بضربات سردية محكمة، ولغة مركزة ولكنها مترعة بالحيوية والإيحاء يسترجع القاص المصري الماضي المؤتلق، ليضعه في مواجة الحاضر الكالح، فنرى كل من الزمنين على مرأة الأخر حيث يرهف السرد معرفتنا بهما معا.

طفلة

قصة قصيرة

خالد حسين عاشور

 

نراها حين تقترب.
ونكون قد اختبأنا بعيداً عن مدخل القرية. أعواد الذرة أمامنا وقد أوشكت العتمة أن تخفيها. تسير في اتجاهنا. ونقول حين نراها أنها هي. فنكف عن العراك وقد اتفقنا فيما بيننا على من يدخل إليها أولاً. تخترق هي أعواد الذرة وتختفي. يتبعها الأول. يتركنا مسرعاً دون أن يلتفت. وأُصر دائماً على أن أكون الأخير. أخشى أن تفضحني عندهم. ربما تخبرهم بفشلي وأنا أصغرهم سناً. كنت أراهم عراه حين نسبح في النهر. أعضاؤهم وقد غطاها الشعر تتدلى في وضوح وتضخم. يضحكون حين أتعرى أمامهم لصغرى. وأمتنع حين يأت دوري أولاً. أتنازل عنه طواعية لآخر. وأتعلل:
ـ الأخير نصيبه كبير.
وأوهم نفسي.
غير أن الحقيقة أنه حين أكون الأخير تكون هي قد اتسعت فتسهل علي عملية الولوج.
خرقة قديمة كانت تضعها دائماً إلى جوارها. تأمرني قبل أن أقترب أن أنتظرها حتى تنظف نفسها.
وأسمعها تقول حين تنتهي وقد تهيأت لي:
ـ من ورا. خليك من ورا.
وأفعل.
ترفسني بقوة بعد أن أنتهي. فأتكوم على الأرض بعيداً عنها.
وأراها تقوم.
تنفض جلبابها القديم المهترىء من الخلف وتمضي دون أن تلتفت نحوي.
المرة الأخيرة والتي انقطعت بعدها عن المجيء إلينا لاحظت زغب أصفر خفيف نبت فوق عضوها. رأيته وأنا أزحف لآخذ دوري، وكان القمر ساعتها مكتملاً فسمح لي ضوءه الخافت أن أراه. عضوها صغير بض. مشقوق بروعة. يشبه شفتين تتطلعان إلى التقبيل. رغم ضوء القمر الخافت. حين رأيته كان يتلألأ بلون وردي يحيله إلى جمرة تتقد. وحين اقتربت منه مبهوراً سمعتها تصرخ:
ـ من ورا. خليك من ورا.
وانقطعت بعدها عن المجيء. وقلنا أنها ستأتي. وانتظرناها دون أن تظهر. فنسيناها لسنوات.
***
اليوم حين رأيتها ترتدي السواد وهي تجر أطفالها خلفها كانت قد كبرت. تسمرت في مكاني صامتاً. لم تكن هي تلك الطفلة التي عرفناها ببهجتها. حين اقتربت مني رأيتها تمد يدها للتصافح. مددت يدي نحوها دون أن أتكلم.
قالت بعد أن تركت يدي:
ـ ودارت الأيام. كبرت. بقيت أفندي.
فضحكت. وتركتها تحكي.
قالت أنها تزوجت منذ سنوات. تهدج صوتها وهى تقول أنه مات في الحرب. لعنت الحرب، ولعنت معها الحكومة، وهي تخبرني أنهم لم يعوضوها عنه شيئاً. فقط قالوا عنه شهيد. ثم علت ضحكتها وهي تسألني:
ـ فاكر زمان؟ كانت أيام حلوة. مش دلوقتي.
وسكتت قبل أن أسمعها وهي تلعن أبوها في وقاحة:
ـ هو السبب في الجوازة دي. أزهري! هاتقول ايه؟!
ربتُ على كتفها وأنا أخبرها أن كل شيء نصيب. ورحت أترحم عليه في صوت عالٍ عمدت أن تسمعه. فقد كان شيخنا في جامع القرية. هو الذي علمنا القرآن بكُتاب القرية. ضحكت هي في خلاعة:
ـ ما هو علشان كده.
وسألتني وهي لا تزال على ضحكتها:
ـ تزوجت؟
وأجبت:
ـ لا.
فضحكت ضحكة عالية لها ذيل. قائلة:
ـ ما أنت كنت بتعرف زمان.
طأطأت رأسي خجلاً واستأذنت في المضي. استوقفتني قبل أن أغادر. أخبرتني أنها تعيش الآن مع أمها العجوز وأطفالها منذ مات الرجل في الحرب. أومأت لي بأن أزورها في غيبة أمها. وهمست لي:
ـ وحشتني أيام زمان.
ضغطت علي يدي قبل أن تعقب:
ـ بس دلوقتي من قدام.
ومضت.
وقفت أراقبها وهي تسحب أطفالها معاودة سيرها. أردافها تهتز في نعومة وهي تتحرك. استدارت وكبرت فأصبحت أكثر سحراً من ذي قبل. جلبابها الأسود الضيق وقد شده الطفل الممسك بذيله يجسد روعتها. طفل صغير كان يعيق حركتها وهو يتعثر أمامها. رأيتها تشده إلى الوراء. سمعت صوتها وهي تأمره:
ـ من ورا. خليك من ورا.
ضحكت حين وصلني صوتها وأسرعت في خطوتي.


قاص من مصر