يستخدم الشاعر المصري المرموق في هذه القصيدة صيغ الاحتمالات الاستفهامية التي يمتزج فيها الواقع بالمرتجى كي تكثف القصيدة لحظة التوحد والوحشة على المستوى الشخصي والميتافيزيقي معا أمام عالم عكر موبوء.

حين تُتَلفِنُ لي

محمد سليمان

كي تَعرِِِفَ أني سِرْتُ هنا
كيلا تَحَْسَبَني شَبَحاً
أو حَجَراً
أو ريحاً
كي تُدرِِكَ أني كالغُرباءِ جَلَسْتُ
على حَجَرٍ في الركنِِ
وكالغُرباءِ
بَنَيتُ بيوتاً في الذاكرةِ
وكالغُرباءِ
غَََفوتُ.. على كُرسيِّ المقهى
سأرُص حروفي
وأبعثِرُ أوراقي الشّخصِية في الحاراتِ
وأرسم دِككاً
كي تَرتَاحَ الريحُ عليها
وهَداهِدُ ظلت كجواسيسَ تكدُ
وصُورٌ شاخَتْ
في قاعاتٍ.. لا حيطانَ لها
هل تنتظرُ سوايَ هنا؟
صوتي لا يتسع لغيري
وقميصي لا يشبه حقلاً
أو ميداناً
وأنا مثلك أبني كل مساءٍ قفصاً
كي أتمددَ فيه
وكل صباح أشقى
لأحَررَ منهُ يداً أو عيناً
سأسميكَ صديقي
حين تُتلفِن كل صباحٍ لي
كي تَتَحسسَ صوتي
وتُحدثني عن أحوال الطقسِ
وعن أيّام الناسِ
وحين تُفتش في ذاكرتِكَ مثلي
عن رائحة الآتي
هل أنت قديمٌ مثل النيلِ
وتعرف أن الموتَ يدٌ للصمت
وأن العشبَ كلامٌ
والرائحَة َ
وقطعان الأمواجِ
وأنّ الأرضَ تُثرثر تحتكَ
حين تدور وتحتي؟
أم أنت كهذا العابر
تحبِس في الفنجانِ غُيوماً
وزوابعَ وقطاراتٍ؟
سأُسميكَ صديقي
حين تُتلفِن كل مساءٍ لي
لتُزيحَ عناكِبَ في الأسلاكِ غفَت
وبلادا سقطت فوقي
لن تحسب صوتي بابا للفردوس
وظلي نوراً
أمُي لم تر قمَرا يقفز منها
في الأحلامِ
وجَدي لم يُخبرهُ ملاكٌ باسمي
لن تَزعُمَ أني في الأقلام حبستُ البحرَ
وفي الكراسةِ حوتاً
للسمكِ البحرُ
وللغرباءِ المدُنُ
وللتاريخ عِظامُ الموتى
هل تكنسُ كل صباح فمَكَ
لتخرجَ منه الليلَ؟
كنستُ فمي
وأزحتُ ظلاما
لكني لم أغدُ نقياً
ومُضيئاً مثل ملاك ٍ
أهُمو الغرباءُ من الشباكِ أتَوا
وأنزَرعوا تحت الجلدِ
وحول عيون الماءِ
وفي حَنجرتي؟
أم رقصَ الماضي مثل حصانٍ
في الأعماقِ ِ
وعكّرَ صوتى؟
سأُسميك صديقى
حين تحُط يديكَ هنا
وتُعلقُ ظلكَ قربَ الباب
وصوتكَ كالفانوسِ...
أمامَ المبنى
لن أوجعَ رأسَكَ بأناشيد الغولِ
ولا بالساحِرِ شقّ البحرَ
ولا بطبول الربع الخالى
لن أمدَحَ ظِلاً
أو أطفالاً يستَجدونَ وراء البار ِ
وتحت البُرج العالى
سندورُ فقط..
ونُثرثرُ كصديقين
وقد نتسلىّ
ونقارن بالأيام فَراشاً
لن تُخبرَ أحداً أنى
حين ينام الباصُ
أرُصّ النخْلَ هنا فى الممشى
وأرافقُ صيادين إلى مقلاةٍ
تَسَع البحرَ
وغزّالينَ إلى أيام الصوفِ
وأنى أخفى
حَيَواناتى فى المحفَظَةِ
وأمنَحُ نفسى أحياناً فى الظلمةِ
لقبَ الباشا
لن تُخبرَ أحداً أنى ألهو
وأُجالسُ فوق رصيف المقهى
أشباحاً ووحوشاً
وأحُطّ على الأشجار حروفى
لتصيرَ طيوراً
واُسَمّى الورقةَ عرشاً
والقلمَ وزيراً
وأثرثرُ عن بلقيسَ لكى أتذكّرَ نورا
لن تُخبرَ أحداً
أنّ النيلَ تسللَ من أوراقى
والقاهرة َ
وأنى بالكلمات أكدّ ُ
لكى أختَرع بلاداً أخرى
هل سَتُتلفِنُ لى؟