مع صدور ترجمة مغربية لأحدث أعمال الناقد البلغاري الفرنسي الشهير يؤكد مراسل الكلمة في المغرب أهمية التراكم والترجمة في تكوين عقل نقدي، ويستعرض مع القراء أهم ما ينطوي عليه هذا الكتاب الجديد من رؤى وتحذيرات.

تودوروف يؤكد: "الأدب في خطر"

عبدالحق ميفراني

كعادته لم يتخلف الكاتب والمترجم المغربي عبدالكبير الشرقاوي على التقاط لحظة نقدية رفيعة كي يقدمها للقائ العربي، فهذا المترجم الذي ساهم في عبور أمهات الكتب النقدية والتي أمست تشكل في الأدب الحديث محطات معرفية أساسية في تشكل الوعي النقدي، يؤسس لتجربته المتميزة من خلال قدرة واعية بمسارات ترجمة النص النقدي عبر امتلاك معرفي وحس أدبي للغة. إن قدرة النص الثاني في الحضور يجعل من فعل الترجمة فعلا "إبداعيا" بامتياز، ويدعونا مجددا الى التفكير في صناعة الأسئلة، أكثر من التفكير في إجابات جاهزة، لقد أمكن للمترجم عبدالكبير الشرقاوي حتى في اختياراته، أنم يعمق من هذا الوعي، في قدرة الترجمة على تفعيل مسارات ودروب التفكير في الأدب، جزء عميق من التفكير في العالم. ولعلنا هنا نماثل مقولة تودوروف بذاتها حين يؤكد أن "الأدب يفتح الى اللانهاية إمكانية التفاعل مع الآخرين وهو إذن يثرينا لانهائيا. يزودنا بإحساسات لا تعوض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى وأجمل... إنه يتيح إمكانية لكل واحد أن يستجيب لقدره في الوجود إنسانا". 

تودوروف ضد تودوروف:
كتاب "الأدب في خطر" صدر السنة الماضية 2007، وهي نفس السنة التي قام فيها المترجم بتقديمه الى القارئ العربي، لحظة الترجمة لحظة خصبة وحية مادامت ترتهن بتاريخها الى لحظة القراءة الأولى الفعلية. يصعب في البداية تأطير الكتاب ضمن خانة توصيف جاهزة، ففعل القراءة يكشف أننا أمام سيرة النقد ذاته. النقد أمام مرآته، حين يفكر النقد في نفسه، ويراجع مقولاته ومفاهيمه واستراتيجياته النظرية قد يكشف الحس الديداكتيكي/ التعليمي عن صورة آخرى تندمج في هذه الرؤية الكلية. لكن، التفكير في المدرسة أشبه بالتفكير العميق في جماليات التلقي، وفي الممارسة الاستقرائية من الداخل. ثمة مسارات يفتح الأدب تشعباتها وانزلاقاتها. لكن تودوروف يعيد في كتابه "الأدب في خطر" تمثل فعل القراءة والفهم الأعمق للأدب، من خلال التفكير في الأدب ذاته. وحين يسترجع قناعاته التي تشكلت عبر هذا المسار الطويل والمتشعب في الممارسة النظرية فإنه لا ينفك يؤكد على فعل القراءة وعشقها.. "الدخول الى عالم الكتاب... الذين كنت أقرأ الآن نصوصهم الكاملة، يوفر لي دائما هزة استمتاع: أستطيع إشباع تطلعي وأحيا مغامرات، وأتذوق ضروب الرهبة والمسرة، دون أن تنالني الإحباطات"/ ص 5.

هذا الدخول المجازي لعالم الأدب، هو ما ولد في النهاية لتودوروف مهنة مجازية أعمق: "الكلام عن الكتب سيكون مهنتي"/ ص 6. وهي المهنة التي كانت مطالبة أن تواجه أول تحدي في عدم الخضوع لمطالب الايديولوجيا المهيمنة. من صوفيا بلغاريا، الى باريس فرنسا حيث اللقاء مع جيرار جينيت وترجمته لنصوص الشكلانيين الروس في مجلد بعنوان "نظرية الأدب"/ 1965، ثم إشرافهما على مجلة بويتيك/ Poétique في باريس استطاع تودوروف أن يقرأ الأدب في حل من أغلال الايديولوجيا، ومن مناهج التحليل الأدبي الى التحليل نفسه.

الأدب حسب تودوروف لا ينشأ في الفراغ، بل وسط خطابات حية يتقاطع معها في العديد من الخصائص، لقد اتسع حقل الأدب في ذهن الناقد، لأنه أمسى يستوعب الدراسة والبحث التأملي الى جانب النصوص الإبداعية الأخرى، وهو ما جعل تودوروف يمتلك "الآن هنا" فعلا خاصا للأدب يعينه على الحياة. في جرد غاية في الأهمية، يتناول تودوروف حضور الأدب في المؤسسات التعليمية، وهو ما يجعله يصرح بالاختزال العبثي للأدب، فالمدرسة لا تعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية بقدر ما تعلم ماذا يتحدث النقاد. إذ يظل الخيار القائم للدراسات الأدبية هو التعريف بالأدوات التي تستخدمها تلك الدراسات. إن قراءة القصائد والروايات لا يسوق الى التفكير في الوضع الإنساني، والفرد والمجتمع، والحب والكراهية والفرح واليأس بل التفكير في مفاهيم نقدية تقليدية أو حديثة. إن "الغلبة اليوم في المدرسة للبنيويين، كما كانت للمؤرخين قبل اليوم. وكما يمكن أن تكون للمختصين في علم السياسة غدا" هذا التوجه يثير طودوروف الى حد يجعله يسم هذا الحضور ب"الشطط" في استعمال هذه السلطة. من المفيد أن تحضر هذه المعرفة عند التلميذ: تعلم وقائع التاريخ الأدبي أو بعض المبادئ الصادرة عن التحليل البنيوي، لكنها ليست مثلى وقدسية في نهايتها، فالأعمال الأدبية تحيا ضمن سياق وفي حوار مع نص يتيح لنا إمكانية إيجاد معنى لفهم أفضل للإنسان وللعالم.

معرفة الأدب، اليوم في المدرسة، تقود الى طريق مسدود ويجزم تودوروف أنه من العسير عليه أن يفضي بنا الى عشق الأدب. إن المقاربة الداخلية (دراسة علاقة عناصر العمل الأدبي فيما بينها)، ينبغي أن تكون مكملة للمقاربة الخارجية (دراسة السياق التاريخي، الايديولوجي والجمالي) لكن الهدف في النهاية يظل فهم معنى الأعمال الأدبية.

يؤكد تودوروف على مقولة الاختزال العبثي للأدب في سيرة نقدية، تعيد تأمل مسارات القراءة. وحضور الأدب في المؤسسة التعليمية والذي يعبر عن إحدى الإشكالات الكبرى اليوم في مضمر الممارسة الثقافية، وهي الضائقة التي بدت تتوسع في بنية وعمق الإنتاج الأدبي. مما أفرز مقولة أساسية الأدب كتمثيلا للنفي عوض أن يكون نفيا للتمثيل.

بفض الفن يمكن للفرد البشري بلوغ المطلق، هذا ما توصل إليه تودوروف في تناوله لسيرة نشوء علم الجمال الحديث، إذ أسهمت هذه النظريات الحديثة في قدسنة الفن من جديد. مع تأكيد لحرية المبدع وتعاليه عن العالم. في إشارة لاستقلاليته الرمزية. لكن الثوري في هذه المقاربة هي أنها تؤدي الى التخلي عن منظور المبدع من أجل تبني منظور المتلقي الذي ليس له إلا "تأمل أشياء جميلة". وهذا الانتقال من منظور الإنتاج الى منظور التلقي أفرز في عصر الأنوار روحا جديدة تتمثل في استقلال الفرد. إذ يصبح الفنان تجسيدا للفرد الحر وعمله الفني يتحرر بدوره.

إن مجموع هذه المفاهيم قد ولدت معنى إضافيا يتمظهر في الأدب والذي بدوره أسهم في خلق "مجتمع يسكنه مؤلفو الماضي والقراء الآتون.. "أسهم طودوروف في بناء لحظة ابستيمولوجية يدرك أن تفاصيلها في مراجعة مفاهيم أساسية للأدب في علاقة برؤية استشرافية من خلال مؤسسة المدرسة. ويصل هذا النقد الى ما يسمه طودوروف ب"المهزلة" في إشارة للمنجز وراهن هذه الممارسة (فرنسا) المفكرة في الفن والأدب، إن الأدب يستطيع الكثير فهو يجعلنا أفضل فهما للعالم ويعنينا على أن نحيا، هو "كشف للعالم" نظرا لطبيعة دوره الحيوي.

الأدب مثله مثل باقي العلوم الإنسانية هو فكر ومعرفة للعالم الذي نسكنه، والواقع الذي يطمح الأدب الى فهمه هم التجربة الإنسانية، إن الأفق الذي يندرج فيه العمل الأدبي هو أن يكون "حقيقيا" بمعنى الكلمة. كتاب تودوروف، في النهاية، محاولة جديدة في إعادة تحيين سؤال الحاجة الى الأدب، لا بوصفه مادة للتدريس، ولا عينة مختبرية لسادية النظريات. إنه إمكانية "استثنائية" للرد على من كتب رسالة "إنهم يغتالون الأدب".