة اليومية بما يكتنفها من أسباب للحياة، وهروب إلي الخلاء ومناجاة القوي الأعلي، سعيا نحو الأسمي والأرقي؟!

ذلك ما سيوضحه قابل الأيام.

Em: shyehia@yahoo.com ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ دموع الإبل ـ محمد إبراهيم طه ـ دار الناشر للنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولي 2008.
(2) ـ الرواية ص 81
(3) ـ الرواية ص 9
(4) ـ ص 173
(5) ـ الرواية ص 81
(6) ـ ص 156، 157
(7) ـ الرواية ص 94، 95
(8) ـ الرواية ص 106
(9) ـ الرواية ص 103