بلغة سردية تتسم بالتهكم الشفيف، وبنية قصصية مركزة ذات طبيعة بارودية أي أمثولية، يكتب القاص الجزائري، لا عن الجزائر وحدها، وإنما عن عالمنا العربي في هذا الزمن الردئ الذي يصبح فيه تحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة في عداد الأحلام العصية الجامحة.

عودة غودو

قصة قصيرة

قادري عبدالخالق

غدا يوم فريد، ستشرق الشمس على مدينتنا كما لو أنها لم تشرق أبدا، ما أن تسكب أشعتها الذهبية على شوارعنا حتى تتحول نساؤنا إلى شابات فاتنات ورجالنا إلى شباب يانعين. لأكثر من شهر، على قدم وساق، عن بكرة أبيهم وإلى ساعة متأخرة مساء، عكف عمال البلدية والبلديات المجاورة، وتضافرت جهودهم مع المقاولين والحرفيين والرسامين والمتزلفين والمتطوعين، في حملة إزاحة الغبن عن الوجه الشاحب للشارع الرئيسي. تزفيته، إعادة تبليط أرصفته، طلاء وزخرفة جدرانه المهترئة، تشذيب ونفض الغبار عن الأشجار الواقفة استحياء من الطيور، تعليق اللافتات والمصابيح الملونة والأعلام الوطنية.لم يندهش أحد من العجلة في إنجاز تلك الأشغال. تمنوا فقط لو تكررت زياراته، لتطول الساحات والشوارع الجانبية التي ترقد في حفرها الكلاب.

غدا يأتي غودو إلى مدينتنا.

كانت أخباره التي انتشرت بسرعة الصوت، وسارت بها الركبان في بقاع الدنيا، تصلنا جملة وتفصيلا كل يوم، تباعا من المدن التي زارها أو مر بها. قالبا حياتها عقبا على رأس، مفرغا عليها من بركاته الجالبة لكل طفل لعبة، لكل شاب عملا، لكل متزوج سكنا، لكل عانس زوجا، لكل قانط أملا، لكل عجوز وحيدة أنيسا، لكل شيخ حجة، لكل متخرج منصبا، لكل مهرب صفقة، ولكل آثم مغفرة، لكل مجرم رحمة، لكل فار عفوا، لكل خائف أمنا، لكل مهموم فرحة، لكل سجين إفراجا، لكل مربوط تسريحا، لكل مريض شفاء، ولكل ميت لحدا. فتتأجج، يوما بعد يوم، فينا شعلة الشوق وتعظم رغبتنا لقضم الزمن، واستعجال اليوم الموعود ورؤيته ضيفا عندنا. يستقر السكر في دم الأولياء ويهبط ضغط شرايينهم، برغم مواظبتهم على الحجامة، جراء قلقهم على مستقبل الأولاد. وتنجلي تلك الغمامة السوداء الداكنة، التي ترزح بكلكلها على المدينة مثل عقاب الهي أزلي، تخنق أنفاس العباد وتجعل الشباب ينغمسون في الموبقات، لا يتكلمون إلا طعنا ولا يتخازرون إلا شزرا، وتتفتق عقول أعتى الأذكياء منهم عن أسوء الابتكارات والألعاب، فيقفزون في البحر على ألواح واهية للإفلات من أنياب البطالة والمخدرات.

احتشد الناس بكرة لحجز أماكن الصدارة ونيل القسط الأوفر من البركات والصكوك، مؤطرين برجال الأمن في زي أنيق. من حيث لا ندري أو نعلم توقفت ضحى، وسط الشارع، سيارة محفوفة بالدراجات النارية ترجل منها المبروك. ضجت جنبات المدينة بزغاريد النساء، على إيقاع الطبول، وعزف الزرنة، وأهازيج الغناوي والقارقابو، وهتافات الأطفال، ومزامير العرْفة، وصهيل الخيول، وطلقات البارود. اشتد الصراع بالمناكب والأبدان لبلوغ الصفوف الأمامية، فانبرى رجال الأمن بسواعدهم لتثبيت العوارض الحديدية وصد المد البشري من التدفق على المبروك. ارتفع صوت مؤذن من الوفد المرافق قال: من رأى منكم غودو فهو آمن. من صافحه فهو آمن. من صافح من صافحه فهو آمن من التقط قبلة فهو آمن. من جاء مع الجموع فهو آمن. من سمع به فهو آمن. من ناب عنه غيره فهو آمن. ومن بقي عند حائطه أو في بيته أو مقهاه أو محششته فهو آمن.

لم يكن وسيما ولا قبيحا، ليس طويلا ولا قصيرا، يدخل في القلب وفقط. سار بخطى واثقة، يصافح من اقترب منه، يحيي الواثبين على الأسوار والواقفين على السطوح. يهمس بكلمات، يضم يديه تارة ويرفعهما إلى السماء إشارة الاتحاد، يقبلهما تارة أخرى وينفخ فيهما تجاه المطلين من الشرفات ومتسلقي الأشجار. يصلح خصلات شعره الهفهاف بيد ويلوح للجماهير بيد أخرى.. عند نهاية الشارع امتطى سيارته وانطلق إلى مدن أخرى.

عاد الناس إلى قواعدهم يحدوهم الأمل ويلفهم الزهو بالغنم الفريد، خصوصا أولئك الذين صافحوا المبروك أو لامست أيديهم بدنه. لم تسعهم الأرض ولا السماء، كأن بركاته حلت بهم. صاروا مزارا للذين لم يحضروا العرض أو ألقى بهم الزحام بعيدا عن ممره، يتبركون بهم ويتمسحون بالأيدي المحظوظة التي صارت أيدي من ذهب.

الكروسة

في صباح أحد الأيام ظهر فتى يانع، يتبعه أطفال يدفع كروسة ذات عجلات مطاطية صغيرة على هيئة خزانة، بها رفوف صفت عليها، علب سجائر محلية وأجنبية، أكياس شمة (تبغ)، ولاعات وعلب كبريت. لم نكن قد رأينا من قبل تلك الخزينة المتحركة، أو الكشك المتنقل، ولم نسمع بها أبدا. كلما توقف الفتى ذو الحردة، لبيع السجائر بالتجزئة أو جملة، التف حوله الشباب والفضوليون من مختلف الأعمار. قال أحدهم والدهشة بادية على محياه: أين صنعتها؟ وقال آخر من أين جئت بها؟ قال الفتى: لم أصنع العربة ولم أخترعها. استيقظت بالأمس، في جوف الليل على صوت رجل، ما هو بشر ولا جان، سلمني قيادة الكروسة بما حملت، غمغم بكلمات واختفى. قاطعه شاب من الحضور:

ـ ماذا قال؟ ماذا قال؟
ـ غوودوو!
ـ وتساءلوا: ماذا تعني؟
ـ قال حيطيست متعلم معناها: اذهب واعمل.. اذهب وافعل.. انطلق؟

استقرت الكروسة في ساحة السوق. لتنضم إلى جانبها يوميا، كراريس خبز المطلوع والفطائر المنزلية، بائعي الهواتف النقالة المستعملة، العطور المكية، مصلحي الساعات المعطلة، مغلفي الوثائق الإدارية، الاسكافيين، السقائين والحمالين. ثم نبتت بباب كل مقهى كروسة على شاكلتها، تفنن الشباب في تصميم هياكلها، من الخشب والألمنيوم أو الحديد، حسب الحاجة والاستعمال. زينت واجهاتها الزجاجية، بصور الرياضيين والمغنيين والممثلين والزعماء. تبيت الليل في مستودعات السيارات وفي المقاهي الملازمة لها أو تربط بسلاسل إلى أعمدة الإنارة العمومية والأشجار. 

مع دورة الزمن وتوالي الأيام، تطورت الكراريس وصممت على شكل بيوت صينية صغيرة أو فطريات عظيمة، طليت بألوان زاهية، زينت أطرافها بألعاب ضوئية، قرصنت الكهرباء من أعمدة الإنارة العمومية. ثبتت في الأرض بالخرسانة المسلحة، على جوانب الطرق السريعة، وتقاطع المنحنيات الرئيسية لتأمين الخدمات الليلية للعابرين. تقاسم شوارع المدينة الكاروات مع الكراريس الجوالة العابرة للأحياء والأزقة الضيقة، بهمة ونشاط منقطعي النظير. كل واحدة لها سائق ومناد. كراريس خضر وفواكه موسمية وأسماك طرية، تتحدى قامات العمارات بأصوات منادين عنيدة. كراريس كران، حلوى، فول سوداني، حشيش وأقراص أمام المدارس. كراريس تبديل أواني منزلية بالكسوة والأحذية المستعملة. كراريس شراء أجهزة كهرومنزلية معطلة. كراريس بيع وتعمير الغرابيل. كراريس بيع قوارير الغاز. كراريس تلحيم وإصلاح أباريق الشاي، ركوات القهوة، طناجر الضغط والقدور. كراريس رمي القمامة من محلات الحرفيين. كراريس بيع الماء الحلو. وآخرون لما نعلم بهم يقضون يومهم يمشطون القمامات الجانبية، والمساحات الهامشية، والمفرغات العمومية. بحثا عن الحديد والنحاس وهياكل السيارات المتردية في شعاب الوديان والخردوات النافعة والبلاستيك والورق المقوى. يحملونها على عربات كارو، تجمع على أطراف الطرق الوطنية لتشحن إلى مصانع الرسكلة. عثر الشباب على بوصلتهم، عم الرواج واشتد الهرج. أصبح لكل واحد أكثر من كروسة أو طاولة. يعد المال مساء، ويجأر بالدعاء لغودو ومن بعثه أدبار كل صلاة. لم يعد أحد ينعم بنوم الضحى ولا بالقيلولة أو يستيقظ ليلا مفزوعا، على الصراخ وعراك السكارى، ونزاعات المسطولين على الزوايا الاستراتيجية للشوارع، بالهراوات والزجاجات المكسورة والسواطير.  

واحد من الذين صافحوا غودو 

كان قد أنهكه الترحال جائبا بلاد الله. خائضا حروبا ضروسا على الهوائيات المقعرة والفضائيات المحدبة والقنوات المشفرة. لم يترك مدينة لم يزرها أو قرية لم يمر بها أو أرضا لم تطأها قدماه. فكرت جمعية شباب مدينتنا ممن صافحوه مباشرة وأغدق الله عليهم من بركاته، فتحققت أحلامهم، وازدهرت مشاريعهم، وتناسلت كراريسهم، وتوسعت أعمالهم، وانتفخت رقابهم، وتدلت بطونهم، وتشحمت مؤخراتهم، الاتصال به عبر بعض المقربين منه. يدعونه لزيارة المدينة كرة أخرى، لتكريمه اعترافا بأفضاله على النجاحات التي حققوها، وينثر مزيدا من بركاته على البذور التي أينعت. رأت البلدية الفكرة قاب قوسين أو أدنى من أن تعطي أكلها، احتضنتها وتبنتها تحت الرعاية السامية.

كان على المدينة أن تتزين وترتدي أجمل الحلل للاحتفاء بالمبروك، وتليق برجل فذ ومبعوث الرحمة والعمل. من أجل ذلك اليوم المشهود سطر برنامج ثري للاحتفاء به، نوقش في المجلس البلدي لعدة أيام، قبل أن يصادق عليه وعلى ميزانيته في ساعة متأخرة من الليل. إنشاء منصات في كل الساحات العمومية مجهزة بمكبرات الصوت القوية، لإحياء السهرات والليالي الملاح أسبوعا كاملا. إطلاق زوارق كروسية مليئة بالورود والشموع عند الساعة الصفر، للترحم على أرواح الحراقة المعذبة في قاع البحر والنادمة على عدم انتظار غودو. إزاحة الستار عن لوحة بالشارع الرئيسي كتبت بماء الذهب تحمل اسم غودو. وضع اللبنة الأساسي في ساحة المدينة لبناء متحفا للعربات ومزارا للتبرك بإنجازاته. عقد ندوة برئاسته مع المجتمع المدني والفلاحين، لترقية المرأة وإدماج المهاجرين السود، الرابضين بشعاب الوديان في مخططه الخماسي القادم. استدعاء أجواق موسيقية، فنانين ومطربي الراي. فرق فولكلورية ومسرحية. شعراء، زجالين، مهرجين، ورواة سير من كل البقاع. مؤرخين، أنتربولوجيين، محاضرين بألسنة الخشب. إقامة معرض اللوحات المائية والزيتية والمنحوتات والمصكوكات والصور الفوتوغرافية للمبروك. استدعاء زعماء، أبناء زعماء راحلين، مناضلين، ثوار، وقدماء محاربين.

تأشير وسائل الإعلام المقروءة، المسموعة والمرئية لتغطية المهرجان وإغاضة الجيران والإخوة الأشقاء. فتح موقع رسمي على شبكة الانترنيت ونشر رزنامة برامج التظاهرة. تحت شعار " الكروسة لدفع عجلة التنمية " ينظم رجال الأعمال، الصناعيون والمتعاملون الاقتصاديين معرضا وطنيا لبيع الكراريس والطاولات ذات الدفع الخلفي والأمامي، المسحوبة والمحمولة، المطوية والمعلقة، واستعراض الأطرزة الأخير من الجيل القادم لكراريس ذات المحركات النفاثة. يتم بعين المكان تنشيط ندوات، إبرام صفقات، عقد ورشات عمل لتبادل الخبرات واستقطاب المستثمرين الأجانب. نصب الخيام العملاقة بميدان الخيل، ورش مضماره بمياه كثيرة لحبس الغبار والاستمتاع بسباقات الجائزة الكبرى للكاروات والكرايس، أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية العجلات، وإهداء كروسة لكل حراق ناج. شواء تيوس وخرفان وعجول لإقامة زردة كبيرة، كل يوم في حي، لإطعام الوفود المرافقة والمشاركة. إجراء مباراة في كرة القدم تحت الأضواء الكاشفة بين الفريق الوطني موديل سنة 82، قاهر الألمان، وفريق قدماء المدينة لاعتزال المبروك وتكريمه بالكروسة الذهبية. اختتام الاحتفالات، بإجراء سحب يانصيب الجائزة الكبرى للمعرض الوطني للكراريس، وتسليم الفائز كارو مكيف ومتحرك بزوج بغال وحمار الإنقاذ.

نزل الشباب من أعالي المدينة، زرفات ووحدانا، راكبين الكاروات وراجلين لمشاهدة المباراة، مرتدين أقمصة طبع عليها صور غودو، حاملين الأعلام واللافتات، ناشدين الشعارات المشيدة بحياة غودو:

ـ بالروح.. بالدم.. نفديك يا غودو
ـ جيش.. شعب.. معاك يا غودو!

ولفظت الأحياء والشعاب الغاصة بالسكان محتواها باتجاه الملعب البلدي، تعرقل المرور وانسدت النقاط الدائرية وتقاطعات المنحنيات الرئيسية للمدينة بأرتال شاحنات الفولفو والرونو والسوناكوم والمركبات الصغيرة المهيئة لتهريب الوقود والكاروات والكراريس. ضجت الدنيا بأبواقها الصاخبة ومحركاتها الهادرة النافثة لدخان كثيف. ارتبك أعوان شرطة المرور الواقفين منذ الفجر، سكتت صفاراتهم ثم استقالوا وانزووا تحت ظلال الأشجار مكتفين بالفرجة. عكفت حافلات الكارسان للنقل الريفي منذ الصباح على إفراغ الوافدين من أبناء القرى المجاورة. قبل انتصاف النهار امتلأت مدرجات وأسوار الملعب والأشجار وسطوح البيوت المحاذية له عن آخرها.أخذ الحشد الآدمي السائل يتحرك بصعوبة في الشوارع مرددين الهتافات والأهازيج الرياضية، كل يسوق مشروعه أمامه أو يجره وراءه أو يحمله على ظهره ليباركه المبروك. طارت أكياس الشيبس والذرة والسجائر من على الطاولات، وأفرغت قفاف الفول السوداني والمكسرات، بذور عباد الشمس والقرع، الحلوى واللبان، زجاجات الصودا وعلب الكولا، ساندويتشات كران والبيض المسلوق والكاشير والفطائر عن آخرها. ووزع السقائون مياه الشرب في أكياس بلاستيك لتبليل الشعور وغسل الوجوه من العرق، لكن تعذر على الوفود الرسمية المدعوة لتنشيط المهرجان الكروي بلوغ أبواب الملعب.

وعبثا حاول المنظمون والمشرفون المميزون بالبادجات المثبتة على صدورهم، فتح منفذ للسماح للوفود بدخول الملعب، لكن كل محاولاتهم، التي لاقت استجابة فورية في بداية الأمر، لم تفلح في شق ممر دقيق وسط الحشود لمرور المبروك ومرافقيه. طالبوا عبر أجهزتهم اللاسلكية مزيدا من التعزيزات والإمدادات لاحتواء الأمور وتجنب البلابل. أخذوا استراحة قصيرة ثم استجمعوا شتات قواهم. شبك فريق الأيدي مشكلا سلسلة على جانبي الطريق وطوق الحشود، وأعاد الفريق الثاني تثبيت العوارض الواقية وكلما ثابروا على دفع بحر الجماهير اللزجة بالقوة تتحرك أمواجه الزئبقية الصاخبة، تارة ذات اليمين وتارة تميل ذات الشمال، فيتعثرون بالكراريس والحمير والطاولات ويسقطون. صعد الغاز إلى الرؤوس وسال العرق غزيرا، تحت شمس أيلول الحارقة، على جباه المنظمين وأعوان الأمن والحرس البلدي والشخصي للمبروك. تبادلوا التهم بكلمات فيما بينهم كل يحمل الآخر المسؤولية، تطورت إلى ألفاظ بذيئة وشتائم جارحة، طالت الحشود الذين غضوا السمع عنها أولا، ثم تصاعدت اللهجة والزعيق، سرعان ما تحول إلى اشتباكات بالأيدي وركلات بالأرجل ونغزات بالعصي، خرج المبروك عن صمته واعتلى سطح سيارته، داعيا الجماهير بيديه إلى الهدوء وضبط الأعصاب، ضج المكان بالتصفيق الحار والهتافات المهيجة للمشاعر والمشوكة للأبدان.

ـ جيش.. شعب.. معاك.. يا غودو!
ـ بالروح.. بالدم نفديك.. يا غودو!

لقت مبادرته الترحيب برهة من الزمن، لتنشب من جديد مشادات هنا وهناك بين الجماهير وأعوان الأمن من جهة، وبين الجماهير الوافدة والمقيمة فيما بينها من جهة أخرى. وارتطم التيار الهادر والدافع للأبدان بسيارة المبروك، فتزحزحت عن مكانها. خوفا من أن يصيبه مكروه، مرغما أدخله حرسه الشخصي في السيارة، وانطلقوا به بصعوبة بالغة وسط الحشود المتمسحة تبركا بسيارته.

انسل أعوان الأمن والحرس البلدي والمنظمون، رويدا رويدا مؤثرين السلامة، وفي لمح من البصر، انتشرت في محلهم، قوات شرطة التدخل السريع القاهرة للفتن بعتادها الخاص. طوقت المكان لاحتواء بؤر التوتر. دون سابق إنذار أو مفاوضات، انهالت على الجموع بالهراوات والعصي وخراطيم المياه القذرة. تمترست الحشود خلف العربات، واختلط زعيق صافرات السيارات الكاسحة للمتاريس وهدير المروحيات بنهيق الحمير الحرونة في كل اتجاه. أضرمت النيران في العجلات المطاطية والكروسات والكاروات والطاولات. تبادلوا التراشق بالقنابل المسيلة للدموع والحجارة وزجاجات كوكتيل خروطوف، واكتسحت الحشود الشوارع تكسر الواجهات وتنهب محتويات المحلات وتحرق السيارات والإدارات العمومية.

ومع الغروب انفلتت عيارات ريح ساخنة، أثارت زوابع محملة بالغبار وقشور البذور وأوراق الأشجار وأكياس البلاستيك والدخان الكثيف. تعكر الجو وأطبق الظلام فجأة وغطت السماء غمامة سوداء قاتمة حجبت كل الآفاق.


مغنية ـ الجزائر