بعد أن يدخل الناقد الليبي القارئ في تفاصيل السرد في رواية محمد الأصفر (سرة الكون) وتتابعاته، يتناول مختلف تجليات التناول التاريخي للحكاية الليبية ولجدلية العلاقة التاريخية بين ماضي ليبيا وحاضرها من ناحية، وعلاقتها بجارتها مصر من ناحية أخرى.

التاريخ وبناء حكاية الرواية الليبية

رواية سُرّة الكون للروائي الليبي محمد الأصفر أنموذجا

عبدالحكيم المالكي

تتكون رواية (سرة الكون) عند النظر إليها من خلال مكوناتها النوعية من مجموعة من مكونات متنافرة وصعبة الاجتماع في نص واحد، ومع ذلك تمكن الراوي من خلال حالة البكاء المستمر، وألمه غير المنتهي من تصدير حالته الشخصية للمروي لهم، ومن ربط كل ذلك في بوتقة نصية، نقول عنها بصعوبة رواية لانزياحها جنسيا ونوعياً، ولا ينقص ذلك من جمالية بنائها شيئا. فقد اجتمعت في سرة الكون/ الرواية، وسرة الكون/ الوطن تلك الذات المأزومة المشرفة على الهلاك، مع نزف مستمر وتوظيف للعديد من المكونات نجملها بسرعة كما يلي:

(1) ـ الرواية التقليدية.
(2) ـ السيرة (شبه) الذاتية.
(3) ـ شعر النثر.
(4) ـ المادة العلمية التاريخية.
(5) ـ الخطاب الساخر.
(6) ـ الخطاب الغرائبي.
(7) ـ نصوص الكاتب السابقة (مقاطع من قصص وروايات). كل تلك المادة المختلفة والمتباينة من حيث مستويات تحققها، تمّ تجميعها عبر ذات يتسم وعيها بعدة مستويات:

1 ـ مستوى المتأمل فيه (الوطن(المكان)/ الذات/ التاريخ).
2 ـ مستوى الاشتغال: توظيف سرد أقرب ما يكون لسرد تيار الوعي مع الاشتغال المستمر على فواعل خاصة كانت مرتكزات أولي، وتمتلك هي ذاتها بعدا رمزيا لكي تمارس الذات ـ ذات الراوي والروائي ـ نزفها في ذات الوقت، ورسمها لحالة الألم المستمر الذي تعيشه.

حكاية الرواية
تحكي رواية (سرة الكون) سيرة شبه ذاتية لكاتبها محمد الأصفر الذي ينطلق في سرده من منطقة شحات في الجبل الأخضر حيث يقيم هو وأسرته في بيوت الشباب هناك، ويبدأ السرد من خلال لازمة يرددها الراوي منذ البداية: «مصر أم الدنيا وأنا من الآخرة وليبيا يتيمة بائسة جذرها مدفونة تحت الرمال»(1). ومن خلال هذه اللازمة ينطلق راوي الأصفر ـ أو هو ذاته ـ في أسطرة ليبيا سواء من خلال السرد أو شعر النثر. ويعود بنا الراوي إلى شحات والفندق الذي يسكنه بعد أن يرسم صورة بانورامية ذات بعد تاريخي عن تاريخ قهر المصريين لأهل ليبيا، ومن الفندق ـ بيت شباب شحات ـ حيث يرسم الراوي طبيعة تعامل السكان المحليين مع السواح الأجانب، ويرسم عبر لغة متهكمة إحدى ليالي بيت الشباب، ثم ينقلنا لمصر ونتعرف على قصة الشغالة بهية وبنفس اللغة السابقة الساخرة يرسم لنا الراوي قصة بهية وولادتها وحكاية تعرف والدها البحار الليبي على أمها المصرية، وهو بذلك يضعنا في الماضي، ويضعنا في العلاقات الاجتماعية زمن السبعينات، حيث هناك انفتاح في العلاقات الليبية المصرية، وحركة زواج وغيرها بين أهل البلدين. نتابع بعد تعرّف والد بهية على أمها وزواجهما، كيف طلبت الطلاق بسرعة لمجرد تأخره زمن قليل وعادت لبلادها. وبذلك تربت أبنتها بهية فاقدة لوالدها وظل ذلك الوالد التائه بين الموانئ حائرا لا يعلم عن ابنته شيئا.

من بهية وقصتها إلى دراستها في الجامعة للآثار نجدنا في انتقال لليبيا بحثا عن نبتة السلفيوم، وبذلك نحن ننتقل من مصر لليبيا، ومن التقرير العلمي المنقول عن الشخصية بهية، ننتقل إلى شحات ثم لطرابلس، حيث نجد قصة تعرف الراوي (الشخصية المركزية) على شاعرة يكنيها بمورينا، ويعيش حالة وفاق عجائبية دائمة مع أبيها المتوفي، ويحرك عبر السرد قصة فاعل عجائبي أخر هي ابنته الموهومة (مهجة) التي لا زالت في عالم الغيب. ويبدأ من خلال مورينا ووالدها وأمها وطرابلس بكل معالمها التاريخية والثقافية والسياسية في البكاء على الحاضر بلغة الشعر.

العلاقة بينه وبين (مورينته) تتوقف لعدة أسباب منها وجود دسائس من مجهولة تقوم بتخريب هذه العلاقة وينتقل بنا الراوي في لحظات توتره من الحاضر للماضي من خلال الحركة الحاصلة في الساحة الخضراء وكذلك حواره مع مشرفة في القلعة التاريخية (السرايا الحمراء) ونجده يرسم أمامنا تاريخ حكام هذا المكان من القرمانليين وقصة وصول احمد باشا للحكم وصراعه مع الأمريكيين. وعند العودة للحاضر وعلى لسان مهجة أبنته نجد القصة الغرائبية لإعدام أحمد باشا في الساحة الخضراء، وننتقل من طرابلس إلى المغرب ومن الواقعي إلى الغرائبي مع حضور مستمر لقصيدة النثر. وأخيرا عندما يترك الراوي مورينا الشاعرة في طرابلس، ويعود لبنغازي، يكتشف ما فعله رجال الأمن (أثناء بحثهم عنه) من عبث في شقته. ويبدو مع كل ذلك هوس هذا الراوي حد الجنون بالوطن، وخوفه عليه من احتواء الغرب له ومن أهله خاصة مع انفتاح البلد على الخصخصة والرأسمالية الغربية ضمن عالم القطب الأمريكي الأوحد. فتحول بذلك الصراع التاريخي بين الليبيين والأمريكيين في البحر زمن الدولة القرمانلية مادة جيدة للراوي لكي يؤسس من خلالها تعريفه للصراع بين ليبيا والغرب في الزمن الماضي، كما استخدم المادة التاريخية التي يظهر فيها ظلم الحكام الفراعنة لليبييين القدامي كمادة لسب الجارة القريبة مصر. وينهي الروائي عمله بقراءة كتبها الشاعر الليبي سالم العوكلي وكان قد وضع جزءا من هذه القراءة على ظهر هذه الرواية وحاول فيها الشاعر رسم الخلفية المجهولة لسفر الروائي الأصفر في روايته من قورينا الشرق لطرابلس الغرب.

رواية سرة الكون والتاريخ
بغية الوصول إلى طبيعة التكوين التاريخي داخل هذه الرواية سنقوم بمتابعة خطابها من خلال مراحله المتتابعة، ومناقشة طبيعة حضور التاريخ في كل منها، وكيفيات تحققه، وعلاقة كل ذلك بمكونات الحكاية (الحدث والشخصية والزمان والمكان).

المرحلة الأولى من الرواية
يبدأ الروائي كما أسلفنا روايته من خلال قصة رفضه لمصر. يحقق ذلك عبر لغة شعبية ساخرة وفي سيل من الكلمات لا يتوقف. ومن مصر المكان في زمن الحاضر ننتقل للماضي ويرسم لنا في صورة شديدة البؤس كافة الآلام التي عاشها الليبيون على يد المصريين. كان الانتقال يتم من زمن لزمن عبر لعبة السرد ومع الراوي الذي تطارده لازمته التي يرددها:

«مصر أم الدنيا وأنا من الآخرة.. هذه اللازمة تلازمني كأنا.. تطرق مخيلتي أينما اتجهت.. لا أدري لماذا؟»(2). ثم نجدنا بعد ذلك مع ما يمكن تسميته بسرد تيار الوعي حيث الراوي يعيش حالة عصف أو هوس فكري ويمارس طرح ما يندس في ذاته بشكل مباشر أمام المروي لهم وتمثل ثيمة العلاقة بين ليبيا ومصر الثيمة المركزية التي يدور حولها سرده. نجد بدايات الدخول الرسمي للتاريخ عبر رسم العلاقة القديمة بين الليبيين والفراعنة حيث سيكون القهر الذي مارسه الفراعنة على سكان ليبيا آنذاك (بحسب التاريخ الذي تصنعه الرواية) أداة الراوي للتعبير عن ألمه من جهة، وعن خوفه الدائم على هذا الوطن الذي يحبه أكثر من كل شيء. لنتابع هنا كيف يطرح الراوي التاريخ داخل السرد ويمارس (إمعانا في الإثبات) استحضار مراجعه التي يعتمد عليها في ذلك.

"في القديم القادم
أجدادنا العطاشى
ذبحهم الفراعنة
في الصور واللقي الأثرية التي أمامي:
أسرى للفراعنة من قدماء الليبيين (متحف اكسفورد. عن جوزيبي جلاسي)(3).
قدماء الليبيين وهم يجثون على بطونهم ويتمددون على ظهورهم تضرعا للفرعون (مقبرة حور محب) (عن o.bates).
الفرعون أسد وجنوده عقبان والليبيون مجرد جثث (المتحف البريطاني).
يبيون قدماء من دافعي الجزية (من كتاب الليبيون الشرقيون للمؤرخ o.bates).
مسة عشر ليبيا ما بين قوائم جواد رمسيس (كتاب عمود السماء داود حلاق).
نقش أثري يثبت هول المجاعة التي أحاقت بقدماء الليبيين ـ مدخل هرم الملك أوناس (عن مانفريد فيبر).
رمسيس الثاني يذبح أسراه بالمنجل عن (o.bates) كتاب تاريخنا صادق النيهوم.
فرعون يدق وتداً في رأس أسير ليبي (متحف القاهرة) عن جوزيبي جلاسي".

كما نلحظ من المقطع التاريخي السابق كيف انتقل بنا الروائي من زمن لزمن ومن موضوع لأخر حيث نجد ـ بعد هذا الرفض لمصر والتذكير بتاريخ العلاقة السيئة قديما ـ صورة تاريخية تتحقق من خلال توظيف خطاب الصور واللقى الأثرية المنحوت عليها ما يمكن اعتباره تاريخا صامتا يقوم الراوي باستنطاقه وتوظيفه في سياق سوسيونصي خاص. ويرتبط التاريخ كما نرى مما سبق بالمكان، إذ هو تاريخ بين شعبين يقطنان مكانين محددين. ينتقل الراوي لعين المكان (الصراعي) كلما أراد أن يشتغل على مرحلة تاريخية معينة. وكذلك الروائي بعد أن يعلن هنا عن وجوده، سيتحول هو/ الراوي إلى إقامته في شحات ويصور هناك الوضع ومن شحات سننتقل لقصة بهية والسلفيوم وهي العودة الثانية لمصر.

المرحلة الثانية
نجدنا هنا والراوي مقيم في شحات، حيث ننتقل لمصر ولقصة بهية التي سبق أن تحدثنا عنها في حكاية الرواية ويرسم بخطاب ساخر طريقة تعرفّه عليها، وبنفس النمط الساخر يخلق الفرصة لتحقق المتناقضات ويجعل منها مقبولة، فبهية التي اشتغلت في مجال الآثار وتحركت للبحث عن السلفيوم تتحول لخادمة ويبدو ذلك كله مقبولا. كما نجد من الحين للأخر خطاب الأسطرة، ومن أهم ما تم أسطرته نبتة السلفيوم بغية الدخول ورصد تاريخ الشرق الليبي. يتموضع الراوي في مصر ويتضاد بذلك مع المرحلة الأولى حيث تمَ رصد تاريخ مصر سابقا والفراعنة والراوي في شرق ليبيا. ومع مضي السرد ينقل على لسان بهية التقرير العلمي الذي تحدث عن السلفيوم، هذا التقرير قام الروائي بالحديث عن مصادره من خلال أشخاص محددين ومعروفين باشتغالهم التاريخي، بحيث تحولنا هنا بواسطة حيلة سردية من الخطاب الروائي للخطاب العلمي التاريخي.

"(أ) ـ .. هذه بعض أوراقها عن السلفيوم:
(ب) ـ هذا البحث اعتمدت فيه بشكل أساسي على عدة مراجع عربية وأجنبية أذكر بعضها:
(ج) ـ قوريني الوجه الآخر للأستاذ الباحث داود حلاق.
تاريخ برقة السياسي والاقتصادي للدكتور الفاضل رجب الأثرم.
الإغريق في برقة للعالم الأثري فرنسوا شامو ترجمة الدكتور الفاضل محمد الوافي...
"(د) ـ السلفيوم نبات حولي شأنه شأن نبات الحلتيت، له جذر غليظة ممتلئة، وساق سميكة كساق ذلك النبات، وأوراق شبيهة بأوراق الكرفس، وبذرة مغلفة بغشاء مفرطح، ولهذا السبب فأن بذرته تسمى ( الورقة).(4)"

في (أ) ـ نجدنا أمام تأطير(5) الراوي للسرد وهو يرسم لنا صورة تلقيه للبحث الذي كتبته بهية عن السلفيوم. في (ب) ـ نجد بهية تحدثنا عن بحثها ثم في (ج) ـ بهية تذكر المراجع التي اعتمدت عليها في كتابته، ثم في (د) ـ نبدأ في قراءة هذا التقرير العلمي. ويتحول هذا التقرير عن السلفيوم لأداة يتم بواسطتها رسم تاريخ المكان وأسطرته ورسم عظمته في الوقت ذاته.

المرحلة الثالثة
يتم الانتقال في المرحلة الثالثة من شحات وصراع ليبيا ومصر ومن السلفيوم، لعمل صورة متكاملة لمدينة بنغازي من خلال إدخال تقنية البرنامج الإذاعي وما تحتمله هذه الحيلة من فرص لطرح كل ما يرغبه الروائي على لسان الإذاعيين. «تنبعث الآن من المذياع ومن نافذة غرفتى أيضا بمدينة شحات قوريني أصوات طيور ترفرف وتزقزق وأبتهج وتواصل الأخت (...): " وكان الجيران يعرفون بعضهم دون تحفظ أو عقد من أي نوع في علاقات مبنية على البساطة والصدق.. ويربون السلاحف ويعتبرونها فألا حسنا.. ويزرعون دوالي العنب التى تطل بعناقيدها الخجولة على الشوارع مع بدايات شهر يوليو، ويتقافز الصبية في محاولات يائسة لقطفها (...) يتابعون بشغف مقالات صادق النيهوم وخليفة الفاخري ويرددون أشعار الضياع والحرية لعلى الفزاني ومحمد الشلطامي(6)».

المرحلة الثالثة تتميز بأنها محطة من التاريخ القريب يتم بواسطتها رسم صورة بانورامية للفضاء المكاني (بنغازي) تمهيدا للانتقال لطرابلس. إن المرور من خلال بنغازي يؤكد لنا هنا مركزيتها في الرواية فبنغازي هي التي تؤطر كل الأمكنة التي يرسمها راوي الأصفر، والتاريخ القريب للمكان هو الأكثر أهمية، وهو التاريخ الذي لا يتوانى الأصفر عن رسمه هنا وهناك، وهو تاريخ يختلط فيه الماضي مع الصورة الاجتماعية مع الرصد لسريع للتحولات فيصبح أشبه ما يكون بتاريخ للمكان ولأهله «وتساءلت في نفسي ما علاقة طائر السنونو بكتاباتي؟ وهل ينفع تحليقه على سطح روايتي هذه..؟ وما رائحة انفاسه وريشه.. سلفيوم.. قرنفل.. أريج فطري.. أشعر براحة الآن وكاننى عدت تواَ من بنغازي.. لا أرى نشازا في وجود النص.. أي شيء من بنغازي يدخل الرواية دون تحفظ.. وأي شيء من مورينا يرقص فيها رقصا.. رواياتي كلها رباية ذائح لنصوص الأصدقاء الشفيفة.. أدخلوها بسلام آمنين»(7). سننتقل من بنغازي لطرابلس وستكون هذه النقلة عبر قصيدة النثر وعبر أسطرة هذا الوطن من خلال قصيدة النثر، ونجدنا هناك أمام تاريخ أخر مختلف عن السابق، كما نجد بالإضافة للماضي التاريخي، تشريحا للحاضر، بحيث يتحول راوي الأصفر في نهاية الرواية منطلقا من الماضي وتاريخ المكان ليعلن عن توجسه من المستقبل فيما هو (يشعرن) الحاضر.

المرحلة الرابعة
نجد قصيدة النثر التي كتبها (عمر الكدي) راسما صورة هائلة الفخامة لهذا الوطن. الأصفر يدخل هذه القصيدة ويؤسطر عبرها هذا الوطن ومنها ومن أسطرة الوطن ينتقل مكانيا لطرابلس ويبدأ في مناوشة تاريخ الأسرة القرمانلية. هذه المرحلة تعد الأكبر من حيث الحجم، وينتقل فيها الراوي باستمرار من الحاضر للماضي بحيث يحقق له المكان التاريخي (السرايا الحمراء) الفرصة للربط بين الماضي التاريخي وبين المكان الباقي المستمر في الوجود. هذا التاريخ يصير طاقة للتأمل وأداة لطرح الهواجس، لنتابع هنا كيف يتحدث الروائي عن وعيه بالتباين بين القصيدة ونصه ومع ذلك يضعه لتمتلك القصيدة انطلاقا من موضعه الجديد بعدا أخرا «الكتابة لدي سهلة والسهولة ليست هي الاستسهال.. السهولة هي التلقائية المفرطة والصدق الباهر للعيون.. وادعوا أي كاتب يشعر بما أشعر به ويريد أنْ يزرع نصا من نصوصه في رواياتي فليفعل وليختر أي بقعة في الرواية وها هو الشاعر الليبي عمر الكدي يأتي وينقش بظفر كحله في سرتنا هذه..:

ليبيا بدويةٌ شرسةْ
تحب حين تحب من تشاءْ
وتكره حين تكره من تشاءْ (...)
لاشيء في البال أهبه لك
سوى كياني المهشم
وقلبي الواسع الوثير.
دليني كيف أحبك أكثر؟
وكيف أروُّض هذا الدلال الفج؟
وكيف لا أدوس ارتباكي في الشارع المزدحم؟"(8).

يبدأ الانتقال كما أسلفنا للمكان ومن المكان الجديد سنجد أنفسنا نتابع مع سرد الحاضر ـ الذي لا يعنينا هنا في بحثنا التاريخي ـ الانتقال من الحين للأخر للماضي. ونلحظ كيف يترابط ذلك مع حركة الشخصية ضمن الفضاء المكاني، بحيث يتم التحول مباشرة بمعاينة أو رؤية المكان التاريخي من زمن لزمن ومن أحداث خاصة لعامة «أعبر سريعا عبر القوس أغوص في الحارة (المدينة القديمة).. تتزاحم في رأسي ستون حكاية وحكاية أشمّ منها عبق التاريخ.. أستنشق منه القليل بينما أعطس الباقي.. أنا رجل طبيعي.. أتذوّق جيدا فلا أحتاج لأي (نفّة) لطرد القذى الفاسد من رئتي.. أعمدة الشوارع الضيقة وممرات الاغتيال العثمانية بأقواسها الآيلة للسقوط كانت متآكلة الجسد.. أنظر إليها باستهزاء وسخرية»(9). إن الراوي كما رأينا ينتقل من المكان ـ ذي الخصوصية التاريخية ـ ليضعنا في الماضي. هذا الماضي يصبح هنا التاريخ العثماني ثم نجده يتحول للأسرة القرمانلية شيئا فشيئا وهو ما يمكِّنه من أن يعلن هواجسه من الحاضر باعتبار طبيعة الصراع القديم القائم بين الأسرة القرمانلية وبين الأمريكان.

لنتابع في البداية كيف يوظف الراوي الحركة داخل المكان المتحف ـ الذي يمثل فضاءً مكانيا مميزا لاستعادة التاريخ ـ بما يمتلكه من أشياء تاريخية تؤشر أو تصبح دلالات صامتة على أزمنة أنقضت. لنتابع كيف يدخل الراوي للمتحف ويبدأ حركة نكشه للتاريخ. «أسأل الموظف عن فتاة أعرفها اسمها مفيدة اعتقد أنها مفيدة لقلبي في اضطراب الأثناء.. صعد لإشعارها وبصري جال يلتهم فتنة المكان.. الشمس مشرقة آوان الضحى.. ترسل أشعتها الذهبية.. تعم أرجاء الصحن والواسع.. المحاصر بأعمدة رخامية قصيرة.. قممها مزدانة بتيجان منقوشة.. ترفع على كاهلها أقواسا مرممة حديثا.. تزين جدران الصحن.. خلفية من بلاط القيشاني الملون.. في منتصف الصحن تتمركز نافورة جميلة ينساب منها الماء ببطء شديد.. حول النافورة أصص صغيرة محشوّة بالطين الجاف»(10). ثم بعد لقاءه بالمشرفة نجده يستغل حركته داخل المتحف(وهي حركة ضمن محور المكان) ليرسم موقف من التاريخ عبر فواعل قائمة (التماثيل) تنوب عن أباطرة التاريخ. «صعدت الدور الثاني وأخذتني مفيدة بعد الترحاب في جولة بغرفة تاريخية.. دخلنا حجرة المراحل التاريخية.. عدة تماثيل من اللدائن ربما استعيرت من محل ملابس جاهزة. ألبست هذه التماثيل أزياء تعبر عن كل مرحلة من تاريخ طرابلس.. ملابس رومانية.. بيزنطية.. عثمانية.. إسلامية.. وملابس قراصنة يقطع صدورها الصليب ومخلفات كثيرة لمستعمرين وفاتحين تقليديين.. وقفت مطولا أمام التمثال العثماني»(11).

إننا كما نرى أمام الراوي وهو ينتقل ليرسم أمامنا التاريخ ويلخص عبر لعبة السرد قرونا من الزمن وسنلحظ فيما بعد كيف يتم توظيف هذا التاريخ الخاص لقراءة زمن الحاضر، حيث سيكون التركيز أكثر على المرحلة القرمانلية من تاريخ ليبيا، تلك المرحلة التي كان الصراع بين ليبيا وأمريكا في أوج قوته. يستعين الراوي بالتاريخ ليرسم تأمله المملوء بالخوف عن هذا الوطن والرغبة في بقاءه الدائم نقيا. وسنجد هناك أيضا أن النقلة الزمنية للتاريخ تكون عن طريق المكان حيث المسجد العتيق الذي بناه احمد باشا يصبح أداة جيدة للتحول، لنلاحظ هنا الفعل الطرح الرمزي لعلاقة التاريخ القرمانلي بالتاريخ الروماني في وجدان وذات الراوي. «الساحة هادئة.. بضع سيارات حكومية تمر وتتوقف وسيارات أخرى تمشي ببطء على استحياء.. مئذنة جامع أحمد باشا تتجاوز قوس اورليوس ماركوس ثاقبة بطربوشها الحجري الفضاء»(12) .

نلحظ الطبيعة الساخرة للخطاب السابق، وسيكون كل ذلك مادة لتحول الروائي لتاريخ الدولة القرمانلية باعتبارها تشكل ضدا للأمريكيين. لنتابع هنا كيف قام الروي بإدخال قصة احمد باشا الذي سيصبح فعل إعدامه الرمزي أداة لبكاء الراوي طيلة النصف الأخير من الرواية. «بنيت هذا الجامع بعد أن قضيت على الوالي أبا مويس.. كان يريد قتلي المأبون الغدار.. أرسل معي قرطاسا مفخخا إلى قبائل غريان.. كنت لا أطمئن إليه ومعروف عن القرمانليين فخرهم بالأمية فلا أسعد بالقراءة ولا الكتابة.. نحن فرسان أبطال فقط.. طلبت من مرافقي أن يقرأ ما كتب ذاك التيس.. وجدته أمرا بقتلي.. غيرنا الكتابة إلى نصرتي وحُكت مؤامرة فورية وناصرني شيوخ بدو غريان سكان الجبال»(13). ونجد المزيد من تفعيل التضاد بين الوطن وبين أمريكا عن طريق السينما. حيث يتسبب دخول الراوي للسينما ـ لغرض غير رؤية الفيلم ـ في رصده لفيلم أمريكي يصور بطولات الأمريكيين وتحريرهم لفيلادلفيا من آسر يوسف باشا، فتتحرك بذلك الرغبة لدى الراوي ويبدأ في التجوال عبر تخوم التاريخ الطرابلسي القريب. «لم نكترث للفيلم لم نشاهده ولو أن بعض كلماته طرقت لا إراديا آذاننا وبعض مشاهده هتكت عنوة ستارة أبصارنا..الفيلم به البطل الأمريكي رامبو يستعيد السفينة فيلادلفيا ويسوق يوسف باشا أسيرا ذليلا في قبوها السفلي هو وزوجته البيضاء وزوجاته الأخر الخلاسيات وابنتيه الفاتنتين الشهيدتين الشريفتين المدفونتين الآن في روضة تزار على طريق الشط بطرابلس»(14).

ومع مضي الرواية ومن خلال الشخصية الوهمية (مهجة) سنجد تحول الراوي للبكاء على الوطن حيث يعيش هو وأبنته التي لازالت في عالم الغيب حالة خوف رهيبة على الوطن من الغرب الأمريكي خصوصاً وتصبح الساحة الخضراء لخصوصيتها كمكان ذو بعد خاص، موضعا لطرح هذا الخوف وهذا التوجس بحيث يصبح الفضاء المكاني باستمرار فاعل متميز مرتبط بالتاريخ. «أمها تستنفرها للوقوف ومهجة متسمّرة مكانها وتشير بإصبعها إلى وسط الساحة وهما ينظران حيث تشير ويتساءلان ماذا هناك يا مهجة؟!.. محاكمة أحمد باشا القرمانلي.. والآذان يكتمل الآن ويخرج الناس فرادى وزرافات.. وتسألها مورينا أي محاكمة يا بنت بلا تخيلات نوضي الشمس حرقاتك وحرقتنا معاك.. وتقول مهجة الأمريكان يحاكمون ابننا أحمد باشا.. الجامع خلفي لا أراه.. أرى برجا معدنيا قبيحا مدببا كمسمار يوخز سماء شعبي ويمزق بكارته أشلاء. استأذنهما محمد للصلاة في الجامع وأرجأته مهجة قليلا.. أنظر إلى المنصة في منتصف الساحة محجوبة بستارة سوداء (...) أحمد باشا في قفص القطران. أنهم يعدمون داخلها ابننا أحمد باشا يا ماما يا بابا.. لا صلاة الآن.. لا ركيض صوب جوامع غائبة»(15). إن التاريخ يصير مادة لطرح التأمل في الحاضر من خلال الخلط الذي يحققه المكان بديمومته واستمراره في البقاء واستمراره قائما وحاملاً لرمزية خاصة. لقد اشتغل الراوي كما رأينا بقوة على المكان بحيث صار جامع احمد باشا أداة لرسم الخلفية الدينية للمجتمع ومادة للانتقال للتاريخ وطرح رؤى في السياسة والصراعات الحضارية وغيرها من القضايا الكبرى. ويظل راوي محمد الصفر حتى نهاية الرواية منتقلا من مكان لمكان وراصدا باستمرار من خلال التاريخ وتضافره مع المكان الواقع الحالي لليبيا اليوم وما لها وما عليها بحسب رؤية تحمل إستراتيجية تفكيك خاص لكل المكونات الاجتماعية والثقافية وتحمل رؤية ذات بعد استشرافي للمستقبل وما سيكون فيه.

خلاصة عن التاريخي وتقنيات استحضاره في الرواية
وظف الراوي كما رأينا لخلق تحول من زمن لزمن ومن تاريخ لأخر خطاب الصور واللقى التاريخية ورسم بها تاريخ العلاقة بين ليبيا ومصر، بينما وظف التقرير العلمي التاريخي عن السلفيوم ليرسم عبر هذا الفاعل المميز تاريخ ليبيا وتاريخ التفاعلات الحاصلة في المكان وكان أن وظف خطاب الإذاعة المسموعة ليرسم صورة بنغازي في الماضي القريب حيث أصبحنا مع ما يمكننا تعريفه بالتاريخ الاجتماعي، كما وجدنا الدخول للمتحف والتحول عبر ذلك لرصد تاريخ من مروا على المكان (طرابلس) والدخول للسينما لاستعادة تاريخ العلاقة الليبية الأمريكية وفي وسط كل ذلك كان الترابط الأكبر يحدث بين المكان والحدث لاستعادة التاريخ بحيث صار وصف المكان استعادة للتاريخ وصار المكان بحكم كينونة بقاءه واستمرار تواجده الثابت في مقابل الزمن المتغير والمتبدل المكون الأكثر نفعا لاستحضار التاريخ خاصة مع عدسة السرد التي لا تفارق الشخصية المركزية غالباً، وتنطلق من الزوايا التي يراها، بحيث صار على الروائي أن يدفع شخصيته باستمرار في حركة مستمرة لا تتوقف من مكان لأخر، لجعل التبدل من زمن لزمن أكثر منطقية. وعبر كل ذلك كان هناك بنية ثابتة للشخصيات حيث كان الراوي باستمرار مع أنثى تتناسب مع المكان بحيث نجد من تحليلنا لكل الانتقالات المستمرة للشخصية من فضاء مكاني لأخر الثنائيات المترابطة التالية. نجد العلاقات سابقة الذكر تتم كما يلي:

الراوي مع الزوجة في شحات   الراوي مع بهية في مصر
الراوي يعود من بهية في مصر   للزوجة في شحات
الراوي من الزوجة في شحات   إلى مورينا في طرابلس
الراوي من مورينا في طرابلس   مفيدة في قسم الآثار (طرابلس)
من مفيدة في متحف طرابلس   إلى مورينا في كل طرابلس
من مورينا في طرابلس   إلى الابنة الوهمية مهجة
الراوي من الابنة الوهمية مهجة في طرابلس   الزوجة في بنغازي


إن هذه العلاقات الخاصة لإناث ملتصقات بالشخصية من جهة لجهة والمرتبطة معه تمثل جزء من التركيبة الكلية لبنية الحكاية، وبغض النظر عن حقيقة ما كتب من أشياء ذات مرجعيات واقعية، كحضور أسم زوجة الكاتب وغيرها هنا، فإننا سنتعاطى مع الأمر على أنه شبه حقيقة وليس حقيقة كاملة. باعتبار أن تجنيس العمل لرواية يحتم علينا أن نفترض له طابعه اللعبي.

خلاصة عن التداخل بين التاريخي والسردي.
ووجدنا مع محمد الأصفر الترابط بين المكان والتاريخ واستعادة تاريخ الأمكنة باستمرار كل ذلك كان هاجسه لكي يعلن أسطرته لسرة الكون ليبيا التي يحبها التي كان طيلة لرواية يمارس فعل تفخيم لها سواء من خلال المادة التاريخية أو شعر الثر أو نهج تيار الوعي في الكتابة. الترابط أيضا كان بيتم بين المكان والأنثى بحيث كانت باستمرار ترافق الشخصية المركزية أنثى خاصة وكانت الصور الغرائبية في الرواية تقدم من خلال شخصية غرائبية، وهي مهجة الابنة الموهومة التي كانت تبكي باستمرار خاصة عندما وجدت أمامها حادثة إعدام أحمد باشا في وسط الساحة الخضراء. وكانت حادثة إعدام أحمد باشا (الرمزية) أداة رئيسية لرسم هواجس الأصفر وشخصيته وخوفه المستمر على ليبيا الوطن في إطار وعيه المهووس بالصراع بين ليبيا والغرب. والكتابة التاريخية لم تكن حاضرة كجنس خاص بشكل مباشر، وإنما كانت مندمجة في الرواية هنا وهناك وساعدت في مد الراوي بطاقة رفع من خلالها شعرية النص مع بناء فني متماسكا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،11
(2) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،12
(3) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،12،13
(4) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،35
(5) ـ التأطير هو وضع أطر الحدث وهي المكان والزمان للمزيد في موضوع التأطير ودوره فنيا في بناء الخطاب الروائي راجع:
عبد الحكيم المالكي/ أفاق جديدة في الرواية العربية/ ص،61
(6) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص: 42
(7) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 45
(8) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 85
(9) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،171
(10) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 172
(11) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 173
(12) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،230
(13) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص،232
(14) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 234،235
(15) ـ محمد الأصفر/ رواية سرة الكون/ ص، 284