يقدم هنا الكاتب والشاعر المصري عرضا لمسيرة الراحل الكبير عبدالعظيم أنيس الذي نهتم في هذا العدد من (الكلمة) به وبرفقته مع من زامله في الدور والرحيل الناقد الكبير محمود أمين العالم، ليشكف عبر تناوله أبعادا مهمة في تلك المسيرة الخصيبة.

أسهم في تأسيس المذهب الواقعي

وتصدى لاطروحة طه حسين الليبرالية

محمود قرني

رحيل عبدالعظيم أنيس السياسي والعالم والكاتب الكبير، يمثل خسارة كبيرة لمصر، لا سيما وهو يقترن برحيل رفيق دربه المفكر والناقد محمود أمين العالم، وهي رفقة وصفها المتابعون بأنها تمتد في الحياة وتنتقل الى الموت. فلم تكن الرفقة بين العالمين تتمثل في إصدارهما الكتاب الإشكالي المشترك عام 1955 "في الثقافة المصرية"، بل امتد لسنوات من النضال في صفوف الحركة الوطنية داخل الجامعة وخارجها. وقد دفع كلا المفكرين ثمنا باهظا لموقفيهما سواء كان في العهد الملكي أو في ظل ثورة يوليو. فقد تم فصل الدكتور عبدالعظيم أنيس، من الجامعة في عام 1954 بسبب انتماءاته السياسية الماركسية، وتم اعتقاله في العام 1959 ولم يخرج من السجن سوى في العام 1964، لكنه منذ صغره كان شغوفا بالعمل الوطني، وناضل ضد معاهدة 1936 وتم اعتقاله حيث كان من قادة "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال" التي تزعمت الحركة الوطنية منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. ثم اعتقل لأكثر من خمسة عشر شهرا عام 1948 بسبب مشاركته في أحداث حرب فلسطين.

وقد اصدر عبدالعظيم أنيس عددا من المؤلفات المهمة بالإضافة الى كتابه المشترك مع محمود أمين العالم مثل "علماء وأدباء ومفكرون"، و"إصلاح التعليم أم مزيد من التدهور" و"قراءة نقدية في كتابات ناصرية"، والتعليم في زمن الانفتاح وذكريات من حياتي"، و"كتاب السجن" ورسائل الحب والحزن والثورة"، "مقدمة في علم الرياضيات"، "بنوك وباشاوات"، "العلم والحضارة". ولد الدكتور عبدالعظيم أنيس بالقاهرة عام 1923 وتخرج في كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1944 وكان كتاب أنيس مع العالم قد صاحبته أصداء واسعة وعداءات متصلة. وكانت أبرز محطات عبدالعظيم أنيس صدور كتابه "في الثقافة المصرية" بالاشتراك مع المفكر الراحل محمود أمين العالم عام 1955. كان الكتاب يمثل ردا قاسيا على كتاب الدكتور طه حسين "صورة الأدب ومادته"، وكذلك كان يمثل ردا على الكثير من كتاب حقبة الليبرالية المصرية، وعلى رأسهم عباس محمود العقاد، الذي رد على الكتاب ردا أمينا لاذعا عندما قال: "أنا لا أرد عليهما إنما أضبطهما، إنهما شيوعيان". وقال طه حسين "إن الكتاب يوناني فلا يقرأ".

لكن ثمة آراء مغايرة من عصر آخر ترى الأمر من زاوية مختلفة تماما. يرى الدكتور جلال أمين أن هذه الانتقادات التي تضمنها الكتاب كانت تعكس موقفا ضروريا، لأنها تصدر عن شعور قوي كان قد بدأ يتراكم لدى قطاع واسع ومتزايد الحجم من المثقفين المصريين بالسخط على سمة معينة من سمات المناخ الثقافي السائد وقت ظهور الكتاب. ويضيف أمين موضحا "إن هذه السمة كانت تتمثل في الانحياز الطبقي الغالب على الثقافة المصرية في ذلك الوقت، بما تضمنه من تجاهل وإغفال شبه تام لحاجات ومشاعر ومصالح الغالبية العظمى من الشعب المصري، وهي الغالبية الفقيرة والمظلومة اجتماعيا واقتصاديا. ويؤكد جلال أمين على صحة هذه الملاحظة وصحتها ويقول إن إثارتها في هذا التوقيت كانت مطلوبة وواجبة لكن المناخ العام كان أيضا ملائما لاستقبال هذه الصيحة، وهي صيحة ـ كما يصفها أمين ـ التقت مع أهداف حقيقية لثورة يوليو التي تمثلت في ضرورة إعادة الاعتبار للغالبية العظمى من المصريين والنهوض بأحوالهم الاقتصادية ووضع حد لما كانوا يتعرضون له من ظلم اجتماعي، أي ـ حسب جلال أمين ـ إنهاء الانحياز الطبقي للنظام السياسي والاجتماعي، و بالفعل المضمون الذي ينطوي عليه الفعل الثوري الذي واكب الثورة الناصرية حسبما يشير عبدالعظيم أنيس نفسه في مقدمة أحدث طبعات كتابه، عندما يربط بين زوال المذهب الوجداني في النقد وصعود المذهب الواقعي مع صعود الدولة القومية.

يقول عبدالعظيم أنيس عن كتابه المشترك مع العالم "في الثقافة المصرية: "هذا الكتاب هو الابن الشرعي لمرحلة حية من مراحل الغليان والتحول في الإبداع الأدبي والفكري خلال سنوات الأربعينيات وبداية الخمسينيات، والغريب أنه أخذ صيغته هذه على نحو لم يكن مقصودا به أن يكون كتابا، فالحاصل أن أستاذنا طه حسين نشر مقالا بعنوان "صورة الأدب ومادته" معتبرا أن اللغة هي صورة الأدب وأن المعاني هي مادته، فكتبنا ردا عليه مختلفين معه حول هذا التحليل للأدب على لغة ومعنى، مفضلين تحليله الى صياغة ومضمون، وما كنا في الحقيقة نقصد أبعد من تقديم رؤية للأدب تختلف عن الرؤية التي كانت سائدة، والتي كان يغلب عليها الطابع الانطباعي الذوقي من ناحية أو الطابع الكلاسيكي التقريري من ناحية أخرى ويضيف أنيس: إننا لم نقصد أبعد من تحديد الدلالة الاجتماعية للأدب إلا الدلالة البيئية كما كان شائعا أيضا آنذاك، في ارتباط عضوي حميم مع بنيته التي تصوغه ادبا. ويشير عبدالعظيم أنيس الى أن البعض اعتبر هذا الرد بمثابة "بيان" أو "مانيفستو" أدبيا جديدا، وتفجرت حوله معركة أدبية حادة على صفحات الصحف المصرية عندما اتهم الدكتور طه حسين مقالنا بأنه "يوناني لا يقرأ" وعندما خرج اتهام الاستاذ العقاد لنا عن حدود النقد الأدبي إلى حدود الإدانة البوليسية، بقوله في رده علينا "إنني لا أناقشهما وإنما أضبطهما، إنهما شيوعيان".

ويستطرد عبدالعظيم أنيس موضحا: القضية لم تكن في الوضوح أو الغموض كما ادعى طه حسين، كما لم تكن القضية قضية شيوعية أو غيرها، فما كنا نخفي انتماءنا الماركسي قط، وانما كانت قضيتنا هي تحديد وتجديد مفاهيم النقد الأدبي العربي، والحق في البداية، في غير تواضع زائف، اننا لم نكتب من درجة الصفر في النقد الأدبي العربي، لم نكن نبدع "أيسا من ليس" على حد تعبير الكندي، بل كنا نسعى إلى تنظير ظواهر في النقد والإبداع الأدبي كانت تتجلى وتنمو وتتعاظم منذ الأربعينيات. ويضيف أنيس: كنا نعتبر ما كتبنا ونكتبه هو مرحلة جديدة تخطو بالنقد خطوة أبد من "الديوان" للعقاد، والمازني، ومن "الغربال" لميخائيل نعيمة، هذين الكتابين الذين كانا يعبران عن الحركة الأدبية الجديدة التي تجسدت في أدب المهجر من ناحية وفي مدرسة أبوللو - بعد ذلك من ناحية أخرى. ثم يرصد أنيس بعد ذلك التحولات التي تجاوزت النقد المرتبط بالمدرسة الرومانسية الذي ايده طه حسين والعقاد، وتفجر تصورات جديدة مواكبة لحقبة النضال الوطني من بداية الخمسينيات، وبدا ذلك جليا في النموذج الواقعي للإبداع الذي مثله في نظره عدد كبير من الكتاب منهم: يحيى حقي، سلامة موسى، عمر فاخوري، مفيد الشوباشي، أنور المعداوي، رئيس خوري، لويس عوض، محمد مندور، حسين مروة، وإحسان عباس وغيرهم.

ويؤكد عبدالعظيم أنيس أن الكتاب لم يكن يعبر عن مسعى نظري في النقد الأدبي فحسب، بل كان يتضمن سعيا نقديا اجتماعيا وسياسيا كذلك، ويبرر ذلك بأن معركة الديمقراطية كانت محتدمة في مصر آنذاك، وكان المقال ذو الطابع الأدبي الخالص سلاحا من أسلحتها، ولعل هذا ما تنبه له العقاد، فخرج عن مناقشة المقال في ساحة النقد الأدبي ليتصدى له في الساحة الأيديولوجية. ثم يروي عبد العظيم أنيس بقية فصول القصة التي تحولت بعد ذلك الى كتاب "في الثقافة المصرية" يقول أنيس: "حدث بعد ذلك أن أصدر مجلس قيادة الثورة في أواخر ايلول (سبتمبر) 1954 قراره بفصلنا نحن الاثنين من وظيفتنا كمدرسين بجامعة القاهرة: عبدالعظيم أنيس من قسم الرياضة البحتة بكلية العلوم، ومحمود أمين العالم من قسم الفلسفة بكلية الآداب. وسافر عبدالعظيم أنيس إلى لبنان ليعمل عدة شهور مدرسا بمعهد الإحصاء الدولي فرع بيروت وليبدأ في كتابة سلسلة من المقالات عن الرواية المصرية الحديثة على ضوء تطور النضال الوطني الاجتماعي في مصر بمجلة "الثقافة الوطنية" التي كانت المجلة الثقافية للحزب الشيوعي اللبناني، وتفرغ محمود أمين العالم لكتابة مقالات في النقد الأدبي في مجلة "الآداب اللبنانية" وغيرها من مجلات وصحف تلك المرحلة، ومن لبنان كتب عبدالعظيم أنيس إلى محمود أمين العالم يعرض عليه اقتراحا من بعض أدباء بيروت بتجميع كل هذه المقالات وإصدارها في كتاب واحد، وتمت الموافقة وقام الصديق العزيز والناقد اللبناني محمد دكروب بتجميع المقالات والإشراف على إخراجها ونشرها في كتاب. كما تفضل الشهيد حسين مروة بكتابة مقدمة له، وهكذا صدر كتاب "في الثقافة المصرية عام 1957" وهو الكتاب الذي يمثل ـ إلى جانب مؤلفات محمد مندور ولويس عوض وآخرين ـ نقلة شديدة التغير والاختلاف في النقد العربي الحديث، مؤسسا للاتجاه الواقعي في الأدب الحديث، ورغم الهجوم الكاسح الذي تعرض له، تحول الكتاب الى مرجع أساسي في نقد هذه المرحلة. 


عن القدس العربي