رسالة السودان
بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة والخطاب الفكاهي السائد!
«الشكل الأدبي ليس وعاء للتجربة، ولكنه التجربة ذاتها وقد تشكلت بهذا النسق المعين، ومن هنا فإن الشكل نفسه رؤية وموقف ومضمون، ولا تجوز محاكمته من منطلق انفصاله عن الرؤية التي ينطوي عليها المضمون الذي يقدمه، أو العالم الذي يتشكل عبر عناصره وأدواته المختلفة» بهذه العبارة للدكتور صبري حافظ صدّر الناقد هاشم ميرغني كتابه (بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة) الذي صدر مطلع شهر ديسمبر وجاء في 503 صفحة من القطع المتوسط وأردف إليها عبارة محمد عبد الحي في الرؤيا والكلمات «إن التركيز الشكلي يضمر محاولة متصلة لتركيز الوعي الشعري بالعالم، وهي محاولة للوصول إلي الحدود النهائية للوعي أو للذرة الأولي التي ينطلق منها الوعي المطلق في حركته الكونية الكبرى» وقد ناقش من خلال فصول كتابه العديد من الأسئلة الاصطلاحية والمفاهيمية الخاصة بفن القص القصير... منطلقاً من ملاحظة مفادها: «أن الدراسات النظرية الموسعة في مجال القصة القصيرة نادرة جدا، مما أسهم في تسطيح الدراسة التطبيقية، وضمور حصادها علي مستوي الخطاب النقدي العربي». هذا الكتاب الذي دفع به هاشم ميرغني للمكتبة يجئ وقد سبقته مؤخراً حالة لافتة من الاهتمام بفن القصة القصيرة علي مستوي المشهد الثقافي السوداني، بوجه خاص في العام المنقضي، ففي شهر مايو أتيحت للقصة القصيرة السودانية فرصة أن تطل علي المشهد الثقافي العربي عبر (كتاب في جريدة) إصدارة اليونسكو، حيث اختار محمد المهدي بشرى مجموعة من النصوص قصد أن يمثل بها الأجيال القصصية السودانية منذ الأربعينيات إلي التسعينيات، وأحرز الكتاب أصداء متعددة استقطبت إفادات لا تعوزها الرؤى النابهة حول سيرة القصة القصيرة السودانية خاصة علي المستوي المحلي حيث تحدث عنه الناقد الرائد عبد القدوس الخاتم والكتّاب نبيل غالي وعبد العزيز بركة ساكن ومجذوب عيدروس وغيرهم. كما احدث حراكاً ملحوظاً وسط تنظيمات الكتّاب مثل نادي القصة الذي عقد ندوة مشهودة حوله. وهذا بالطبع مصحوباً بحقيقة أن الكتاب الذي وزع علي نطاق عربي واسع أتاح لتلك المختارات أن تصل لعدد أكبر من القراء! وكان اتحاد الكتّاب السودانيين أقام مطلع العام مؤتمراً علمياً بعنوان (القصة القصيرة السودانية: المنجز وآفاق الحلم) شارك به العديد من النقاد، ورفد الملاحق الثقافية بالصحف بدراسات ومقالات عديدة، وظل نادي القصة يقيم ندواته الأسبوعيّة المُكرسة للقصة القصيرة علي مدار العام. ولم تغب مصر عن مشهد الاحتفاء بالقصة القصيرة السودانية فقد صدر لفؤاد مرسي كتاب (القصة القصيرة في السودان) ضمن سلسلة أفاق عربية التي تشرف عليها هيئة قصور الثقافة بمصر، ووجد الكتاب اهتماماً لافتاً وسط كتّاب الملاحق الثقافية، وأكملت صحيفة (أخبار الأدب) المصرية اللوحة بإصدارها لملف عن القصة القصيرة في جنوب السودان. أذن يبدو أن القصة القصيرة التي يتحدث البعض عن «موتها» هناك.. تعيش في أبهي أيامها هنا، ولعل من المفيد أن نشير إلي انه ولوقت ليس بالقصير عانت القصة القصيرة في السودان من إشكاليات عديدة ليس اقلها: غياب المنابر (المجلات والدوريات) وظلت الملاحق الثقافية بالصحف تتحمل،طوال الوقت عبء نشرها والتعريف بكتّابها بعد أن توقفت مجلات وزارة الثقافة مثل (الخرطوم، الثقافة وغيرها) عن الصدور منذ مطالع التسعينيات تقريباً! وما يلفت في المشهد ألان اتجاه بعض الكتّاب إلي إصدار مجامعيهم القصصية بالمجهود الذاتي، ومن هذا الباب برز عبد العزيز بركة ساكن، ستيلا قايتنيو، جون ارليو، وعلي عيسي ومنصور الصويم واميمة عبد الله وغيرهم، لكن هذه الحركة القصصية الواعدة لم تحظ باهتمام نقدي يمكن أن يُشار إليه، ويتحدث كتّاب القصة دائما عن ضعف الحركة النقدية، وان ما أنجزوه ينتظر أن يُقرأ وتحدد قيمته وبالمقابل يتحدث النقاد عن غياب المنبر الذي يتحمل نشر الدراسات النقدية، وان الملاحق الثقافية بالصحف ذاكرتها قصيرة، لا تدوم أكثر من يوم، وان الصحف لا تقيم المادة النقدية وترّكز علي المواد الخبرية والمقالات الخفيفة... الخ! والواقع أن الناظر يستطيع أن يتبين بسهولة أن المكتبة السودانية ظلت ومنذ السبعينيات تفتقر للكتاب النقدي، وحتى مشهد تلك الفترة المتأخرة لم يقدم من الكتب إلا تلك التي يجري اعدادها من مجموعة مقالات صحفية، ولو أردنا تخصيص الأمر بمسار القصة القصيرة تحديدا فالذاكرة لا تسعف إلا بكتابٍ يتيم أصدره مختار عجوبة بعنوان القصة الحديثة في السودان 1972، عيّن من خلاله المسارات التي رأي أن القصة القصيرة في السودان شغلتها، وذلك منذ البدايات إلي فترة الستينات وصنّف الكتّاب إلي وجودي وعبثي وتجديدي وذلك وان كان تمّ بصفة ميكانيكية إلا انه خلّف معلومات مهمة للأجيال اللاحقة حول العديد من القضايا المتعلقة بالقصة القصيرة في تلك المواعيد الأولي. أما فترة الثمانينات فقد شهدت بروز جيل نقدي جديد بفضل الاستقرار النسبي لإصدارات وزارة الثقافة المار ذكرها.. أحمد عبد المكرم، معاوية البلال ومحمد ربيع محمد صالح ومصطفي الصاوي وغيرهم. هذه الأسماء ستشكل حضوراً لافتاً علي مستوي الملاحق الثقافية وعبر مجلتي الخرطوم والثقافة السودانية. لكن دفعها الذي تميز بإجراء المقاربات النقدية حول النصوص السردية والشعرية والتعريف باتجاهات ونظريات النقد، المستحدث منها والقديم.. دفعها هذا ما لبث أن تبدد مع أواخر الثمانينات مع توقف تلك الإصدارات وهجرة العشرات من المبدعين بسبب القبضة السياسية الخانقة لحكومة الإنقاذ في بداياتها تلك. أواسط التسعينيات شهدت استقرارا نسبياً كما ذكرنا واصدر معاوية البلال كتبه (الشكل والمأساة في القصة القصيرة ) و(جنوب الكتابة وكتابة الجنوب) و(نماذج من القصة النسوية )، ومحمد مهدي بشري اصدر (الشمعة والظلام )، عدا ذلك لم يحدث ما يستحق الذكر في حقل «نقد القصة القصيرة». ويبدو ألان وكأن كتاب (بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة) لهاشم ميرغني يجئ كتتويج لحالة الحضور اللافت لقضايا القصة في المشهد الثقافي السوداني، ونذكر أن صاحب الكتاب أظهر في الكثير من المناسبات اهتماماً خاصاً بما يسميه بـ «تجذير الاصطلاحات والمفاهيم النظرية» وفي هذا الخيط كتب معرفاً باتجاهات ونظريات نقديّة عديدة، وهو ما كان يُقرأ من البعض باعتباره نوع من العجز في مقابلة النصوص الإبداعية القصصية والروائية.. ويشمل طيف هذا الحكم اغلب النقاد بالطبع! افرد هاشم ميرغني مساحة واسعة من كتابه للحديث، بصورة نظرية، عن آليات العنوان، آليات السرد وبناء الحدث، وحدة الانطباع، المكان القصصي، لغة الخطاب السردي، وبصفة عامة يمكن القول أن الكتاب اهتم بإبراز الفروق ما بين فن القصة القصيرة وغيرها من أجناس أدبية مثل الرواية والمقامة والصورة القصصية وفي هذا الإطار ناقش العناصر البنائية، الظاهرية والدلالية، التي تميز القصة القصيرة والتطورات النوعية التي طالت القصة القصيرة المعاصرة، كما ناقش الطرائق التي تبنى بها الشخصيّة وطبيعة لغة السرد وكيف تتجلي بصفة شعريّة... الخ. الكتاب الذي احتوي علي مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة خصص مفتتحه للمصطلحات «بنية، خطاب، لغة» وتقصي الدلالات التي أسبغت عليها، وتتبع معانيها في اللغة والاصطلاح. ويلفت النظر هنا أن هاشم ميرغني يقول بوجود «إشارات عميقة النفاذ عند نقادنا القدامى أمثال الزمخشري وعبد القاهر الجرجاني وغيرهما تقترب كثيراً من مفهوم تحليل الخطاب، وهي إشارات متناثرة في الكتابات التي فسرت القرآن علي هدي من ضوء البلاغة». ويضيف ان الزمشخري أورد في تفسير قوله تعالي «وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالي عما يشركون» قال: والغرض من هذا الكلام أذا أخذته بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف علي كنه جلاله لا غير ومن غير ذهاب بالقبضة إلي جهة حقيقة أو جهة مجاز.. ولكن فهمه أول شيء وآخره علي الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة علي القدرة الباهرة». ويري ميرغني ان فهم الزمخشري هنا انصب علي ما يسمي بـ «مضمر النص» ويقول «اللافت ان الزمخشري لم يسم ذلك بالتأويل ـ المفردة الأكثر تداولا بين المفسرين ـ بل انه قد وصف التأويل في مثل هذه الآية بالغثاثة في قوله «وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة، لان من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا من دبير!» ويضيف هاشم ميرغني «ثمة محاولة من الزمخشري تتحسس طريقها بعد ذلك لتسمية ما توصل إليه علما حيث يمضي قائلا: "ولا نري بابا في علم البيان أدق ولا ارق ولا آلف من هذا الباب ولا انفع ولا أعون علي تأويل المشتبه من كلام الله تعالي وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء. فان أكثره وغلبته تخيلات قد زلت فيها الأقدام قديماً وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا ان في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدروه حق قدره خفي عليهم ان العلوم كلها مفتقرة إليه.. إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو" وإشارة الزمخشري هنا تشف بوضوح عن ان ما يعنيه هنا لم يستطع ان يجد بغيته في التأويل كما لم يستطع ان يجده في علوم البلاغة السائدة في عصره، فهل يمكن القول انه كان يضع بحديثه هذا اللبنات الأولي لتحليل الخطاب؟». وعلي هذا النحو يعرض هاشم ميرغني للعديد من المصطلحات والمفاهيم.. يتقصي حضورها في الذاكرة العربية النقدية، كما يحاور الجهود الحديثة المعمقة لمفاهيمها، وذلك عبر مجموعة من النصوص السودانية والعربية والغربية. وفيما لو كانت القضايا النظرية التي نوقشت في الكتاب مما طرقته العديد من الأقلام النقدية العربية فان قراءة الكاتب لمجموعة من النصوص السودانية لعيسي الحلو وبشري الفاضل ومهدي بشري وأحمد الفضل وغيرهم تمثل قيمة خاصة في سياق الحركة النقدية السودانية كونها تعيد الحياة لهذه النصوص التي طالما تم تجاهلها، تكشف مزاياها الفنية وتعين مساراتها في الحركة العامة لهذا الجنس السردي الساحر. كما يمكن القول ان الكتاب يمثل، في صورته العامة، طبعة سودانية من الدراسات النقدية المعرفة بتقنيات القصة القصيرة، والتي قُدمت من بلدان عربية عديدة وذكرنا كيف ان يصدر والساحة خالية منذ عقود عن نتاجات مماثلة! الخطاب الفكاهي السائد فرق للنكات، فرق استعراض، فرق كوميديا، منكاتية، تعددت أسماء هذه المجاميع التي يرى البعض في نسبتها إلي «الفنية» جناية علي ما هو فني لكن بقيت هذه الفرق طوال العقدين الماضيين تتسيد الفضاء الثقافي بوسائطه المختلفة: تلفزيون، صحف، إذاعة، مناسبات عامة. وقد رفض اتحاد الدراميين الاعتراف بكوادرها وظل علي موقفه هذا إلي الوقت الراهن، لكن الشواهد تؤكد ان هذه المجاميع كسبت الكثير من المواقع وصارت أكثر تأثيراً من كيانات الدراميين مجتمعة.. الباحث عبد الخالق السر قرأ تجارب هذه الفرق في 18 ديسمبر بمنبر (مسرحيون من اجل التغيير) بالمسرح القومي عبر ورقة اختار لها العنوان: «الخطاب الفكاهي السائد: انعكاساته العنصرية وتحيزاته الذكورية»، مبتدراً بالقول ان قراءة الخطاب الإبداعي لهذه الفرق يبين أنها تستخدم اللغة بجهل مريع، ويكشف عن انها تكرس لقيم تغالط الفن والرقي، بل وتدخل في نطاق التعديات علي حقوق الإنسان! خيلاء ود العرب في بداية حديثه قال عبد الخالق انه من الطريف واللافت في أمر هذه الجماعات زعمها أنها تقوم بتوظيف خطابها الإبداعي لتذويب الحساسيات العرقية التي أفسدتها سياسة المركز، مجسدة في مؤسسات الدولة ما بعد الاستعمار، والتي أنتجت توترات ما يعرف بالمركز والهامش في أدبيات السياسة السودانية المعاصرة، لكن ـ يقول عبد الخالق ـ إن القراءة تبين جهلها بفخاخ اللغة وتعقيداتها التي يتسبب بها الاستسلام لمنطق البديهي والمألوف، ويبلغ جهلها هذا لأبعد حد حينما تعمل علي نقد إيديولوجية النظام الثيقراطي الحاكم باستخدامها لغة من ذات النسيج اللغوي المحتوي علي ذات النظم القيمية والأخلاقية لإيديولوجية النظام. إشارة عبد الله علي إبراهيم الواردة في كتابه (الماركسية ومسألة اللغة) والتي مفادها ان بنية لغة الثقافة المهيمنة تشيع صورا نمطية عن الآخر في لا وعي أهلها، وان من وقائع انقلاب 1976 ان الإعلام الرسمي اقنع الأهالي بان قادة الانقلاب دخلاء علي البلد بقرينة ان لغتهم مكسرة (!) هذه الإشارة يعتمد عليها عبدالخالق ويمضي بحديثه إلي أن هذه الفرق تتعامل مع اللغة بذات تلك الحساسية ويقول «إن هذه الفرق تسعي إلي تكريس الصورة النمطية عن الآخر ليس في مستواها اللغوي فحسب ـ من منظور لغة سليمة ولكنة مضحكة ـ بل تتوغل إلي ما هو أعمق وتسعي لتثبيت الصور النمطية لأقوام السودان دون فرز والتي هي أصلا جزء من ميراث ضارب في جذور العنصرية والإحن التاريخية فالجعلي (جنس قبلي) هو الأحمق لمجرد كونه جعليا، والشايقي خبيث، والهندندوي غبي وكسول، والجنوبي ساذج ومتخلف». ويشير عبدالخالق إلي ان «التيمة الأساسية التي تؤسس للنكات والقفشات عند هذه الفرق هي (اللكنة) والتي يمكن ان تقرأ (العجمة) بمحمولاتها الرمزية المشككة في هوية الآخر، لمجرد عجزه عن مجاراة لغة الثقافة المهيمنة». وأضاف «ان النكتة هنا تستفيد بالكامل من الموروث التاريخي للثقافة العربية المهيمنة المستحقرة للآخر». التحيزات الذكورية وفي جزء متقدم من حديثه أشار عبد الخالق السر إلي أن موقف خطاب هذه الفرق من المرأة يتماهي كذلك مع الخطاب الثقافي السائد، إذ قصدت هذه الفرق في كثير من الأحوال التهكم علي التطلعات النسوية الواعية بحقوقها الإنسانية في العدل والمساواة. وقال «اللغة هنا تجسد حرفيا منظومة القيم والأعراف البطريركية لمجتمع الثقافة العربسلامية المهيمنة والتي تتحول فيها المرأة إلي موضوع، إلي جانب موقعها المتدني في التراتب الأبوي». وأشار أيضا إلي ان هذا الخطاب يبخس ما أحرزته المرأة في التعليم والعمل حين يعمل جاهدا لخلق علة سببية بين «توظيف المرأة» وضعف حظها في الزواج، فصورة المرأة الموظفة في هذا الخطاب مرتبطة بـ «العنوسة»! وأضاف «بل يتمادي خطاب هذه الفرق في غيه حين يروج لزواج القاصرات (طالبات المرحلة الثانوية) بصورة مزرية تجعل من السن والجسد قيماً في حد ذاتها لا المرأة/ الإنسان». وأخذ عبد الخالق علي الحركات النسوية السودانية صمتها علي ما تطرحه هذه الفرق من قيم تمثل تعدياً علي حقوق المرأة وقال «لا يجد المرء موقفا واضحا تجاه هذا العنف اللفظي والجسدي المتوسل بالإبداع خطابا». من جانبه أقر طارق الأمين مؤسس «فرقة هيلاهوب» المنخرطة في هذا المجال منذ عقدين بملاحظات عبد الخالق السر، وربط ما بينها وحقيقة ان اغلب عناصر هذه الفرق لم تتلق تعليماً عالياً، مشيراً إلي ان هذه الفرق لا تصنع النكات، لكنها تعتمد علي خزين الثقافة الشعبية. وقال «ما يحدث ان عناصر هذه الفرق تروي النكات فقط لا احد منا يخترع نكتة». مضيفا ان هذه الفرق لاقت عنتاً في بدايتها من قبل المؤسسات الرسمية إلا أنها أصرت علي مشوارها حتى صارت ألان من أميز مظاهر الحياة الثقافية. وقال أيضا «لكن هنالك تعميم في الإشارة الي ان هذه الفرق تكرس خطاب التمييز العنصري، فهذه الفرق ذاتها مكونة من جنسيات سودانية متعددة، كما ان النكتة لدي هذه الفرق لها موضوعات أخري غير ما يتعلق بجنس او لون معين، كما ان الكلام عن ان هذه الفرق تتهكم علي الحركات النسوية الطليعية والمرأة العاملة غير سليم والنماذج التي طرحت لا تعبر غما يقدم في هذا الباب، فهنالك تجارب قدمتها بعض هذه الفرق ناصرت المرأة، وشاركت في العديد من المشروعات المدافعة عن حقوقها». وشارك الحضور بمداخلات متعددة يمكن القول انها اتفقت علي التأثير السالب للنكات التي تعتمد علي مناغاة الحس العنصري وتلك المتهكمة من المرأة عاملة أو ربة بيت، وأشار البعض إلي ضرورة طرح مبادرات من قبل التنظيمات النسوية الطليعية تهدف إلي توعية كوادر هذه الفرق بقضايا المرأة أهمية مناصرتها من قبل الكيانات الفنية المختلفة.
«الشكل الأدبي ليس وعاء للتجربة، ولكنه التجربة ذاتها وقد تشكلت بهذا النسق المعين، ومن هنا فإن الشكل نفسه رؤية وموقف ومضمون، ولا تجوز محاكمته من منطلق انفصاله عن الرؤية التي ينطوي عليها المضمون الذي يقدمه، أو العالم الذي يتشكل عبر عناصره وأدواته المختلفة» بهذه العبارة للدكتور صبري حافظ صدّر الناقد هاشم ميرغني كتابه (بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة) الذي صدر مطلع شهر ديسمبر وجاء في 503 صفحة من القطع المتوسط وأردف إليها عبارة محمد عبد الحي في الرؤيا والكلمات «إن التركيز الشكلي يضمر محاولة متصلة لتركيز الوعي الشعري بالعالم، وهي محاولة للوصول إلي الحدود النهائية للوعي أو للذرة الأولي التي ينطلق منها الوعي المطلق في حركته الكونية الكبرى» وقد ناقش من خلال فصول كتابه العديد من الأسئلة الاصطلاحية والمفاهيمية الخاصة بفن القص القصير... منطلقاً من ملاحظة مفادها: «أن الدراسات النظرية الموسعة في مجال القصة القصيرة نادرة جدا، مما أسهم في تسطيح الدراسة التطبيقية، وضمور حصادها علي مستوي الخطاب النقدي العربي».
هذا الكتاب الذي دفع به هاشم ميرغني للمكتبة يجئ وقد سبقته مؤخراً حالة لافتة من الاهتمام بفن القصة القصيرة علي مستوي المشهد الثقافي السوداني، بوجه خاص في العام المنقضي، ففي شهر مايو أتيحت للقصة القصيرة السودانية فرصة أن تطل علي المشهد الثقافي العربي عبر (كتاب في جريدة) إصدارة اليونسكو، حيث اختار محمد المهدي بشرى مجموعة من النصوص قصد أن يمثل بها الأجيال القصصية السودانية منذ الأربعينيات إلي التسعينيات، وأحرز الكتاب أصداء متعددة استقطبت إفادات لا تعوزها الرؤى النابهة حول سيرة القصة القصيرة السودانية خاصة علي المستوي المحلي حيث تحدث عنه الناقد الرائد عبد القدوس الخاتم والكتّاب نبيل غالي وعبد العزيز بركة ساكن ومجذوب عيدروس وغيرهم. كما احدث حراكاً ملحوظاً وسط تنظيمات الكتّاب مثل نادي القصة الذي عقد ندوة مشهودة حوله. وهذا بالطبع مصحوباً بحقيقة أن الكتاب الذي وزع علي نطاق عربي واسع أتاح لتلك المختارات أن تصل لعدد أكبر من القراء!
وكان اتحاد الكتّاب السودانيين أقام مطلع العام مؤتمراً علمياً بعنوان (القصة القصيرة السودانية: المنجز وآفاق الحلم) شارك به العديد من النقاد، ورفد الملاحق الثقافية بالصحف بدراسات ومقالات عديدة، وظل نادي القصة يقيم ندواته الأسبوعيّة المُكرسة للقصة القصيرة علي مدار العام. ولم تغب مصر عن مشهد الاحتفاء بالقصة القصيرة السودانية فقد صدر لفؤاد مرسي كتاب (القصة القصيرة في السودان) ضمن سلسلة أفاق عربية التي تشرف عليها هيئة قصور الثقافة بمصر، ووجد الكتاب اهتماماً لافتاً وسط كتّاب الملاحق الثقافية، وأكملت صحيفة (أخبار الأدب) المصرية اللوحة بإصدارها لملف عن القصة القصيرة في جنوب السودان.
أذن يبدو أن القصة القصيرة التي يتحدث البعض عن «موتها» هناك.. تعيش في أبهي أيامها هنا، ولعل من المفيد أن نشير إلي انه ولوقت ليس بالقصير عانت القصة القصيرة في السودان من إشكاليات عديدة ليس اقلها: غياب المنابر (المجلات والدوريات) وظلت الملاحق الثقافية بالصحف تتحمل،طوال الوقت عبء نشرها والتعريف بكتّابها بعد أن توقفت مجلات وزارة الثقافة مثل (الخرطوم، الثقافة وغيرها) عن الصدور منذ مطالع التسعينيات تقريباً! وما يلفت في المشهد ألان اتجاه بعض الكتّاب إلي إصدار مجامعيهم القصصية بالمجهود الذاتي، ومن هذا الباب برز عبد العزيز بركة ساكن، ستيلا قايتنيو، جون ارليو، وعلي عيسي ومنصور الصويم واميمة عبد الله وغيرهم، لكن هذه الحركة القصصية الواعدة لم تحظ باهتمام نقدي يمكن أن يُشار إليه، ويتحدث كتّاب القصة دائما عن ضعف الحركة النقدية، وان ما أنجزوه ينتظر أن يُقرأ وتحدد قيمته وبالمقابل يتحدث النقاد عن غياب المنبر الذي يتحمل نشر الدراسات النقدية، وان الملاحق الثقافية بالصحف ذاكرتها قصيرة، لا تدوم أكثر من يوم، وان الصحف لا تقيم المادة النقدية وترّكز علي المواد الخبرية والمقالات الخفيفة... الخ!
والواقع أن الناظر يستطيع أن يتبين بسهولة أن المكتبة السودانية ظلت ومنذ السبعينيات تفتقر للكتاب النقدي، وحتى مشهد تلك الفترة المتأخرة لم يقدم من الكتب إلا تلك التي يجري اعدادها من مجموعة مقالات صحفية، ولو أردنا تخصيص الأمر بمسار القصة القصيرة تحديدا فالذاكرة لا تسعف إلا بكتابٍ يتيم أصدره مختار عجوبة بعنوان القصة الحديثة في السودان 1972، عيّن من خلاله المسارات التي رأي أن القصة القصيرة في السودان شغلتها، وذلك منذ البدايات إلي فترة الستينات وصنّف الكتّاب إلي وجودي وعبثي وتجديدي وذلك وان كان تمّ بصفة ميكانيكية إلا انه خلّف معلومات مهمة للأجيال اللاحقة حول العديد من القضايا المتعلقة بالقصة القصيرة في تلك المواعيد الأولي.
أما فترة الثمانينات فقد شهدت بروز جيل نقدي جديد بفضل الاستقرار النسبي لإصدارات وزارة الثقافة المار ذكرها.. أحمد عبد المكرم، معاوية البلال ومحمد ربيع محمد صالح ومصطفي الصاوي وغيرهم. هذه الأسماء ستشكل حضوراً لافتاً علي مستوي الملاحق الثقافية وعبر مجلتي الخرطوم والثقافة السودانية. لكن دفعها الذي تميز بإجراء المقاربات النقدية حول النصوص السردية والشعرية والتعريف باتجاهات ونظريات النقد، المستحدث منها والقديم.. دفعها هذا ما لبث أن تبدد مع أواخر الثمانينات مع توقف تلك الإصدارات وهجرة العشرات من المبدعين بسبب القبضة السياسية الخانقة لحكومة الإنقاذ في بداياتها تلك.
أواسط التسعينيات شهدت استقرارا نسبياً كما ذكرنا واصدر معاوية البلال كتبه (الشكل والمأساة في القصة القصيرة ) و(جنوب الكتابة وكتابة الجنوب) و(نماذج من القصة النسوية )، ومحمد مهدي بشري اصدر (الشمعة والظلام )، عدا ذلك لم يحدث ما يستحق الذكر في حقل «نقد القصة القصيرة». ويبدو ألان وكأن كتاب (بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة) لهاشم ميرغني يجئ كتتويج لحالة الحضور اللافت لقضايا القصة في المشهد الثقافي السوداني، ونذكر أن صاحب الكتاب أظهر في الكثير من المناسبات اهتماماً خاصاً بما يسميه بـ «تجذير الاصطلاحات والمفاهيم النظرية» وفي هذا الخيط كتب معرفاً باتجاهات ونظريات نقديّة عديدة، وهو ما كان يُقرأ من البعض باعتباره نوع من العجز في مقابلة النصوص الإبداعية القصصية والروائية.. ويشمل طيف هذا الحكم اغلب النقاد بالطبع!
افرد هاشم ميرغني مساحة واسعة من كتابه للحديث، بصورة نظرية، عن آليات العنوان، آليات السرد وبناء الحدث، وحدة الانطباع، المكان القصصي، لغة الخطاب السردي، وبصفة عامة يمكن القول أن الكتاب اهتم بإبراز الفروق ما بين فن القصة القصيرة وغيرها من أجناس أدبية مثل الرواية والمقامة والصورة القصصية وفي هذا الإطار ناقش العناصر البنائية، الظاهرية والدلالية، التي تميز القصة القصيرة والتطورات النوعية التي طالت القصة القصيرة المعاصرة، كما ناقش الطرائق التي تبنى بها الشخصيّة وطبيعة لغة السرد وكيف تتجلي بصفة شعريّة... الخ. الكتاب الذي احتوي علي مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة خصص مفتتحه للمصطلحات «بنية، خطاب، لغة» وتقصي الدلالات التي أسبغت عليها، وتتبع معانيها في اللغة والاصطلاح.
ويلفت النظر هنا أن هاشم ميرغني يقول بوجود «إشارات عميقة النفاذ عند نقادنا القدامى أمثال الزمخشري وعبد القاهر الجرجاني وغيرهما تقترب كثيراً من مفهوم تحليل الخطاب، وهي إشارات متناثرة في الكتابات التي فسرت القرآن علي هدي من ضوء البلاغة». ويضيف ان الزمشخري أورد في تفسير قوله تعالي «وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالي عما يشركون» قال: والغرض من هذا الكلام أذا أخذته بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف علي كنه جلاله لا غير ومن غير ذهاب بالقبضة إلي جهة حقيقة أو جهة مجاز.. ولكن فهمه أول شيء وآخره علي الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة علي القدرة الباهرة». ويري ميرغني ان فهم الزمخشري هنا انصب علي ما يسمي بـ «مضمر النص» ويقول «اللافت ان الزمخشري لم يسم ذلك بالتأويل ـ المفردة الأكثر تداولا بين المفسرين ـ بل انه قد وصف التأويل في مثل هذه الآية بالغثاثة في قوله «وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة، لان من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا من دبير!»
ويضيف هاشم ميرغني «ثمة محاولة من الزمخشري تتحسس طريقها بعد ذلك لتسمية ما توصل إليه علما حيث يمضي قائلا: "ولا نري بابا في علم البيان أدق ولا ارق ولا آلف من هذا الباب ولا انفع ولا أعون علي تأويل المشتبه من كلام الله تعالي وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء. فان أكثره وغلبته تخيلات قد زلت فيها الأقدام قديماً وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا ان في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدروه حق قدره خفي عليهم ان العلوم كلها مفتقرة إليه.. إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو" وإشارة الزمخشري هنا تشف بوضوح عن ان ما يعنيه هنا لم يستطع ان يجد بغيته في التأويل كما لم يستطع ان يجده في علوم البلاغة السائدة في عصره، فهل يمكن القول انه كان يضع بحديثه هذا اللبنات الأولي لتحليل الخطاب؟».
وعلي هذا النحو يعرض هاشم ميرغني للعديد من المصطلحات والمفاهيم.. يتقصي حضورها في الذاكرة العربية النقدية، كما يحاور الجهود الحديثة المعمقة لمفاهيمها، وذلك عبر مجموعة من النصوص السودانية والعربية والغربية. وفيما لو كانت القضايا النظرية التي نوقشت في الكتاب مما طرقته العديد من الأقلام النقدية العربية فان قراءة الكاتب لمجموعة من النصوص السودانية لعيسي الحلو وبشري الفاضل ومهدي بشري وأحمد الفضل وغيرهم تمثل قيمة خاصة في سياق الحركة النقدية السودانية كونها تعيد الحياة لهذه النصوص التي طالما تم تجاهلها، تكشف مزاياها الفنية وتعين مساراتها في الحركة العامة لهذا الجنس السردي الساحر. كما يمكن القول ان الكتاب يمثل، في صورته العامة، طبعة سودانية من الدراسات النقدية المعرفة بتقنيات القصة القصيرة، والتي قُدمت من بلدان عربية عديدة وذكرنا كيف ان يصدر والساحة خالية منذ عقود عن نتاجات مماثلة!
الخطاب الفكاهي السائد فرق للنكات، فرق استعراض، فرق كوميديا، منكاتية، تعددت أسماء هذه المجاميع التي يرى البعض في نسبتها إلي «الفنية» جناية علي ما هو فني لكن بقيت هذه الفرق طوال العقدين الماضيين تتسيد الفضاء الثقافي بوسائطه المختلفة: تلفزيون، صحف، إذاعة، مناسبات عامة. وقد رفض اتحاد الدراميين الاعتراف بكوادرها وظل علي موقفه هذا إلي الوقت الراهن، لكن الشواهد تؤكد ان هذه المجاميع كسبت الكثير من المواقع وصارت أكثر تأثيراً من كيانات الدراميين مجتمعة.. الباحث عبد الخالق السر قرأ تجارب هذه الفرق في 18 ديسمبر بمنبر (مسرحيون من اجل التغيير) بالمسرح القومي عبر ورقة اختار لها العنوان: «الخطاب الفكاهي السائد: انعكاساته العنصرية وتحيزاته الذكورية»، مبتدراً بالقول ان قراءة الخطاب الإبداعي لهذه الفرق يبين أنها تستخدم اللغة بجهل مريع، ويكشف عن انها تكرس لقيم تغالط الفن والرقي، بل وتدخل في نطاق التعديات علي حقوق الإنسان!
خيلاء ود العرب في بداية حديثه قال عبد الخالق انه من الطريف واللافت في أمر هذه الجماعات زعمها أنها تقوم بتوظيف خطابها الإبداعي لتذويب الحساسيات العرقية التي أفسدتها سياسة المركز، مجسدة في مؤسسات الدولة ما بعد الاستعمار، والتي أنتجت توترات ما يعرف بالمركز والهامش في أدبيات السياسة السودانية المعاصرة، لكن ـ يقول عبد الخالق ـ إن القراءة تبين جهلها بفخاخ اللغة وتعقيداتها التي يتسبب بها الاستسلام لمنطق البديهي والمألوف، ويبلغ جهلها هذا لأبعد حد حينما تعمل علي نقد إيديولوجية النظام الثيقراطي الحاكم باستخدامها لغة من ذات النسيج اللغوي المحتوي علي ذات النظم القيمية والأخلاقية لإيديولوجية النظام.
إشارة عبد الله علي إبراهيم الواردة في كتابه (الماركسية ومسألة اللغة) والتي مفادها ان بنية لغة الثقافة المهيمنة تشيع صورا نمطية عن الآخر في لا وعي أهلها، وان من وقائع انقلاب 1976 ان الإعلام الرسمي اقنع الأهالي بان قادة الانقلاب دخلاء علي البلد بقرينة ان لغتهم مكسرة (!) هذه الإشارة يعتمد عليها عبدالخالق ويمضي بحديثه إلي أن هذه الفرق تتعامل مع اللغة بذات تلك الحساسية ويقول «إن هذه الفرق تسعي إلي تكريس الصورة النمطية عن الآخر ليس في مستواها اللغوي فحسب ـ من منظور لغة سليمة ولكنة مضحكة ـ بل تتوغل إلي ما هو أعمق وتسعي لتثبيت الصور النمطية لأقوام السودان دون فرز والتي هي أصلا جزء من ميراث ضارب في جذور العنصرية والإحن التاريخية فالجعلي (جنس قبلي) هو الأحمق لمجرد كونه جعليا، والشايقي خبيث، والهندندوي غبي وكسول، والجنوبي ساذج ومتخلف». ويشير عبدالخالق إلي ان «التيمة الأساسية التي تؤسس للنكات والقفشات عند هذه الفرق هي (اللكنة) والتي يمكن ان تقرأ (العجمة) بمحمولاتها الرمزية المشككة في هوية الآخر، لمجرد عجزه عن مجاراة لغة الثقافة المهيمنة». وأضاف «ان النكتة هنا تستفيد بالكامل من الموروث التاريخي للثقافة العربية المهيمنة المستحقرة للآخر».
التحيزات الذكورية وفي جزء متقدم من حديثه أشار عبد الخالق السر إلي أن موقف خطاب هذه الفرق من المرأة يتماهي كذلك مع الخطاب الثقافي السائد، إذ قصدت هذه الفرق في كثير من الأحوال التهكم علي التطلعات النسوية الواعية بحقوقها الإنسانية في العدل والمساواة. وقال «اللغة هنا تجسد حرفيا منظومة القيم والأعراف البطريركية لمجتمع الثقافة العربسلامية المهيمنة والتي تتحول فيها المرأة إلي موضوع، إلي جانب موقعها المتدني في التراتب الأبوي». وأشار أيضا إلي ان هذا الخطاب يبخس ما أحرزته المرأة في التعليم والعمل حين يعمل جاهدا لخلق علة سببية بين «توظيف المرأة» وضعف حظها في الزواج، فصورة المرأة الموظفة في هذا الخطاب مرتبطة بـ «العنوسة»! وأضاف «بل يتمادي خطاب هذه الفرق في غيه حين يروج لزواج القاصرات (طالبات المرحلة الثانوية) بصورة مزرية تجعل من السن والجسد قيماً في حد ذاتها لا المرأة/ الإنسان». وأخذ عبد الخالق علي الحركات النسوية السودانية صمتها علي ما تطرحه هذه الفرق من قيم تمثل تعدياً علي حقوق المرأة وقال «لا يجد المرء موقفا واضحا تجاه هذا العنف اللفظي والجسدي المتوسل بالإبداع خطابا».
من جانبه أقر طارق الأمين مؤسس «فرقة هيلاهوب» المنخرطة في هذا المجال منذ عقدين بملاحظات عبد الخالق السر، وربط ما بينها وحقيقة ان اغلب عناصر هذه الفرق لم تتلق تعليماً عالياً، مشيراً إلي ان هذه الفرق لا تصنع النكات، لكنها تعتمد علي خزين الثقافة الشعبية. وقال «ما يحدث ان عناصر هذه الفرق تروي النكات فقط لا احد منا يخترع نكتة». مضيفا ان هذه الفرق لاقت عنتاً في بدايتها من قبل المؤسسات الرسمية إلا أنها أصرت علي مشوارها حتى صارت ألان من أميز مظاهر الحياة الثقافية. وقال أيضا «لكن هنالك تعميم في الإشارة الي ان هذه الفرق تكرس خطاب التمييز العنصري، فهذه الفرق ذاتها مكونة من جنسيات سودانية متعددة، كما ان النكتة لدي هذه الفرق لها موضوعات أخري غير ما يتعلق بجنس او لون معين، كما ان الكلام عن ان هذه الفرق تتهكم علي الحركات النسوية الطليعية والمرأة العاملة غير سليم والنماذج التي طرحت لا تعبر غما يقدم في هذا الباب، فهنالك تجارب قدمتها بعض هذه الفرق ناصرت المرأة، وشاركت في العديد من المشروعات المدافعة عن حقوقها».
وشارك الحضور بمداخلات متعددة يمكن القول انها اتفقت علي التأثير السالب للنكات التي تعتمد علي مناغاة الحس العنصري وتلك المتهكمة من المرأة عاملة أو ربة بيت، وأشار البعض إلي ضرورة طرح مبادرات من قبل التنظيمات النسوية الطليعية تهدف إلي توعية كوادر هذه الفرق بقضايا المرأة أهمية مناصرتها من قبل الكيانات الفنية المختلفة.