في هذه المقالة الوداعية يرصد الكاتب والمناضل اللبناني مسيرة الناقد والمفكر الكبير محمود أمين العالم الذي رحل عن عالمنا قبيل منتصف الشهر الماضي، وهي المسيرة التي عرفها واقترب منها منذ بداياتها الباكرة وحتى زمن الرحيل.

وراح صاحب العطاء الدائم

كريم مروّة

رحل محمود أمين العالم غصباً عنه. فهو لم يكن يحب مثل هذا الرحيل. إذ كان يحب الحياة، ويحب الاستمرار فيها. كما لو أنه شاب في السابعة والثمانين من العمر. وظل علي امتداد حياته في ورشة دائمة. وكان عالمه علي الدوام، منذ أن بدأ حياته الفكرية والأدبية والسياسية، عالماً كبيراً وشاسعاً. عالماً لا تعرف من أين تدخل إليه، ولا تعرف، حين تتمكن من ذلك، كيف تخرج منه، وإلي أين تخرج. هكذا هو حال كبار المفكرين حين يمتد بهم العمر، وحين تتنوع إبداعاتهم وتتعدد ميادين نشاطهم. ومحمود أمين العالم هو واحد من هؤلاء الكبار في مجالات عطائه علي امتداد أكثر من نصف قرن، في الفلسفة وفي الفكر السياسي وفي النقد الأدبي، وفي العمل السياسي والتنظيمي داخل نوعين من الأحزاب. الحزب الشيوعي في مرحلتين، مرحلة الشباب والمرحلة الأخيرة من العمر، والاتحاد الاشتراكي، ثم التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي ذاته، بين هاتين المرحلتين الشيوعيتين. لكن محمود كان إعلامياً كبيراً. وكان شاعراً أيضاً. وأصدر في هذا الميدان الإبداعي الأدبي ديواناً كاملاً. لهذه الأسباب جميعها تبرز أمام الباحث في سيرة العالم صعوبة حقيقية.

ورغم أنني رافقته علي امتداد الفترة التي برز فيها اسمه في عالم الأدب والفكر منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، ورغم أنني أقتني في مكتبتي جميع مؤلفاته، بما فيها ديوانه الشعري الوحيد الذي حرص هو ذاته علي أن يهديني نسخة منه لتأكيد انتمائه إلي شعراء العصر، فإنني أجد اليوم، بعد رحيله، صعوبة كبيرة في الكتابة عنه، بالحرية التي أبتغيها، وبالاستناد إلي المعرفة الحقيقية عندي بمراحل تطور شخصيته وتطور أفكاره وتطور عطائه في ميادين نشاطه المتعددة. وقد تكون الصداقة الشخصية والفكرية مصدراً من مصادر الصعوبة في الكتابة عنه. فهو المفكر والفيلسوف والأديب والأستاذ الجامعي والمناضل الاشتراكي الكبير، الذي أطلق عليه أصدقاؤه ورفاقه في مصر لقب "شيخ الشيوعيين" الذي لا يهرم ولا يتعب. ويقولون عنه إنه من النوع الذي لا يصيبه ملل في المتابعة، ولا يصيبه خلل في الذهن وفي الذاكرة، إلا في حالات معينة برزت عنده في العامين الأخيرين من حياته. إذ اضطربت ذاكرته وأخطأت في تحديد بعض المحطات من سيرته، وفي تحديد بعض الأحداث التي كان شريكاً في صنعها أو كان شاهداً عليها. أكثر من ذلك فإن محمود لم يعرف قط التقاعس عن الاستمرار في اقتحام ميادين المعرفة، سعياً متواصلاً لامتلاكها في تطورها، وإسهاماً منه في إنتاج أجزاء منها مما يتيحه له تراكم البحث والاجتهاد في الوصول إليها، ومما يتيحه له غني التجربة التي كان يراكمها في ميدان العمل. وهو، فوق كل ذلك، لم يتخلّ عن دوره في تعميم ما كان ينتجه من هذه المعرفة أو ما كان يحصل عليه منها، التعميم الذكي الذي كان يبتغي منه العالم الإسهام في رفع مستوي الوعي لدي شعوبنا ولدي أجيالنا الطالعة، من أجل أن تتسلح به في الدفاع عن حياتها، وفي إحداث التغيير في واقعها نحو الأرقي والأصلح والأكثر حرية وتقدماً وعدالة.

ولعل من أهم ميادين نشاط محمود أمين العالم كان الكتاب الدوري الذي استمر في إصداره منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي تحت عنوان "قضايا فكرية". وهو كتاب ضخم، كل عدد منه مكرس لقضية كبري من قضايا بلداننا ومن قضايا العالم المعاصر. وكان محمود يحرص علي أن يسهم بالكتابة في هذا الكتاب، وحول هذه القضايا، العديد من كبار الكتاب العرب، كل في مجال اختصاصه. وقد صدر من هذه السلسلة أكثر من عشرين كتاباً. وكان لي شرف المساهمة في عدة كتب منها ابتداء من النصف الثاني من الثمانينيات. ولعل مفكرنا الكبير رأي أن عليه، من موقعه في قمتي العمر والتجربة والفكر، أن يقدم للأجيال الجديدة، فيما يشبه الزاد، أفضل ما أتاحته له تجربته الذاتية واجتهاداته الفكرية المتعددة من غني. وإذا كانت تلك المرحلة هي المرحلة الأخيرة في حياة مفكرنا، فإن بدايات حياته كانت عاصفة بكل المعاني، كما يرويها هو في أكثر من حديث، وكما يرويها عنه أصدقاؤه الكثر.

ولد محمود أمين العالم في الثامن عشر من شهر شباط من عام 1922 في حارة «الكحكيين» في حي الدرب الأحمر، أكثر أحياء القاهرة القديمة شعبية وأكثرها شهرة. والتحق بكتّاب الشيخ السعدني لتلقي مبادئ القراءة والكتابة قبل الانتقال إلي المدارس الرسمية. ومن كتّاب الشيخ السعدني انتقل إلي مدرسة النحاسين الابتدائية الواقعة علي مقربة من جامع الحسين. ويذكر العالم أنه عرف فيما بعد بأنه كان زميلاً للرئيس جمال عبد الناصر في تلك المدرسة، من دون أن يلتقي به، ربما لأن الرئيس عبدالناصر كان يسبقه بعامين. وبعد حصوله علي الشهادة الابتدائية التحق بمدرسة الإسماعيلية الثانوية في ميدان السيدة زينب. وكان ذلك في عام 1935 الذي شهد أحداثاً عاصفة بسبب إلغاء دستور عام، 1930 وهي الأحداث التي شارك فيها العالم بانخراطه في المظاهرات. وكان ذلك أول عمل سياسي يقوم به وهو في سني عمره الأولي. ثم أكمل دراسته الثانوية في مدرسة الحلمية الثانوية التي حصل فيها علي شهادة البكالوريا، الشهادة التي أهلته للانتقال إلي الجامعة. وصادف خلال دراسته الثانوية أن أصاب الوالد عجز مادي اضطره إلي إخراج ابنه محمود من المدرسة. فأرسله إلي إحدي المطابع ليتعلم صف الأحرف بدلاً من البقاء في المنزل بلا عمل. وقد نجح محمود في اكتساب تلك المهنة. وقبل أن يبدأ في ممارستها كمهنة حياة جاءه قرار من مدير المدرسة بالعودة إلي الدراسة معفياً من القسط، بعد أن قرر الملك فؤاد الأول منح المجانية للمتفوقين من الطلاب. وقد جاء هذا القرار من الملك في أعقاب شفائه من مرض كان قد ألمّ به.

ويذكر العالم أن شقيقه محمد كان أستاذه الأول. فقرأ الكثير من الكتب التي كانت متوفرة في مكتبة شقيقه. وكان من بين تلك الكتب، التي يذكر العالم أنه تأثر بها، كتاب الفيلسوف الألماني نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" مترجماً إلي العربية بقلم الأديب اللبناني فيلكس فارس. ويذكر العالم أن هذا الكتاب هو الذي قاده إلي اختيار مادة الفلسفة موضوعاً لدراسته الجامعية. وفي عام 1936 عاد محمود فشارك في المظاهرات التي انفجرت ضد المعاهدة التي كان حزب الوفد قد عقدها مع الإنجليز. ولأن المدرسة كانت من مؤيدي حزب الوفد فقد تعرض الطالب محمود وزملاؤه الذين شاركوا في المظاهرات إلي غضب الأكثرية الطلابية الوفدية. يومها خرج مع زميل له للاتصال بالأحزاب الأخري فلم يستقبلهما أحد. فقررا مع زملاء آخرين إنشاء حزب مستقل أعطوه اسم "حزب المجد الفرعوني". وكان الحزب مثار تسلية وإرضاء معنوي لمشاعرهم ليس أكثر.

في الجامعة كان محمود العالم طالباً مجتهداً. كان يبحث عن طريقه إلي المستقبل. لكنه كان مثالياً في فلسفته. كان متأثراً بالفيلسوف الألماني نيتشه بعد أن قرأ كتابه "هكذا تكلم زرادشت". وكان وجودياً كذلك. وكان متصوفاً كما يقول. وكان تصوفه روحانياً وليس دينياً. وكان في تلك الفترة قد وقع علي كتاب للمستشرق ماسينيون عن الحلاج فتأثر به. وكتب قصيدة يحاكي فيها قصيدة الحلاج التي يقول فيها:

اقتلوني يا ثقاتي   إن في قتلي حياتي


ولأنه كان بحاجة إلي المال فقد عمل موظفاً في وزارة المعارف وهو طالب في الجامعة، ثم موظفاً في الجامعة ذاتها. وقد نشأت بينه وبين أستاذه عبد الرحمن بدوي صداقة منذ ذلك التاريخ. وتعلم منه الكثير. كما أنه تعرف إلي لويس عوض الذي كان يدرسه المادية الماركسية. ويقول العالم إنه في تلك الفترة كان حائراً بين مثاليته ووجوديته وبين الأفكار الدينية التي تشربها من بيئته الدينية. ولأن عائلته كانت عائلة دينية فقد أطلق عليها لقب "العالم" لأن معظم أفرادها كانوا ينتسبون إلي الأزهر. لكن ما إن وقع محمود علي كتاب لينين "المادية والنقد التجريبي" حتي اهتزت كل قناعاته السابقة. وكان قد بدأ في الإعداد لأطروحته عن "المصادفة" في الفيزياء المعاصرة. ويقول العالم إن كتاب لينين المشار إليه قد ساعده علي اكتشاف الأساس العلمي والموضوعي لكل شيء في العلم والسياسة والمجتمع والأدب. وقرر، علي أساس اكتشافه الفكري الجديد، الانضمام إلي الحركة الشيوعية.

كان لكتاب "في الثقافة المصرية"، الذي ضم عددا من المقالات لكل من محمود العالم وعبد العظيم أنيس، صدي كبير في الأوساط الأدبية في العالم العربي في ذلك الحين. لكنه سرعان ما فقد بريقه في ضوء التحولات التي كانت تحصل في مصر وفي العالم العربي في ذلك التاريخ. إذ دخلت مصر والعالم العربي، في الفترة التي أعقبت قيام ثورة يوليو في مصر، في منعطف جديد وفي معارك داخلية وخارجية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة. كما برزت نظريات جديدة في الأدب والفن، مغايرة لما كان سائداً في السابق. وكان العالم قد بدأ يصبح شخصية مرموقة. ساعده في ذلك وجوده ككاتب في جريدة "المصري" أولاً، ثم في مجلة "روزاليوسف". ومن هذا الموقع بالذات دخل العالم في معترك السياسة من أبواب واسعة في المنظمات الشيوعية متفرقة، ثم في الحزب الشيوعي موحداً، ثم في انفراط هذا الحزب من جديد وتوزعه إلي منظمات مختلفة. وقد قادته معاركه ومواقعه ومواقفه إلي السجن مرات عديدة. وكان يخرج من سجن ليدخل في سجن آخر. وكان آخر خروج له من السجن في عام 1964 مع زملائه من التنظيمات الشيوعية، بعد أن حلت تلك التنظيمات نفسها، ودخلت وأدخلت أعضاءها في الاتحاد الاشتراكي علي أساس "الميثاق القومي" الذي تبني الاشتراكية كأيديولوجية لاتحاد قوي الشعب العامل. وفي تلك الفترة بالذات أصبح محمود أمين العالم شخصية مصرية بارزة في قيادة الاتحاد الاشتراكي، ثم في التنظيم الطليعي، ثم في رئاسة تحرير كل من جريدتي الجمهورية والأخبار تباعاً. وبدأت مرحلة جديدة في حياته. عين مشرفاً علي مؤسسة المسرح، ومسئولاً عن الهيئة العامة للكتاب، ومسئولاً عن إصدار مجلة "الكاتب العربي". وبدأت تتراكم المسئوليات وتتنوع ليصبح صاحبها محمود العالم نجماً فكرياً وأدبياً وسياسياً وتنظيمياً.

في تلك الفترة بالذات، أي في عام 1966، سافر العالم إلي بيروت لحضور مسرحية لبرشت أخرجها الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني جلال خوري. وكان من الطبيعي أن نلتقي ونتحدث ونتناقش معه في شئون الساعة في العالم العربي. وكان من بين تلك اللقاءات معه لقاء شارك فيه جورج حاوي وغسان الرفاعي وأنا. وهو اللقاء الذي قدم لنا فيه محمود عرضاً بحل الحزب الشيوعي اللبناني والدخول في اتحاد اشتراكي لبناني مع حركة القوميين العرب. وكان مكلفاً ببحث الموضوع معنا من موقعه في قيادة الاتحاد الاشتراكي، ومن موقعه، تحديداً، في قيادة التنظيم الطليعي. ولم يقنعنا، ولم نقنعه. وكنا في ذلك الحين قد أجرينا، جورج وأنا، نقاشات عاصفة مع محسن إبراهيم ومحمد كشلي، القياديين في حركة القوميين العرب، حول الفكرة ذاتها. واعتبرناها، من وجهة نظرنا، عملية متسرعة يتم فيها حرق المراحل في اتجاه وحدة القوي الثورية التي كنا مقتنعين بضرورتها. لكننا كنا نري ضرورة العمل لإنضاج شروطها.

وكنا في الحزب الشيوعي، في ذلك الحين، قد غيرنا موقفنا السابق من الرئيس جمال عبد الناصر في الاتجاه الإيجابي منه ومن حركته ومن أهدافه. واستمر ذلك الموقف في تطوره إلي أن شارك الحزب في الاجتماع التحضيري لمؤتمر الأحزاب الشيوعية (1968) في بودابست ثم في المؤتمر ذاته (1969) في موسكو. ومعروف أنه تقرر في ذلك المؤتمر عقد مؤتمر عالمي للقوي المعادية للإمبريالية في القاهرة بقيادة الرئيس عبد الناصر. وهو المؤتمر الذي تقرر الاستغناء عن عقده بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، لأن التخطيط لانعقاد ذلك المؤتمر كان يقضي بأن يكون علي قياس هذا القائد العربي الكبير بالتحديد. يقول العالم، بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وبعد أن تغيرت الظروف في مصر في عهد الرئيس السادات: إنه شعر هو بالتحديد، وشعر زملاء له آخرون من قادة الحزب الشيوعي المصري، بأنهم كانوا علي خطأ في التسرع في توحيد القوي الثورية العربية علي النحو الذي حصل، قبل أن تنضج الشروط لذلك. إذ إن القفز فوق المراحل التاريخية كان مغامرة، وكان لا بد أن يدفع ثمنها من يقوم بها. إلا أن هذا النقد الذاتي لم يغير من قناعات العالم بأن الرئيس عبد الناصر كان ظاهرة تاريخية نادرة في حياة مصر والوطن العربي، رغم ما ارتبط بعهده في زمن الثورة من ممارسات اتسمت بالخطأ وبسوء التقدير عند البعض، وبسوء النية عند بعض آخر ممن كانوا داخل الثورة نقيضاً لها ولأهدافها.

إلا أن محمود أمين العالم ظل في نظر الكثيرين من شيوعيين وغير شيوعيين، برغم كل ما حصل من تغيرات وتبدلات، شيخ الشيوعيين المصريين، الذي لم يتعب من التفكير ومن الاجتهاد في الميادين التي نصّب نفسه للانخراط فيها بكل طاقاته، أعني ميدان الفكر الاشتراكي، والنقد الأدبي، والبحث في التراث، والعمل السياسي الدؤوب تحت راية التغيير في مصر وفي العالم العربي تحقيقاً لمطامح شعوبنا في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وسيكون من الصعب علي في هذا العرض المكثف لجوانب من شخصية وسيرة محمود العالم أن أتوقف عند جهده الفكري واجتهاده في تحديد وتوضيح بعض التحولات والمفاهيم. فكتاباته الكثيرة والمتنوعة، والتغيرات والتحولات التي شهدتها مسيرته الطويلة المديدة في هذه العوالم كلها، تربك الباحث، وتضعه أمام استحالة الاستشهاد بنص معين. فكتاب "معارك فكرية" علي سبيل المثال، الذي هو جمع لمقالات وأبحاث في فترة الستينيات من القرن الماضي، يكاد يكون نقيضاً في الأفكار والاجتهادات الفكرية لكتاب "الإنسان موقف" الذي هو أيضاً جمع لمقالات وأبحاث كتبها العالم في فترات لاحقة. ولعله قصد في تحديد مفهومه للهوية في أحد أبحاثه اللاحقة إلي ما أشير إليه هنا من تغيرات وتحولات متناقضة تحصل عند المفكر، تفرضها عليه التغيرات والتحولات في الشروط التاريخية الجديدة. يقول العالم في موضوع الهوية: "لكل مرحلة مجتمعية وتاريخية هويتها المعبرة عن مكتسباتها ومنجزاتها وممارساتها وأفكارها وعقائدها وقيمها وأعرافها السائدة. لذلك فليست ثمة استمرارية لهوية ثابتة جامدة محددة طوال التاريخ. فهذه رؤية أرسطية شكلية للهوية تغلب عليها الطبيعة لا التاريخ، الذي هو جوهر إنسانية الإنسان. إن لكل مرحلة جديدة هويتها التي هي تطور متجدد للهوية في المرحلة السابقة، أو انحدار وتدهور لها. إنه التماثل واللا تماثل، الاستمرار والانقطاع، الثابت والمتغير ثقافياً وموضوعياً في جدل التاريخ. ولهذا فكل تثبيت إطلاقي للهوية وجعلها معياراً مرجعياً ناجزاً نهائياً طوال تاريخ مجتمع من المجتمعات هو رؤية تجميدية لا تاريخية وغير موضوعية لهذا المجتمع. علي أن للهوية بعداً آخر ليس أقل أهمية. لعلنا نعود به مرة أخري إلي ابن خلدون في حديثه عن أن لكل شيء طبيعة تخصه. فالخصوصية ليست خصوصية متجددة متطورة تجدداً وتطوراً ذاتياً فحسب، بل هي كذلك عند ابن خلدون خصوصية منفتحة علي غيرها من الخصوصيات الأخري. بل إن حقيقتها لا تكتمل بخصوصيتها الذاتية وحدها، وإنما بعلاقتها بهذه الخصوصيات الأخري".

ويذهب العالم، علي قاعدة هذا المنطق ذاته في التعامل مع الظواهر، في تفسير ظاهرة العولمة مذهباً عقلانياً واقعياً يختلف فيه مع الذين يرفضونها رفضاً اعتباطياً، كما يختلف مع الذين يندمجون فيها اندماجاً كلياً ويتكيفون معها بدون شرط. ويقول في الرد علي الذين ينكرون الوجود الموضوعي للعولمة: " وفي مواجهة هذا الواقع العالمي الجديد، الذي لا يزال في دور الانتقال والتشكل، هناك أكثر من موقف: هناك أولاً من ينكر الوجود الموضوعي للعولمة أو الكونية الحضارية، مكتفياً بإدانتها والسعي إلي القطيعة معها، بل مع العصر عامة. ولهذا يتم التصدي لهذه العولمة ولهذا العصر برؤية حضارية كاملة مناقضة لهذه العولمة وهذه الكونية، تستند إلي الأصولية السلفية الدينية. وهو في الحقيقة موقف يفضي إلي العزلة عن حقائق العصر. ويكاد يكون تعبيراً عن أزمة التخلف والتبعية. لكنه لا يقدم حلاً لها، وإنما يفاقمها. بل هو يسهم في تغييب حقائقها الموضوعية عن الجماهير، وفي حرفها عن التوجه النضالي والمطلبي الصحيح".

ثم إن العالم يعالج موضوع التراث بالطريقة ذاتها أيضاً. فهو يقول في هذا الصدد في محاضرة له بعنوان "التراث.. ذلك المجهول": "... وعندما نتحدث عن التراكم والإضافة في الزمن، لا نتحدث عن آنات زمنية مفرغة، تتحرك داخلها التراكمات والإضافات التراثية حركة خطية أو خيطية طولية مسطحة، وإنما نتحدث عن تاريخ، أي نتحدث عن كثافة إنسانية ـ اجتماعية. نتحدث عن أنظمة حكم، وأنسقة علاقات اجتماعية وأنسقة قيم وأفكار ومشاعر. نتحدث عن صراعات ومصادمات مصالح في مستوي الواقع الاجتماعي العملي، وفي مستوي الثقافات النظرية والروحية والإبداعية علي السواء. نتحدث عن عوامل داخلية وتأثيرات خارجية ، عن دوافع ذاتية وشروط موضوعية، عن قوي فردية وأخري مجتمعية. نتحدث عن أفعال وردود أفعال وتفاعلات، عن استمرار واتصال وعن تقطع وانفصال. مرة أخري نتحدث عن التاريخ. وبهذا المعني ففي الحيز الصراعي المتحرك للتاريخ، وفي إطاره، ومن عناصره العينية ومعطياته المشخصة، تتشكل الإضافات التراثية. وتتحدد المواقف من هذه الإضافات التي تصبح بدورها إضافات جديدة، ومن هذه الإضافات المتجددة يتشكل ويتحدد كذلك التاريخ نفسه! نستخلص من هذا كله: أولا: أن الإضافات التراثية المتجددة إنما تختلف دلالاتها باختلاف المراحل واللحظات التاريخية والاجتماعية. كذلك الأمر بالنسبة للمواقف من هذه الإضافات، فإنها تختلف باختلاف هذه المراحل واللحظات. ولهذا فإن كل إضافة تراثية هي نفسها موقف من إضافة تراثية سابقة عليها، وهي موضوع لموقف تراثي لاحق عليها سيصبح بدوره موضوعا لموقف، أي إضافة تراثية.. وهكذا إلي غير حد. ونستخلص من هذا ثانياً أنه لا يوجد شيء واحد أو منجز واحد من منجزات الماضي التاريخي يمكن أن نقصر عليه كلمة تراث. بل هناك إضافات تراثية متعددة، ومختلفة، ومتنوعة. فليس التراث هو التراث الديني وحده ـ كما يقلصه البعض ـ وليس هو الثقافة الرسمية السائدة وحدها، كما يقول البعض كذلك. بل هو ـ في تقديري ـ منجزات الماضي كله، بكل عناصرها ومحاورها الدينية والروحية والوجدانية والعلمية والأدبية والفنية والسلطوية والشعبية والنظرية والعملية والإدارية والتنظيمية والعمرانية وإلي غير ذلك".

أردت من هذه الاستشهادات لمحمود أمين العالم أن أشير إلي أن مفكرنا الكبير كان دائم الحركة في تفكيره وفي قراءاته للأحداث وفي استنتاجاته حولها. وهي شهادة له في هذه المرحلة التي بلغ فيها هذه القمة من العمر والفكر، قبل الرحيل. وباستطاعتي القول إن إصرار العالم علي إصدار كتابه "قضايا فكرية" في هذه الطريقة من الجمع بين الاتجاهات المختلفة لمفكري هذه الحقبة من تاريخنا علي ما فيها من تناقضات، إن إصراره هذا علي الاستمرار في هذا الجهد الفكري الكبير، هو دليل صحة ودليل توقد ذهن ودليل عافية فكرية يستحق معها محمود أمين العالم أن يوصف ليس فقط بشيخ الشيوعيين المصريين بل بأحد أقطاب الفكر العربي المعاصر. وإذ رحل محمود أمين العالم، بعد هذا العمر المديد، الحافل بالعطاء في ميادين المعرفة وفي النضال، فإنه ترك لنا تراثاً كبيراً ومجيداً سيظل يتحدث عنه، ويذكر به، وسيظل يبقيه حياً دائم الحضور بيننا.