في هذه العزلة الإنسانية المأهولة بالذكريات والصور والتواريخ والاستيهامات والتأملات، يقدم الشاعر التونسي تفاصيلها من خلال حالات الانكسار والوجع الدفين. عزلة مأهولة بصور منفلتة من الذاكرة. لا تكف عن تبكيت الواقع بوضع مراياها في وجهه عله يتأمل ما يدور فيه، وليس ما دار، عله يكتشف وجهه في وجهه، والشاعر يحرص على تأريقه كي يفكر ويتأمل.

عزلة مأهولة

منذر العيني

علامتان للنصرِ

نحَتتهما شجرةٌ جرداءُ على ضفاف المقبرةِ

نصرٌ يلوي أعناقها في فضاءِ المتاعبِ

نصرٌ مهزومٌ

هنا تكلّمَ الموتُ و القبرُ مفتوحٌ

... الدّخانُ الأبيضُ لسيجارة "الكريسطالْ" كفّنَ صوتَ النَّصرِ

عقدنا مسارنا المحتومْ

نصرُ مهزومٌ

هنا تكلّمَ القبرُ و الموتُ مفتوحْ

عصافيرٌ "الدّوري" على بابِ المقبرةِ تستمتعُ بشمسِ الأصيلِ

تُرى ماذا رأتْ؟

إنّها ترمقني من خلفِ القضبانِ

كما لو أنّني أقاسمها معزوفة " اللّوتس"

أغمسُ مُخيّلتي من طبقِ القبرِ لأطعمها رثاءَ الخنساءِ

......

حينَ عبرنا دخان العرباتِ القديمةِ رقصتْ معي الفلامنكو 

ثمَّ طارت إلى حيثُ لا تُرى

يوسفُ يرعى الفراغَ

بينَ أعشابٍ بريّةٍ كانَ الكائنُ يرتزقُ من أشواكِ اللّهِ جرعةً من نباتِ " التّيفافْ"...

بداخلنا جوعٌ إلى نيرانٍ راقصةٍ  و رمادٍ فاضلٍ من مأدبةِ الذّاكرةِ.

.....يوسفٌ قامةٌ مُبلّلةٌ بالصّمتِ و سطَ غسيلٍ حيٍّ

لا ينتظرُ أحدا

ينتظرُ الفراغْ .

في سلّة الحدقة التّي كسحت ظلال الصّمتِ

سيّدتانِ عاهرتانِ أرملتانٍ قديمتان

كانتا تتكآن على مجازاتٍ طينيّةٍ من صنعِ القحبِ.

عنِ الموتِ يا تُرى ؟ أم عن الحبِّ  كانتا تتناجيانِ؟

الحدقةُ بسلّتها المنطاديّةِ غارت في آخرِ زقاقِ العينِ.

سأصنعُ خيطًا في أغنيةٍ قديمةٍ

من جلستنا المعتادةِ أمامَ أحجارِ "السُّتَّارهْ"

من ذاكرةٍ تترسّبُ في مواويلِ "قازهْ"

من آونةٍ مخدوشةٍ في حنجرةِ "وَصُوفْ"

من عراكِ الظلِّ معَ خبايا نارٍ مجوسيّةِ التكوينِ أغوتني بسردها الفاضحِ و مرآتها المثقوبةِ

من بصمةٍ على جبينِ اليومِ الضّائعِ في المسافاتِ

أصنعُ خيطًا يتيمًا بصولفاجٍ فقيرٍ و أصواتٍ أبرياءْ .

لم نكن ننتظرهُ. الصدفةُ رمتهُ على أعتابنا

الوجهُ أزرقُ و اليدان تمتدّان من جيب "الغُورِلاّ"

تتناولان سيجارة " بوول شاوول" بكلّ ثقة الشِّعر المنسيّةِ

لم نكن ننتظرهُ. جاء من الرّيح

ليُعرّف لنا ما معنى sdf

ما معنى أن ينتبذ المرءُ نخلةََ مريمَ

لم أكن أنتظرهم. موسيقى "بوبْ" رمتهم على أعتابي

ليقدّموا لي قرابين الفجأة متسلّقين طريقَهم إلى البحرِ

... الضّحكات الهزلى دوّنتْ خريرَ الدّمع المتسلقِ  أعتاب

الورقهْ ........

دموع متقنة

دموعٌ متقنة تملأُ كأس الفراغِ

ليست نتيجةَ حزن ليست خاتمةَ أسى ليست نهايةَ ندم.

دموع متقنة من عين كلب تصنع بركةً مرئيّةً.

ظلّي يغرق فيها رويدا رويدا ليرى تيهَهُ العائمَ على السّطحِ.

دموع بغصّة مغضوبٍ عليهِ تسقي نبتَ الكأسِ المشطورة إلى نصفين.

نصفٌ هو مساحةُ كفِّ لا تهدأ عن الضّربِ

و النصفُ الآخرُ قد وسعَ روحا مشروخةً

أعلاها حيّةٌ بسبعةِ رؤوسٍ و أسفُلها أصابعُ أخطبوطٍ بثقوبٍ فسفوريّةٍ و مصافٍ بيضاء

..............

حينَ نزلت القطراتُ على الورقةِ آصطفَّ الحزنُ برؤوسهِ السبعةِ

معلنا بدايةَ الطّوارئِ أمامَ جموعِ العزاء .. ........

لا تحزنوا كثيرا ... لا تندموا على شيءٍ

البكاءُ كتابةٌ أخرى بدمعِ النسيان

أمّا الذّاكرةُ وجهٌ آخرٌ للقطراتِ.

اِغرفوا منها ما يتيسّرُ لدرءِ رفثِ الوقتِ و فسوقِ اللّحظاتِ

أو آسبحوا في البركةِ، ملحُها سيحملكم إلى أعلى كما لو أنّكم في البحرِ الميّت.

ألا فآتقنوا دموعكم عند النوازلِ لترَوْا وجهَ الحيّةِ و أصابعَ الأخطبوط....لا تقولوا إنّا متنا سنسطعُ في أيِّ وقتٍ إذ كلّما

دفنتمونا إلاَّ و آنتفضنا معلنينَ حزنا جديدا..........

دموعٌ متقنةٌ تلوَ دموعٍ ليست للحزنِ أو للندم

إنّها مياهُ الغارقِ في التّيهِ

    مرايا الكادحِ في المنجمِ

    صفائحُ الرّابضِ في الماخورِ

    شعلةُ الماسكِ بالجمرِ

    شظايا العاشقِ المتلاف

    جداولُ الذّاهبِ في الشّكِ

    عطرُ الغائدِ إلى القبرِ

..............................

دموعٌ متقنةٌ فرّغت قطراتِ النّدى عندَ تذكّرِ الوداعات

في مرآةٍ مقعّرةٍ لآمرأةٍ و حفيد ...... .

دموعٌ جرت من شفةٍ سخطٍ صنعت وجهَ المغضوبِ عليهِ

برأسِ حيّة و أصابعِ أخطبوط  ....... . 

شاعر من تونس