للأحوال في هذه الرواية السودانية البديعة دلالات صوفية، سحرية، أسطورية، تناسخية يمتزج فيها السعي للبرء من لعنة العشيرة، بالرغبة في الإضطلاع بدور في حربها للتحرير، بالتوق للذات الجسد والوقوع في شراك غواياتها الحسية، في جدل ثري بين الموت والحياة. لكن غواية السرد وتراكب عوالمه في طقس الغسيل، وجلي القلوب، تكشف لنا كيف تتجلى تحت إهاب الشخصية شخصيات ورؤى، تتعدد فيها وجوه المرأة وثراء العلاقة معها.

أحوال المحارب القديم (رواية)

الحسن بكري


1
أنا خليفة ود منصور اللحوي، الفونجاوي العنجي. والدي مقدم خفر الشيخ مساعد أبسن، شيخ أعراب اللحويين، وأمي حاجة¬ ام زين النقرابية التقلابية وهي سليلة بيت عز وشرف بنواحي جبال الفور، الجبال التي حدثتكم عنها جدتي في أسمارها البدرية الشهيرة. ها أنا ذا، في عشرينات عمري، تجتاحني وساوس لا أجد إلي لجمها سبيلاً. في بادئ أمري ظننت أن نسيانها في تفريقها بملازمة متع الدنيا واغتراف مباهج الوجود. ولعليّ، أصدقكم القول، قد وجدت في ذلك بعض عزاء، لكنه عزاء عابر لا يلبث أن يزول ويتركني نهب المخاوف والشكوك. مرة بعد مرة، منذ بُعيد موسم تجفيف قواسيب النال، يتكاثف فزعي السحيق، العريق. غارق في وساوسي، قلت إن اللعنة إنما زاد أوارها كدر الخروج من نعيم الخريف إلي مرارات الدرت، أوان ذبول تيجان زهور التبر ويباس سيقان الدنكوج الباسقة، الراسخة. لكن جاء عليّ زمان بت أتقلب فيه بفراشي الليالي الطوال، لا يجد الكرى سبيله إلى جفنيّ.
ثم لما اشتعلت حرب التحرير، فطنت إلي قلة حيلتي وخواء روحي. فرغم بأس إرادتي وقوة شكيمتي، أورثني أجدادي العنج عاهتيهم التليدتين، العشا المصاحب بالعرج، علامتي بيادهم المعروف. يتردد قائد الكتائب بالبطانة، بطل التحرير العظيم، حسين الطاهر، في تجنيدي ملازما له بسبب إعاقتي. أجرب تطبيب نفسي في بلدتي بنواحي اللبايتور بلا طائل، فأوطن العزم على إسراج ناقتي بعد انقضاء الخريف ومقدم بواكير الشتاء، ميمماً إلي أصقاع جبال موية، حيث يقيم فكي هارون، الحكيم الهوساوي المقيم بتلك النواحي، علني أستعيد ببركته بعض عافيتي وشيئاً من يقيني.
طال انتظاري في الخريف، فقد تأخر هطول المطر. لكن جاءت النترة أخيراً بالسحاب الجون والسيول. ما لبثت أسراب النحل أن تواردت فسعدت، إذ هذا ما كنت ابتغي. تطن الأسراب من شروق الشمس حتى غروبها، تأتي بالرحيق من سفوح جبال اللبايتور المزهرة. شهدنا خلايا كثيرة جديدة أما القديمة فقد أعادت الأسراب ترميمها وزادت مساحاتها فطفح تركيب الشهد بها ورأيناه على غير العادة يسيل بأطراف الخلايا وعند زوايا المكعبات حيث التحام المناحل القديمة بامتداداتها الجديدة. ثم ما لبثت رياح الأسافل الباردة أن هبت، فأفدت خاصتي وأهلي بنيتي السفر.
الأولاد، أصحابي، عبأوا قربتين عسلاً وعلّقوهما على الناقة، واحدة يمين السرج والأخرى يسارها. وكذا أخذت أحمالاً من عصيدة الدخن الملبّكة وربع قنطار من القديد، وشكيرة بصل كسلاوي مجفف وعشر قناني سمن ضأني نقي. ما أن قفزت على الناقة حتى انتصبت. رفعت يمناي مودعاً، ما التفت يمنة ولا يسرة، إذ هذه إشارات تجلب النحس أحياناً.
* *
فكي هارون غلّق علينا منافذ الخلوة الصغيرة حذاء سقف الجريد المتآكل، وأحكم إغلاق باب السنط الثقيل بمزلاج الحديد الجديد الذي جلبه من رحلته إلي مايرنو. أشار إليّ بجفاء فظ أن أجلس. أقعيت. قال:
ـ قلت لك أجلس.
حدّجني بلا شفقة.
تقرفصت. لم تسعفه لغته العربية الهجين بكلمـات أفضل فقطّب جبينه، وأشار، وزعق:
ـ قلت لك اجلس.
فجلست موسداً عجزيّ ساقيّ. هتف مسروراً.
ـ أي هكذا، ما شاء الله.
أحدق إليه خائفاً ارتعد فينتهرني:
ـ لا تتحرك، لا تغير جلستك.
كنت عارياً إلا من إزار قصير غطى جسدي بين السرة والركبتين. فكي هارون تزيّا بالإزار ذاته. رأيته قائماً يحمل صرة من الشعر فيفك طيها على مهل ويخرج نصل فأس مكسور. يمسك النصل بكلتي يديه ويتلو كلاماً موقعاً، كأنه شعر، بالهوسا ويتف على الفأس مرات متعددة. بعدها رماه ناحيتي فانغرز النصل في الرمل أمامي. قلت لنفسي إن تلك لا ريب رمية متقنة. جلب سائلاً أسود، قطراني الرائحة وسكبه على النصل ثم فركه بمدية صدئة اللون فما لبثت الفأس أن اشتعلت. سألني فكي هارون ضاحكاً:
ـ هل خفت، يا ولد؟
كانت الفأس لا تزال تشتعل، رأيتها تتوهج بضوء أزرق عميق. أجبته وعيناي مسمرتان علي الفأس الزرقاء، المشتعلة:
ـ أنا؟ لا، ليس تماماً يا فكي هارون.
لا بد أن افترى بعض الأكاذيب إن كنت أريد أن أعطي هؤلاء القوم انطباعاً جيداً عني.
نهض ووقف فوقي، رأسي محشور بين فخذيه. أطبق على رقبتي ودفع وجهي صوب الفأس بضوئها الأزرق الحامي. زعق:
ـ افتح عينيك. افتحهما عن آخرهما.
صرخت مثل سخل. سمعته يزعق:
ـ افتح... افتح... افتح
كان يمتطي ظهري ويدفعني ناحية النار بقبضتين من فولاذ. رضيت بقدري. قلت في نفسي أن قدراً خير من قدر. فتحت عيني فاتقدتا حتي أدمتا. سال الدم ساخناً علي خديّ فهبط فكي هارون من فوقي. جاء بكحل من جويرب جلدي أحمر دفع فيه مرواداً أسود رقيقاً وكحّل جفنيّ. هتف بصفاء ملاك هذه المرة:
ـ أغلق جفنيك يا حبيبي.
أغلقتهما. قال ولا زال في صفائه الملائكي:
ـ لا تفتحهما قبل أن آمرك يا فؤادي.
هذى ورتل ووسوس. اقترب هذيانه مني. أحسست بوجهه دافئاً لصق وجهي. قال:
ـ افتح عينيك.
فتحتهما. كان فكي هارون سعيداً، ناضراً. أخرج مرآة وجلا سطحها بلعابه الوفير. قال:
ـ انظر.
غدت عيناي براقتين، نجلاوين، كعيني غزال.
ضحكت هاتفاً:
ـ يا لهذا الجمال.
فكي هارون أيضاً بدا مأخوذاً بحالي. رأيت نظراته تلتهم جمالي الجديد.
فتح الفكي الباب بعجلة ظاهرة. غمر الضوء الخلوة بمنافذها الصغيرة المسدودة. ظالعاً خرجت، ونظرت جهة الجبال العالية، المعشوشبة. تبدلت الدنيا جنة من الجنان؛ ألفيت الأشياء واضحة، لامعة، صقيلة.
قال فكي هارون:
ـ الآن ذهب العمش.
اقتربت فقبلت وجهه النضير ورددت:
ـ الآن ذهب.
* *
ـ دقدق.... دقدق.... دقدق......
ـ ترنق.... ترنق..... ترنق.....
ـ حححم... حححم..... ححم..
ـ يوي... يوي.... يوي.... يوي...
الساحة عامرة بالأجساد السوداء. يتلاصف الضوء على الشباب الهوسا الغارقين في رقص ليلة البدر. الصدور تهتز، والأرداف تضطرب، والأعناق تشرئب وترتخي. واقفاً غير بعيد، مختبئاً خلف خلوة الفكي، شهدت الرقص يهتاج وسمعت الطبول تدوي وترامت إليّ الزغاريد هوساوية اللحن، غنتها عالية المدى وتردداتها قصيرة، متصلة، متوالية.
ظننتني مختبئاً في الظلمة البدرية، لا يراني أحد، حين بلغني ضحك نسائي خافت. التفت ورائي مذعوراً فرأيتهن. ثلاث فتيات باسقات، كواعب. كنّ علي بعد خطوات مني. هتفت:
ـ من أنتن؟
أضاع الهلع صوتي فجاء سؤالي مبحوحاً، باهتاً. تدفق الضحك النسائي. أمسى أعلي وأوثق.
تقدمت إحداهن. همست وهي تضع سبابتها على شفتيها:
ـ صه!
كنت ما أزال أرتعد. كدت أصرخ. سريعاً تقدمت الفتاة تجاهي. أطبقت علي فمي تكتم صرختي الوشيكة. رددت:
ـ صه.. صه...صه...
وإذ اقتربت منحنية تغلق فمي رأيتها رغم فزعي؛ حلوة الوجه، فتية الجسد. رأت الفتاة عينيّ يغمرهما الأمن بعد الخوف، فانفرجت أساريرها مستبشرة. ما أن رفعت يدها عن فمي حتى هتفت بصوت خفيض:
ـ كيف تكون المرأة قوية هكذا؟
ضحكت الفتاة في خفر وفي قوة فعلمت ليلتها أن في الخفر قوة. تلك كانت ماريا بنت فكي هارون. قالت هامسة تشير إلي الفتاتين، واحدة فواحدة:
ـ هذه شقيقتي الوسطى كاقو. وهذه الصغرى فتينا.
إذن فالغارة من تنفيذ بنات مضيفي وطبيبي فكي هارون!
جرتني الصغرى من يدي وهي تضحك، ذات الضحك الخافت. أسرعت تجرني بعيداً عن دوي الطبول. اندفعت تجرني. مريّا وكاقو أيضاً ركضتا وضحكتا، تلاحقاننا نفارق الساحة الراقصة. هتفت كاقو:
ـ السدرة، يا مجنونة، السدرة.
تركنا البلدة خلفنا. وإذ أمسينا بالخلاء المقمر وحدنا، فقد أصابتني عدوى الضحك فهرولت، رغم عرجي البيّن، سعيداً، مقهقهاً. البدر غمر الخلاء بالنور فرأيت أشجار السدر تنتشر في كل الأنحاء. لابد أن كاقو تعني سدرة بعينها. توقفت فتينا تلتقط أنفاسها، تلفتت ثم شرعت تجرني شرقاً جهة القمر. عدونا بين الأشجار الملتفة تحيطنا نباتات النال بسيقانها العالية، الجافة. فتينا تجري، متلهوجة، متعثرة، فتلكزني بصدرها الناهد طوراً أو بردفيها وعجزها. وفي حالي ذاك، وخزني النال ودغدغتني أغصان السنط الغضة وجلدتني فروع السدر الجافة بشوكها المسنن فاغتبطت غبطة ما جربت مثلها قبل تلك الليلة.
عند السدرة كانت بغلة فكي هارون مربوطة بالجزع وخلفها تراءى فكي هارون ممدداً يقرأ على ضوء البدر من مخطوط عتيق. أخذتني المفاجأة فأجفلت فزعاً بينما ظلت فتينا تجرني صوب والدها وتقهقه.
ـ ما شاء الله، يا هاجو.
قال الفكي.
أدركت أن الأحوال تمضي علي غير ما توقعت فقلت:
ـ إذن فهذه ليلتي يا فكي هارون.
ردد مبتسماً:
ـ ما شاء الله، يا هاجو.
أجلسني فكي هارون جلستي ذاتها التي جلستها يوم الخلوة. وقفت ماريا وكاقو غير بعيدتين تنظران بينما تقدمت فتينا فجلست خلفي. شبحت رجليها فوسطتني فخذيها ثم طوقتني بذراعيها وجذبتني فأصابني الخدر لما أحسست بثدييها الصلبين ينغرسان في ظهري.
فتح الفكي جراباً عتيقاً أخرج منه أجربة أخرى أصغر. رأيته يشهر مدى بأنصال متباينة الطول. شحذها علي مسن حجري لامع ثم علي حزام جلدي أسود، لامع هو الآخر. فتينا أفلحت في تخديري فطفقت أنظر للفكي والمدى اللامعة غير مكترث. من وراء جسدي الممد جاءني صوت كاقو:
ـ سيشقون صدرك يا هاجو.
قال فكي هارون وهو غارق في عقاقيره ومداه المسننة:
ـ سنغسل صدرك يا هاجو.
رأيته يعبئ ملعقة خشبية بدهن جامد، سمني. كان الدهن عفناً مثل جثة. قرّبه من أنفي فبلغ التخدير مداه وأغمي عليّ.
* *
فتينا لم تفارقني بعد الغسيل. أتمدد بالخلوة فتجلس بجانبي آناء الليل وأطراف النهار، تدوايني وتسليني. ترجمت وقرأت عليّ فصولاً بأكملها من مخطوط هارون العتيق المكتوب كله بالهوسا، عدا آيات قرآنية وأحاديث وأقوال مأثورة خطّها الفكي كما وردت في أصلها العربي. وكما وعدتني فتينا فقد شفيت في شهرين اثنين. وجدت صدري المشقوق يلتئم قليلاً، قليلاً ووجدت هواجسي وعللي تفارقني قليلاً، قليلاً. تتخلل العافية جسدي فألفي نفسي تضئ وبصيرتي تأتلق.
فتينا ظلت تداوي وتسلي. غداة عاد وعيي رأيتها، وجهها في وجهي تحدق في عينيّ، باسمة، نضيرة، وضعت إصبعها على شفتيها وقالت:
ـ صه، صه. اليوم سابعة الغسيل، حمد الله على السلامة.
غداتها دريت، حتى قبل أن تنبيني فتينا، أن ذاك هو يوم سابعة غسيلي وعلى نحو ما أدركت أن فتينا ستزف إلي أخباراً ستبدو لى مكررة. رأيت الفرح يغمر وجهها، ظافرة أن أتتني بالأخبار. قررت أن أعود إلي غفوتي الطويلة، لذا لم ألبّ إشارة إصبعها الموضوع على شفتيها. قلت:
ـ أجل اليوم يوم السابعة.
واستغرقت في غفوة جديدة.
صباح عاشرني عاد إليّ وعيّ فرأيت وجهها بوجهي تعتني بي بهمة راهبة. أخذت قرعة مملوءة فباشة فسقتني. جلست عند قدميّ تدلكهما، تطقطق أصابعي فأشعر بالحياة تتسلل ألي جسدي. حين دلكت يديّ، ساقيّ وفخذيّ فظهري وعنقي حلت العافية بسائر أعضائي.
قالت فتينا:
ـ إبق صامتاً، هادئاً.
فسكت هذه المرة.
قالت:
ـ ستبقي صامتاً شهرين كاملين.
أحسست بقلبي، صافيّاً، منيراً فقلت في نفسي كيف أسكت شهرين كاملين.
قالت كأنها أدركت حديثي الصامت:
ـ لا بد أن تسكت شهرين.
أخذت مخطوطة هارون وشرعت تقرأ وتترجم. شهران متعاقبان وفتينا تقرأ وتترجم.
في اليوم الستين حركت أطرافي، بحلقت وتلفت. نهضت فوجدتني قوياً كثور. خطوت عبر باب الخلوة ووقفت عند العتبة فرأيت الجبال في خضرتها الراسخة وشهدت سرباً من طيور البز يحلق فوقها متجهاً جنوباً فعلمت أن الشتاء ينقضي وأنه لن يمر وقت طويل قبل أن يعود الصيف بنهاراته اللاهبة.
فتينا أعادتني إلي داخل الخلوة بأن جرتني من يدي كما فعلت في ليلتي تلك، ليلة شقوا صدري. أجلستني علي مقعد صغير وجلست قبالتي. جردتني من ثيابي ثم أخذت تغسل جسدي من رأسيّ حتى قدميّ. سلمت قيادي لها مثل طفل وهي تغسل، تقلبني ذات اليمين وذات اليسار، لم ترفع بصرها ناحية عيني، لم تنبس كلمة. جففتني، ألبستني ملابس نظيفة، عطرتني ثم أخذتني من يديّ وجذبتني فأوقفتني. نظرت إليها فأبصرت عينيها تبرقان بمحبتي. همست:
ـ لابد أن أغادر اليوم.
خيّل إليّ أنني رأيتها بعينيها المحبتين قبل يومي الستين. همست من جديد:
ـ وداعاً يا حبيبي.
قبل أن انطق كلمة واحدة أخذتني إليها تطوقني فتقبلني. ثم أطلقتني فترنحت وسقطت. شهقت ألتقط أنفاسي وحين نظرت جهتها رأيتها تحث الخطا تدلف إلي بيت العائلة، مائة ذراع أسفل الشارع.

* *
صلوات لأجل قلب أعرابي اللبايتور هاجو ووصف لغسيله كما ورد بمخطوطة لفكي هارون:
يا سيد البركات
ها هو ذا صدر الأعرابي مشقوق بين يديك
فاجعل غسيله ناصعاً كالدمقس
"ناوليني ماريا مدية الذهب الصغيرة، حجم عقلة الإصبع."
نظافة عامة تزيل أعراض اللعنة من ناحية الأب:
لعنة أنجية قابعة على السطح. هي ذاتها كما وردت بأحاجي السيدة أجوبة.
أكشط بالمدية الذهبية، من فوق ومن تحت. هذا غسيل شاق، ألأشق منذ أن ورثت الصنعة قبل سنوات عديدة خلت؛ لذا: كشط، كشط ثم كشط. البنت فتينا تنظر بعينين متسعتين، تسمع بأذنين مرهفتين؛ تود اتخاذ الغسيل مهنة.
"ناوليني فتينا مدية النحاس من طراز النشّاب، حجم خنصر كامل. لا ليست هذه التي أعني. أقول مدية نشاب، بطول خنصر. هذه طراز رمح."
ثم كشط مستمر بغرض إزالة لعنة عنجية أصابت النظر. لاكتمال برء النظر لابد من مداواة القلب، نواة الهدي، نور البصيرة. أعرابي بعينين نجلاوين، أجل، ولكن لا بؤبؤان يمكن رؤيتهما؛ سواد كالح في بياض ناصع. أعوذ بك يا ذا البركات. لك الحمد، لك الشكر يا مولانا.
يقال أن اللعنة تطال كافة الأعراب العنج، من مشارف حلفا حتى ديار الرزيقات وتخوم مراعي التوج: مسيرية حمر وزرق، دار حامد، كبابيش، صبحة. كلهم، كلهم: جعليون، بطاحين، شايقية، حلاوين على وجه الخصوص، ملاعين.
ما علينا.
كشط، كشط، كشط.
مدى مصنوعة من معادن شريفة وأخرى من معادن حقيرة. وفتينا تتعلم، تتعلم، تتعلم. من كثرة التنظيف والتلميع تصاب ماريا بالثؤباء فتلومها فتينا المطوقة لجثة الأعرابي. أنا أسأل: كيف لا يهتم الناس بمصير شخص مشقوق الصدر، منزوع القلب؟ أهي اللعنة خاصة ماريا؟ شهور قليلة فتحتاج ماريا لغسيل جديد. ألا نستحق، يا سيد البركات، بعض رحمة، بعض عطف، يا جبار، يا قوي، يا متين؟
أعط هاجو النقاء، الصفاء.
الجلد، الصبر.
أفتح بصيرته
حتى إذا نظر فليرّ الوجود بعينيك
ليسمع التغريد بأذنيك
ليشم العبق بأنفك
ليحس اللمس بجلدك
ليتذوق الأطعمة بلسانك.
مدية من ماركة ريشة بومة أنثى. الجميع من مايرنو حتى سكوتو يعلم أنني، أنا حفيد جدو دان حياتو، أعشق البوم من النوع المرقط. غارق في غسيل أعرابي اللبايتور أنظم قصيدة لأنثى بوم حلت بها اللعنة للتو، أضيف إليها أبيات لرجال، لنساء، إذ كيف تستقيم الأوزان أو تتواتر القوافي دون نساء؟
غداة تسللت
من رحيق زهرة الطلح
دلفت حزينة خلال بوابة اللحاء
غطست كمحارة حتى آخر خلايا الشجرة التليدة
دلكت جلدها بالرحيق والعصارة الباردة
فغسلت حزنها بجسارة فراشة
ثم رأت بشرتها سمراء هابطة صوب الحمأ
مغتبطة تمسي وعالقة بقلب الطلحة
* * * *
تحوم البومة تحت نوافذ الليل
عيناها تقدح بهجة أعصر غابرة،
من طرف الحقل تتردد زقزقة فأرة
وجربوعة همهمت وانتصبت،
تنطلق، ببهجة، لولبياً كنبل
لكن ريشة رقطاء واحدة أفلتت من ذيل البومة
فشطفتها حلكة الليل المهولة
أغلقت عينيها حين أفلتت ريشتها.
حكت لذكرها إذ عادت لوكرها:
زعقت أوان ذهاب ريشتي
قالت الجربوعة:
قد ولولت
الفأرة، ببراعة مخلوق عرف السر، زقزقت
* * * *
قد أتاك الصيف بالمودة
رأيته عند تخوم البراكين يعدو
متمنطقاً وهج البشرى
يذري أوراق الشتاء
فوق تاج العاصفة القمعية
هبط يزدان باليبس والنور
باليبس والنور
ثم، كوعل أقرن،
رأيته يتقافز يأتيك بالمودة.
تلوت القصيدة بأعلى صوت فتردد صداها بين قمم جبال موية - ربما يحتاج قارئي إلي خيال مجنّح ليطرب لصدى كلام من هذا النوع. بلغ الليل ثلثه الأخير فحفزت الفتيات بقصيدتي. ماريا استظهرت الأبيات فغنتها. وقّعت بيديها، وضربت الأرض بقدميها وغنت فبات الغسيل أيسر.
مدية، نوع ريشة بومة مرقطة، إذن. قطع على طول القلب، على عرضه. قطع طولي مستمر وآخر عرضي مستمر أيضاً، كما تفعل ببصلة. يعاد ترتيب القطع المكعبة بطريقة تذهب اللعنة. مكعبات مرصوصة بشكل يخلو من اللعنة. بَرَد، ماء نقي من البحيرات الصعيدية الكبيرة، ودق آدمي، زيت سمسم، حرجل، قورو، محلب، سنامكة، محريب، بذور خلة، ثم لابد من ماء البحيرات الصعيدية قبل وبعد كل ذلك، ليصفو القلب وتنقى السريرة. نخيط القلب بعصب طنبور مأخوذ من فاطمة السمحة أو الغول، لا أدري أهو لفاطمة أم للغول، ضربت الفوضى كافة الأصقاع، ماء بحيرات مسكوب، وبخور طلح منضود.
ببركاتك نضع القلب على مهل بمكانه من الصدر. نصله بالشرايين والأوردة فيدق دقات موقعة، منتظمة. نغلق الصدر ونبترد جميعاً بماء البحيرات، نسجع بالغناء بصحبة ماريا.

2
شهران وزيادة منذ أن غادرت اللبايتور. لابد أن الكلبة برمة تسابق الآن ضجرها في الساحة جنوب البئر. كم كنت أعمش، يا بروم. تلك الليلة الشتوية الباردة لم يكن ممكناً أن أفتح الباب يا عزيزتي. ألآن بقلبي الجديد هذا، أدرك أنني لم أكن أعمش فقط، بل كنت فظاً وفوق ذلك ربما أكون قد ضيعت فرصة ثمينة لشفاء عللي دون تجشم جراحات فكي هارون المؤلمة. لكن هل هي بالفعل جراحات مؤلمة، يا برومتي؟
ليلتها رفعت رجليها الأماميتين وشرعت تطرق. نبحت وعوت وأصدرت كل الأصوات التي تتقنها.
ـ هو، هو، هو...
وضعت الوسادة فوق أذني اليسرى وأغلقت اليمنى بالفراش تحتي. قلت:
ـ الكلبة هذه جنت الليلة.
ـ هي، هي، هي..
أحكمت إغلاق أذنيّ. قلت من تحت وسادتي:
ـ لن أفتح حتى لو استغاثت بلغات الكلاب أجمعين، بروم.
طرقت الباب وتحولت إلي النافذة. تطرق وتخدش النملي وأنا في عنادي الشتوي الجامح.
ـ لن أفتح حتى لو قتلك البرد يا بروم. لن تشاركيني هذه الغرفة كل ليلة. لا،لا، على الأقل لن تفعلي هذه الليلة.
أنا وبرمة بلغنا الرشد في ذات اليوم. بل يمكنني الإدعاء بغير قليل من الثقة أننا ربما بلغناه في ذات اللحظة. رأيت كلب جدي، جاموس، يغازلها وراء أحواض السقاية عند البئر. عشرات الفتيان والفتيات كانوا ينتشلون الماء وقتها. الكلب يغازل الكلبة دون ذرة حياء أمام العشرات. كنت منبهراً بما يحدث، ليس لأن الكلب والكلبة شرعا يتعاشران أمامنا، ولكن لاعتقادي حتى ذلك اليوم، أن برمة لم تكن قد بلغت الحلم بعد.
رأيتها تنظر إليّ وهي تعاشر الكلب جاموس بهياج لا يكبحه كابح. على كل حال، وأنا ابن الستة عشر، طابت لي حال برمة، فهي صديقتي الحميمة؛ أنا من ربيتها، ولاعبتها ودربتها على حيل كثيرة. هاهي برمة في غمرة نشوتها تنظر إليّ. أغير موقع وقوفي فتدور جارة جاموس تستقبل جهتي لتستمر في النظر إليّ! الآن بقلبي المجلو، المنقي أعلم أنها ودت لو تشاركني متعتها الجديدة. هل فعلت يا برمة؟
يستغرق السفاد لدى الكلاب زمناً قياسياً. عندما يتعلق الوضع بالتزواج، ستفضل نساء كثيرات الارتماء في حضن الكلاب. نسيت الحشود التي وردت الماء ذلك الضحى. وإذ أطلت النظر إليهما وهما منهمكان في متعتهما الجامحة، فقد أخذ ذلك الجموح يسري في جسدي إلي درجة أنني شاركتهما ذروتهما البهيجة، واقفاً فاغراً فاهي مثل ورل.
الآن فقط، في غياب برمة المقرورة بفعل رياح أمشير، وبصدر ناصع، مغسول بالثلج والبرد، أستطيع تفسير ما حدث ليلتها؛ أخيراً أنتبه للوقائع في تواردها الذي انتبهت إليه برمة فأعض أصابع الندم، كما يقولون.
تلبست الأرواح الرضية بنت حسين الطاهر منذ الطفولة. تستطيع الرضية أن تفعل ما تشاء، تسوق السحب أو تشتتها وتهب الآباء أطفالاً إناثاً أو ذكوراً، بحسب ما يقره قلبها. في سنة المذنب بهزائمها ومجاعاتها وأوبئتها، أنجبت النساء أطفالاً بلا حصر. رأيناهم يموتون كالجراد، غارقين في روثهم وصديدهم. الرضية كانت تلعننا على مدار السنة، وتبشرنا بفجائع قادمة متتالية. كنا نركع في حضرتها وننادي:
ـ يا سيدتنا، يا حبنا، عطفك وحنانك.
طبعاً هي كانت تعلم، بقلبها الذي لا تخفى عليه خافية، أننا كان نبالغ.
تركلنا بقدميها، تبصق على وجوهنا وتهتف:
ـ يا أبناء الكلب، هيا أغربوا عن وجهي، أغربوا، أغربوا حالاً.
لكن الرضية أنثى كثيرة الفضائل بلا ريب. إضافة إلى جمالها الذي لا يمكن وصفه بأي حال، فهي، حين تفيق من مهام الحروب أثناء هدنات مواسم المطر، تغدو أنثى محبة، باذخة الهوى فتدمر بجرأتها الهائلة كل الحيل التي تنسج بغرض ترويضها. تصير الرضية حينها كثيرة الجود فيشمل نداها كافة أنحاء البطانة، من ستيت حتى ديار البطاحين وملتقي الأتبرواي بالنهر الكبير. زيادة علي ذلك فإن أباها، حسين الطاهر، بطلٌ معروف في حروب التحرير الجارية بلا هواده في كافة الأرجاء. بعض الناس في اللبايتور يظنون أنها تقيم علاقات سرية بضباط كبار في جيش التحرير فيما يدعي آخرون أنها تصاحب بطلاًً وطنياً شاباً من ملازمي والدها. أصحاب الإدعاء الأخير يدللون على صدقهم بالنفوذ الهائل للملازم الشاب وكيف أنه ذات مرة وبّخ على مرأى ومسمع من الناس حسين الطاهر لدفنه عشرات البنادق في ظاهر القرية منتظراً انقطاع موسم المطر قبل تسريبها للمقاتلين المحاصرين في المسلمية في منطقة الهوي وكيف أن البنادق نبشت في ذات الليلة ليتم تهريبها ومن ثم فك الحصار وإنقاذ المدينة.
لم تكن برمة إذن تبحث عن الدفء فقط ليلتها. رأت الرضية، المرأة التي اشتهيت بجنون منذ بلوغي الحلم، تنتظرني بشبق إبليسي بعشتها الشتوية، أسفل البلدة. كان بمقدور الرضية أن تبعث جنياً أو ملاكاً، لكنها لم تفعل. ربما لأن تلك الأرواح الغامضة قد اختارت معصيتها، أو لأن المرأة، في اشتهائها المحموم، قد ضيّعت نواميس إرادتها، فأمست لاشئ؛ مجرد امرأة طافحة الرغبة.
* *
لابد أنني سأنقلب على أعقابي ذات يوم صافياً كما لم يصف أحد من عشيرتي العنج، ممن حلت بهم اللعنة التي جلبها بدو شمال الجزيرة العربية. لكنني في نقاهتي عند سفوح جبال موية، كنت أستلقي أعيد ترتيب وقائع حياتي السابقة، أجلوها وأزيل فوضاها حتى يتم وقوعها من جديد، خالية من العيوب التي أحدثتها صفاتي القديمة؛ النسيان، والعمش، والخوف وهلمجرا. ورغم أن الحكايات بصياغاتها الجديدة هي في الغالب محض أساطير ليس إلا، فالعزاء يكمن في أن الحقيقة نفسها لا يمكن إقامة البرهان عليها على الإطلاق. لن يستطيع حتى فكي هارون إثبات ما إذا كانت اللعنة هي ما لازم عيشي قبل تطبيبي أم هي ما سيلازمه إذا انقضى عهد نقاهتي وشرعت في تجوالي عبر الآفاق. في مرحلة لاحقة سأكرر سرد أساطيري لكاقو في مقابل قراءاتها لي ودروس الهوسا التي ألقتها عليّ. رحلة صيد الأرانب والقطا تتم في الدرت كل عام. تواضع القرويون على نصب الشراك، واصطحاب الصقور والكلاب السلوقية المدربة. ذلك الملازم الوطني ذو العشرين عاماً بصخبه وخططه التي لا حصر لها هو من أوشك أن يفسد موسم صيدنا ذلك الدرت. لم يكن الأمر يحتاج إلي خيول وبنادق وأقواس مصحوبة بكنانات مكتظة نبالاً وأحذية ذات أعناق طويلة وقبعات وكل تلك الأشياء عديمة الفائدة. أستطيع التمييز الآن أن الفتى بقدراته السرية الغامضة وبطولاته الحربية اللامعة لم يستطع التفريق بين أدوات رحلة صيد غرضها التسلية وعتاد موقعة هدفها التحرير.
كان من المفترض أن يدع فرس حسين الطاهر في اسطبلها كالمعتاد، فيخطر لحسين الطاهر بعد أن يصحو من قيلولته أن يزعق منادياً الرضية:
ـ الرضية، الرضية، يا بنت يا رضية.
الرضية تسمع زعيقه الذي لا ينقطع:
ـ يا رضيــة، رضييييييية. أين ذهبت الفاجرةّ؟
الرضية التي خرجت لجمع ثمار اللالوب من الفيافي بين رفاعة وحفير أمطّالة، ستسمع لكنها ستطنش البطل الزاعق لبعض الوقت. بمعرفتها الهائلة لا تحتاج الرضية لأن تغضب. فقط ستضحك على الطاهر في هديره الأهوج وستقابل شتائمه المقذعة ببعض العطف وبعض السخرية.
ـ يا رضية، يا بنت الكلب، أيتها الكلبة الحائل! تعالي يا رضية.
تأتي الرضية منطلقة كإعصار، تقتلع في طريقها شجيرات الطندب وتدفن أحواض السقاية صعيد البئر القديمة وتهدم قواسيب النال التي أقامها أصحابها حديثاً جوار الجزارة وتسوي مطمورة محاصيل على صاحبها الذي كان ينبشها. تهتف:
ـ لبيك سيدي، لبيك.
ـ أين كنت؟ ألا تسمعين أيتها الساقطة؟
يسر البطل إذ يجدها تستسلم لسيل سبابه. يحدّجها من أعلى إلى أسفل فيوسوس:
ـ ليكن الله في عوننا. ما نحن إلا سلالة عنجية لعينة.
سيزعق بها وهو يغطي عينيه بكفيه:
ـ أسدلي رحطك هذا يا خائبة.
تقول الرضية، وهي لا تخفي شعورها بالزهو:
ـ أسدل ماذا؟
يفرق حسين الطاهر أصابعه قليلاً فيرى الفتاة المتبرجة. يقول:
ـ لا ريب أنها اللعنة، لا ريب.
ويزعق:
ـ أسدلي، أسدلي. كيف يمكنك عرض عضوك على هذا النحو المشين؟ قلت لك أسدلي، أسدلي،أسدلي
ستقهقه الرضية، وتنحني فتقبل حسين الطاهر علي وجنتيه. تقول:
ـ ما أنا إلا طفلتك، يا سيدي.
تسحب رحط الجلد وتسوي سيوره فيستر عريها ويعيد بعض النظام للفوضى التي أحدثتها وهي تهرع تلبي نداء أبيها. يفتر ثغر حسين عن بسمة رضا فيبدى فماً رائعاً، أسنان منتظمة ناصعة وشفاه غليظة جذابة؛ لم تزد الحروب حسين الطاهر إلا بهاء فوق بهاء. سيحاول تذكر الطريقة التي يصدر بها الأوامر في الميدان، فيزعق:
ـ خذي الجواد الأصهب...
يتمثل الفتاة بعريها الصاخب فينفجر ضاحكاً. تضحك الرضية أيضاً وتنظر إلي رحطها مرتبكة فتلفيه مسدلاً، ساتراً. تنتقل عدوى ارتباكها إلى حسين الطاهر فيجلي حلقومه قبل أن يزعق من جديد:
ـ أقصد، خذي الفرس الدهماء، ذات الغرة، المحجّلة والحقي أولئك الصيادين الأغرار. عليك ابتكار طريقة لتعليمهم الصيد على نحو سليم.
ـ حسناً، سأفعل.
ـ كيف يمكن لعاقل أن يصطاد أرنباً بطلق ناري؟ كم يساوي ثمن أرنب؟ في حالة كهذه يكون الأرنب هو من ربح الصفقة! أليس كذلك؟
تضحك الرضية من القلب. تقول:
ـ أرنب مسكين، رابح!
الملازم الشاب بجزمته العسكرية الثقيلة يتعثر في شقوق الغابة العميقة أو بفعل شجيرات أحراشها ويوجه أعيرة طائشة نحو أي أهداف تمر مارقة أما عينيه، فيصيب قططاً برية وسعادين وغرباناً. أما الحيوانات التي يفترض صيدها، فتفلت سالمة إلي جحورها وأوكارها. سيحط القطا فوق أعلى قمم أشجار السنط يصدح بلا وجل وستطل الأرانب برؤوسها من جحورها تتسمع، منتظرة تقهقر فرق الصيد بجلبتها التي لا تنقطع.
سأنتظر حلول الرضية لأبرز شراكي. شرك المشنقة بأسلاكه وحباله أنصبه حول الحفير وعند أوكار الأرانب ومالوفات الرهو والقطا عند أطراف الغابة. الفخاخ القرقيابية الأصلية أنشرها عند وادي المحريب الكبير فتقع فيها أسراب الجرول السمينة التي مضى على قدومها من هجرتها الشتوية شهران تقريباً فاكتنزت لحماً. سأدع الملازم المغرور يفرغ ذخيرته كلها في الهواء ثم أعلن عن حيلي البسيطة، الفاعلة.
* *
عندما هبط حسين الطاهر بمقاتليه من جبال الحبشة، خائضاً الأوحال وشاقاً غابات هشاب وادي صعيد القضارف الكثيفة ثم أراضي الشرق الحجرية البلقع، لقطع طريق إمدادات الاحتلال بين سواكن وسهول البلاد الوسطى والعاصمة، غابت الرضية عن الأنظار لليالي متتابعة.
في ليالي السمر، الليالي البدرية الثلاث، روت الرضية معركة قطع الطريق تلك، شعرها المنكوش يغطي وجهها، وعيناها النجلاوان محمرة جراء سهرها المتواصل وهي تنقل الأخبار عبر فيافي جبهات القتال.
كانت طوابير البغال الطويلة تمر عبر ممر العقبة عابرة جبال البحر الأحمر الشاهقة محملة بمدافع المكسيم والبنادق أبو عشرة وصناديق الذخائر وحتى أزياء الجنود. كمن المقاتلون عند نهاية الممر مسلحين بالسكاكين الفوراوية ذات الأنصال الكبيرة. تركوا القافلة تمر حتى آخر جندي ثم باغتوها من الخلف بالسكاكين فقط، لم يطلقوا عياراً نارياً واحداً، فعلى بعد فراسخ معدودة أسفل الممر تقع حامية الأعداء.
سيظل حسين الطاهر يقيس قيمة البضائع لوقت طويل قادم، حتى بعد اكتمال التحرير، بأثمان الطلقات. في معركة العقبة تلك لم يكلف استلاب المكسيم الواحد إلا بضعة ملاليم. يبالغ أحياناً في تقدير قيمة الأسلحة والمؤن التي غنمها فيدعي أن تلك الأسلحة دون سواها هي التي قادت في النهاية إلي هزيمة المحتلين وجلائهم عن البلاد. يقول "إن قيمة التحرير كله لا تساوي فرطاقة!"
لكن الرضية تعود من جبهات القتال لتتفقد أحوالنا وتهجس قليلاً، ترتاح من وعثاء السفر وهول الحروب. أيامها تظل هي، هي، مفتاح بصيرتي ومشكاة هدايتي. لولاها ستقع سفرتي تلك؛ ستنتابني الهواجس وتؤرقني الأشجان، أنا عقب من بادوا أجمعين، فأمضي أطلب الحكمة بجبال موية لدى الفكي هارون الهوساوي، تقدس سره. الفتاة الرضية تدري أن قدرها هو قدري، كبوتها هي كبوتي ولن نغادر وعثتنا إلا إن جلا بصرنا وصفت قلوبنا. وكونها جلبت أرطال شقاء، لن ينسيني أنها جلبت قناطير خير. أتذكرها في غمرة عجلتها متنقلة بين ميادين المعارك، تحل بنا تركل هذا وتصفع ذاك وتشج راس تلك. لكنني أتذكرها أيضاً تقسّم أغطية الدمور على المسنين في الليالي الشتوية الباردة وتهب الأمهات الفقيرات قناني حليب النياق وتداوي النساء العقيمات.
برمة هي من ستوقظني:
ـ هو، هو، يجب عليك النهوض. لا بد أن تتذوق هذا الشيء إنه ألذ من أي عظمة خروف طازجة تخطر ببالك.
برمة تواصل نباحها، ملهوفة، متعجلة. تتنقل بين النوافذ والباب، تخرخش الخشب بمخالبها خرخشة وتطرق الباب بقدميها طرقاً. أصحو فأناديها:
ـ ما الحكاية يا برمة؟
تجيبني:
ـ افتح .. افتح، أقول لك عظمة طازجة لذيذة وأنت لا تزال تغالب النعاس؟ يا لهؤلاء الآدميين.
طيراناً تقتحم الكلبة برمة الغرفة لما فتحت. فو.. فو تقفز علي سريري. تدفعني برجليها وتجرني بفكيها، تعوي:
ـ عظمة، شئ أشهى من عظمة بكثير ينتظرك.
تقفز تأتيني بجلبابيّ من الشماعة وبنعليّ من تحت السرير وفي لهوجتها وعجلتها تشرح:
ـ الرضية تنتظرك. ستفعل بك ما فعله جاموس بي. لعبة طاعمة جدا، ربما يعقبها حمل وولادة، تخيل أن تحبل وأن تلد جراء سمينة، مدورة.
لن أنسى أن أستحم وأنظف أسناني وأتعطر. سآخذ ناقتي، فبعكس الخيول، الجمال دواب رائعة عندما يتعلق المشوار بمهام سرية فهي عندها تتحرك بحذر سنور. ستكون الرضية مستلقية تنتظر وسندشن تلك الليلة أولى مشاهد سفرنا إلي نواحي المسرة.

3
كاقو هي من أخذت بيدي في عوالمي النورانية الجديدة وبين سطور ألواح فكي هارون وفي نزهاتي عبر سفوح جبال موية وأوديتها النضيرة. قاسمتني ذكريات صباي بمفارقاتها الخرافية، وأنصتت إلي أستعيد نظمها وترتيب تفاصيلها لتقع وقد خلت من اللعنة وتضحي ناصعة، طاهرة، صافية. في مواسم لاحقة، تصحبنا ماريا، التي ستسمى لاري فيما بعد، وفتينا، أقمنا مزرعة النعام وشيدنا معمل نسيج الدمور ووضعنا خططاً لشق الطرقات، صعيداً إلي الدالي والمزموم وفشودة وغرباً إلي أم كدادة ودار مساليت، وخططاً أخرى لابتعاث القوافل حتى بربر بأسافل النهر الكبير وصوب نواحي عيذاب بساحل بحر المالح.
في شهور قليلة أتقنت الهوسا فما عاد يبزني في معرفتها غير فكي هارون الذي يستعين علي فهمها بروح مهيبة، غارقة في القداسة، ويكتب بها الألواح ويؤلف الأشعار ويسجل حركة الأجرام وهبوب الأنواء وتبدل الحظوظ بحسب مطالع الأبراج والنجوم.
أما ماريا وكاقو فقد ألفيتهما تتنافسان علي إرضائي والفوز بصحبتي. كانتا تقران بعلو منزلة فتينا لدي، ربما لأن فتينا نفسها أعطت انطباعا ثابتاً بأنّ استحواذها عليّ هو معركة قد تم حسمها بشكل لا خلاف حوله، لكن الأيام تتوالى فتبرأ الجراح القديمة وتتكشف أسرار جديدة وتصبح أحوال الأمس غير وقائع اليوم وأرى ماريا، وكاقو وفتينا غاديات بسر ورائحات بسر فأظل حائراً لا أدري هل العرفان في الفوات والانقضاء أم في الإدراك والتمام.
كاقو متيمة بالجبال. هي من بذرت الأعناب البرية عند منتصف المسافة بين القمم والسفوح. سمعتها تجادل ماريا في تاريخ البذر. تقول ماريا أن ذلك حدث قبل قيام الهوجات بالصعيد. البذور جلبها راعي بقر شلكاوي مرّ في طريقه إلي سهوب بحر أبيض الوسطى:
ـ كيف يرعى الشلك الأبقار بعد قيام الهوجات؟ كيف يستطيع شلكاوي الرعي بالسهوب الوسطى بعدها؟ قولي لي كيف؟
كاقو تقول أن الزراعة تمت بعد وقوع الحرب بسنتين على الأقل. تحاول إثبات أن أعنابها نمت وتكاثفت في بضع سنين ليس أكثر. تظن أن لذلك علاقة خفية ببركاتها وسمو روحها:
ـ راعي البقر ذاك لم يجلب بذور الجبال. تذكرين العنبة التي هلكها العطش سنة الجفاف، تلك التي أزهرت وأثمرت قبل أوانها؟ يثمر العنب سنوات الجفاف مبكراً، يا هاجو.
تورطني كاقو في جدالهما المحتدم. كل ما يتعلق بالجبال هو بغاية الحساسية لدى كاقو. أما الأعناب فهي علي استعداد للتضحية بحياتها في سبيلها. أعنابها البرية تنتشر على مدى البصر، غامقة الخضرة، سابغة الظل. أقول لكاقو:
ـ ليس مهماً متى بذرت الأعناب. المهم أنها هنا، وأنها أعنابك.
أراها سعيدة بالأعناب. تهتف ماريا، محتجة:
ـ التاريخ مهم جداً. كيف يمكن أن تنمو عنبة بعد الهوجات؟
أذهب بخيالي بعيداً لكنني سرعان ما أعود، فبعد غسيلي امتزج خيالي بواقعي، فرأيت حق الباطل وباطل الحق، تتوارد بقلبي الأحوال وهي بعدها وديعة مخبوءة، غائبة فأميز خيرها من شرها بفهم من أوتي طرفاً من خبر علم الباطن.
في جولاتنا الجبلية، نتواثب، كاقو وأنا، كأرنبين. هي من تحدثت عن سفري القادم لا محالة. بصدر نظيف مجلو، لم يتبق لي إلا الرحيل إذ ما عساي فاعل في بلاد خبرت أقوالها وأفعالها، هكذا مرة واحدة. أقول لكاقو:
ـ نرحل كلنا، فكي هارون وماريا وفتينا وأنت، يا كاقو.
تضحك فأقول:
ـ أنت تصدحين يا كاقو. هذا لا يسمى ضحك.
فتجيبني بمزيد من الضحك. تقول:
ـ أنا وفتينا معقول، أما كلنا فلا، لا.
أتساءل، وأنا أدري ما ستقول:
ـ لماذا، يا كاقو؟
ـ فكي هارون لن يرحل، كما تعلم، أما ماريا فليس لها حياة بعيداً عن هنا.
ـ والأعناب يا كاقو؟
ـ تضع كفيها على صدرها تلفها الحيرة. تجيبني:
ـ أي صحيح. كيف أهاجر من دون الأعناب؟
أقول لها:
ـ أرض الله واسعة. ابذريها بكافة الأنحاء، أحيلي المشرق والمغرب حدائق أعناب متصلة.
تروق لها الفكرة فيضئ وجها بشرا.
ـ وفتينا، لن تدعني فتينا أصحبكما إن أصبحتما وإن أمسيتما.
فقهت ما رمت إليه. هي من تود صحبتي من دون الأخريات. أراها تتطلع إلي وجهي تقرأ ما أضمرت من نوايا، فأتجنب النظر إليها. أقول:
ـ لكل حادثة حديث، كاقو.
* *
فكي هارون كان غارقاً في قداسته. أراه بين الفينة والفينة، وجهه أسود، ناعم كالحرير، وابتسامتة رقيقة، ماكرة، واثقة، مدلوقة بعناية في المسافة بين الجد والهزل. في أيامي الأولى كنت أقتحم عليه خلواته أطلب منه الإذن، فيجيب بكلام يسير، لا يزيد عليه:
ـ ليس بعد يا هاجو.
ثم يهوّم من جديد أو يطلق الجواب ثم تنفلت منه النداءات:
ـ قدوس، قدوس، قدوس، قدوس....
وأحياناً، يخرج من غموضه الساحر، فيتلو عليّ أشعاراً كتبها بالهوسا أو ترجمها إليها؛ قصائد سنارية وأخرى فولانية أو من تمبكتو وفاس؛ إسماعيل صاحب الربابة، عثمان دان فوديو، الحسن البصري، الخيام، هكذا من غير خطة ولا نظام. مرات ينتابني الشك في صدق مصادره فأتصوره ينتحل الأشعار ويختلق الشعراء، لكنه في الغالب يلقي نظماً فريداً متماسكاً.
عوالم جبال موية لا قيمة لها في عرف فكي هارون إلا بما تمثل من موضوعات يخضعها لمعارفه وحيله الروحانية الهائلة. الفتيات بحدائق أعنابهن، والجبال الممتدة علي مدى الأفق، وأنا بأسفاري الطويلة التي تنتظر لا نساوي غير قبضة من تراب، يأخذها إليه أو يرسلها. أنا، من أخذ طرفاً من جبروته، ظننت أنني فطنت لبعض أبعاد المفارقة، فركزت كعبي علي موقفي ونويت أن أبقي شغفي بالحياة مطّرداً، متّقداً.
مرة ندهني علي غير العادة. بخلوته، جلست إليه، يحاورني، يصيغ الجمل باختصار بليغ:
ـ تخرج من هنا فتجد فتياتي بين يديك.
أحدق في وجهه، إذ لا تعني جمله شيئاً لو وقعت في غير سياق جلسته تلك، وجهه قبالة وجهي، يبتسم ابتسامته البرزخية، بعض ناسوت وبعض ملكوت. أهتف أستحثه علي الحديث:
ـ قل، يا فكي هارون، قل...
ـ طاعمات، سائغات كمريسة الفتريت....
هن بالفعل كذلك وأكثر.
ـ آها يا فكي هارون.
- وأنت يا هاجو قد بلغت بفضل الله غاية الجمال.
رأيته يثبّت عينيه على وجهي، كما فعل يوم أزال عمشي.
ـ بفضل الله وبفضلك.
ـ غدوت بهياً، نقياً.
ـ أجل، أجل، آها.
ـ وأنا من أنا، كما تدري، قدم هنا وقدم هناك.
لم يكن أكيداً بالنسبة لي إن كان فعلاً يعني ما يقول. كثيراً ما أظن أن فكي هارون، من أعلاه إلي أدناه، يقف في موقف واحد لا يتزحزح، لا يحيد عنه قيد أنملة. قلت على مضض:
ـ أدري.
ـ من زمان رأيت قلوبهن لديك. ثلاثتهن. لا فائدة! هذه واحدة من الطرق التي تعبث بها الأقدار!
ظننت أن فكي هارون يود توريطي في نوع من الحياة يختار هو تفاصيله، لكنه لم يتركني لظنوني. هتف:
ـ لك الخيرة في أن تظن ما تظن. هذا هو الواقع، يا هاجو.
ـ وأسفاري، وبلادي وقومي، يا فكي هارون؟
قال:
ـ ستسافر ما شاء الله لك من أسفار.
ـ متي؟
رأيته يهوّم في السقف ثم يتناول ألواحه، يمد رجله ويردد:
ـ ستسافر، ستسافر.
* *
مع ماريا نتدافع إلي حفلات الرقص والسمر، تغني وتعزف آلات الموسيقى الوترية أو تنفخ المزامير أو تضرب الطبول. لا أدري أهو فكي هارون من وزع الأدوار بين الفتيات بهذا الشكل الدقيق أم أن للأمر علاقة بالفتيات أنفسهن، مواهبهن والطرق التي يتوسلن بها لإحراز التفوق وترتيب الهوايات في النظام العائلي الكبير.
أيام غرارتي، بعدي في طور التدشين، بدوي ذو نزعات موسيقية يغلب عليها الشجن، كانت ماريا تأتيني تحتضن ربابتها، أو تحمل هذا الطبل أو ذاك، طبول بأحجام مختلفة وأشكال متباينة، بعضها مجلدة من ناحية واحدة وبعضها من الناحيتين. بعضها توقع بعصي محنية من الأمام مقدماتها كروية وأخرى بعصي مستقيمة وثالثة تضرب براحتي اليدين. كنت أجد ألحانها شاذة في صخبها، أحياناً أضع أصابعي في أذنيّ، لا أطيق سماعها. لكنني قليلاً، قليلاً، أصبحت أسمع، فأعرف وأطرب. وإذ أتقنت الهوسا وفهمت الأشعار، فقهت وشهدت.
إن غاب القمر نقيم حفلاتنا بمفردنا دون سكان البلدة، وإن أمسى القمر بدراً أجتمع الشباب كلهم يطربون ويرقصون. تتسابق الفتيات لمراقصتي. رقص فتينا يقود الفرقة الموسيقية فيعلو التوقيع ويهبط بسلطان حركتها. كالمسحور أذهب وأروح في حضنها فتشملني الإيقاعات حتى لا أكاد أميز بين نفسي ونفسها، جسدي وجسدها. وفي أوقات يغيب وجودي، ولما يهدأ الغناء ويسكن الرقص، أنتزع روحي من ذرى مسرتها فأجدني في أحضان كاقو، لا أعلم كيف، خطانا منتظمة وأنفاسنا، تطلع وتنزل، شهيق واحد، زفير واحد. أما إذا بلغ انسياب الموسيقي الغاية، وعكف العازفون عليه فدققوه علي دائرة النغمة والنبرة، فعندها تنمحي الحدود، وينهمر الغناء من تلقائه، لا مغني، لا عازف، ولا ضارب طبل. تنزلق ماريا متسللة من الفرقة تاركة ربابتها تعزف دون رقيب فيشتد بنا الغياب ونصير أربعتنا، أنا والفتيات، كلاً واحداً متحداً.
فكي هارون يمنيني بالسفر، والفتيات ينتظرن؛ ماريا تغني وتصطنع الألحان، وكاقو بروحها التي تعبق زرعاً وورداً، نتقاسم تلاوة الألواح وقراءة الشعر وأسرد عليها وقائع أو خيالات من سيرتي باللبايتور بترتيبها الصافي، الطريف، وفتينا، التي قبّلتني قبلة الحياة، تسلك بي المسالك جهة تخوم المسرة وتأخذ بيدي صوب نواحي الغي.
ألح علي فكي هارون في حضرة الفتيات فيأتيني الجواب الشافي منهن. ضحي بدر شهر سايق بحضرة ماريا سألها:
ـ ماريا، هل يسافر الناس بنواحينا وضحى سايق كما ترين؟
أنظر إلي الأفق، فأرى الضحى وضّاحاً، ألاقاً.
أسرع أجيبه:
ـ ما أرى إلا ضحى وضّاحاً، ألاقاً.
يقول:
ـ إذن فلتبق حتى ينصع غسيلك.
ينظر إلي ماريا ينتظر جوابها. ترفع عينيها تنظر إلي الجبال ثم تجيب:
- لا، لا يسافرون.
يحدّجني ويحول إبتسامته الراسخة إلي ضحكة باهتة، متقطعة. وفي رمضان بحضرة كاقو يخاطبني وهو ينظر إلي كاقو:
ـ رمضان هذه السنة لن تزيد أيامه عن تسعة وعشرين. هل يسافر الناس هذه السنة؟ ترد كاقو:
ـ لا، لا يسافرون.
أما حين تساءل بحضرة فتينا ذات نهار صيفي ممطر وقد شرع يطالع ألواحه فقد جذبتني من يدي وأخذتني خارج الخلوة وهي تهتف:
ـ لا، لا يسافرون.

4
سعيت مبكراً للفوز بقلب الرضية وللحصول على وظيفة الملازم أول لدى حسين الطاهر. كيف يستطيع هذا العسكري، قصير القامة الذي لا يخلو من دمامة الاستمرار مقرباً من حسين الطاهر والرضية في وجودي أنا بجسدي المديد ووسامتي البينّة؟ جاءت الرضية ذلك النهار إلي ساحة الصيد حسب توجيهات والدها على صهوة الفرس الدهماء، الغراء، المحجلة. كانت في كامل زينتها، شعرها مضفور ضفائر صغيرة، ترتدي رحط فروسية أسود وقميص دمور قشي رائع يبدي صدرها الكاعب، مزججة الحاجبين، كحيلة العينين. على غير حالها أيام المعارك، أتتنا هادئة الطبع زاخرة الأنوثة. لكنها ما أن رأت طلقات الملازم الطائشة حتى عاد لها مرحها، وشرعت تقهقه، تصفق وتقفز، تسخر وتلقي الطرائف دون حساب.
ـ لن تصطاد فأرة بهذه الطريقة.
هتفت في وجه الملازم. رأته يركض بفرسه بين الأحراش فنادت:
ـ تعال، تعال يا علي الكرار. هل تظن نفسك نابليون؟
كان قصيراً ومدوراً، فأعجبها التشبيه:
ـ توقف يا نابليون، توقف!
لن أتيح لها رؤيتي فور وصولها. بعد أن يأتيها الملازم، سأتقدم فأقف لصقه ليضحي قزماً ضئيلا بجانبي. ستدهش إذ تراني غدوت عملاقاً في بضعة شهور، الشهور التي قضتها تقاتل بالصعيد الشرقي، نواحي باو. تشرئب بعنقها، تطالع ملامحي الدقيقة، الجذابة، تقول:
ـ أوه، هاجو منصور، مستحيل.
أنحني أحتضنها مسلماً. تستطرد:
ـ هاجو! مستحيل.
لا شئ مستحيل يا رضية، لا شئ.
ـ أهلاً، سيدة نساء البطانة.
أجدها تطيل الارتماء في حضني. لابد أنها قررت أن تستحوذ علي وهي تستسلم لحضني ضحي يوم الصيد ذاك. تنتزع جسدها مني وتبدأ زعيقها في وجه الملازم مباشرة:
ـ أقول لك لن تصطاد فأرة.
تنظر إليّ ثم إلي الملازم وتصيح:
ـ من الآن فصاعداً يمكنك الرحيل واصطياد الفئران في بقاع أخرى.
سيرد الملازم بهدوء بطولي:
ـ أنا لم أخلق للصيد كما تعلمين.
ـ قل إذن لم خلقت؟ لماذا خلقت أساسا، يا نابليون؟
أصبحت متوترة ومغتاظة. كيف لا تفعل وهي تعاشر قزماً في بلاد يقطنها عملاق مثلي؟
ـ أنا أجيد القتال، هذه هي مهارتي الوحيدة!
يقول الملازم.
ـ هي مهارتك الوحيدة بالفعل.
تردد الرضية ضاحكة.
سأنتظرها حتى تصب جام غيظها على المقاتل البطل وأنصب شراكي، بعدها سأقول أنني ذاهب لاستدراج طيور الرهو والقطا من السفوح الشرقية. أنطلق بجوادي أتجه إلي السفوح مستعرضاً أثناء ذلك فروسيتي، فتياً، قوياً، فارعاً. سيتساقط الصيد بفخاخي بالعشرات.
ـ يا للصياد!
تقول الرضية. تسأل:
ـ متى ستشارك في المعارك؟
أقول:
ـ إذا انقضت هدنة الخريف.
ـ هل أنت جاهز؟
ـ جاهز منذ الليلة.
تردد تحدّجني، هائمة، لا تدري ما تقول:
ـ يا للصياد، يا للمقاتل، يا للمهارة!
* *
في الشتاء اندلعت المعارك علي كافة الجبهات. جاءت الرضية إلي اللبايتور تصطحب الملازم جريحاً، لكنها لم تبق طويلاً فالمعارك المندلعة لا تتيح وقتاً للبقاء. في السابعة عشرة لا يستطيع المرء أداء مهام كثيرة، فقمت والآخرون من جيلي ببيع الهبات من الأبقار والضأن لصالح المجهود الحربي وشاركنا في جباية عشور الحرب وتوريد الحصيلة لبيت المال أو أدينا تدريبات قاسية لإعداد أنفسنا لانضمامنا الوشيك لجيش التحرير. تلقّى الملازم عناية جيدة، تغذى باللبأ ولبن النياق الطازج برغوته الكثيفة وعسل نحل اللبايتور الأصلي. تتم المعالجة في الغالب بأدوية بلدية؛ ودق وسمن ضأني أو ثمار وسيقان نباتات جافة منقوعة، فشرب الملازم كميات كبيرة من نقيع السنامكة والمحريب والحرجل وبذور الخلة.
قصصت على كاقو أخبار الملازم بعد أن استمعت إليها لساعات متصلة تقرأ الألواح. فيما بعد ستطول القصص، ليتأجل رحيلي لشهور طويلة، فقد أهملت مطالبة فكي هارون الإذن لي بالسفر. غدت مهمة إعداد وسرد أحداث أيام مراهقتي باللبايتور تستحوذ علي تفكيري تماماً، ورغم ظني أن المهمة ستنتهي بانقضاء شهور نقاهتي، إلا أنني فضلت الاستمرار في الحكي، إذ راق الأمر لكاقو كثيراً إضافة لتمكن الوقائع بصيغتها الجديدة من وجداني الصافي إلي درجة جعل التغافل عنها مستحيلاً. بعد شفاء الملازم وحلول هدنة الخريف، عادت الرضية وحسين الطاهر إلي البلدة. تحررت أراضي شاسعة جهة باو ووقعت كتائب معادية بأكملها في الأسر. لاحظنا أن مزاج الرضية أصبح رائقاً، فقد هطلت ألأمطار على مدى عينات الضراع مروراً بالطرفة وحتى السماك. سمحت الرضية بزراعة الدخن والذرة ود الفحل وتأكدت بنفسها أن إنتاجية البامية أم بقبق ستكون عالية وأن البطيخ البلدي ينمو نمواً جيداً، وقد زرع الأطفال، علي غير المعتاد، العنكوليب والسينات وام بنة.
في انتظار نشوب المعارك بعد الخريف، قضى حسين الطاهر أوقاته يلعب السيجة والمنقلة ويشاهد مباريات التيوة أو يشارك في رحلات صيد الغزلان بأعماق البطانة شرق الجبال. يعتمد على الرضية فيما يتعلق بتدبير المعاش وتصريف شؤون زوجاته الأربع وأطفاله العديدين. فيما عدا ممارسة الحب، المقاتل المحترف، طبقاً لحسين الطاهر، يقاتل فقط.
بقامتي المديدة وروحي الصلدة التي لا تلين، يا كاقو، أحصل على رضا حسين الطاهر فيستدعيني وبصوته الأجش، يردد:
ـ ما شاء الله، تبارك الله!
أقف أمامه، كما ترينني، هائل الجسد. يقول:
ـ قم ببعض الحركات الرياضية.
أمامه، عاريا،ً أستعرض عضلات ذراعيّ وصدري وظهري. أوتر عضلات بطني وفخذيّ فيقول:
ـ ما شاء الله، ما شاء الله!
أقفز في الهواء، أتقلب وأتشقلب، وأحط علي يدي فأمشي كبهلوان. يقول:
ـ هذا يكفي. قد اتخذتك ملازماً ثانياً.
لو استثنينا لعنتي العنجية الموروثة، يمكنني بقدراتي هذه أن أصير ملازماً أول لدي أي قائد آخر، عبد الرضي عايد أو جلي الناجي أو حتى قائد الألوية الصعيدية المتعجرف مبيور دينق، بكل تاريخه البطولي الطويل. أصدقك القول، يا كاقو، أن الاقتراح سيصيبني ببعض خيبة الأمل، إذ كيف يخطر ببال قائد منطقة البطانة، حيث نشأت وترعرعت، ترشيحي لوظيفة ملازم مساعد.
كالعادة كانت برمة أول من زفّ إليّ خبر قدوم الرضية. تصلني راكضة، تهز ذيلها هزّاً تتبعها جراؤها هذه المرة، سبعة جراء، كما اشتهت، سمينة مدورة. بارود جد برمة الكبير، لم يورث تلك الجراء السمان العمى والعرج، لذا فقد عوت برمة تحدثني سعيدة:
ـ جاءت الرضية للتو. هيا، الحق.
ـ الحق ماذا؟
ـ الحق قبل أن يستحوذ عليها كلب آخر.
ـ يا برمة، هذه الأمور اللذيذة يكون الإعلان عنها بطريقتك هذه مضراً جداً.
ـ كيف يكون الإعلان عن شيء لذيذ مضراً؟ يا للبشر!
ـ ثم أننا يجب أن ننتظر حتى حلول الليل.
ـ سفاد بالليل! النهار هو أنسب الأوقات، لابد أن ترى وبرها الأسود اللامع وفخذيها وساقيها بربلتيهما العبلتين وأذنيها الطويلتين. أقول لك هيا، هيا، دع حركات الناس عديمة الجدوى هذه والحق.
الرضية تدخل بيوت البلدة كلها، وافرة الحيوية والنشاط، تصافح هذا وتقبل ذاك، وفي غمرة سعادتها بعودتها ليس مهمّاً إن رفست جماعة أطفال يلعبون الاستغماية أو ركلت ثلة مسنين جالسين يستدفئون بحر شمس الضحى من زمهرير رياح الخريف الجنوبية.
بعكس ما تقترح برمة، سأنتظر وحيداً بغرفتي. زيادة في الإثارة سأغلق الغرفة من الداخل بالمزلاج. ستأتي الرضية طيرانا، فتطرق الباب برفق. لا أفتح، فتطرق بعنف. لن يأخذ تحولها من الرفق إلا الشدة وقتاً. تاح، تاح، تركل الباب. مسكين باب غرفتي المنجور من خشب السيال القوي، النادر. دقائق معدودة، تراح تراح، فسقوط الباب محطما، منزوعاً من الدساتير التي تثبته علي الحائط، ثم اقتحام الغرفة. تأخذني الرضية في حضنها الشرس. ورغم قامتي المديدة وقوتي، استسلم لأشواق البطلة التي أضنتها الحروب؛ تعانقني بلهفة، تقفز تتعلق برقبتي، تهبط تحيط خصري ثم عجزي بذراعيها، تجذبني بشغف، تأخذني وترسلني. ثم دون أن تعير الباب المحطم الملقي على قارعة الطريق أي اهتمام، تدفعني، ساقطة فوقي على أرضية الغرفة الصلبة.
* *
حثيثاً تسعى الرضية في مداواتي. تصاب بكراهية عميقة للملازم وتؤجل حركة الكتائب للميادين أسبوعين كاملين حتى يكتمل إعدادي للالتحاق بالمقاتلين بعد جلاء نظري وتجبير عرجي. تحاول إثناء حسين الطاهر عن عناده المتعلق بالاحتفاظ بملازمه الشاب وتقول أنني أحق بالرتبة منه، وأن ذهاب العمش والعرج هو مسألة وقت ليس إلا وأن ذلك إن لم يتم قبل حركة الكتائب فإنه قطعاً سيتم في الميدان. حسين الطاهر كان يصر علي بقاء الملازم ويتحرق توقاً للمغادرة لإشعال المعارك في جبهة الهوي الصعيدية.
الرضية ستستغل أيام الهدنة لتعليمي حيل حربية كثيرة وتحاول ابتكار وسائل علاج جديدة لمداواتي، لكنها لم تخف قلقها من أن يمنعني حسين الطاهر من مرافقة المقاتلين إذا لم يتم شفائي. هي تعلم أن اللعنة مثل التأتأة لا يمكن القضاء عليها قضاء مبرماً. حسين الطاهر نفسه، بتأريخه البطولي الرهيب، لا زال يعاني من ارتكاساتها. تقول تحاول طمأنتي:
ـ أنا نفسي أصاب بغثيان ملعون أحياناً.
تهتف:
ـ وأمس فقط رأيت تجعيدة تحت عيني اليمنى! اللعنة!
أنظر إليها فأجدها امرأة كاملة، لا يجد النقص سبيلاً إليها. هي أكيد من نوع آخر، أو على الأقل، من فصيلة غير فصيلتنا. أستمر في التحديق بها، أقول:
ـ لعل في النظر إليك نجاتي.
تقهقه ثم تقول:
ـ النظر إليّ، يا سليل العميان!
دخنتني بحطب أشجار السلم ووكأت عرجي بكاوية فخار من البجراوية وأرسلتني في زيارات روحية لمعابد أنقسنا بالصعيد الشرقي التي تم تحريرها حديثاً لكن الاختبارات التي أجراها عليّ حسين الطاهر لم تبيّن أي تقدم في حالتي. وقد ذكر لها حسين بأنه ربما يوصي بابتعاثي إلي جبال موية، يا كاقو، لتجريب وسائل علاج مجلوبة من السودان الغربي.
أما الملازم البطل فقد ساوره بعض الأمل في استمالة قلب الرضية مرة أخرى. ولظنه أن صدود الرضية له علاقة بجهله بقواعد الصيد، فقد تحصل على شراك عديدة، من أنواع مختلفة وربي كلاب سلوقية جديدة جلب لها مدربين من بلدات مجاورة وكلّف صيادين مهرة بتعليمه فنون الصيد. في بضعة أيام، مستعيناً بقواه الخفية، يا كاقو، غدا صياداً ماهراً. وقد اصطاد آلاف الأرانب وآلاف أخرى من القطا والرهو فتحسنت أحوال سكان اللبايتور بفضل قناطير لحوم الصيد وسمن الأطفال وقل عواء الكلاب الذي يتردد آناء الليل لأنها كانت تتضور جوعاً. لن يعجب الرضية تقدمه في تعلم الصيد فتدعي أن ما يقوم به ليس صيداً وتقسم بأبيها أن لا تمد يدها لتأكل الشواء الذي يعد من "الجثث" التي يأتي بها.
تتوالي اقتحامات الرضية المسائية العشوائية لغرفتي، وباقتراب نهاية هدنة الخريف، يزداد عدد ونوع الاقتحامات فتقع ليلاً ونهاراً. بسببها، يكون بنيان الحجرة قد تضعضع ويكون باب السيال قد تحول إلي كومة من الحطب عديم الفائدة وتنتبه الرضية لما حدث فتأمر بتشييد غرفة بديلة أكثر اتساعا وبنجارة باب سنط أكثر متانة. لكنها تبقي على الغرفة القديمة إلي حين اكتمال تشييد الجديدة.
لم تكن غاراتها بلا طائل علي كل حال. فقد تلبستني بعض البركة وبشرتني الرضية بأنني أحرز نجاحاً لا بأس به. كما لاحظت أنني أمسيت أرى كواكب أكثر في مجموعة الثريا وغدوت أعدو بسرعة أكبر لكنني لم أستطع أداء تمارين ركض المسافات الطويلة معلقاً بأذيال خيول السباق. أيضاً كبحت التغضن بوجه الرضية فغمرتها السعادة ليلة عكفت عليها ساعات متصلة حتى انمحت التجعيدة الوحيدة التي لاحظتها على وجهها.
لكن فترة تمديد الهدنة مرت وما شفيت فتسرب المقاتلون عبر النهر من دوني متوجهين إلي الهوي. حسين الطاهر مضى متخفّياً بصحبة ملازمه البطل، أما الرضية فقد وعدت بالعودة لإلحاقي بكتائب البطانة قريباً.
5
تتواتر المعارك صاعدة وهابطة وفي وقت من الأوقات حدثت مناوشات على مشارف الجبال وأتتنا أخبار عن وصول الرضية إلي بلدة مجاورة لحشد التأييد وتجنيد المقاتلين وتشوين المخازن. ورغم تأكيدي لكاقو مراراً أن حكاياتي الشرقية ما هي إلا مجرد ترهات، إلا أنها أصيبت بالغيرة لما علمت باقتراب حملة الهوي بقيادة حسين الطاهر وملازمه والرضية من الجبال.
أفرطت كاقو في غيرتها ونقلت شذرات من أساطيري للفتيات فتكاثف العداء للرضية إلي درجة أن فكي هارون أغلق عليه الخلوة للاستعانة بخبراته الروحية للجم الرضية وكبح محاولاتها التي لا تنقطع للإعلاء من شأن حظوظها بكافة الإنحاء على مدى الجهات التي تنحدر منها الرياح وقد ألفى نجومها تتقاطع بجبروت يوازي جبروت تقاطع نجومه هو نفسه مما حدا به للسفر شخصياً لاستطلاع الأخبار بغية إسداء النصح للفتيات ليتخذن مواقف مناسبة من الرضية في تنقلها المستمر برفقة مقاتليها بتخوم بحر أبيض الوسطى.
من جانبي، مستخدماً قدرتي على مخابرة أبناء جلدتي، مقاتلي اللبايتور، شرعت في قص وقائع تعتمد على حقيقة تقدم المعارك على الفتيات الثلاث هذه المرة. أيضاً استطعت رصد تحركات الملازم البطل والرضية أثناء توقف المعارك وقدمت وصفاً لها للفتيات القلقات. بسهول بحر أبيض الوسطى رأيت الملازم أشعث، أغبر، بالغ الوسامة، تليع الجسد، يعتلي جواده الأصهب ويضحك بفوضى عارمة تصحبه الرضية، التي كانت تبادله الفوضى، على صهوة فرس بيضاء. كاقو قالت أن الملازم طبقاً لأساطيري قصير القامة وسمين فأسهبت في وصفه لتتمكن من رؤيته رؤيا العين، يرمح بجواده يلاحق فرس الرضية.
يعدو الفرسان بعيداً باتجاه النهر على نحو يثير مخاوف حسين الطاهر فيرسل ثلة فرسان لحراسة البطلين المنطلقين بفوضاهما التي يحفزها هدوء الجلبة التي كانت تحدثها المعارك وتدفق الشذا الكثيف لطمي النهر وأشجار السنط بفعل الحرارة اللاهبة للشمس الصيفية. لتضليل ثلة حراس حسين تقفز الرضية على جواد الملازم فيرتدفاه وتنطلق فرسها وحيدة، تجر لجامها، مسروجة، باتجاه مخيم المقاتلين أعلى النهر بينما يشق الجواد طريقه بصعوبة فوق كثبان الرمل المشرفة على الضفة. تنمحي آثار الجواد تحت لفح رياح السموم الصيفية ويتشتت الحراس في بحث يائس عن الرضية والملازم.
يوثقان الجواد عند الضفة ثم يسبحان في النهر بكامل أزيائهما العسكرية، إذ تقاوم الرضية محاولات الملازم الخشنة لتجريدها من ملابسها المصممة من قماش الدمور السمني الثقيل، وفي عمق النهر رأيت التيار يجرفهما متماسكين أسفل النهر ورأيتهما يتعانقان متلاصقين بشغف قبل أن يغطسا ويبينا ثانية عند الضفة ثم يشرعان في الطفو على ظهريهما مستعرضين مهارتها في السباحة التي اكتسباها على مدى سنوات القتال في السهول النهرية وتخوم البحر الشرقية القصية. يغيبان بعدها في غناء عشوائي، وتصفيق، يتراشاقان أثناءه بزخات الماء ثم يخلعان قميصيهما ويسحبان سراويل القتال الطويلة، الثقيلة قبل أن ينزعاهما. يدعان الثياب عالقة على سطح مياه الضفة الضحلة ويمضيان سابحين، ملتصقين فيدعان التيار بالعمق يأخذهما ويتواريان عن نظري مما يدفعني للصعود تجاه قمة الجبال لرصدهما يسبحان على ظهريهما سباحة بطيئة مطردة، ترادف أسفلاهما، عيونهما مغمضة، وأفخاذهما متسقة الحركة ويجدفان بأذرعهما برفق فبديا كزورق يبحر من تلقائه.
كاقو التي اعتادت على أسلوبي في السرد ووصف الوقائع كانت تنتبه بشكل عفوي لتوارد التفاصيل فواجهت مصاعب في تمثل الأحداث ولم تر الرضية والملازم في انحدارهما صوب الأسافل متشابكين على طريقة اليعاسيب. هذه الكيفية في الإنصات جعلتها متوترة وقد انتزعت مني وعداً بإعادة حكي بعض التفاصيل قبيل رقص ليلة البدر. ماريا وفتينا استمعتا بعيون متسعة وآذان مرهفة فشهدتا ما جرى بل أن فتينا في انتباهها الهائل كانت ترى تفاصيل دقيقة تغيب عني روايتها وتنبهني بإلقاء كلمة هنا وحشر أخرى هناك فتضفي على سردي تماسكاً مذهلاً.
وفي غمرة سباحة البطلين، عند بلوغهما ذروة هياجهما ناحية ملتقى التيارات المنطلقة من عدوتي النهر، كانت فتينا تنتصب مصوبة نظرات رائقة جهة أعالي الجبال، بعيد حدائق أعناب كاقو الملتفة، يكاد فستانها يتمزق من جهة صدرها الكاعب وتغشاها نوبات قشعريرة مصحوبة بإفراز متصل من غددها اللعابية ثم تتمشي، رائحة وغادية، إزائي فتتعثر بين يدي مراراً وتسقط متوسدة صدري مرة إثر مرة كائلة لي الاعتذارات بينما يظل تركيزها في السرد والمشاهدة يعلو ليصل درجة الغياب الكامل.
أشهد الرضية تخوض المياه وترتدي زيها المبلل ثم تركض إلي سفح الكثبان الشرقي. تطقطق أصابعها موقعة لحناً بدوياً حزيناً ثم تصفق وتصفر وتنقرط قبل أن تغني مقاطع من "مسدار الصيد" للحاردلو دون أن تصحب غناءها بأي توقيع. تسمع الفرس الغناء فتأتي تركض من الغرب، تدلّي عنقها وترفع ذيلها وترفس الهواء برجليها الخلفيتين.
فكي هارون في رصده المنفرد لما حدث سيردد تفاصيل لم تخطر لنا على بال. في الأسابيع التي تلت ظهيرة السباحة يفارقه حبوره الغامض ولا يقرب ألواحه إلا بعد تقدم المقاتلين صعيداً ليشرعوا في التفافهم الشهير الذي يقودهم إلي أسافل السوباط مروراً بهجليج فمزارع الموز ومحمية ملكان.
* *
ها أنا ذا، نقي، صفي، أحلق بخيالي إلي آفاق رحبة ولكنها تبقى، في نهاياتها القصوى، معتمة تنتظر شموساً ما فتئت كاسفة أو متوارية، لا فرق. أحدث فكي هارون ليجيبني بابتسامته التي نصفها هنا ونصفها هناك فأظن أن حال الوجود هو، هو، كما عهدته، خسران وفوز، خفاء وبيان.
ـ يا فكي هارون..
يحدق بسقف الخلوة.
ـ نعم يا ولدي.
أنظر إلي السقف مكان تحديقه فلا أرى شيئاً.
ـ ألن أسافر يا فكي هارون؟
يضحك.
ـ تسافر؟ إلي أين؟ لماذا؟
ويقهقه قهقهاته الخافتة، النادرة فأدرك أنه، في فصاحته البليغة، يسألني ليجيبني.
تتصرم أيامي في صحبة الفتيات، أتمشى يتبعنني بالسفوح وفي الوديان وعند النهر، أشهد وأسمع، فأجد بعض عزاء وبعض أمل. ورغم أن كاقو هي أثيرة السمر والأنس، وماريا هي سيدة الرقص، صانعة الألحان فإن فتينا هي التي ما برحت تبتكر وسائل للمعابثة والغواية لكنها تظل نائية مثل طيف فأمسي كما قد أصبحت تلفني الحيرة وتنوشني الظنون. سيأتي يوم أحمل فيه متاعي القليل وأرحل وعندها ربما تكون فتينا هي من سلبتني جل سكينتي، من ضيعت فرص عبوري إلي الناحية الشرقية للجبال، حيث تقيم حياتي الجديدة المنتظرة.
ستمضي الأيام، يصيب الضجر ماريا، فتهن إيقاعاتها وتتكرر ألحانها. تنظر إلي عينيها فتلفي بريقهما قد ذوى وتعلم أن الحياة تأخذ بقدر ما تهب، كأنها في خلودها المديد تعيد قسمة الحظوظ نفسها على العالمين.
أقول لكاقو عاتباً:
ـ هاهي أعنابك تتطاول...
لا تدعني أكمل، تقاطعني:
ـ حدث هذا بفعل رياح الصعيد الدافئة الرطبة.
سعيدة بتطاول الأعناب، تموسق ضحكاتها، تتقافز تقلد طائر أم قيردون. تضيف:
ـ إن جاء الصيف سنحصد ثمارها، سنصنع عصائر وأنبذة.
تلقي بآمالها الصيفية ولا تزال في ضحكها الموقع.
ـ ها أنا ذا كالمنبت، بل إنما أنا المنبت ذاته.
ترقص، تستنشق عبير أعنابها، وتضحك. تهتف:
ـ فلنسمك هاجو المنبت أو لندع هاجو جانباً ونسميك "المنبت ذاته"، هكذا أحسن.
تأتينا فتينا تعدو. تخاطبها كاقو:
ـ من الآن فصاعداً سنسميه المنبت ذاته.
تضحك فتينا، تقف وراء ظهري، رأسي بين فخذيها، فتخلل شعري المتهدل وتدلك جيدي وظهري وتمرر راحتيها فوق صدري بشعره الكثيف وهي لا تنفك تضحك. أستسلم لمداعباتها، تقول:
ـ نمت نوماً، صدّقـت، هيه؟
أقول وقد تحشرج صوتي:
ـ أجل.
فتدفع رأسي مقهقهة:
ـ أمش ... أمش .. أمش!
وتنطلق تصعد الجبال. وإذ تنأي، تتضاءل فتبدو معلقة في الأعالي كقمرية. كاقو تلتفت ناحيتي تقول:
ـ تستأهل!
ـ أنا؟ أستأهل ماذا؟
ترد علي بنظرات حانقة، لا تزيد.
لتنتظر فتينا؛ كل يوم تركض من حولي، تحلق فوقي، تعدو كالسهم بين ساقي، لا تستقر على حال، وهي في كل ذلك تظن أنها بمنأى عني؛ يكفيها فقط أن تركض وتحلق منطلقة كالسهم لتتسرب من بين يدي! لكنني، من الجهة الأخرى، أعلم أن فكي هارون في سكونه الراسخ، يفوقني دراية ويبزني علماً. إنه يدرك مالا تدرك الأبصار ويفقه ما لا تفقه الأفئدة؛ لا إرادة إلا إن أراد. بمشيئته فقط أستطيع أن أكبح فتينا التي لا تحط إلا لتقلع.
* *
سيكتب فكي هارون لوحاً لماريا. تجلس بين يديه صامتة كما جلست ضحى جلا عينيّ.
«ماريا يا ماريا، يا روحي
يا وريثة عرش دان حياتو المضيّع"
يكتب، يقرأ ما كتب ثم ينفث لعابه على وجه ماريا.
"عودي يا براءتها
عودي يا أغنياتها
أين أنت أيتها الحقول الغضة
التربة البتول
الجبل الضارب في رحم السماوات؟"
كتب، قرأ ونفث.
"ماريا
باكر تضربين الطبل ذاته
طبل جدك الثاوي عند منحنى النهر
عند ساق الباباية بطرف الغابة.
تشدين أوتار الربابة القديمة
ربابة جدتك لنتنا
يكفي كونك حفيدة لنتنا
لتنتظم الأوتار، تتدوزن ربابة لنتنا"
يكمل فكي هارون القصيدة، يمحو اللوح فيسيل الماء غامقا في القرعة الموضوعة تحت اللوح. يناول المحاية لماريا. يقول:
ـ أشربي، بسم الله.
تقول ماريا:
ـ بسم الله، بسم الله.
تشرب.
وإذ شربت ماريا الماء الغامق، داخل نظراتها رهاب أشد. رأيتها زائغة النظرات فأدركت أن دواء فكي هارون يخفق. ها هو فكي هارون ذاك الضحى، مثلي مثلك، تتداعى حيله في مواجهة حيل أجل وشراك أدهى.
نجتمع إلي ماريا ليلة البدر الأولى تضرب الطبول، الداوية الكبيرة والخافتة الصغيرة، فنسمع إيقاعات ليست إيقاعاتها. تصرخ فتينا غاضبة:
ـ ما هذا، ماريا؟
نحدق بماريا فنرى تلاصف حدقتيها، أوان نزول شعاع البدر عليهما، باهتاً، قد ذهب بريقهما الدفاق، الخلاق. ترد ماريا:
ـ ما هذا ماذا؟
ـ ليس هذا ضرباً، ماريا.
ـ أدري.
ليلتها علمت أن فتينا لا تود للأدوار أن تنقلب فيتم أدؤاها بطريقة مختلفة. ظننته رضاءها الثابت عن قدرتها علي التسرب من بين يدي كالأثير. تتقدم كاقو قلقة وغاضبة هي الأخرى، إلي ماريا.
ـ أظهري همة ما. همة من أي نوع فتندلق الموسيقي، يا ماريا.
تحني ماريا عنقها وتضع يديها على وجهها ثم تجلي حلقومها وتصفّق. ترفع كميّ قميصها وتضرب الطبول بذات الترتيب السابق؛ الداوية فالخافتة. ولما لم تحقق الفتاة أي نتائج أفضل، فقد ظننا أن ليالي البدر تولي وأن المستقبل لا ينتظرنا إلا بالسكوت المطبق والسكون المكين، فلا غناء ولا رقص.
تتحول ماريا في يأسها إلي مارد. تاح تراح تركل الطبول، لا تفرق بين تلك القديمة المجلوبة قبل مائة عام من سكوتو والجديدة التي ما جف جلد رباطاتها بعد، المصنوعة في نواحي مايرنو. تفلت من بين سكان البلدة الذين تدافعوا يحاولون إنقاذ الطبول. تصيح في وجوههم:
ـ إليكم عني أيها السفلة.
تصرخ هاتفة:
ـ لتذهب الطبول إلي الجحيم.
تعدو راكضة جهة الخلوة.
تعتكف ماريا شهرين كاملين بالخلوة. ينصرف فكي هارون بروح مهيبة يكرر غسلها. يذهب بها في صحبة الفتيات إذا حلت ليلة البدر إلي السدرة فيهبها اسما آخر وصفات أخرى؛ يعيدها بيننا نقية نقاء جديداً.

6
يغدو الملازم البطل قزماً حقيقياً بجوار مقاتلي الدينكا الفارعين كأشجار الصعيد الذين انضموا إلي كتائب البطانة حديثاً لذا ستفلت الرضية من قبضته وتتجول في الأحراش بحثاً عن متع عملاقة. أيضاً سيصاب الملازم بدوار الغابات المدارية وحين يفقد سيطرته على الأمور تماماً ويضيع اتزانه في مواجهة طيش الرضية المستمر يحاول الاستعانة بقدرات كجور شلكاوي ليعيد للرضية رشدها. الكجور يؤكد له أنه سيفعل ولكنه يعتذر بانشغاله في تدبير علاقات نسائية لحسين الطاهر. "عليك الانتظار إذا أردت الاستفادة من خدماتي" يخبره الشلكاوي. تقتنص الرضية فرصة دوار الملازم وانشغال الكجور لتقوم بأداء واجباتها الحربية على أكمل وجه بينما تبتكر غزوات محبة عديدة بفوضى عارمة، فيطال لهيب غرامها العشوائي شباب رعاة الشلك العراة، إذ يمكنها عريهم من انتقاء أفضل العشاق. ثم في مرحلة لاحقة، حين تتوقف العمليات العسكرية بسبب الهطول المتواصل للأمطار، تذهب بمغامراتها حتى تخوم جبل بوما حيث مقر قيادة الجنرال مبيور دينق. وقد انتهزت المناسبة لعقد صفقات سياسية جيدة مع القيادات العسكرية وحصلت على وعود بتلقي الدعم في معارك الصيف التي ستستهدف كتائب البطانة بها موسم حصاد الموز.
حسين الطاهر الهائم بالجمال غير العادي لنساء الغابة، لن يلاحظ الدوار الذي يعشي بصيرة الملازم ولا الغياب المستمر للرضية. سيقرر الملازم تقديم شكوى رسمية ضد الرضية لحسين الطاهر ويكلف جندياً بمرافقته إلي كوخ حسين الطاهر الميداني فيلفي الكوخ محاطاً بجمهرة من النساء العاريات، الفاتنات ينتظرن دورهن في الولوج إلي الكوخ. يطلبن منه ساخرات الانتظار بالطابور إن أراد بالفعل مقابلة حسين الطاهر. يصر على التقدم فتتدافع إليه عشرات النساء ويضربنه هو وجنديه ضرباً مبرحاً لينسحب وهو يعرج إلي المخيم الحربي متوعداً بالعودة في صحبة مقاتليه.
يا كاقو، الرضية الآن تستلقي بظل شجرة مانجو ضخمة أسفل جبال بوما. بين اليقظة والمنام تتذكر رحلتنا إلى جهات تمبول ذات خريف مطير. توجهنا مرتدفين ناقتها البشارية، لشراء ألبسة دمور سميكة لمواجهة احتياجات المقاتلين الشتوية. برمة أصرت على مصاحبتنا وقد فشلت كل حيلنا لإقناع الكلبة بالعودة إلي البلدة، انتهرناها:
ـ جر، جر يا كلبة.
تراجعت قليلاً ثم وقفت تنظر إلينا. ما أن تحركنا حتى ركضت في أثرنا.
ـ جر، عليك اللعنة، ارجعي.
تتراجع، تنظر إلينا ثم تتبعنا. نزلت من الفرس هددتها بالعصا وبالسونكي بلا جدوى. تطلق الرضية رصاصة في الهواء فتنسحب برمة بشكل تكتيكي فقط وتعود تركض خلفنا. تهبط الرضية من الفرس وتطارد برمة بسرعة نمس وتمسكها من ذيلها لكن الكلبة تنزلق وتعدو جهة الناقة. برمة أصبحت مهووسة بمصالحنا الحسية وتعتقد أنها مسؤولة بشكل مباشر عن استمرار معاشراتنا دون كلل.
تلك الرحلة إلي تمبول تمت بعيد موقعة باو الشهيرة حين انتعشت الآمال بهزيمة وشيكة لجيوش الاحتلال وتشكيل حكومة وطنية. كانت الرضية في أوج سعادتها فتحسنت قدرتها على الحب بشكل كبير. برمة على مدى الطريق انتظرت أحداث عشق متهورة ولكن حال انتصار باو دون وقوع أي حماقات. بدت الرضية عذرية جداً في توددها إليّ وبالكاد رأت برمة أكثر من قبلة صغيرة في منتصف الطريق إلي تمبول. بدت الرضية رزينة وتصرفت بحكمة ربة منزل وأم.
يا كاقو، أقول للرضية أننا سننجب بنتاً واحدة وولدين. لازالت تنتظرنا واجبات شاقة كثيرة. كيف تستطيع بنات من اللبايتور شق ترعة من النيل الأزرق حتى شرق الجبال معتمدات على معدات يدوية غاية في التخلف؟ حتى رئيس هيئة أركان الاحتلال فشل في تسخير ما يكفي من الفلاحين لشق مثل تلك الترعة. تغضب الرضية غضباً حقيقياً لمجرد التلميح بأن الرجال يمكن الاعتماد عليهم أكثر من النساء في تنفيذ مشاريع التنمية الكبرى بعد التحرير. أسخر من غضبها وأبدأ في تلاوة حوار من أحجية شهيرة راجت قبل الاحتلال. أكتشف أنها تحفظ الأحجية عن ظهر قلب فأقوم بأداء دور مريود بينما تؤدي دور مريم.
ـ أحمد يطلع مدير.
ـ مدير شنو؟
ـ مدير أي حاجة.
ـ ما شاء الله. ومحمد؟
ـ محمد يطلع محامي.
ـ عجايب. ما اخير قاضي يا مريوم؟
ـ محامي عشان يدافع عن المظلومين. القاضي قالو يدخل النار.
ـ زين. ومحمود؟
ـ محمود... محمود... محمود يطلع حكيم.
ـ سجم خشمك. وحامد؟
ـ حامد كمان يطلع حكيم.
ـ ها الله ها الله. بقيتي أم الحكماء. والخامس اسمه مين يطلع شنو؟
ـ حمد. حمد يطلع مهندس.
ـ مهندس؟ الله أكبر. والسادس؟
ـ حمدان يطلع ناظر.
ـ ناظر محطة؟
ـ ناظر مدرسة.
ـ متل مدرسة ود حامد؟
ـ ود حامد إن شاء الله تغطس في الأرض. مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الأحمر وسط الجناين.
ـ وبقية العشرة الكرام؟
ـ الباقين إذا طلعوا أولاد أو بنات يكونوا كلهم معلمين أو حكماء.
ـ البنات كمان؟
ـ ليه لا؟
ـ طيب ومتين تلدي الأمة دي كلها؟ وقت يصل عاشر واحد يكون عمرك خمسين سنة.
ـ أبداً. عشرين بالكتير إذا بدينا السنة الجاية.
ـ نتزوج السنة الجاية؟
ـ ليه لا؟
ـ أسمعي يا غشيمة. أولادنا يطلعوا زي كده. أحمد زراع. محمد زراع. حمد يطلع شيخ الصعاليك. حامد يطلع مداح، يمدح الرسول متل حاج الماحي زمان وأحمد ود سعيد اليوم في العفاض."
ويا كاقو، تنتظر برمة حدوث شغب حسي لكن آمالها تذهب أدراج الرياح. تصاب بالملل الذي يتحول إلي اكتئاب، ثم تنهار تماماً وتسقط إعياء عند مشارف تمبول. تهبط الرضية وتحمل الكلبة ضامة إياها إلى صدرها بحنان وتضعها في جراب تعلقه علي السرج يسار ظهر الناقة.
* *
تتنقل الرضية بالبريد من الصعيد القبلي الأوسط إلي جبهات باو ومنزي وأحياناً إلي الغرب، حتى جبال الفور. ذات مرة حصدت أعناباً من دار شلك، ربما تكون من نبتة العنب ذاتها التي جلب منها الراعي الشلكاوي ثمار أعنابك، يا كاقو، وبذرت بذورها على مدى الطريق إلي باو وإلي الغرب الأقصى بسفوح جبال الفور. وفي عودتها إلي الجبهة الصعيدية دهشت إذ رأت بادرات الأعناب الغضة تنمو بكافة بقاع البلاد. في غيبتها يغرق الملازم في دواره الاستوائي، وحين يعود بفرقه لمعاقبة شلكاويات حسين الطاهر ولا يعثر لهن على أثر، يبدأ حملة تأديب جماعي للأهالي ويأمر عساكره بحرق الأكواخ وترويع الأطفال، لكن تصل الرضية فجأة ويتم تفادي مذبحة جرى الإعداد لها لتتم على نمط المذابح التي اشتهر بها جيش الاحتلال. تعنف الرضية الملازم الذي يعتذر بكآبته ودواره ويقول لها أنه أصبح يرى الأشكال ثنائية وأنها هي بالذات أمست فتاتين اثنتين منذ إصابته بالدوار. تختبره الرضية فتفرد إصبعين من أصابعها وتسأله:
ـ كم إصبعا ترى؟
ـ أربعة.
يقول الملازم دون تردد. تضحك الرضية سعيدة بطرافة دواره. تسأله:
ـ كم فم لديّ إذن؟
يجيبها:
ـ فمان يا رضية.
ـ وكم أذن؟
ـ أربع آذان.
ـ ما شاء الله. وكم ذراع؟
ـ أربع.
ـ وأربع أرجل. أليس كذلك؟
ـ بلى.
ـ وكم اسم لديّ؟
ـ إسمان.
ـ وما إسماي إذن؟
ـ الرضية وال...رضية.
ـ وما هي رتبتاك؟
ـ ملازم أول لحسين الطاهر، ملازم أول لحسين الطاهر.
يا كاقو، سيروق فصام الملازم للرضية، وتشيع أن الملازم أمسى مجرد نصف ملازم وأنه بذلك يحتاج لمضاعفة جهوده لخوض المعارك، فمثلاً يتوجب عليه تحقيق انتصارين قبل أن يتم له النصر في معركة واحدة بينما يكفيه نصف هزيمة لتحل هزيمة كاملة، مبرمة بكتائبه. وعندما ينتقل الرعاة الشلك الشباب بأبقارهم إلي الأسافل لتفادي جيوش البعوض والذباب بطنينها الزائط دون انقطاع في موسم الخريف الذي يبدأ مبكراً بالصعيد، تخرج الرضية والملازم بصحبة قوافل الصيد لتدبير احتياجات المقاتلين من لحوم الغزلان ولتجفيف بعضها وتخزينها لمقابلة تموين طريق العودة إلي البطانة. تلاحظ الرضية أن مواهب الملازم وخبراته في نصب الشراك وتسديد طلقات بنادق الصيد تتضاءل فتنقسم. وأن خططه للإيقاع بالغزلان لا تعود إلا بنصف ما يتوقع لها من مردود. أما قدرته على الغرام فقد همدت أو كادت، إذ غدت قبلاته الحارة دافئة وأحضانه الدافئة باردة بينما قلت دعاباته وساء مزاجه فهجر التبسم والتظرف والتملح. أيضاً ازداد إحباط الرضية لما لاحظت أن مقاتلي البطانة الذكور عديمو الغلمة وأنهم في مواسم الحرب يتحولون إلي جيش من النمل فلا ينفذون إلا التوجيهات ذات الصبغة العسكرية.
تنتظر حتى انتهاء مهمة الصيد وتقوم برحلات مضنية تتعقب فيها الرعاة بأعماق الغابات وعند المسايل والنهيرات وتحاول دون جدوى إقناع بعضهم بمرافقتها إلي معسكرات الكتائب أعلى النهر. تكتشف أبعاد العلاقة الحميمة التي يقيمونها بأنعامهم لدرجة أنهم يقاومون فكرة ترك أبقارهم دون عناية رغم وسائل الغواية التي تتفنن الرضية في ابتكارها، وفي بعض الأحوال يصرحون، دون اكتراث بمشاعرها، أنهم يفضلون نساء ذوات سحن أكثر سواداً وشعر أكرت قصير. وفي غمرة كآبتها تتذكر مغامراتنا الأسطورية على عهد إقامتي باللبايتور، قبل هجرتي طلباً لشفاء لعنتي. تبالغ في ذكرياتها فتستدعيني روحها المتمادية وتكون غرفتي البديلة بباب السنط الصلد قد اكتملت. أعبر إليها الفلوات سالكاً أقصر الطرق إلي الصعيد، متخذاً السبل التي تمر بعيداً عن نقاط التفتيش التي تقيمها حاميات جيش الاحتلال. أحلق مقتفياً آثار وميض ذكرياتها، متخذاً قلبي دليلاً ومستعيناً على الأهوال بأريج الغابات وعبق طمي الأنهار ورطوبة خريف مزارع الموز التي ينتشر على طولها وعرضها جنود الأعداء، لابسين دروعهم، متمنطقين بنادقهم، متحفزين، حماية لتدفق المحصول لمدن أسافل النهر وللتصدير.
الرضية لا تنتظر هبوطي، فتتلقفني فاردة ذراعيها، مشرعةً أحضانها. على نحو ما تسحبني ذاكرتها سحباً إلي غرفة اللبايتور الجديدة وتوقعني في أسر رغبتها الملتهبة جراء معارك الأحراش القاسية وخيبات الملازم المتكررة. كانت برمة وجراؤها تنبح على مدى تواتر حركتنا المتسقة، الملهوفة. في سعيها لإسكات الكلاب العاوية، تخبط الرضية النافذة برجلها. تخترق قدمها النملي فتولي برمة وجراؤها الأدبار ويتوارد إلينا النباح خافتاً من أطراف البلدة القصية.
* *
يا كاقو، عجبت الرضية إذ ألفت عرجي وعمشي قد ذهبا. تهتف:
ـ ها قد شفيت يا هاجو. ألم تشف؟
لا تصدق عينيها فتهتف من جديد:
ـ غير معقول. بلى قد شفيت.
أعدو أمامها بسرعة جواد وأحدق في الأفق البعيد ناحية حفير أمطّالة فأحصى الأشجار المتباعدة شجرة شجرة. وأقول:
ـ ثمانون هجليجة، خمسة وثمانون سدرة، ثلاثة وخمسون طلحة، تسعون سنطة!
تراجع إحصائيتي وتصيح:
ـ هو كذلك. عجيب!!
تأخذ وجهي بين كفيها وتحدق في عينيّ، تهمس مبتسمة:
ـ كم هما دعجاوان وصافيتان.
سيأتي حسين الطاهر في الخريف فأتقدم نقياً، جليّا إليه. ستكون الرضية في صحبتي هذه المرة. يسألني:
ـ هل صحيح ما تقول الرضية؟
سأنظر إلي السماء جهة الثريا. رغم الغيم الخريفي سأشير إلي جهتها وأصف له المجموعة نجما، نجماً، عددها ومدى لمعانها وتدرّج ألوانها ومقدار المسافات بينها. زيادة في الاحتياط سأقدم نبوءة مفصلة عن المطر، الرياح والصواعق لموسم الخريف. يخرج حسين مخطوطاً يحوي رسومًا وخرائط فلكية. يدقق بالرسوم والخرائط وينادي:
ـ عجيب! عجيب!
لن انتظر حتى يزول عجبه. سأتقافز قفزيّ القديم؛ أتقلب وأتشقلب وأسير على يديّ. يهتف:
ـ غريب!
استعرض عضلاتي فأبرزها وأوتّرها وأرجّفها. يصيح:
ـ فظيع!
من ليلتها سيمسي اختياري ملازمًا أولاً لحسين الطاهر قريب المنال.
لم يتبق من المعارك إلا القليل. تتوارد إلينا الأخبار من العاصمة عن خلافات عميقة تدور بين المحتلين، خلافات حول قيادة الجيوش والشرطة وأخرى عن الاستحقاقات وتوزيع المكافاءات وثالثة عن إيداع الأموال في مصارف الملايو ورابعة في نسب اقتسام الأموال المنهوبة وعمولات إنتاج وتصدير الموز. لكن لا زالت ثمة معارك تنتظر مما سيتيح لي قتل بعض المحتلين وأسر البعض الآخر. كيف ينصرف المحتلون قبل أن أعمل فيهم مديتي الغرباوية التي أهدانيها فكي هارون؟ مدية تعود ملكيتها لجد دان حياتو الكبير، يبلغ طول نصلها نصف ذراع وبها زيقان محفوران على الجانبين لتسقيتها بسم ثعابين الكوبرا.
سيعود الملازم أول متكدراً، منفصماً من الصعيد. نأخذه إلي أدغال السيال القبلية الكثيفة. عمداً تزيد الغابات خضرتها تحية للبطل الذي قصدها مستشفياً. تمتلئ الحفائر بالمياه فيعلو النقيق ويشتد الطنين، تعشوشب الحشائش وتزهر الورود. ما أن يستنشق الملازم نسيم براري البطانة حتى يذهب عنه الكدر ويفارقه الفصام. لكن الرضية ستبقى متعلقة بي. لا أمل للملازم بعد شفائي، لا أمل. سأستعين عليه بألواح فكي هارون الهوساوية الساحرة وسأواجهه بمعارفي الجديدة وعزيمتي وأسفاري. سأبدأ تجريب الألواح ما أن يفتح فمه متحدثاً. يجيل النظر في أنحاء البرية يقول:
ـ سبحان الذي سخر لنا هذا.
سأقرأ من ذاكرتي وأترجم:
ـ لنتنا شمّرت عن ساعديها
لبّكت عجين الذرة الشامي الطازج
فانتشر أريجه
سكبت لنتنا اللبن الرائب
مزجته بالعسل، بالعجوة، بروح القرنفل
المجد للنتنا في أعاليها.
يرفع الملازم البدين وجهه مبحلقاً:
ـ من رفع السماوات
ونثر النجوم
ثم ينظر إلي الأسفل، ناحية الأرض المعشوشبة فيقول:
ـ من دحى الأرض
فبذر البذور، فنضّر الفلوات.
أقرأ:
ـ لنتنا لك المحبة
لنتنا لك الحول والصول
البصيرة
الهداية
الأنوار
القوافل محملة بالملح لك
النياق اللبون
وأبقار امبررو الرقطاء السمينة لك.
ستتضاعف حسرة الملازم، يا كاقو وستقع الرضية نهباً لفخاخ فتنتي. تعلم الرضية أن الملازم ما زال مقيماً بالأعراف؛ بين العقل والجنون، بين الجهالة والعرفان. ستلاطفه كما تلاطف طفلاً لكنها ستراقب جمال حالي بعينين متسعتين، فلا تدعني أفلت. نسرج أقوى النياق وأجملها للملازم ثم ندعه يستقر على ظهرها ونوثقه بإحكام بحبال السلب المتينة السوداء، المفتولة من شعر الشياه. ما أن تنهض الناقة بالملازم حتى تكيل الرضية كرباجين هائلين على عجزها فتنطلق بالملازم في أعماق غابة السيال. سعدت إذ ظننت أن ذلك سيكون آخر عهدنا بالملازم. وددت لو يمسي الملازم مجرد أحجية من أحاجي حرب التحرير، يا كاقو.
7
غسلوا ماريا لي، بحسب الفتيات. قالت كاقو أن ماريا نفسها هي من أعطت الغسيل وصفه. فكي هارون أراد أن تستعيد روحها وقعها الموسيقي الأصلي، ذاك الذي ورثته عن جدتها، لنتنا، ثم غسلها وتدشينها وتسميتها لتحمل فوق وقع لنتنا، جل خصائص الجدة وسائر نعوتها. روت كاقو التفاصيل يعلو وجهها الحبور. فيما فكي هارون يزعم أنه قد رأي قلوب الفتيات لدي، فإن كاقو تذكر أنهم قد عثروا على قلب ماريا فاقد الاتجاه بسببي:
"تصور، قلب متكئ بالكامل ناحية اليمين، علامة ميل خطرة جداً، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بهوساوية من جهة الجدة للأب. فقدت دقات قلبها دوزنتها، يا هاجو. عوضاً عن ضربات فتية، مموسقة على إيقاع تل تل – تلل تلل تلل – تتل تتل – تل تلل تتل، كان قلبها يصطفق كيفما اتفق. فكي هارون، جرى دمعه كما لم يجر من قبل. في البدء قال أن فوضى قلبها لها علاقة بمشيئتك وأشواقك، يا هاجو؛ أسفارك المؤجلة، وحكاياتك بهرطقاتها التي لا تنتهي، وحرب التحرير التي ما أن تضع أوزارها حتى تدور رحاها. جراحات الرضية غائرة بسنام القلب، طرفه الأعلى، مثوى الخير. الملازم وحسين الطاهر يتجاذبان الأوامر الهادرة عند القاعدة، سكة الآلام الطويلة.
أخذنا القلب، طيّبناه بعطور الصندل والمسك الممزوجة بنقيع المحلب المعتّق من نوع "ثلاثمائة عام". قليلاً، قليلاً، صابرين على وجع رؤيتها بتلك الحال، أعدنا ضبط القلب فوازنّا وجيف صماماته وأزلنّا تراكم الثمالات ببطيناته وسلّكنا الأبهرين وتأكّدنا من استقامة الميل وانتظام الوقع. ثم نصب فكي هارون سماعة البرونز المروية عند الحواف وبين التليلات وعلى مدى الانحدارات فألفاه قلباً سليماً، نقياً لكنك كنت هناك، تتأبى أن تزول. فكي هارون، باكياً، قال أنها المرة الأولى التي تتقاطع فيها بركاته بشكل مدمر. هاجو، كنت تجري من قلبها مجرى الدم، تستبدل نقاء بنقاء. وإذا شاءت الإرادة لنا أن نشتبك هكذا بأقدارك فتلك هي علامة فنائنا دون ريب."
تخرج ماريا وقد أضحت لاري. بدلوا اسمها. ليلة البدر شهدت فكي هارون يخطب بهوساوية القرن السادس عشر. تزيا بقبعة حمراء عالية وجلباب أزرق غامق وانتعل خفي جلد قط زباد. جلس فوق بغلته وخطب:
"لا ماريا لدينا من الليلة فصاعدا.
فقط لاري. من لا يصدّق فليسأل السدرة.
من أصوله نزعناه فؤادها
جلوناه بالرمال، بهّرناه بملح عوينات وطيّبناه بالجلاد
نفخنا أنفاس، لنتنا، ونفثنا بركات، دان حياتو
وحده هاجو منصور ظل عالقاً بروحها
فإن جاءت باكر تقول:
ما غسلتموني، أنا ماريا من تدلّهت بهاجو منصور
فاشهدوا أننا غسلنا وغسلنا
لكن بقت البنت أسيرة الولد الغريب
أخذت اسمها لاري
غدت نقية، أشهدوا
تطهر قلبها، آمين"
جاءوها بطبول غير طبول البدر القديمة. طبول أعرق، من سكوتو أيضاً. بدأت ضربها بالصغيرة الرقيقة تلتها بالمتوسطة الدقيقة والمتوسطة الرقيقة وقليلا،ً قليلاً غادرت صوب الكبيرة الداوية. تلك الليلة اختل رقص فتينا. نادتني قبيل انفضاض السمر وجرتني وراء الخلوة. شفتاها مزمومتان، متحديتان وعيناها، براقاتان، متوثبتان. قالت:
ـ أنا من وهبتك الحياة.
هززت رأسي مسلّماً:
ـ آه. صحيح.
سألت:
ـ هل سمعت ما قال فكي هارون؟
سمعته كما لم يسمعه قومها. أنا من تعلمت الهوسا كما لم يتعلمها منهم أحد.
ـ أجل، قد سمعت.
مدّت يدها إلي خصرها فاستلت مدية من غمدها. قفزت متراجعاً. قالت:
ـ لا تقفز. لا تفزع.
عرّت صدرها من جهة القلب ووخزت بالسكين. رأيت دمها يبرق إذ يستقبل ضوء القمر. قالت تنهنه:
ـ تعال. شم، شم. لا تخف.
قربت أنفي من صدرها وألصقته بدمها وكرفت بعمق. كانت رائحتي، أنا هاجو ود منصور العنجي، تفوح من دمها المتدفق. مسحت أنفي فجففته ثم ابتعدت عدة أذرع منها فألفيت رائحتي تنهمر فائحة كما تفوح رائحة النحاس من أفعوان.
* *
ظهيرة يوم النهر فكي هارون رأى غير ما رأيت. قال أن الرضية والملازم كانا يسبحان عكس اتجاه التيار. وقال أنهما كانا بالفعل عاريين لكن الحب لم يكن يخطر لهما على بال. يشتد خلافنا حول حقيقة ما جرى فيجادل فكي هارون بفصاحة وجبروت. الفتيات ناصرن رؤياي بادئ ذي بدء بل أن فتينا سردت أحداث النهر بتفاصيل تزيد دقة عن تفاصيل أقصوصتي. روت أن الملازم والرضية قصدا النهر في موسم تكاثر أسماك البلطي مما جعل محبتهما المائية أكثر سلاسة، إذ انسابا أسفل النهر تحيطهما أسراب السمك المنهمكة في مغازلاتها، ذكورها تصب سوائل اللقاح وإناثها تعرض بيوضها، على امتداد النهر. ذكرت فتينا أن شذا الحب النفاذ جعل روائح الطمي والأشجار تبدو خفيفة، واهنة.
لأيام متتالية عديدة يتجنب فكي هارون محادثتي فتكلمني كاقو بإسهاب عن اعتقاده الذي لا يتزلزل في تفوق قدراته الروحية وعن ثقته المفرطة في مهاراته كأفضل من يبصر الخفايا التي تضمرها الصدور. في مرحلة لاحقة يزعم فكي هارون أن جواد الملازم خصي الأمر الذي لم أجد له تبريراً لديّ. قلت:
ـ الجواد ليس خصياً.
قال فكي هارون:
ـ بل هو كذلك.
ـ ألم تره يكرف شهوة فرس الرضية؟
فتينا ردت:
ـ بلى قد فعل.
قال فكي هارون:
ـ لم يفعل.
أؤكد رأيي:
ـ أنا أعرف ذلك الجواد. هو جواد فحل.
يغضب فكي هارون فيقول:
ـ ذاك ليس الجواد الذي تعرف إذن.
طبقاً لما رويت فالجواد الأصهب كان ذلك النهار مكتظاً بالشهوة، يرفع عنقه في اتجاه الريح، فارجاً شفتيه وموسعاً منخريه يشمشم عبق الحب المنبعث من الرضية والملازم. لاحظت الرضية اشتداد شبق الجواد فأصدرت أصوات إلفة متتابعة تعزيه وهي تدلك عجزه. قالت للجواد:
ـ إهدأ، إهدأ. كلها يوم أو يومان وتنتهي المعارك، عندها سيتبقى لنا وقت طويل للحب.
حمحم الجواد. صهل:
ـ يوم أو يومان؟ ستون سنة أخرى على الأقل!
بعدها كنت أبصر الجواد يواصل شمشمته، فالت الرغبة.
فتينا كانت غائبة الروح حين جاءت بقول جديد:
ـ الجواد خصي بالفعل.
ما برحت تحدق في الأفق الصعيدي وتستنشق عبير المساء ثم تستطرد أقوالها:
ـ جواد بلا ذرة فتوة، هامد الشهوات.
عادت لفكي هارون ابتساماته العتيقة بإشاراتها المترادفة لتذكرني بأنه سيد المعرفة، من لا تخيب له أخبار ولا تكذب نبوءات. تغيب روح فتينا وتعود:
ـ جواد أصهب، أجل، لكن حوافره متثلمة، أرجله سمينة مترهلة، وبطنه لا يناسب جواداً فحلاً البتة. حوض بالغ العرض، وظهر منحني إلي الداخل، جهة الكرش المتدلية. ذيل طويل لكنه متفرق الكثافة، باهت، ينبي عن تاريخ طويل من العزوف الجنسي. أسنان متشققة، متهدمة وصدئة بفعل وجبات لا تنفد من الذرة الفتريتة القديمة، العاولة. حبال صوتية متهتكة لجواد واضح أنه لا يصهل؛ لا شكايات غلمة ولا نداءات شبق ولا أرق هيام.
سمعت فتينا تتلو أنباءها بحضرة فكي هارون المقهقه سعادة بتأييد رؤيته النهرية المتناقضة. يرى أثر الهزيمة علي عينيّ فيلقي برؤيا قاسية، جديدة:
ـ أما الرضية نفسها فهي عذراء!
أكاد أفقد صوابي. أصيح:
ـ الرضية عذراء؟ أنت تمزح دون شك.
البنات الثلاث هتفن بصوت واحد:
ـ كذّاب! أفّاك!
قال:
ـ أجل عذراء. قوام مشدود وجسد فتي متماسك، مثل كرة تيوة. تلك امرأة ما افتضت.
تتفقد الفتيات أجسادهن من أسفل وأعلى ومن الأمام والخلف بقلق نساء عذراوات. تنتابني الهواجس فأسأل كاقو:
ـ وقصصي يا كاقو؟
تلتفت كاقو إلي فكي هارون تتساءل:
ـ وقصصه؟
أسأل كاقو:
ـ وغرفتي وباب السيال وبرمة؟
تسأل:
ـ وبرمة؟
ـ ورحلات الصيد وغيرتي وأشواقي للبايتور؟
فتينا تهتف سعيدة:
ـ لا، لا ما افتضت.
كنت تلك الأيام أطل من عينيّ ماريا، ألوح بقسماتها وأمتزج بدمائها، لكنها كانت لا تزال ماريا القديمة، عازفة الربابة، صانعة الغناء. هي أيضاً بدت سعيدة بأخبار فكي هارون المتهافتة لكنها ظلت ساكنة تدوزن ربابتها، تشد أوتارها إن نظرت إليّ وترخيها إن أشاحت عني. يقول فكي هارون:
ـ الخريف القادم سيأتي بالمعارك الأكثر هولاً منذ اشتعال الحرب. سيطحن القتال الصعيد كما لم يفعل لستين حولاً.
أسأل، ولا أزال في خيبتي وكدري:
ـ وسفري يا فكي هارون؟
ـ ستسافر هاجو، ستسافر.
ـ ومعاركي وغزواتي ومديتي، مدية دان حياتو؟
ـ ستعارك وتغزو.
يمد رجله ثم يتناول لوحاً وقلماً ودواة. يسوّد فكي هارون ألواح عديدة وتظل أقواله تتناقض مع أقوالي طيلة نهارات الصيف برمضائها الملتهبة. كاقو تستمع إليّ رغم كتابات فكي هارون المحمومة. وفي انتظار رضائه عني لا أملك إلا أن أشرّق وأغرّب أتذكر مغامرات اللبايتور الحميمة أو أحلّق أقتفي آثار الرضية وهي تضرب في الآفاق تحمل البريد للجبهات العسكرية المتناثرة.
* *
أمسى صعباً إقناع كاقو بالاستمرار في الاستماع إلي حكايات اللبايتور بعد مزاعم فكي هارون التي تركت أثراً مروعاً علي تماسك روايتي. حاولت كاقو مرة أو مرتين مجاملتي والتظاهر بالانتباه لأحاديثي عن الرضية والملازم لكنها لاحقاً أضحت تسرح بخيالها أو تكافح نوبات ثؤباء متصلة أو تتشاغل بالنظر إلي أعنابها النضيرة المتدحرجة في نمو هائج صوب السفوح. سأستسلم إلي حين وأقترح إنشاء مزرعة للنعام مما سيعود علي بسيل متدفق من الأحاديث والأساطير التي ربما تحقق أحلامي في السفر أو، علي الأقل، تزيديني قرباً من الفتيات. قلت لكاقو نستطيع إقامة مزرعة نعام على قرار مزرعة حسين الطاهر التي أقامها قبل أن تودي الحروب بخططه التجارية المسالمة. شرعت في سرد وقائع من سيرة حسين الطاهر المبكرة:
"عاش حسين الطاهر طفولة عادية؛ لعب بدمى الصلصال وهجرها للاستغماية وشليل ثم تعلم التيوة؛ صفق الكرة بالقرجة أو رميها باتجاه الصافق أو العدو بسرعة عِجل يافع." لاحظت أن كاقو لا تولي اهتماماً بما وقع لحسين الطاهر بقدر اهتمامها بما وقع للتيوة فغيرت خطة سردي. أدرك مشقة الحديث باسهاب عن النعام والمزارع دون الحصول على خيط ما يصلها بذكرياتي باللبايتور فأحاول ما وسعتني الحيلة استعادة أمجاد الرضية.
سأبدأ حديثي عن مشروع إنشاء المزرعة بطرفة يكون غرضها تيسير المغامرة بتحويلها إلي مهزلة وفي نفس الوقت استدرار عطف كاقو تجاه أقوامي بعد أقاصيص فكي هارون المدمرة. "جلب حسين الطاهر فرخ نعام واحد من دار فور. كان الفرخ صغيراً وجميلاً، ذا عينين أهدابهما طويلة؛ ذاك هو أول طائر برموش يؤتي به للبايتور فلا عجب إذن أن قدم أعراب من كافة بقاع البطانة لرؤية فرخ النعام. كلاب كثيرة أيضاً جاءت لمشاهدة الوحش الصغير الجميل.
بعض شعراء البطانة ممن ظنوا أن الفرخ أنثى نظموا أشعارًا تغزلوا فيها به أو شبهوه بمحبوباتهم. أما الكلاب فقد كان الأمر مختلفاً معها. بعضها انتهز فرصة وجود كلاب كثيرة فبدأ بشن ملاسنات حادة تحولت في بعض الأحوال إلي مناوشات سريعة ثم تطورت إلى معارك محتدمة. جد برمة الكبير، بارود، في غمرة الفوضى استطاع اختطاف الفرخ والركض به مما أدى إلي تدفق صياح بشري عالٍٍ مصحوب بنباح هائج وثغاء متواصل وصياح ديوك ونهيق؛ بالجملة شرعت كافة الحيوانات في اختلاق ضجيج فظيع بلغ مداه عنان السماوات وقد تم تخليص الفرخ المسكين من أنياب الكلب بارود بعد جهد جهيد.
لم ينس الفرخ ما جرى له من مرمطة بين أنياب الكلب. إزداد حجم الظليم على نحو سريع وما أن بلغ عمره سنة حتى أصبح عملاقا ليس له من شاغل إلا مطاردة بارود على مدار الساعة بكل النواحي وفي كافة الأزقة إلى أن تمكن منه ذات مره ففقأ عينيه وكسر فخذه ليقضي الكلب بقية عمره أعرجاً، كفيفاً. سيورث بارود لعنته أجيالاً من الجراء التي ستولد بعد التحرير، يا كاقو.
سعد الظليم بإنجازه لبعض الوقت فقط، إذ سرعان ما لاحظت الرضية آلام الوحدة التي أمست تعصف به بعد نهاية عهد مطارداته للكلب بارود فاستعطفت حسين الطاهر بإلحاح لجلب نعامة من أجله:
ـ لابد للظليم من نعامة، لابد.
ـ نعامة تزوزيك، يا بنت الكلب! مالك أنت وهذه الأمور؟
ـ نعامة طويلة، رشيقة من أجله يا شيخ حسين. وحياتي عندك يا شيخ حسين، نعامة، نعامة، نعامة.
ـ لكن قولي، نعامة من أين، من أين نأتي بنعامتك اللعينة؟
ـ من أين؟ من دار فور، من دار شلك، دار حامد. ليس مهمًا من أين. نعامة وكان الله يحب المحسنين.
تعيي الرجل الحيلة، فكل يوم ولا حديث للرضية غير النعامة. تصوم أحياناً عن الأكل إذا لم تحصل على وعد بجلب نعامة للظليم المكتئب المسكين. يبعث حسين الطاهر من يجلب النعامة وفور وصولها يشرع الظليم في ملاحقات على شاكلة مطاردات بارود لكنه ما أن يظفر بالنعامة حتى يكتشف الفرق بين الحب والحرب. في بضع سنوات ينجب زوج النعام عشرات الفراخ ويؤسس حسين الطاهر مزرعة النعام التي عصفت بها حرب التحرير فيما بعد."
* *
في انتظار استعادة الفتيات حماسهن لأساطير اللبايتور، سأقص على كاقو وقائع أسفاري المؤجلة وسأسرد تفاصيل بطولاتي المؤودة. أثناء كل ذلك ستغدو توسلاتي لفكي هارون بخصوص رحيلي أكثر إلحاحا وتواتراً. من ناحيته سيبدو فكي هارون أقل اهتماماً بمصيري فيرد علي تحياتي بشكل مقتضب ويردف ردوده بعبارة ثابتة مكررة: ليس بعد، يا هاجو، ليس بعد.
تزدهر مزرعة النعام عند سفح جبال موية فنمتلك قطيعا يزيد على الألف نعامة. اشترينا جوادا وثلاث أفراس عربية أصيلة من احد أعراب المعاليا وبدأت تدريب الفتيات على فنون الفروسية بينما سعيت إلى رفع لياقتي البدنية استعدادا للانضمام إلي كتيبة اللبايتور حالما أكمل أسفاري بالصعيد الشرقي، جهات باو والرصيرص والكرمك. أقضي ساعات متصلة في شحذ مديتي، مدية دان حياتو، وأصقلها وأرمم سيور غمدها، وأقوم بتدريبات شاقة على فنون القتال بالأسلحة البيضاء. فمثلا سأخرج على صهوة جوادي العربي وأقصد دغل السدر حيث يجري فكي هارون طقوس شق وغسل الصدور وأقوم بمبارزة أشجار السدر الباسقة، ذات الأشواك المسننة، المنحنية على شكل صنارات.
ـ فارس تركي ملثم؟
أتساءل راعداً، شارعاً في أحدث مبارزاتي.
بحسامي أطعن، مجرباً الحيل الحربية الكثيرة التي أتقنتها على عهد إقامتي باللبايتور أو تلك التي تدربت عليها بجبال موية. أتراجع ثانياً كوعي إلي الخلف ثم أدفع الحسام إلي الأمام بسطوة ومكر فارداً ذراعي حتى النهاية. أكرر الطعن وأتبعه بضربات رأسية صاعقة من أعلى إلى أسفل، من أسفل إلى أعلى، من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار. أكر وأفر، في مبارزة سريعة، متصلة، منتظمة، واقفاً على صهوة جوادي طوراً وجالساً طوراً. أهبط من الفرس خفيفاً ثم أقفز فأعتليه برشاقة صقر، وأثناء كل ذلك يتطاير الفارس التركي الملثم بزيه العسكري الأخضر أشلاء فأزعق زعيق المنتصرين وأقهقه قهقهة الفائزين، جباراً، عزيمتي لا تلين.
أربط أغصان السدر اليانعة إلي حبل وأحزم سيقان النال، التي تساقطت جراء ضراوة قتالي، في حزمتين كبيرتين أحملهما على ظهر الجواد. أقفز على الجواد المحمل بالنال فنمشي الهوينا إلي البلدة وقد غطسنا في دوامة الغبار الكثيفة التي يثيرها السدر الذي نسحبه خلفنا.
عند مشارف البلدة ستلتقيني فتينا. تهتف:
ـ هاجو، يا للمقاتل المسكين.
تراني، أشعث أغبر، لا أزال غارقاً في جبروت نزالي، قد غطى زبد الهياج شفتي فتصيح:
ـ يا للصنديد.
بمنديل دمور تزيل الدرن عن وجهي وتمسح الزبد عن فمي. تسأل:
ـ إلي متى تتوقف عن أحلامك؟ إلى متى؟
أجدها أمامي، عيناها تغصان بحبي. الجواد ملتفت ناحيتنا يحدّجنا، وأشلاء السدر والنال مكومة حولنا، سآخذها بين ذراعي، وأنا في كامل عدة الحرب. ستنتفض كعصفورة في أحضاني فأجذبها إليّ بشدة محارب أريب وأستغرق في تقبيلها ثم أطلقها فتستنشق الهواء بعمق تسترد أنفاسها قبل أن تطيح متهالكة تحت قدمي. تنتصب ثم تنفلت راكضة تجاه الخلوة في طرف البلدة.
اعتلى الجواد وأمضي متقدماً أجر السدر وأتفخذ النال يغمرني الغبار الذي تثيره عودتي العاصفة. من بعيد، من تحت كتاحتي، أستطيع تمييز لاري تعدو جهتي، نظيفة، نقية، حديثة عهد بالغسل والجلي.
ستنادي:
ـ مسكين، قالت فتينا إنك غارق في الأتربة.
أقول:
ـ أجل، غارق فيها، قد عاركت وبارزت وطاعنت.
ـ واضح أنك قد فعلت، مسكين.
ـ مسكين؟ بل قولي أني مارد.
أهبط، لا أزال مهتاجاً، مختالاً فتتراجع لاري. تصيح:
ـ قف عندك، يا معتوه.
سأتقدم ناحيتها فتولي مهرولة. أعدو خلفها قد نسيت حبل كومة السدر المربوط علي ساعدي فأسقط أرضاً مثيراً عاصفة ترابية جديدة. أنظر إلى الجواد فأراه يحدق ناحيتي يهز عنقه، يحمحم، يكتم ضحكة قبل أن يصهل مطلقاً العنان لضحكته الصادرة من القلب.
8
انغمست الفتيات بأعمال المزرعة فما لبث الحنين إليّ وإلي أقاصيصي أن ساور كاقو، وما لبثت الأشواق إلي أعنابها أن غمرتها. شرعت الغلظة تجتاح صوت لاري أما أصابعها فقد اخشوشنت فما عادت رخصة، طيّعة كالعهد بها إن وقعت الربابة أو ضربت الطبول وفتينا أمست لا تطيق الرقص وغدت أقل ميلاً إلى التأمل وإلقاء الطرائف وابتداع الغوايات.
يا كاقو، أسريت خلف جبال موية، تسلقت الصخور واقتحمت الأعناب، سعيداً بالسفر إلي نواحي المسرة في باو، الرصيرص والكرمك. بالطريق أجريت حساباً للمسافات بين المدن والأرياف وراقبت الأشجار والنباتات والزروع وفحصت التربة والأحجار. ستشكل معلوماتي قاعدة ننطلق منها إذا بدأنا مشاريع مد الطرق البرية وسكك الحديد بعد أن تضع حرب التحرير أوزارها.
خلف الجبال يتضاءل سلطان فكي هارون، تمتد الفلوات وتجرى النهيرات، تتكاثف غويبات الشجر وتصطف أسراب الطيور. يصطحبني نقائي فأسافر مشرق الروح، خفيف البدن، مستبشراً بدنو خلاصي. في السهول الطينية بالصعيد الأعلى أبصر على بعد فراسخ رياحاً منطلقة؛ دوامة نحيلة تصل الأرض بالسماء عمودياً، تتجه ناحيتي راكضة، لا تلوي على شيء. أهبط من جوادي العربي، المعالي وأنتصب شامخاً في عراقي الدمور وسروال البفتة السمني وصديري الكتان الأزرق اللامع، فخم العمامة، نعلا المركوب الفاشري جديدان لامعان، سوط العنج، الذي أهدتنيه فتينا، مقبضه منمنم بسيور الجلد الملون وغمد سكين دان حياتو، المنمنم هو الآخر، يبرز من تحت كم ذراعي الأيسر. بالجملة هبطت من جوادي ناضراً، فاتناً، ساحراً، أنتظر الإعصار. يقترب الإعصار فيلوح طيف على ناقة ما ألبث أن أميز فيه الرضية، تسعى تدركني رغم وعثاء الهجرة ومرارة القتال.
في حربها وأسفارها الرضية أحياناً غيرها التي تجيئنا باللبايتور إن حلت الهدنة بالخريف. هاهي تنبعث منها رائحة دواب نفاذة، حتى أنني حين حملتها أنزلها من ظهر الناقة تخيلت لبعض الوقت وهي في حضني أنني قد أخطأت هدفي فاحتضنت الناقة. وحين أزالت لثامها انكشف وجهها مجللاً برماد القنابل وسناج البارود. عيناها حمراوان، تراكم بهما القذى، سد المخاط الأخضر منخريها، وبدت أسنانها، إذ ابتسمت تحييني، وسخة، مصفرة. نظرت إلي نفسي، أنا، هاجو المغسول، المنقى، الرافل في الدمور والكتان والنعيم، فخجلت لحالي حتى سال عرقي نتناً كالخرأ من فرط حيائي.
الرضية في عجلة من أمرها، فلا وقت للطف ولا مجال للمزاح. صاحت:
ـ تشقلب، امش علي يديك، رجّف عضلاتك، اقفز قفزك القديم وأزعق وأهدر.
أضع سكين دان حياتو على ظهر الناقة، أنزع عمامتي، أخلع لبس جبال موية وارمي نعليّ. كما أمرت، أتقلب وأتقافز وأرجّف عضلاتي عارياً، زاعقاً، هادراً.
ـ عجيب. لا تزال فظيعاً.
تهتف الرضية. ثم تقول:
ـ المعارك تشتعل والقتال يحمى.
تتمخط بأصابع يسراها وتنفض مخاطها الأخضر الكثيف فيصيب صديريّ الأزرق اللامع. أنحني أتناول عراقي الدمور وأدفعه إليها فتأخذه، ودون تردد، تنظف منخريها وتزيل القذى عن عينيها. أنظر إلي سروال البفتة فأراه محشوراً بين فكي الناقة الجائعة، تلوكه وقد اكتظ الزبد بزاويتي فمها وسالت ريالتها فبلغت الحذاء الفاشري الأحمر، الثمين، ثم تنهض وترمي سروالي بين وركيها وتطلق العنان لبولها الأصفر بقوامه الغليظ.
ترمي الرضية بندقيتها ناحيتي صارخة:
ـ خذ!
أفرد ذراعي ماداً يديّ فألتقط البندقية من دبشقها، محتضناً إياها، مصوباً لها، متخذاً وضع القتال.
تقول:
ـ حسن. رائع.
تشير إلي السماء فأنظر. تمر رهوة وحيدة، قد ضلت سربها، من الشرق إلي الغرب. أطلق طلقة. تمر قطاة من الشمال إلي الجنوب. أسدد ناحيتها. تأتي جرولة، يمامة. أصوب، أوجه البندقية بخفة من جهة إلي جهة، أصيبها كلها في غمضة عين. تهتف الرضية:
ـ أوه... أوه.... غير معقول.
أظل ساكناً، لا أتحدث. تستل مدية دان حياتو من غمدها. تهزها وترقصها يمنة ويسرة. تقول:
ـ هذه مدية نادرة.
تقلّبها بين يديها فتفحصها وتقول:
ـ يعود تأريخها إلي مائتي سنة على الأقل.
تختبر حدها ومقبضها وجفيرها بأناة. سعيدة بالمدية، تقول كأنها تحادث المدية:
ـ مجلوبة من أقاصي الغرب.
تثير معارفها دهشتي لكنني أظل صامتاً، ساكناً. تسألني:
ـ هل تجيد المبارزة بالسكاكين؟
أهز رأسي أن نعم. تمد إليّ المدية فأستعرض بها مهارتي وحنكتي. تقول:
ـ جميل، بديع. هيا بنا إذن.
صامتا، أرتدي ملابسي الملوثة. نمتطي ركائبنا وننقلب راجعين متجهين صوب جبهة الهوي الوسطى حيث تستعر المعارك.
* *
في غيبتي آب الملازم أول من متاهته بدغل البطانة الشرقي وألتحق على الفور بالمقاتلين. علي غير العادة، بدا في ميدان المعركة نحيفاً، فارعاً واكتست بشرته سوادا غامقاً فغدا مشرقاً وضاحاً. رأيته يتزيّا بذات قميص الدمور والسروال اللذين لبسهما يوم معاشرات النهر؛ القميص بياقته الختمية الصغيرة ضيقة الخناق وأزرار الصدف السمنية الغبشاء والسروال الفضفاض من أعلى الذي يضيق من الركبتين فأسفل ليلتصق بالساقين، يبرز قوتهما وامتلاءهما.
أما الرضية فقد تغيّرت آن حلولنا بالميدان إذ لم يبق من دنسها وقذاها شئ وتوهجت وجلت وبانت فتنتها المشرقية القديمة.
وصفت تبدل الحال للرضية فسألت:
ـ أالملازم نحيف؟
أجبت:
ـ أجل.
غطّت الحيرة وجهها.
ـ أهو طويل، مشرق وضاح؟
ـ أجل.
قطّبت ورأيت الظنون تظلل عينيها. دلكت عينيّ بقبضتيّ ورفعت رجلي اليمنى ثم اليسرى فهززتهما بحركة سريعة متصلة، أحفز جريان الدم فيهما وأزيل عنهما خدرهما. هاهو العرج يجتاح ساقي اليمنى وهاهما عيناي تعمشان من جديد وها أنا ذا أعود سيرتي الأولى، خائفاً، مرتعداًً، عليلاً. فوق جواده، يتفلّت الملازم راكضاً كالسهم بين مقاتليه يستحثهم، يصول ويجول وأنا لا صولة ولا جولة، أصابتني الوجفة ورمدت عيناي، خارت إرادتي وزاغ بصري.
بعدها، في الخطوط الأمامية، تراءى لي الملازم مترجلاً جواده. يمضي الجواد بعيداً فيقف قي ظل سيالة يرعي الأعشاب الجافة. متعجلاً، يتقدم صبي تاشري عارياً إلا من إزار، مفتول الجسد يحمل دانة فيدفعها بخزينة مدفع الهاوتزر. يزعق الملازم:
ـ نار.
تنطلق الدانة وينتشر دويها. يصيح الملازم:
ـ نار.
فيتكرر الانطلاق والدوي. وأثناء ذلك كله تتواتر هواجسي ويتكاثف فزعي. ثم ينأي الزعيق وتخفت الانفجارات. أغلق جفنيّ وأفتحهما فأرى الرضية غاضبة تحدّجني من أعلى إلى أسفل. تجلب ماء بارداً تريقه على وجهي فأصدر حشرجة وسعالاً. تركل مؤخرتي فأتجشأ جشاء وتزيط أمعائي زياطاً. تبصق عليّ وتكرر ركلي قبلاً ودبرا فأفرغ معدتي لتنتن رائحة برازي الآفاق. أسمعها:
ـ تف... تف... تف.
ثم:
ـ إف... إفي إفيييييييييييييي.
تأمر:
ـ أحملوا الملعون، القذر إلي الخطوط الخلفية.
يسحبونني جراً من قدمي بينما يترامى إليّ صوت الرشاشات قصيّاً، واهناً. وإذ أسحب بعيداً عن الميدان أسترد قليلاً، قليلاً بصري، إرادتي، سمعي. تأتي الرضية هرولة، هي ذاتها الرضية المحاربة تفوح رائحتها الكريهة، يلوثها السناج ويتلبك القذى في عينيها. تنظر إليّ ممدّداً تحت شجرة طلح، أنفاسيّ تعلو وتهبط، عينايّ تتوهجان وخدّايّ يتوردان.
* *
جيء بجوادي يصهل. اقتادته الرضية ساخطة ناحية شجرتي. توقف الجواد على مبعدة مني ثم رفع رجله اليمنى وصهل فرأيت حافره مقلماً تزينه حدوة جديدة لامعة. صهل الجواد وتلفت ينظر ناحيتي ثم هزّ رأسه أعلى وأسفل، متوتّراً مهتاجاً. جوادي من سلالة محاربة. ينحدر من عشرة أجيال من خيول الحرب المدرّبة. هو بالذات تم تدريبه على القتال بضواحي الجبلين، من أعمال بحر أبيض. بعيني المتوهجتين وخدي المتوردين لا أمل لجوادي بخوض معارك من أي نوع. أكيد رأى جواد الملازم أول في عدوه الملتهب يتنقل بين قطاعات المقاتلين فمنى نفسه بمصير مماثل.
أجل، وجدتني أستنشق رياح الخريف الحبلى بالمطر فتتخلل جسدي العافية. أحس هبوبها في أعضائي؛ أصابع قدميّ وفخذيّ وسرّتي ومنخريّ، وأحسها تداعب شعري الطريّ، المنسدل علي كتفيّ كحزمة من سيقان القمح الغضة وتمضي عميقاً حتى فروة رأسي. وحيداً، تحت شجرتي، يتوالى توارد القعقعة والدوي إلي أذنيّ. يتقدم المقاتلون فينأى القتال وجوادي يهز رأسه ويصهل ويحدق جهة العراك الطاحن. يغشاني النعاس وأنام نوماً خفيفاً وحين أفيق ألفي جوادي يرعى ساكناً، يذب بذيله الهوام، قد هجر صهيله وهدأت حركة عنقه. أهب واقفاً، نشطاً، قوياً، مثل ثور. أثني يديّ عند الكوعين فأوتر عضلات ساعديّ. أخلع ملابسي جميعها وأقف عارياً وأشد عضلات جسدي كلها فألفيها كالعهد بها متينة، صلبة.
أزعق فيمضي زعيقي مجلجلاً يغمر البطاح. أنحني إلي الأمام وإلي الخلف، مقوساً جسدي. أقفز في الهواء متشقلباً قبلاً ودبراً قفزات سريعة متتابعة. أرفع رجلي اليمنى أعليها فوق رأسي ثم أرفع اليسرى. أمسك رأسي بقبضتي فأطقطق فقارات عنقي ذات اليمين وذات اليسار ثم أمشط بأصابعي شعري الطويل المتهدل على كتفيّ. أنظر إلي عضلات بطني، صدري، كتفيّ، ظهري، وعجزي فأجدها بارزة، فاتكة.
يا كاقو، مضيت إلي جوادي أعزيه. قلت:
ـ يا حبيبي، لن يمضي علينا وقت طويل قبل أن نحارب.
رفع الجواد رأسه مقلعاً عن الرعي. نظر إلي وجهي. رأيت عينيه في عيني.
ـ تتذكر صباحات الجبلين الدافئة؟ قالوا أنك قفزت أربعة أذرع دفعة واحدة. كنت تزمجر مثل ليث.
الجواد ما برح يحدّق في عيني. صهل صهيلاً رفيقاً.
ـ في حلبة السباق تركت كل الخيول خلفك. سعدت إذ خلل الخيّال عرفك وربت على عنقك وصدرك.
لعق عينيّ وخديّ وشفتيّ. أحسست بلسانه رطيباً، خشناً فوق وجهي.
ـ لن يأتي الشتاء القادم إلا وقد شاركنا في حرب التحرير.
رأيته يشيح بوجهه عني. خفض عنقه وأخذ يرعى العشب من جديد.
9
جاء الشتاء بارداً عام جلوا قلب ماريا ودشّنوها لاري. ذاك الشتاء غدا واضحاً أن فكي هارون يهيئ الجميع لمعجزة من نوع ما. أنظر إليه وقد بلغ عامه الأربعين فأرى وجهه يزدان بوسامة جديدة؛ انمحت تجاعيد أفقية كانت قد بدأت تنحفر علي جبينه، واستطال حاجباه فاقترنا وتكاثفا وغدت أهدابه الكحيلة أطول وأغزر بينما حورت عيناه ودقّ أنفه ورقت شفتاه. شرعت قامته في الاعتدال واستقام جيده وخفت حركته واتسعت خطاه. ثم ازدادت ساعات اعتكافه وخلواته وطلع بكلام أطرف وأحلى، وحديث أبلغ وأطلى. وعوضّاً عن فضح الغيب وكشف الحجب، غدا يصطنع الأحوال ويختلق المصائر.
فراخ النعام التي فقست خريف أول رشدت قبيل أربعين فكي هارون. آخذ ماريا إلي المزرعة، يهرع إلينا سرب النعام فيلتف حولنا. تشق ماريا طريقها بين النعام وتقف بعيداً تصيح:
ـ كر... كر...كر، ديا... بيو... أكو... هدو... بيّت.
يخفض النعام الأكبر سناً أعناقه ويصدر كركرة عالية بينما يبقى نعام الخريف أعناقه مرفوعة ويصدر كريراً أغنّاً حالما يهدأ كباره.
تردد ماريا الصياح:
ـ كر... كر... كر، شدة... بكوي... تكوس... تارة... قوما.
ينفضّ كبار النعام فارداً أجنحته، مكركراً، مزمجراً.
تـنادى ماريا صغار النعام.
ـ كت... كت... كت.
فيلتف السرب بنعاماته المائة حولها. ترفع لاري يمناها وتخفضها ثم يسراها وتخفضها، تقصي رأسها وتدنيه وتنقرط بلسانها وشفتيها، مطرقعة أصابعها، مصفقة كفيها. يشرع النعام يعدو راقصاً حولنا في دائرة تامة، محكمة الإغلاق. ثم قليلاً، قليلاً يسكن توقيع لاري وتهدأ حركتها بينما يستمر عدو النعام، إذ صار إيقاع لاري وإشاراتها جزء من تمام دائرته المنطلقة. تطالع النعام في ركضه الراقص فترى في حركته إشارات لاري وتسمع في وقع أخفافه إيقاعاتها.
حين بسطت ذراعي في حضرة رقص النعام وانزلقت لاري في أحضاني وأدنت وجهها مني وفرجت شفتيها وبدأ سواد عينيها يضيع، رأيت فكي هارون والفتيات مقبلين. دفعتها عني برفق، فألفيتها خائرة القوى، مكدودة الإرادة. وسّدت ظهرها يدي ومدّدتها في منتصف دائرة النعام، مغمضة العينين، فاغرة الفم. وقف فكي هارون والفتيات خارج دائرة الرقص. يخطو فكي هارون جهة الدائرة الراقصة وفي لحظة تقع بين طرقعة إصبع ونقرطة لسان يعبر تمام الدائرة إلي منتصفها. يرفع لاري ويحملها بين ذراعيه ثم يغمز لي بعينيه الساحرتين لأتبعهما فيفلت بنا بين طرقعة ونقرطة إلي خارج الدائرة. يغمز إليّ أن خذ ويضع ماريا بفمها الفاغر وجفنيها المغمضين في أحضاني. أجذبها إليّ فيمتزج جسدها الدافئ في روحي حتى أحس ببدني يخف وقدمي تتواثبان فأقلع محلقاً ذراعاً أو ذراعين بينما الفتيات يوقعن، ونعام الخريف في رقصه الدائري الراكض.
* *
هل كان علي انتظار رقص النعام لأدرك أن فكي هارون يبارك هوانا؟ مزاجه الروحاني الذي ينتمي إليتعاليم تخصه هو وحده مبثوث في ثنايا مخطوطاته وأشعاره الشفهية على حد سواء. في أحيان كثيرة تمتزج عنده المحبة في نقائها الغيبي الصافي بالعشق بوصفه الإنساني الحي؛ وشوشة الهمس، وطراوة اللّمس واندلاق الرضاب وانبثاق الشهقة. تعابير بأكملها وردت في أشعاره انحفرت في ذاكرتي إلي الأبد.
"سيدتي، أيها الماء الذي أعطي والذي أخذ.
الرشفة، التمرة، السكرة، الجمرة،"
"سكبت محبتي على صلابة صدرك
دلقت مائي جهة ظمئك
يا سيدة الجلال، قصدي وعلوي
بيني وبينك الصحبة والصعقة،
السجدة، الدفقة، اللعقة"
"عارياً، أطرح زندي، أرفع كفي، إلهي
سرّتي وهاجة، لمّاعة، تقر بفضلك
وشهوتي قائمة، والغة، صاعدة، هابطة
وفخذاي، مفتولان مشدودان،
يشهدان بفيضك
يا من برى لساني من تراب اللذة
ومنخري من أديم الكرفة"
هل ترك لي الباب موارباً لألج؟ في السابق لم أكن أحمل أحاديثه عن عبثية الأقدار على محمل الجد، فقد ظننت أن تلك واحدة من الطرق العديدة التي يحاول بها استبقائي أسير نبوءاته التي لا تكذب، أو ربما كانت وسيلة لإلهائي عن أسفاري لأظل موضوعاً ثابتاً لتجاريبه في الغسل والتجلية. يوم رقص النعام ابتسم سعيداً إذ سقطت لاري فاقدة الحراك بين ذراعي. طوقتها وأدنيت وجهها من وجهي، جوارحها من جوارحي، وحين نظرت إليه باغته يطرف طرفاً متصلاً، قد اتسعت حدقتاه ينتظر رؤيتي مقبلاً عليها ثم شهدته، يغمز ويلمز، تتسع منخراه وتضيق، يقطب جبينه ويبسطه، يناديني أن هلم. فكي هارون يومها نصب فخاخه سعيداً إذ وقعنا، ووتّر قوسه، قد شملته الغبطة. رأيته ينهار جالساً، قد سر فرضي عني. يرفع ساقيه، يقهقه، يصفّق، يلهث، يلقي جمله الأثيرة هائجاً، مائجاً:
ـ ما شاء الله، هاجو، فليباركك الله.
فكي هارون، في احتفائه الدائم بالحديث أرسل أدعيته، ثم ربض ينصت. قلت:
ـ عا... عا...عا.
ترامى إليّ وقع قهقهاته قادمًا من أسفل سافلين:
ـ ها...ها...ها... هـــــــا.
كاقو لم تكلمني لأيام متوالية بعدها. خامسة الحادثة جاءتني تهذي، قالت:
"تعلم أن الفصول تمضي، ليس هذا آخر خريف. مائة نعامة حلوة بالفعل، لكنها مجنونة. بالطبع سيأتي نعام آخر. لكن هب أن لاري لا وقّعت ولا صفّقت، هل سيهمد الرقص وتسكن الحركة إلي أبد الآبدين؟ فكي هارون قال أن رقص النعام هذا الشتاء قد غدا وصفاً لمزرعتنا، سترثه أجيال الأسراب صاغراً عن كابر، هاجو."
أما فتينا فقد ركنت إلي حزنها وغضبها. إن كان عليّ خشية ما ستعود به عليّ مقبلات أيامي، فيجب إذن أن أضع حساباً خاصاً لفتينا. فكي هارون، في قداسته المتجددة، يملك مفاتيح نجاتي، ستشملني عنايته وسأغدو وأروح في حفظه وصونه.
* *
هاهو فكي هارون بملامحه الجديدة يقرر مستقبل وجودي بدأب ماكر. في الظاهر، يبدو مستقبلي ملك يميني، لكن زمام أمري، شئت أم أبيت، هو في الواقع بين يديه. في ظل الضحى عند الخلوة قلت لفكي هارون:
ـ ألا تخشى علي أن أموت بعاري؟
سأل:
ـ أي عار، يا ولد؟
ـ أن أقضي مثل عير، لا احتراب ولا اقتتال.
ـ ستحارب هاجو، ستقاتل.
كنت عنيداً ذلك الضحى فألححت:
ـ متى؟ كيف؟
ـ تدري أن الحرب لن تتوقف. ستظل مشتعلة لأجيال. كيف؟ لن تمضي شهور إلا وقد غدوت نقيّاً، جليّاً.
ـ الحرب ستشتعل لأجيال؟
أصدقكم القول أنني أحسست بالسعادة تغمرني.
ـ نعم أجيال. لن تنتهي إلا لتبدأ.
ظننت أن فكي هارون ببركته الأربعينية الجديدة سيبقي القتال دامياً من أجلي فأكبرت محبته إيّاي. أوشكت أن أشكر له عنايته بمصيري. قلت:
ـ أخشى ما أخشاه أن تمضي الأيام فتنفد مواهبي وتهن قواي.
عقّب فكي هارون ينفي:
ـ لن تمضي الأيام ولن تنفد مواهبك أو تهن قواك.
وجدتني انتصب واقفاً دون قصد مني فأشد عضلاتي، اقفز، أصرخ. أثوب إلي رشدي فأجد الفتيات ملتفات حولي يتضاحكن. فكي هارون ضحك حتى بانت نواجذه وهذا لا يحدث له كثيراً. قال:
ـ حتى تنقى، يمكنك أن توالي شن الحرب على أشجار السدر.
فتينا قالت:
ـ صحيح، السدر.
لاري بعد حادثة النعام أصبحت أميل إلي صرف انتباهي عن حرب التحرير، قالت:
ـ أو يمكننا تنظيم حفلات موسيقي أكثر. لماذا العجلة على كل حال، فالحرب لن تضع أوزارها.
فتينا وكاقو صاحتا بصوت واحد:
ـ لا لن تضع أوزارها.
فكي هارون عهد الأمر برمته إلي الفتيات واستغرق يكتب. قالت كاقو:
ـ يمكننا أن نروي قصصاً.
فتينا قالت:
ـ سنشهد أسراب نعام جديدة تبلغ رشدها.
ـ وسنشهد أنحاء أخرى من الجبال تينع بالأعناب.
قالت كاقو.
ـ ونسمع إيقاعات فريدة، سنجلب طبول من فشودة، وازا من الكرمك وربابات من القرير.
أضافت لاري.
قلت لهن:
ـ المهم هو القتال!
لاري لم تسمع شكايتي فاستطردت:
ـ بالمبو من مريدي ونوبات من أمدرمان.
كاقو قالت:
ـ تذكّر أنبذتنا التي تعتّقت.
بلعت ريقها واستطردت:
ـ وقصصنا التي ما اكتملت.
فتينا هتفت مستاءة:
ـ القتال ... القتال! تنوي إراقة دمائنا، هاجو.
ثم أشارت إلي مديتها المتدلية أسفل خصرها مغمدة في قرابها فأخذتني الرجفة. من ينقذني من فتينا؟ من؟ تقدمت مني خلسة فهمزتني في خصري. زعقت وتشقلبت في الهواء استقبالاً واستدباراً. حططت فألفيت الفتيات يقهقهن وفكي هارون لا يزال في شغل عنّا. لاري سألتني:
ـ هل نسيت مزرعتنا؟ ثم لنفترض أن الحرب وضعت أوزارها أو أن هدنة قد اتفق عليها، من سيقيم معمل الدمور؟
كاقو قالت:
ـ إلي من تدعنا وتذهب، هاجو؟
فتينا قالت:
ـ أجل إلي من؟
أما لاري فقد كانت أكثر تحديداً:
ـ إلي من تدعني، إلي من؟ قل لي إلي من؟
10
عادت عليّ سفرتي خلف الجبال بفوائد قليلة، لكنها أزالت الغموض عن بعض الخفايا. اتقدت ذاكرتي من جديد وتأكد أن لعنتي العريقة لا زالت تتمكن من وجداني وأن الملازم أول لا زال سادراً في غيّه القديم؛ علاقته المشبوهة بالرضية وحيله الماكرة للإيقاع بي حتى لو كلفه ذلك الحياة بوجهين أو خوض الحروب بجسد فارع، تليع ثم العودة لقضاء هدنات الخريف بقامة قزم، بشع مدور.
يا كاقو، اكتملت غرفتي الجديدة في اللبايتور؛ واسعة، عالية لها نافذتان كبيرتان من جهة الشمال وأخريان من الجنوب إضافة إلي باب السنط الذي يطل على الشرق. بني سور جالوص شاهق حول الغرفة مما يعيق بصبصة المتطفلين لكنه لن يحول دون دخول برمة وجرائها التي غدت كلاباً كبيرة تفوق أمها حجماً وتنبح أكثر وأعلى منها.
ظلت الرضية تحاول بشتى الوسائل إزالة آثار الرمد الذي أصابها أثناء القتال فلم تفلح. قالت أنها لن تسمح لي برؤية عينيها ما لم تشفيا فظلت بعيدة عني أسبوعين كاملين لكنها في النهاية رضخت لإلحاحي المتواصل الذي كانت برمة تقوم بنقله إليها واشترطت أن تأتي لزياراتي بعد حلول الظلام. لم يكن الرمد هو المشكلة الوحيدة، فقد شممت روائح أهوال معارك الهوي الطاحنة تنبعث نفاذةً من الرضية. وقد أنفقنا وقتاً طويلاً تحت ستار الظلمة نحاول إزالتها، إذ اتفقنا أن رائحة البارود وعرق الكر والفر ستعيق سلاسة هوانا. قمت بفرك الرضية بدلكة فتريتة معطرة ثم حفرت حفرة دخان في الحوش وبعثت برمة والجراء لتسرق حطب طلح فتدخنت الرضية ثم نثرت علي جسدها نصف لتر من طيب الخمرة البلدي الأصلي وحرقنا بخور صندل هندي مختوم إلا أن رائحة الحرب ظلت طاغية، عالقة بالغرفة ومتشبثة بجسد الرضية.
أشارت عليّ أن أغطي منخري بشريط لاصق لأتجنب صنّة القتال المنبعثة منها. ورغم أن الوضع أمسى أفضل، فقد شكوت إليها من أنني أحتاج إلى حاسة الشم إذا كنت أرجو بلوغ درجة عالية من المتعة. بدأ صبرها ينفذ، فنهضت ساخطة وأزالت الشريط اللاصق ومست إصبعها بعطر خمرة وأدخلته في منخري الأيمن ثم مسته ثانية وأدخلته في الأيسر وأعادت إغلاق أنفي.
حقق الطيب بعض التقدم في حالتي ففاضت رغبتي وتوتر جسدي، تحسست الشريط اللاصق فأمسكت طرفه برفق ونزعته. ما أن حررت أنفي حتى استقبلني عبير الرضية الأنثوي الفائح فمددت يدي وأضأت المصباح وبحلقت ناحية وجهها ففارت حماستي إذ رأيت عينيها قد برأتا، لا يسقمهما إلا الهوى، حالمتين، بهيتين. في أوج حبنا جاءني نباح الكلاب قصياً، منغّماً. من بعيد، ترامى إليّ نباح برمة مميّزاً وأشد احتفاء بأرج حبنا المنتشر والذي يوحي بضراوة هوانا ويذكر بمجوننا الذي عهدته الكلبة في ماضي أيامنا، أثناء هدنات الخريف المشرقة المسالمة. في ذروة نشوتها، تصرخ الرضية فتثير زمجرة الكلاب ثم تنسحب الكلاب فزعة وتتحول الزمجرة إلي عواء خافت، نائي. بين يدي تسكن أعضاء الرضية، تقرب وجهها مني فتجذب نفساً عميقاً ثم تطيح على الفراش فلا تلبث أن تنام، نفسها يعلو ويهبط منتظماً، متسقاً بينما تزين وجهها ابتسامة صغيرة، خلابة.
* *
حسين الطاهر والملازم أول لم يفترقا على مدى أيام الهدنة. ليس مهماً لدي من يكون الملازم؛ حارب أم لم يحارب هذا لا يؤهله للتقدم عليّ بأي حال من الأحوال. أنا حاولت وسأظل أحاول تحرير بلدي، وإذا كانت الأمور لا تمضي بالشكل الذي يرجى لها فهذه ليست مشكلتي. يمكن لحسين الطاهر تفضيل الملازم عليّ أو حتى التصور بأنني لا أصلح قائداً لكتيبة أو كتيبتين؛ هذا شأن يخصه. من ناحيتي أعتقد أنني مهيأ للقيام بواجباتي متي ما سنحت الفرصة وأنني، إذا استثنينا دائي اللعين، أتفوق على الملازم في كل الصفات. حسين الطاهر بطل ما في ذلك شك، لكنه بطل بأجندة خاصة. لقد لاحقت المعارك على طول البلاد وعرضها، وقد كان حسين في كل الأحوال مقاتلاً صنديداً، لا يشق له غبار وأثبت دائماً أنه عسكري ملهم وواضع خطط حربية لا يضاهى. بالمقابل فلحسين نقاط ضعفه التي لا يمكن التغافل عنها.
مثلاً، هو كثيراً ما يسقط ضحية للإطراء ويمكنه تأجيل مهمة ملحة في سبيل أن يستمع لشخص يعدد مواهبه وبطولاته في العلن. ثم إن علاقته بالملازم لا تخلو من نرجسية. فالملازم، إذا تجاوزنا عن تشابه ملامحهما المفرط بميادين القتال، وإلي حد ما بعد عودتهما لقضاء الهدنة، لا يمثل أي تهديد لمركز حسين العسكري. فهو، أي الملازم لا ينتمي إلي اللبايتور مما لا يعطيه أي أمل لمنافسة حسين في قيادة مقاتلي هذه الجهة. كما يسود الظن على نطاق واسع أن حسين يريد الملازم شريكاً للرضية.
فيما يخص الملازم فأنا على يقين أنه ليس منافساً خطيراً لي. وباستثناء أوبته الأسطورية من أدغال الشرق وأدائه المشهود في معارك الهوي، لا تميز الملازم أي صفات تجعله ينافسني للفوز بالقيادة أو بالرضية. طبعاً، تظل عاهتي عائقاً عليّ تخطيه. سأعتمد في ذلك على بركات فكي هارون الأربعينية الجديدة، يا لاري، وسأحاول ما استطعت رصد المسالك الخفية التي تسللت عبرها الأدواء إلي قلبي بعد قطعي شوطاً بعيداً في الشفاء منها مما سيعين فكي هارون على تطبيبي بسرعة ويزيد قناعته بضرورة سفري لألتحق بالقتال الناشب.
تظل قدرات الملازم الحربائية خديعة ينبغي التحوّط لها. الرضية تعتقد أن ما يحققه من انجازات على الصعيد العسكري يعود فضله بشكل أساسي لجسده المدور على طريقة نابليون، أو آريل شارون إذا أردنا مقياساً من حقب تاريخية مظلمة. تقول إنها لا تعلم إن كانت الشطارة العسكرية تستلزم جسداً مقولباً بتلك الطريقة، لكنها مستيقنة أن هذا النوع من الذكور تعوزه الهمة تماماً وأنه مثير للقرف كشريك جنسي. "معاشرات النهر" تمضي الرضية قائلة "ليست لها علاقة بكرامات الملازم أول. لابد أنك، يا هاجو، كنت تعاني نكسات صحية مؤثّرة ذلك اليوم. في كافة أشكال غرامه، الملازم هو نفسه الملازم، داخل النهر أو خارجه، لا فرق. للحرب ضروراتها كما تعلم، فيها يمكنك النوم واقفاً، الإفطار على صرصار أو التغوط على ملابسك أو معاشرة خنزير. لا مجال للاختيار، يا حبيبي. ثم لماذا لا تصدق رواية فكي هارون عن تلك الرحلة النهرية اللعينة؟ صدقها. عليك تصديق رواية فكي هارون. كيف ستشفى إن كنت تفتقد الثقة بطبيبك إلي هذا الحد، هاجو؟ "
يا لاري، أجلس هكذا أقلب الرأي وأجري الحسابات. الأيام تتصرم وأنا الأسير الأبدي لطامة لا مفر منها ولا مهرب. ورغم كل شئ، لن تلين لي قناة أو تخور عزيمة. طالما طلع لي نفس وهبط، فسأحيا حياتي بالطريقة التي أعتقد أنها تناسبني، وسأظل أخوض معاركي دون كلل أو ملل.
* *
يا لاري، كم كان ذلك مشوقاً. كان بمقدوري وقتها التنبؤ بنوايا الرضية وأستطيع رواية أحداث جرت لها وهي بعض صبية صغيرة دون شهادتي تلك الأحداث. يوم أوثقنا الملازم أول على الناقة، حرصت قبل خروجي على التزيّ بلباس يبرز فتنتي ورجولتي، عراقي ساكوبيس يشف عن عضلات صدري بشعاثته الجعداء وبطنيّ الضامرة المسبوكة ويكشف ساعديّ القويين وتلوح تحت كمي الأيسر مديتي، بقرابها المنمنم، المصنوعة في ابجلفة حيث يقيم أمهر حدادي المدى بالبطانة، وسروال يغطي فخذي وينسدل إلي أسفل الركبتين قليلاً، فتبين متانة ساقيّ واعتدال خلقتهما وضخامة قدميّ، في زوج الصندل بسيوره الجلدية الرقيقة، وطول الأصابع واستدارة الأظافر السمنية، الملساء التي تتلاصف مثل صديفات صقيلة. أيضاً حرصت على اعتمار طاقية حريرية زرقاء، ثبتّها على رأسي مائلة إلي اليمين ميلاً محسوباً، موزوناً، يتطاقم معها صديري ضيق، فاتح من الأمام، أزرق هو الآخر. قبل حادثة يوم الصيد، كان مزاج الرضية ينبئ بأنها ضاقت ذرعاً بالملازم أول، لذا أخذت معي حبال السلب وجعلتها في متناول يدي، بالجراب يمين سرج الجواد. كيف لا يثير الملازم ضيقها؟ بل كيف لا يثير ضيق أي شخص وهو متكور هكذا ويتدحرج ماشياً كغوريلا ولا يمسك فمه عن البصاق، باعثاً ابتسامات واسعة، بلهاء ليس لها معنى. لو كان الأمر بيدي لأوثقته على ظهر تيتل لا فوق ناقة أليفة، طيّعة.
يا لاري، اقترحت على الرضية بالفعل وسائل أكثر فعالية للتخلص من الملازم، كأن نهمز فرسه وهي راكضة فتجفل وتطيحه أو نتصنع فنخطئ الهدف ونصيبه برصاصة أو حتى أن ننفذ فكرة التيتل، أو ربما الزرافة، المجنونة والأكثر طرافة. كنت أشك في أن الناقة التي سنوثقه عليها ستتابع ركضها داخل الغابة فتمزقه أشواك السنط الهائلة. قلت للرضية ستتوقف الناقة لو خاطبها برفق، بل ربما مدت رقبتها وفكت وثاقه إن أحسن محادثتها.
رآني الملازم على جوادي أركض خلف الرضية، فغار غيرة ظننتها قاتلة. حتى ونحن نسعى للانفراد به كانت الرضية حانقة عليه، كارهة لرؤيته يرمح خلفنا يحاول الاستحواذ عليها. كيف لا تحنق وأنا ذلك الضحى زين الشباب، وسيد العاشقين؟ في فورة غضبها، تنسى الرضية نفسها وتصرخ فيه:
ـ إلي أين أنت ذاهب؟
رأيته متمسكنّاً، يتبسّم فتبين أسنانه البارزة، الصفراء. أهمس أذكرها بجلال مسعانا:
ـ الرضية... هوس سسسس‍س‍‍س.
ـ لكن... كيف؟ لا يمكن أن أطيق هذا البشع.
تلتفت ناحيته، لا تزال تستشيط غضبا. تصيح:
ـ إلي متى تتعقبني هكذا أيها النذل؟
أهمس:
ـ أوه، الرضية، لا تفسدي علينا خطتنا.
ـ نعم صحيح.
ترد، محاولة كبح ضغينتها. تلتفت ناحيته، تنسى نفسها فتصيح:
ـ أما تكف عن ملاحقتي أيها الوغد.
ـ يا رضية، ألا تتمالكين نفسك؟
رأيتها تمد يدها ناحية طبنجتها وبلمحة البرق تستلها من قرابها وتصوب ناحية الملازم أول وتطلق رصاصة بالكاد تخطئه. تشقلب بمهارة متشبثاً بلبّاب السرج الملتف حول الفرس من جهة الصدر. نفد صبري فصحت:
ـ الرضية، أيتها الكلبة الحائل، أنت تفسدين علينا أمرنا!
أعادت لها الشتيمة رشدها. هتفت:
ـ أوه، عفواً يا حبيبي.
رأيتها تغالب مشاعر سخطها، تبلع ريقها مرة إثر مرة وتدلك وجهها وتخلل شعرها. تصطنع ابتسامة وتسحب لجام فرسها منقلبة جهة الملازم الذي شرع في التراجع جهة مخيم الصيد. تعود بصحبة الملازم كائلة له الاعتذارات. تسترضيه:
ـ إنها مجرد مزحة، يا حبيبي.
يبتسم الملازم فيبدو فمه مكتظاً بالتبغ. تهتف الرضية:
ـ إخي، أخيييييييييييي!
أحدّجها معاتباً فلا تتنازل عن تأففها واشمئزازها:
ـ إخيييييييي، قرف.
أعزي الملازم:
ـ هكذا هي الرضية كما تعلم؛ لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب!
يقول، وفمه المكتظ باللعاب يحيل كلامه إلي فأفأة وخأخأة:
ـ يا أخي أنا أفهمها فهماً خاصاً وعميقاً.
كان يقهقه وهو يحرك يده اليمنى صعوداً وهبوطاً بعد إيلاجها في الدائرة التي أقامها بأصابع كفه اليسرى بينما يردد:
ـ فهماً عميقاً، عميقاً جداً، يا سيدي!
تنقض عليه الرضية فتخبطه على رأسه بعقب الطبنجة وهي تهتف:
ـ أفّاك، كذّاب... نصّاب!
أفض النزاع برفق. تنظر الرضية إليّ، بأناقتي وفتوتي، فتظهر سيماء العزيمة على وجهها. تصوّب بصرها جهة غابة السنط الملتفة حيث ظنت أن الملازم أول سيختفي إلى الأبد.
11
ثبت لدي أن لاري وفتينا قد ارتهنتا دمي بالفعل. فكي هارون صرّح منذ زمان بعيد أنني والفتيات، ثلاثتهن، قد غدونا نهباً لتصاريف الإرادة وموضوعاً لعبثها. وقتها ظننت أن فكي هارون يختلق الذرائع كي أقع في فخاخ سحره، وما تلك إلا واحدة من وسائل كثيرة يتوسلها ليبسط سلطانه عليّ. فيما بعد أتبيّن صدق ادعاءاته، فأجد نفسي تتمازج بدقات أفئدة الفتيات وتجري منهن مجرى الدم. وهاهي الأيام تمضي وأتلفت حولي فألفي حاج هارون وقد تجاوز الأربعين يزداد سحراً على سحر بينما أمسي أنا فريسة لحكمته ورهناً لمشيئته. اكتشفت محبة لاري الهائلة للغناء ما أن حططت رحالي في جبال موية، لذا، حتى حين توسّدت ساعدي يوم رقص النعام ثم لما دفعها فكي هارون في حضني فاحتضنتها، مقشعرة بفعل الموسيقى والهوى، كنت مستيقناً أن شغفها بالغناء يبلغ ذرا ما بعدها ذرا، وأنها في هيامها بي لن تجد آفاقاً جديدة لتقتحمها. أحياناً أظن أن ذلك الهيام إذا قدر له أن يبلغ تخوماً لم يطرقها تعلقها بالموسيقى فلن تنال إلا عطب القلب وخواء الروح وإنّ هذا وإن وقع لها مرة فاغتسلت وتنقّت فقد لا تجد في نفسها رغبة لتكرار وقوعه. بدا أن كاقو قد سعدت بتفسيري للأحداث رغم تلميحي لها بأني ما برحت أجد نفسي رغم كل شئ شغوفاً بلاري. كاقو، من جهتها، تهيم ببساتين أعنابها. لكن حكاياتي، حكايات اللبايتور، تظل تمثل لها غواية لا سبيل إلى مقاومتها، وكثيراً ما تساورني الشكوك حول حقيقة مشاعرها نحوي؛ هل هي أسيرة محبتي أم أسيرة حكاياتي؟
منذ حادثة النعام تصبح لاري خدينة صعودي وهبوطي. من يومها شرعت أسرد لها وقائع معدّلة من حكايات اللبايتور التي أسردها على كاقو، فحزت بذلك على نسختين من نفس الأقاصيص. لديها تتوارد ذكريات اللبايتور بصيغة مخالفة، تأخذ طابعاً متقلباً يتناسب طرديّاً مع مزاجها الموسيقي. فأيام توقّع مقطوعات تتعلق بمرثيات لنتنا لدان حياتو مثلاً، يغلب الشجن على أقاصيصي وأيام تشدو أغاني الحصاد المرحة، السريعة الإيقاعات ألفي قصصي تتوارد بتفاصيل طريفة تخص أسعد ذكريات فتوتي. لاحقاً، عندما يشتد التنافس بين الفتيات، تطالب فتينا بنسخة تخصها من ذكريات اللبايتور فأبتكر لها حكايات هي الأخرى. ستكون قصصها طويلة، من النوع الذي يبعث على النعاس، وسيكون هدفي تخفيف غلواء غيرتها، وسأحاول بشتى مهارات الحكي التي أتقنها إقناعها بالتخلي عن حمل مديتها والسعي للجم انفلات حمى أهوائها.
لاري غدت تصطحبني ليل نهار. يبدو أن فكي هارون قد وجد دواء للارتعاشات التي كانت تصيبها في الأيام الأولى إذا ارتمت بين ذراعي. آنئذٍ فكي هارون، متظاهراً بغيرة أبوية أو ربما خشية على هيبته كحكيم عظيم، تجنب رؤيتنا متحاضنين أو واضعين كفاً بكف في غدونا ورواحنا في وديان جبال موية أو في مزرعة النعام. لاحقاً يستسلم للأمر الواقع، خاصة عندما ذكرته الفتيات بنبوءاته، وألواحه وأشعاره المتصلة بمصائرهن وحين أبديت امتعاضي وشرعت في التحدث عن أسفاري المؤجلة وعن حرب التحرير المستعرة.
* *
مرة، في طريقنا إلي مزرعة النعام، جرّت فتينا، المدججة بغيرتها ومديتها، لاري من طوقي. بدا تصرفها تلقائياً وطفوليّاً إلى أقصى حد. لاري، بحرصها الدائم على رصانتها وبمزاجها الموسيقي المتزن، تدع جسدها يفلت دون إبداء أي مقاومة. لم نكن لنعطي ما حدث وزناً لولا أنه تكرر مع كاقو بين مروج الأعناب النضيرة بفعل أمطار سبتمبر. يومها صحت في فتينا:
ـ هي.. هي... ماذا تفعلين، فتينا؟
حدّجتني بنظرة متحدية، ردت:
ـ ماذا أفعل؟ حسناً.
تقدمت جهة كاقو ودفعتها حتى كادت تسقطها ثم قالت بهدوء:
ـ هذا هو ما أفعل!
مسكينة كاقو. معروفة بيننا بكونها مسالمة، كأرنبة. تلك هي المرة الأولى التي أشهد فيها الفتيات في حالة خلاف علني حاد. إذا قيّض لفتينا أن ترث حكمة فكي هارون، فستحتاج إلي وقت طويل لتطبيب نفسها من شرور غيرتها الملتهبة. مرة أخرى نتغاضى عمّا حدث، نسامح فتينا، ظنّاً منّا أنها تستطيع بقليل من المواظبة على لوم النفس وبشئ من التأمل الرزين إجلاء فؤادها وتهذيب روحها. أيضاً ربما تتدخل حكمة فكي هارون، الذي لا تخفى عليه خافية، العالم بصغائر الفتيات وكبائرهن، الممسك بقلوبهن بين إصبعين من أصابعه. وبالمقابل ففتينا تعلم أنها إذا أرادت تجنب غسيلٍ مبرحٍ، يكلفها جراحات مؤلمة وربما شهري نقاهة صارمة، فعليها محاولة كبح جماح نزوات غيرتها والتصالح مع شكل حياتنا التي شكّلتها أقدارنا بجلائها الذي لا معقّب عليه ولا فكاك منه.
لاحقاً، ليلة حفل البدر، ألاحظ أن فتينا تتعمد التشبث بأحضاني إلي فترة أطول وبطريقة أشد أثناء الرقص مما يفقد رقصنا عفويته ويتسبب في خلل بيّن في دوزنة آلات الموسيقي التي أمست، بسبب مهارة ضبطها وتناغم أصواتها مع مفردات اهتزازات أجساد الراقصين وإيقاعات التصفيق، منسجمة عضوياً مع جماع المشهد الاحتفالي. لاري بقيادتها الحاذقة للفرقة تنتبه إلي الانقطاعات الموسيقية الطفيفة التي حدثت وتثير الموضوع بحدة وغضب بعد نهاية الحفل فيحمل ذلك فتينا على الإقرار بخطئها. تحدثني لاري فيما بعد عن مخاوفها من مواصلة فتينا محاولاتها للاستحواذ عليّ بكافة الوسائل مما سيقود بشكل أو آخر لتشويه الجهود التاريخية، التي بدأها منذ سنوات طويلة دان حياتو ولنتنا، لتأسيس حياة في السودان الشرقي قائمة على الحكمة الخالصة، والنقاء وجمال الروح. رجوتها ألا تبالغ في تفسيرها للأحداث، وقلت لها أن فكي هارون لن يدع هذه الأنوار التي توارثتها أجيال متصلة تنحط جراء طيش فتاة تسيطر عليها نوبات غيرة عمياء.
في أحيان كثيرة تذهب بي الظنون للاعتقاد بأن فكي هارون راضي عما يحدث، وأنه بوصفه الأربعيني الجديد، قد أصبح شخصاً مختلفاً، لا يسهل التنبؤ بالخطط التي سيخطها لإدارة شئون سلطته الروحية. منذ زمن بعيد عرفت فيه ميله لتكييف الأحوال بشكل يضمن في وقت واحد تنوعها وتجانسها؛ هو يعطي انطباعاً دائماً بأنه يقولب الفتيات بطريقة تجعلهن صديقات دون أن يعني ذلك تنازل أي واحدة عن صفاتها كوريثة متفردة لأخلاق جدتهن، لنتنا. ذكّرني ذات مرة أنني أستحوذ على قلوب ثلاث فتيات تم تدريبهن ليحاولن تجميل جبال موية بطريقة تخلو من علامات الوحدانية الباعثة على الملل.
* *
ـ هاجو، من يبز لنتنا ما ولد. لن يولد.
فاجأني تحدي فكي هارون الذي ألقاه على وجهي بلا مقدمات. كان يمتطي بغلته البيضاء بينما امتطيت جوادي العربي المعالي، أسبق البغلة بضعة أذرع. أجر اللجام بشدة فيتوقف الجواد، ثم أواصل الجر فيدور نصف دائرة ويستقبل فكي هارون. أقول:
ـ حدّثني عنها، فكي هارون.
ظننت أن فكي هارون لا يريد لي إحراز السبق على أحد، أنا الحكّاء الذي لا يبارى، من طبقت شهرته الآفاق. يقول:
ـ مثلاً، أمسيات البدر كان الخلق يجتمعون لديها من دار مالي ودار مساليت، هوسا وعجم، سود وبيض.
ـ أستطيع أن أجلب خلقاً أكثر إن أردت. أنا أحكي لأحقق نجاتي، فكي هارون.
ـ قل أي كلمة، هاجو.
ـ عصفور
ـ تسطيع لنتنا الحكي هكذا: "عصفور ملون؛ أصفر، أزرق، برتقالي، وقع في عشق غرابة سوداء. زمانها، كان بوسع كائنات من فصائل مختلفة التزاوج دون أي مشاكل. مثلاً، يمكن تزاوج صقر وجاموسة، فيل وامرأة، لا مشكلة. ضرب العصفور خيمة قش قريباً من شجرة الغرابة. قبيل الشروق يزقزق:
ـ سيك، سيك، حبيبتي السوداء الطيبة تعالي.
تنعب غرابته السوداء:
ـ غاغ، غاغ، غاغ.
ثلاث غاغات، أيها المساليت. الغربان تهوى غاغاتها، أيها الماليون. تواصل الغرابة:
ـ غاغ، غاغ، حبيبي.
تهبط الغرابة إلي خيمة العصفور القشية، تقبّله قبلة الصباح. تفرد جناحها فينزلق عصفورها تحته. تضيع زرقته وصفرته بينما يطل رأسه البرتقالي المدور من تحت الجناح. عصفور، برأس برتقالي صغير، محب، حالم، يتنهد، لصق أضلع غرابة سوداء، فاتنة.
ذات شروق ما، زقزق العصفور:
ـ سيك، سيك، حبيبتي السوداء الرائعة، تعالي.
يزقزق ويزقزق ويزقزق. غرابته السوداء لم تنعب ولم تنعب ولم تنعب.
قال العصفور:
ـ ما عادت تحبني.
يزقزق ويزقزق. يخيل إليه أنه سمع نعيب غرابته فيهتف:
ـ تحبني.
يكتشف أنها مجرد أصوات تخيلها، فيقول:
ـ لا تحبني.
تترامى له غاغات فيزقزق:
ـ أم أنها تحبني؟
بمنقاره ينتف ريشة:
ـ تحبني.
ريشة أخرى:
ـ لا تحبني.
ريشة فريشة:
ـ تحبني. لا تحبني. تحبني. لا تحبني. تحبني. لا تحبني.
ريش ملون، أزرق، أصفر، برتقالي يغطي مخيم الطائرين العاشقين الصغير. تأتي الرياح تحمل الريش وتصنع قوس قزح عصفوري صغير"
تصعقني حكاية فكي هارون. أهتف:
ـ يا ديني وإيماني!
يبتسم عن أسنان لؤلؤية نضيدة. ذهب كبريائي وضاع خيلائي. سمعته يحكي من جديد. "عصفور، فقير، نحيف، ممصوص الخدين، أعمش، منتوف الجناحين، مهلهل الساقين، أعرج، قال:
ـ يأتي الحصاد فألتهم حبات الفتريتة هكذا: جم، جم، جم.
أتى الحصاد فلم يلتهم الحبات، جم، جم، جم. قال:
ـ يأتي الخريف، يكون عندي ريش أكثر، لا بد أن ينمو لي ريش أكثر، فألاحق الجراد هكذا: فو، فو، فو.
أتى الخريف فلم يلاحق الجراد، فو، فو، فو. قال:
ـ تخرج اليرقات زاحفة في عينة النترة فأبتلعها هكذا: هم، هم، هم.
لم يبتلع العصفور أي يرقات لمّا جاءت النترة. ظل ممصوصاً، يابساً، مهلهلاً. طارت عصفورة، عجوز، حيزبون، تدعي رابحة، فوق العصفور. قالت:
ـ فرصة يا ربّوحة.
حطت فزقزقت بصوت أجش:
ـ تعال إلى شجرتي.
العصفور الأعمش ذهب إلي شجرتها. أمسى يأكل حبوب فتريتة طريّة، طازجة وجراد سمين، مقشّر ويرقات دسمة، مقليّة. قبل أن يكتمل نمو ريشه تزقزق رابحة:
ـ أحبك.
يرد:
ـ أحبك.
تمد منقارها فيقبّلها. يحك لها رأسها وينقرها تحت جناحيها وتحت ذيلها. تلثمه وتدلك صدره وعجزه. تزقزق هامسة:
ـ حظك يا ربّوحتي، حظك.
يتسافدا ثلاثين مرة دفعة واحدة. أسبوع، أسبوعان، فيكتمل نمو ريش العصفور. رأته رابحة بريش يماثل ريشها، منقار كأنه منقارها، ذيل كذيلها. تنظر إلي عينيه فزعة فتقول:
ـ وا سواداه.
ترفع جناحه الأيمن وتتفحصه. هو نفسه جناحها. تهمس:
ـ وا رماداه.
كان نسخة منها، الخالق الناطق. تلفظ أنفاسها فيسمع العصفور حشرجتها:
ـ وا مصيبتاه.
العصفور الأعمش لم يرّ عينيها، لم يرّ ذيلها، لم يرّ منقارها ولا تفحصها تحت جناحها الأيمن. فقط سمعها تلفظ أنفاسها. زقزق بأسى:
ـ رحمة الله عليك يا حبيبتي."
هتفت بأعلى صوتي:
ـ أجل، أجل، لا يبزها أحد.
أرى فكي هارون قد تقدمني ببغلته. سمع هتافي فجرّ اللجام وانتظر. أحدق شرقاً فأرى الآفاق تمتد والوديان تنتشر. أنظر إلي فكي هارون وأراه مبتسماً لكن عزيمة الحكي لا تفارق وجهه الأسود الجميل.
12
قبيل الدرت ينتشر شذا أعشاب المحريب فيلف أعالي وأسافل وديان اللبايتور. محريب اخضر بزهيرات صغيرة تضرب خضرتها إلي الصفرة. كان يمكنني قضاء ساعات متصلة في توطيد علاقتي بمظاهر الطبيعة في أنحاء بلدتي فأقوم أحياناً بفرز الزهيرات عن الأوراق وفصل البذور عن السنابل ثم بذرها في الأراضي البور عند سفح الجبال أو استنشاق عبير الأعشاب وتقطيرها وابتكار أمزجة عطرية جديدة منها. في عينة العوى يوم بلغت السادسة عشرة ضربت بالفلوات ضحى. في طريقي اكتشف أنه قد أضحى بمقدوري التمييز بين رائحة جذور المحريبة، التي تمتزج بعبق التربة الطينية الفواح، ورائحة ساقها وأغصانها أو رائحة الزهيرات النفاذة. أنخت ناقتي ببقعة ينمو المحريب بها بكثافة تسمح فقط برؤية مساحات صغيرة من التربة الطينية ذات اللون البني الفاتح.
سمت معرفتي بالشجر، فلأسع إلي تحصيل معارف أخرى إذن. في غمرة الشذا، مستلقياً فوق بساط المحريب الناعم، أحس بالرغبة في التمرغ على تربة حقيقية رطبة، لا تغطيها الخضرة. لن يكون الحصول على التربة ممكناً ما لم أزل نباتات محريب كثيرة. أنهض لأنزع الأعشاب فيسيل ماؤها العطري بين يدي وتبتل السيقان الرقيقة قبل أن تتضعضع وتتداعى. بالطريقة تلك أعدّ فضاء بيضاويّاً ضيقاً خالياً من المحريب ثم استلقى على التربة الرطبة فتتسلل رطوبتها إلي بدني. من أعلى، شمس عينات خواتيم الخريف تضرب وجهي، فيغمرني النعاس بفعل تواتر الرطوبة والدفء وضوع شذا المحريب.
تمزج ذاكرتي سالف أحوالي بمقبل أيامي بسطوة ماكرة. تتداخل حيواتي وتتشابك، فأجدني بجبل موية لبايتوري الصفات وأجدني باللبايتور بسمات لم يعهدها فؤادي إلا بجبل موية. بين اليقظة والمنام، يتبدل أرج المحريب عبير أعناب فيأخذني حالي الجديد إلي يقظة هي كالمنام. أقرصني عند الفخذ فلا أتوجع، ألطم وجهي فلا أتألم وأشج رأسي فلا يدمي. الجبل تغطيه الأعناب، أعناب كاقو من أعلى السفح بقليل حتى قممه المتناثرة. ثم أتغير نائماً كاليقظان هذه المرة فأقرص وألطم وأشج فلا وجع. تأتيني الرضية بزيّها، زي اللبايتور أيام زمان؛ فقط رحط بسيور جلدية دقيقة ينسدل بين خصرها وركبتيها. شعرها الطويل، الغزير ممشوط ضفائر صغيرة يحجب ظهرها حتى عجزها.
يا فتينا، بين المحريب والأعناب، في اللبايتور أو جبل موية، جاءتني الرضية جيداء، بضة الذراعين، كاعب، مهفهفة، مدملجة الساقين. رأيتها تأتيني تتثنى فعلمت أننا مقبلون على الدرت الذي سبق وقوع الحرب. الرضية لم تتثن إلا لبضع شهور فقد قامت الحرب وأتلفت عليها مشيتها إذ خلعت الفتاة زيّها القصير وتجلببت وتحجّبت وغدت تمضي نهاراتها تتعلم فنون القتال؛ المصارعة، المطاعنة بالمدى، المبارزة بالسيوف، ضرب النار. أهتف:
ـ يا فتينا، أتت الرضية، الرضية أتت، أتت، أتت..
هوبّا تنهض فتينا صائحة:
ـ بنت الكلب، دعها تأتي.
لن تزعج شتائم فتينا الرضية. تعرضت الرضية لشتائم لا أول لها ولا آخر منذ نعومة أظفارها، فلا تحفل بالشتائم. لا أستطيع النهوض فأدع الفتاتين لتغليب العقل. أهمس في أذن فتينا الجالسة أمام فخذيّ وقد استلقيت علي جنبي:
ـ العقل، العقل، العقل.
بصعوبة أنهض جالساً فأرفع صوتي أنادي الرضية:
ـ العقل، يا رضية، العقل، العقل.
الرضية تأتي بصحبة برمة وجرائها. تنبح الكلاب بعيداً في السفح، فتستدعيها:
ـ عرديب، ساسو، بارود، نمرة، كاسر، جاموس، جرقاس، نمرود، تعالي، تعالي.
تأتي الكلاب منطلقة، تعدو تسبق الرضية في تثنيها البديع. برمة تكون أول الواصلين فتلعق وجهي وتنبح تخاطب فتينا:
ـ فتينا من فضلك. هذا كلب الرضية. عيب، لا يمكن أن تقترني برجل كلبة أخرى دون إذن، عيب، عيب.
فتينا تقهقه تتحدى برمة فتواصل الكلبة نصائحها مغلفة إياها بتهديدات هذه المرة:
ـ هوي، يا فتينا، هوي. والله أحسن لك. أنا لن أعضك، ولا أي شئ. لكن أحسن لك أن تبحثي عن كلب آخر.
الرضية لا زالت في طريقها إلينا، تتثنى كخيزرانة. أقول لبرمة:
ـ برمة أنت لن تعضي أحداً، فاهمة؟
تمد لسانها تتلاحس وتعوي بصوت خفيض. ما أن تسمع الجراء عواءها حتى تشرع في نباح حاد، متصل. تنهرها برمة:
ـ اسكتوا. هل أنتم مجانين؟
تخاطبني بعوائها الخفيض:
ـ هاجو، هذه ليست امرأتك. ثم أن الرضية لا زالت حائلاً وستهبك أولاداً بالجملة. دعني أجر هذه الكلبة بعيداً عنك، يا هاجو. كيف تضمن ألّا تصيبها بكلالبك فتحبل. حاسب، يا حبيبي، يجب أن تكون في غاية الحذر، يا حبيبي.
فتينا، التي ازداد فضولها، تسأل الكلبة:
ـ كلالاب؟ ماذا تعنين بكلالاب؟
ـ ألا تعرفين ماذا تعني كلالاب؟ حسناً، الكلالاب شئ وردي.
تتلهوج برمة محتارة ثم تعوي مضيفة:
ـ حسناً. ستأتي الرضية وسنعرض المشهد أمام عينيك.
لا تزال الرضية قادمة تتثنى. فجأة ألمح حسين الطاهر يختال خلفها. من جهة البلدة أرى فكي هارون يقصدنا يصطحب كاقو ولاري. ظننت أن معركة من نوع ما على وشك النشوب بين هؤلاء الناس الجبليين. الكلاب تنبح مجتمعة فيحمل الهواء أصواتها بعيداً حتى أعلى الجبال قبل أن يتحول إلى صدى لا يلبث أن يضيع في صمت جبال موية الراسخ.
* *
يا لاري، طبعاً يستطيع ناس من أصقاع مختلفة وذوو مصالح متضاربة أن يلتئموا في لقاءات تبدو في ظاهرها حميمة. هذا ما حدث بالفعل ذلك الضحى المفعم بأريج المحريب وعبير زهر العنب.
الكلاب تفعل الأعاجيب، ولأنها تشن غزوات مستمرة على بعضها، تدرك ببصيرة ثاقبة مدى الأضرار التي يمكن للقتال أن يحدثها. برمة وجراؤها التي تتخذ دائماً موقفاً مؤيداً لأمها لم توقف نباحها إلا بعد تأكدها من أن هؤلاء البشر الجبليين سيفهمون أن الصياح لن يتيح لهم الوصول إلي نتائج من أي نوع. كانت الكلاب تود إيصال رسالة بسيطة بصوت عالي جداً. لا يمكن لأحد التحدث بفصاحة أكثر من عائلة كلاب تصر على إخماد حريق على وشك الاندلاع والتهام حصاد سنوات من الكفاح والتجلية والمعالجة وتأليف الأشعار والغناء وتعلم الرقص وكل ما كانت عائلتا حسين الطاهر وحاج هارون تمثلانه أو تناضلان قي سبيل تحقيقه.
أغلق أنفي وأغمض عيني وأحك جلدي حكّاً ساعياً لترتيب المشاهد بشكلٍ يقرّبها، على الأقل، من واقع حياتي باللبايتور. مثلاً، ما اعتدت على الرضية بكل جبروت جسدها المسبوك الذي جاءت به. بالطبع، هي أنثى لا ثانية لها، حتى بعد أن تجاوزت الثلاثين. لكن الرضية بجسد مراهقة لم تجرب الحرب بعد، هذا ما لم يخطر لي على بال. حركاتي التي اشتملت على إغلاق الأنف والعينين والحك ثم هز الرجلين فالذراعين وطقطقة العنق تحدث بعض التحسن في تصوري للأحوال. يزداد عمر الرضية سنتين أو ثلاث، وتظهر شعرات شائبة برأس حسين الطاهر ويستعيد فكي هارون بعض نضاره الأربعيني بينما يلوح قليل من سيماء الغيرة الذي أمسى يبين على وجوه بنات فكي هارون إذا اجتمعن لدي.
يدع فكي هارون الجميع إلي شرب نبيذ عنب معتق ومريسة فتريتة طازجة. يقول:
ـ تعرف، يا شيخ حسين، لدينا قناطير من مشكاب فتريتة القضارف الجديدة. هذا النوع من المشكاب سيعيد للدواب نشاطها فوراًً. أما إن تفضلتم وأقمتم معنا بضعة أيام فهو كفيل بتسمينها وإذكاء همتها.
لم أرّ فكي هارون بهذا القدر من الظرف من قبل فظننت أنه يدبر مكيدة، وقد خطر لي القيام بتحذير حسين الطاهر من مغبة الوقوع أسيراً في فخاخ فكي هارون. من ناحية أخرى، فحسين الطاهر، رغم وصوله دون خبرات كثيرة إذا أخذنا عامل السن في الحسبان، فهو مشروع محارب ويستطيع الانتباه إلي المزالق وألوان الخديعة التي تواجهه. حسين بحذره العسكري الذي أصبح معروفاً عنه فيما بعد قال:
ـ نبيذ، مريسة... أما من مشارب أقل خطراً؟
يرد فكي هارون بهدوء:
ـ تتحدث عن أخطار؟ طيّب، يمكننا شراب قدوقدو، وأكل فطائر وينة جافة على إيقاعات ساخنة تؤديها لاري.
ـ هذا حسن. لكن قل لي يا فكي هارون، إذا سمحت لي التحدث في المهم مباشرة، لماذا تستغرق معالجة هاجو كل هذه الشهور؟
ـ هاجو، هاجو، هاجو. هاجو هذا مصاب بلعنة معمّرة، ليست مزمنة فقط بل هي فوق ذلك معمّرة. لن يستطيع دان حياتو نفسه أداء غسيل من هذا النوع بطريقة أفضل.
تتدخل الرضية:
ـ لكنه لا يبدو لعيناً إلى هذه الدرجة.
تقترب الرضية مني، أنا الذي لا أزال مسمّراً بمكاني جراء انتشار الشذا. اختبر أعضائي فألفيها لا تتحرك إلا بمقدار. أتمثل ركل الرضية يوم معارك الهوي فأحاول عبثاً الزحف خارج ساحتي البيضاوية الجرداء. تلاحظ الرضية شلل ساقيّ فتهتف:
ـ اللعنة!
فكي هارون التفت ناحيتي فرآني أتخبط في لعنتي. قال:
ـ ألم أقل لكم؟
لما رأتني كاقو رددت:
ـ مسكين هاجو، مسكين.
ثم توجهت بالحديث إلي الرضية التي شرعت تقلّب جثتي بقدميها:
ـ دعيه يا رضية، دعيه. لماذا لا تدعيه؟
الرضية ترى عضلاتي بارزة، نافرة، تكاد تقفز من جسدي، فتهتف:
ـ كيف يتضعضع بنيان كهذا؟
فتينا قالت:
ـ ببركة لنتنا وبركتي ستذهب اللعنة، رضية.
حسين الطاهر يجلي حلقومه ويزعق:
ـ كيف يستوي ملازمي وهذا المشلول الأخرق؟
تردد الرضية مؤيدة:
ـ أجل، كيف يستويان؟
تصيح لاري:
ـ ستدوزن لنتنا قلبه فنقيل عثرته ونجلي بصيرته.
هتف حسين الطاهر:
ـ العنج! تلك أمة إلي بياد.
أما فكي هارون فقد قال:
ـ ليس إن تعهّدناها بالجلي.
ثم رمى واحدة من نبوءاته:
ـ أنت يا شيخ حسين لا تخلو من عمى.
رأيت حسين يكف عن الحركة مصعوقاً ثم يتأتئ:
ـ أأأأأنا؟
ـ قد يصيبك عيار ناري فيفقأ عينيك.
ـ أأأأنا؟
ـ أجل. وربما تخترقك شظايا ذات يوم فتسحق ساقيك.
يكتفي حسين الطاهر بتأتأته:
ـ أأأأأنا؟
ـ أو تسقط من جبل فينكسر حوضك.
ـ أأأأما تتتتدع التتتتتخاريف يا يا يا ففففففكي ههههارون؟
ينتظم عقد الرضية، لاري، كاقو وفتينا في دائرة واحدة بساحة الرقص في البلدة. تبدأ لاري الضرب على الطبول التليدة. تغني أغنيات جلبها فكي هارون من السودان الغربي الأقصى. ترقص الفتيات رقصاً حاراً منتظماً تمتزج حرارته بوقع أقدامهن وإيقاعات لاري. أنظر ناحية فكي هارون وحسين الطاهر فأجدهما غائبين عن سلاسة المشهد، يتمشيان صوب الجبال ثم ينقلبان جهة البلدة. رأيتهما يتحادثان بحماس تختلط فيه أصواتهما بإشارات سريعة كما لو أنهما يتشاجران. باللبايتور وفي سفح جبل موية أو بالبلدة، ما فتئ شذا المحريب يتضوع. وددت لو تختفي الرائحة فأستطيع المشي أو الرقص أو حتى مجرد استراق السمع لفكي هارون وحسين الطاهر وهما في خصامهما المحتدم.
* *
الرضية في سنوات مراهقتها جاءت بلهفة وشوق نديين، نقيين. بالطبع، تشتعل الحرب فتسفر قسوتها عن جراحاتها اللاحقة، تنحفر ندوب على خديها الأسيلين ويخبو شيء من وهج عينيها ويتشعث شعرها الطري، المتموج وتذهب لدانة جسدها. ستتضافر خيباتي التليدة وسوء المنقلب الذي سيحيق بي إذا دارت رحى الحرب وفوق ذلك ضوع المحريب الذي يتمازج بأريج أزهار العنب فتحدث لديّ فوضي في شكل توارد الأحداث وفي وتائر تعاقبها.
ما يهمني حالياً هو هذا القدوم المراهق للرضية. سأحاول ثني إرادتها وترتيب وحدات ذاكرتها بحيث ينمحي الشقاء الذي اجتاحها بسبب قيام الحرب وبسبب تخطيها الثلاثين. أنفض عني الوهن بإغلاق أنفي لأتجنب كرف شذا النباتات وأنتزع نفسي من بقعتي البيضاوية الجرداء ثم أزيل برمة وجراءها من الوجود حتى يمكن ضبط الأزمان بشكل يضمن بقاء الرضية في سنوات مراهقتها بينما أطمئن إلي أن شعر حسين الطاهر سيستمر أسود في مجمله وأن فكي هارون سيتمتع ببركات قديمة مقطوعة الصلة بقدراته الهائلة التي أعقبت بلوغه الأربعين. أتمم إعداد الأحوال كما ينبغي فأصاب بالزهو وأتخيل بيقين أن بوسعي تحصيل المعارف التي أشاء متى أشاء وكيف أشاء. بل أنني استطعت مسح فكي هارون من ذاكرتي تماماً ووقر لديّ أنّ حسين الطاهر لا يقود كتائب البطانة إلا بالوكالة عني.
واضح أنني الآن أستطيع الاشتغال على الرضية بغرض تجليتها، من دون جراحة على شاكلة جراحات فكي هارون، بحيث يمكنني الحصول على أقصى درجات المتعة في الأيام القليلة التي ستحياها الرضية كفتاة من اللبايتور تتميز بهموم اعتيادية، ليس لها علاقة بالتاريخ الدامي الذي سيتلو اشتعال حرب التحرير. سيضمن لي ذلك أيضاً الشروع في سرد وقائع حياتي في جبل موية على الرضية فأكون بذلك قد اصطدت عصفورين بحجر. سيعني ذلك أيضاً امتداد المسافات التي تنتشر فيها حكاياتي من المشرق الأدنى إلي المغرب الأقصى، أو من الجبل إلي الجبل، كما سيحلو لي وصف فضائي السردي فيما بعد.
أمد كفي اليمنى وأقبض حزمة من سيور رحط الرضية. أحادثها وأنا أداعب سيورها؛ أسحبها، وأضفرها، وأعقدها.
ـ رضية، كيف الأحوال؟
ـ تمام، الله يسلمك.
تبدأ المعارك عادة بالحديث عن السلام. أقرر التمادي في المسكنة لتمهيد الطريق أكثر لغزواتنا الضارية فأفسح المجال للبركة أيضاً وأطيل التحيات.
ـ الله يبارك فيك.
تلوح عيناها دعجاوين بين تعريشتي أهدابهما الطويلة. لكن ربما تجد استغراقي في السلامات والبركات موضوعاً يثير الملل فأقول:
ـ أتذكّر خيول اللبايتور كثيراً هذه الأيام.
ـ صحيح؟
ـ خيول بدينة أكولة تشق طريقها من السفح إلي القمة ترعى حشائش الدفرة.
يحلو لها الأمر فهي قد عبرت المسافة إلي سنوات مراهقتها حديثاً. أظل منهمكا في مداعبة الرحط المسدل على وركيها. ترفع عينيها تنظر إليّ مصوبة أهدابها. يتقافز قلبي كفأرة فمصيري معلق بين صفي الأهداب تلك. يأتيني حديثها شهياً كالعسل:
ـ جياد تذهب أذيالها وتعود هكذا: شت، شت، شت! الطريق متلوي فتعطيك الخيول جنباتها مرة وأكفالها مرة.
ـ أفراس ترعى تتبعها مهارها. أفراس جميلة صهباء بعيون بنية واسعة، تستلقي أعرافها إلي أسفل، فوق رقابها. ناحية وجوهها، تبرز نواصيها بين آذانها الصغيرة متجهة إلى الأمام.
ـ يا هاجو، جياد أصيلة مولدة صاغراً عن كابر. في السفح الشرقي لا تزال مقابر خيول العنج قائمة. توجد هياكل هائلة لجياد قتال بديعة.
لن أتحدث عن جياد نافقة وليس الوقت ملائماً لنبش قبور العنج. أتساءل:
ـ شت، شت، شت تحرك الخيول أذيالها ترعى الدفرة؟
تروق لي الطريقة التي ألقت بها الرضية كلماتها في وصف وشوشة الأذيال. فطنت إلي ذلك فقالت:
ـ أجل، شت، شت، شت.
أفقد سيطرتي على اختلاق الحوار لثوان. هل أسحب الرحط مباشرة أم يقتضي الأدب الاتزان والتدرج؟ لا لن أقع فريسة فوران فتوتي وضراوة رغبتي. سأقلع عن مداعبة سيور الرحط فوراً حتى لا افتعل معابثة أو اختلق ملامسة. لابد من التضحية بكافة ملامسات الدنيا في سبيل الاستماع إلي الهدهدة التي تترى من شفتي الرضية. سأدع الخيول الوديعة، الأكولة ترعى من السفوح حتى القمم.
لاحظت الرضية شرودي فرددت بعناد:
ـ قلت: أجل، شت، شت، شت.
ـ عند القمم خيول بقرود على ظهورها؛ قرود على أفراس وقردات على جياد!
تضحك الرضية وهاجة العينين وأرى لسانها متورداً في فمها الفاغر بشفتيها المكتنزتين المبتلتين. أستطرد فأقول:
ـ أجل. رأيت قروداً جبلية تحمل ثمار البطيخ البروس تمتطي أفراساً حائلة.
تواصل قهقهتها، توهجها وتوردها. أستطرد:
ـ قرود ذكور طريفة تتشبث بأذيالها على الأفراس، تقضم بتلذذ قضمات كبيرة من ثمارها ثم تميل بجسدها كله جهة فروج الأفراس الحائلة وتستنشق بعمق!
تتمادى الرضية في قهقهاتها. ثدياها الصغيران، بحجم برتقالتين، يهتزان علواً وهبوطاً، يميناً ويساراًً. أقول:
ـ وقردات متشبثة بجياد هائجة تنزلق إلي بطون الجياد وتلتصق بمؤخراتها الوردية على أعضاء الجياد الفالتة!
ـ هاجو، لا تبالغ يا هاجو. أنا لم أرّ مشاهد من هذا النوع!
ـ هذا يحدث عند القمم حيث تقطن السعادين. القمم، القمم، يارضية.
ـ ثم؟
ـ تكمل القرود، ذكورها وإناثها، قضم بطيخاتها وتظل معلقة بالخيول. تصاب القرود بالخدر جراء اتقاد شهواتها لفترات طويلة. ترينها ناعسة تكرف أو ملتصقة بمؤخراتها على الجياد الهائجة.
أعود إلى سحب سيور رحطها وعقدها وضفرها. تظل ساكتة، ساكنة وتأتيني رائحة جلدها طيبة، طازجة؛ رائحة عذراء من اللبايتور. وإذ تضج صلابة جسدينا وينطلق فوحنا، أقلع عن مداعبة رحطها وأشرع في التحديق بتقاطيع وجهها الساحرة. أحس بنا جالسين ملتصقين، دافئين قد ضاع شذا النباتات فغدونا أكثر ميلاً للمعابثة والهوى وسرد الأحاجي.
13
ما حدث لم يجلب السلوى، يا رضية. ذهبت إلي جبل موية مستشفياً، كما تعلمين؛ كان بإمكاني البقاء باللبايتور أتقلب على جمر أحزاني، على طريقة أسلافي العنج. لكن حدث ما حدث من قيام الحرب ثم ظهورك، النوراني، العجائبي؛ أنثى حافلة بالسحر والأسرار.
ـ رضية، يا رضية!
باللبايتور، متقمصة بركتها، أراها شاردة اللب، لا تنتبه لتفاصيل حكايتي، ولا لنداءاتي. لولا علمي برزانة أحكامها عليّ، أنا، هاجو اللعين، الغاطس في أوحال روثي، الضارب في الآفاق طالباً جلاء سريرتي، لقلت أنها تظنني أتملقها. أرفع صوتي أناديها:
ـ يا رضية!
تقول:
ـ أي، هاجو، أي.
بعض شرود لا يزال يلوح في عينيها، فقد أتتني بنصف قلب. تستطرد:
ـ هاجو، أنساني. دع عنك حكايتي.
أحدق في وجهها صامتاً فتواصل:
ـ أنا أحفظ حكايتي عن ظهر قلب؛ أوجاع فؤادي في اللبايتور وقسوة الوحدة ومشاق الافتراق. حدثني عن أسفارك، هاجو، فتيات فكي هارون، شق الصدور، دوي الطبول ورقص النعام. نقني، هاجو، أصرف عني هذا الثبور، هاجو. خذ بيدي فانصر غبطتي وأيّد حلاوتي وزيني، هاجو!
أقول في نفسي أن ها قد رمت إليّ بطوق نجاتي. ثم أدرك عظم المفارقة فأقهقه قهقهة يبلغ مداها قمم اللبايتور ويتردد صداها ها، ها، ها، ها.
يوم النعام، يا رضية، آخذ البنت إلى المزرعة مغسولة غسيلها الجديد، زكية، بهية، ندية، ملساء كالستان، وضّاءة، وهّاجة. مشينا، يدها في يدي، التصق رأسها بصدري فتسمع قلبي يدق دقه الحكيم، الرزين. ثلاثون ضربة كل ستين خطوة متمهلة. تنطلق منها أصوات عجب:
ـ ويّو، ويّو، ويّو، هاجو!
كفها في كفي فتبعث حرّها وأبعث حري. يا رضية، ضحى يومذاك عرفت أن مزيج حرّينا هو ما سيعطي تصفيق لاري إن بلغنا المزرعة وقعه؛ مزيج حر الشمس إن واقع أنوار الأقمار ومسّ عتمات النجوم. قلت، قد بحّ قولي:
ـ ما بك، ما بك؟
رددت، قد تبدّل عجبها ذوباً:
ـ ويووووووووو!
بلغ بيّ الكبر مداه حتى أنني سمعت وقع أصابعها تطرقع ولسانها ينقرط فقلت في سري "سبحاني، أي سبحاني". يا رضية، رأيت تدافع النعام؛ مائة نعامة قد بلغت كلها الرشد لتوها، ترقص في دائرة محكمة الاستدارة، أعناقها ممدودة بمقدار، خطواتها محسوبة بمقدار، أجنحتها مفرودة بمقدار حتى لتظنينها نعامة راشدة واحدة. رأيت باقي نعام المزرعة تضنيه الغيرة يتقافز ذراعاً وذراعين، يقلع متراً ومترين، يفرق أرجله قراريط ويدنيها قراريط فأضحك عابثاً، وأنفث، وأغمض عيني آتياً بحركة، بهمسة، بدندنة، بقصيدة وسورة. ثم تنزّل عليّ دون العالمين، من سبق منهم ومن لحق، قول مثمر، مغدق، عالي الشأن، رفيع المقام. وكذا أنا من قال لفكي هارون "ضع مخطوطك، فكي هارون" فوضعه. "انهض" فنهض. ناديته، لبى ندائي وجاءنا يسعى يحضه الشوق إلينا، نحن بنيه المحبين. وصلت متعة لاري الغاية فغلبها الكلام. سمعتها تكرر نشيجها، لا تستطيع غيره نطقاً. سحبت كفي من كفها وبرفق أخذت رأسها بين يدي وثنيت عنقها فوزنته فجعلته معتدلاً ثم ابتعدت عنها وطفقت أنظر إليها لا تزال تتقمص متعة دقاتي. ثم سمعتها من بعد غائبة، ذائبة، تطقطق وتنقرط ذات الطقطقة والنقرطة التي اصطنعت بمزرعة النعام. قلت للرضية:
ـ جررت فكي هارون من أذنه، سحبته كما تسحبين ماعزاً!
ـ أنت تجرّ فكي هارون كماعز؟
تتساءل الرضية في دهشة. جميلة عينا الرضية المندهشة فأمدّ يدي أضع وجهها بين كفيّ، لا أدعها تبعد نظرها عني.
ـ كان وديعاً حتى أنني فكرت في إجراء عملية إجلاء لعينيه.
ـ أنت تجلي عيني فكي هارون؟
ـ ولماذا لا؟ تعرفين، إجلاء أو إجلاءان فيغدو الأمر سهلاً، مثل شربة ماء.
ـ هـــــاجو!!!!
نادت ماطة هائي تظنني افترى الأكاذيب على فكي هارون.
بوسع الرضية اعتقاد ما تشاء. بغسيلي وبركتي قد أجّجت المحبة في جبل موية، يا رضية. بمشيئتي انتزعت فكي هارون من جبروته واستعلائه. سيسعى إلي فيما بعد يرجو غفراني وسيجثو على ركبتيه يراني ابتدع الشؤون، شأن يعقبه شأن واختلق الأحوال، حال يتبعه حال.
* *
يوم تشتعل المعارك ببحر أبيض، يا رضية، سيكون بوسعنا رؤية المقاتلين يكرون ويفرون. حسين الطاهر، ممتطياً جواده شاقاً صفوف مقاتليه صاعداً وهابطاً، زاعقاً يصدر الأوامر بالتقدم كرة والتأخر كرة أخرى. سيبدو في تفلته الرهيب قابضاً على خيوط اللعبة بسحر بهلوان. وإذ ينطلق كالسهم يبعث الحماسة في مقاتليه، ستلوح الشراسة على وجوههم وسنراهم يرسلون الموت ويستقبلونه مثل قطيع من الذئاب.
سأقضي نهاراً كاملاً بصحبة فكي هارون والفتيات ننسج الشباك للإيقاع بالملازم أول. ليس عدلاً أن يستحوذ الملازم على أمجادي لمجرد معاناتي من أعراض لعنة ورثتها وراثة. سنمضي وراءه دون كلل فنلفيه يتلفع وسامته التي يرتديها إن حلّ بميدان القتال. أيضاً، سنصادف الرضية غائصة في نتانة شجاعتها الحربية المدمرة تثير زوابع فظيعة من فنون الكر وفتح النيران، وفي مراحل لاحقة عندما تلتحم الصفوف سيكون متاحاً رؤيتها تجأ بطون الأعداء بالسونكي بقلب لا يعرف الرأفة. حسين الطاهر يحرص على ملازمه على نحو يثير الريبة. فبينما تظل الرضية تعارك بمفردها وتتقدم عميقاً تقتحم خطوط الأعداء، لا يدع حسين الطاهر ملازمه يغيب عن بصره لحظة. سأحاول في مقبل الأيام كشف النقاب عن شكل العلاقة التي تربط بين الاثنين وسأسعى لأتبين إن كان وله حسين بالملازم يتصل بالوسامة الحربية الكاسحة التي يحوزها الفتى في الميادين.
فكي هارون والفتيات سيقبلون على تنفيذ خططي دون إثارة إي اعتراضات وأحياناً حين تبلغ إرادتي مداها سيغدو بوسعي الإشارة عليهم بتضييق الخناق على حسين والملازم لدرجة تجعل أسرهما وإحضارهما إلي جبل موية راسفين في الأغلال أمراً ممكناً. فكي هارون سيدّعى أن باستطاعته السيطرة عليهما وجلبهما في طرفة عين. من ناحيتي لن أركن إلي وصفة غيبية كالتي يقترحها وسأحثه على صرف النظر عن تجريب وسائل خرافية ليست مضمونة في عملية الاصطياد مما سيدفعه هو والفتيات إلي الانخراط بهمة في مشروع إكمال الشباك. الفتيات سيحاولن جاهدات تطوير الخطة لتشمل اصطياد الرضية لكنهن يعلمن أنها ستكون متحصنة بمحبتي التي ستشيّدها بفضل جسارة روحها وبسبب نوبات الاكتئاب الناتجة عن مرارات الحرب إضافة إلي العون السخي الذي ستقدمه لها كلاب الصيد السلوقية التي ترافقنا.
سنستعين بمجمل بركاتنا لكي يستمر ميزان الحرب يميل لصالح مقاتلي اللبايتور. فكي هارون سيحقق لنا مضاعفة شراسة الرضية، يا رضية، لتعويض الغياب المزدوج للملازم وحسين الطاهر. من ناحية أخرى سأختار أنسب الأوقات لتنفيذ خطة الصيد؛ حين يكون الأعداء قد تقهقروا بشكل مهين حتى مشارف النهر ويكون بعضهم قد شرع في الفرار جهة شبشة حيث رئاسة حاميتهم. نمتطي صهوات خيلنا وننصب شراكنا كما تنصب لغما في طريق عودة حسين الطاهر وملازمه، بعيدا عن الطريق الذي يسلكه المقاتلون. سيخب حسين الطاهر وملازمه سعيدين تحت صفوف أشجار الهجليج النهرية الكثيفة. سيبلغان حداً من السعادة يدفعهما لرفع عقيرتيهما بالغناء، غناء الحاردلو، سيد شعراء البطانة. لن تبدأ شكوكي حولهما من الآن، فأمر طبيعي أن يتعانق جنديان منتصران أو أن يتبادلا قبلاً ملتهبة. لكن على كل حال، تلك مؤشرات حسنة في اتجاه فهم متجرد للمحاربين.
أقول، يا رضية، أن لا انتصارات ستتحقق دون مشيئتي، ولعنة أو لا لعنة سيفرد التاريخ صفحة تخص كفاحي في حروب التحرير. حسين الطاهر لن يعترف لي بفضل وسيعمي عن فضائلي طالما بقى ملازمه هذا يخوض الحروب بسمت لا يمت بتاتاً إلي صفاته الجسدية البائسة التي يحيا بها بين ظهرانينا في مواسم الهدنة السنوية المطيرة باللبايتور.
حسين الطاهر وملازمه يرمحان بعيدا عن المقاتلين الذين انحدروا في الاتجاه المقابل للنهر يتردد صدى زعيقهم في الوديان ينشدون الجلالات ذات المفردات الخالية من الحشمة. حسين وملازمه يرمحان ويرمحان يتقدمان، لا يلويان، جهة شباكنا المنصوبة. سيقعان في فخاخنا فنسرع، قد تحجبنا، نطبق عليهما ونغلق فميهما ونعصب عيونهما. وحتى لا يفطن لأسرهما أحد، سنقتاد جواديهما معنا إلى جبال موية. سنبقي حسين في ضيافتنا يومين موثق اليدين والرجلين، معصوب العينين ومغلق الأذنين فلا يتعرف علينا ثم نطلق سراحه بعد تلقينه درساً قاسياً عله يوقن أن للسماء طرقاً عديدة لمؤازرة شخص لم تورثه عدالتها إلا لعنة تستعصي على الدواء. سنأخذ الملازم إلى كهف حصين ونسده عليه بصخرة هائلة لكنه سينفد بجلده وسيذهلنا بظهوره الخارق يقاتل جنباً إلي جنب مع حسين الطاهر في المعارك الطاحنة التي دارت للاستيلاء على حقول الموز بعد أيام قلائل من حادثة أسرهما المباغت.
* *
تتقد عبقرية لاري الموسيقية بسبب خلوص محبتي فتشرع في توليف أصوات جديدة وتبادر إلي تجريب ممازجة آلات إيقاع تبدو لأول وهلة متنافرة. تستطيع إحراز تقدم مذهل في العزف على آلات البالمبو وأم كيكي ومزامير الوازا الكبيرة. وقد سمعتها تلك الأيام تحاول صياغة نظريات حول وسائل تعلم العزف على الآلات الموسيقية تهتدي في تبريرها ببلاغتها الشفهية ومحفوظاتها من أشعار غرب أفريقيا ومهاراتها العالية في العزف والغناء.
فكي هارون سيدّعي أن هبوط ذلك الفيض الموسيقي على لاري يتم بسبب اقتراب تقاطع نجوم سعدها بشكل يماثل تقريباً التقاطع الذي حدث لنجوم لنتنا حينما كانت في مثل عمرها. كاقو ستفصح عن ظنونها بقليل من خيبة الأمل قائلة أن لاري تستعين على تقدمها الكاسح بجماع ما سلبته من حظوظهما هي وفتينا في رفقتي وأن لاري تسعي ببقائها لساعات متصلة تسمعني مؤلفاتها إلي حيازة نصيب أكبر من اهتمامي. ستطلق كاقو مصطلحاً جديداً في تعريفي إذ ستقول "أن هذه قسمة ضيزى تخل بالتفاهمات غير المكتوبة بشأن علاقة أفراد عائلة فكي هارون بأحوال المحارب القديم." لكن تعلقها بحكاياتي سيستمر وستأتي لاحقاً نهارات صيفية أجد فيها وجداني متطيباً بأريج أعنابها فتتوارد روائح أزهار العنب إلي نفسي في صحوي ومنامي. أما فتينا فستصاب بنوبات إحباط متتالية وسأشاهد تبدل بريق عينيها العسلي إلي حمرة خفيفة، أقرب إلي الظلمة منها إلي الإشراق. ستكرس وقتاً أكبر لتعلم فنون المداواة؛ الغسيل، التنقية وإجلاء البصائر، لكنها لن تتخلى عن مديتها التي تحزمها بخصرها وسألاحظ فيما بعد اشتداد تناظر عبق جسدها مع رائحة جسدي فأحاول التعرف على طبيعة ذلك التناظر وكيفية وقوعه وما إذا كنت أنا من يهب جسدها وصفه أم أنها هي التي تسرب عناصر روحها إليّ.
يا رضية، ليس واضحاً إن كانت لاري تتعمد الإيحاء بأن نبوءات فكي هارون حول مواهبها صحيحة أم أن ذلك هو واقع ما حدث بالفعل. قالت لاري تغمرها السعادة:
ـ سيشملني السواد عن قريب.
تفرد كفها فنلفي أصابعها تصطبغ بسواد أغمق. تسألها كاقو:
ـ هل سيذهب إهابك المشرقي البني؟
تعقب فتينا:
ـ مائة عام من آثار هجرة عائلة دان حياتو ستذروها الرياح.
سآخذ كف لاري بأصابعها الطويلة الرشيقة بين يدي. أقول:
ـ يا إلهي، سيغمر السواد لاري.
نرى حبورها بسوادها يضئ وجهها. تردد:
ـ أجل سيغمرني السواد، سواد لنتنا.
فكي هارون المستلقي بعيداً عنّا مستغرقاً في تلاوة هامسة يضع المخطوط جانباً. ينادي لاري:
ـ إن بلغت صفاء لنتنا وحزت جمال حالها فذلك "يوم التناسخ".
كان فكي هارون يشير إلي إحدى قصائد لنتنا الرائجة في السودان الغربي. فيها تحل روح لنتنا في جسد حفيدة من حفيداتها. تردد لاري:
ـ أجل يوم التناسخ، يوم التناسخ.
سأهمس في أذن لاري، يا رضية:
ـ لاري، هل ستصفين بينما أبقي وسخاً، لعينا؟
تهمس:
ـ كيف، يا حبيبي؟ أنت من اختلقني فاستواني فاعتدلني.
ستكون عيناها حالمتين، فائضتين بجلال ما آلفت من أصوات وما آل إليها من حلول موسيقي من السودان الغربي الأقصى. لن أصدق ادعاءاتها حولي إذ ستتواصل أحزاني وتتواتر شكاياتي. فكي هارون يضع مخطوطه جانباً مرة أخرى. ينادي:
ـ أما إن غنيت كما غنت فتلك "عشية القبول".
كان لا يزال يشير إلي قصائد لنتنا المغربية. قالت كاقو:
ـ فكي هارون، أين قبولي أنا؟
وتصيح فتينا:
ـ وقبولي أنا؟
يتحول فكي هارون مرتبكاً إلي مخطوطه ثم تتصل تلاوته الخفيضة. أقول:
ـ كاقو، ستحل لنتنا بك أيضاً.
وألتفت إلي فتينا وأردد:
ـ فتينا، وكذا ستحل بك لنتنا.
تضع فتينا يمناها على مقبض مديتها على نحو تلقائي وتحدّجني هامسة:
ـ صه، صه، من فضلك.
14
بكآبتها الناجمة عن تنامي تعلقي بلاري ستلم بفتينا نوبات أرق منهكة لذا ستستهدف أقاصيصي هدهدتها بحيث يتواتر عليها تنزّل نعاس خفيف لا يلهيها عن متابعة مخطط روايتي ويعينها في ذات الوقت على الخلود إلي النوم إن أقبل الليل. بغسيلي ونقائي سيكون بوسعي إلقاء أحكام متناقضة تخص الأيام البشعة التي تنتظر الرضية المراهقة علّ ذلك يجلب بعض الأمل لفتينا وينسيها خططها التي ما انفكت تصرح بها عن ضرورة الشروع في شحذ مديتها صباح مساء لأجل الدفاع عن حقوقها ولتلافي الشرور القادمة من الشرق التي تستهدف جبال موية. يا فتينا، على نحو ما استطاعت الرضية ترويض ذكر النعام الذي جلبه حسين الطاهر من دارفور. ما أن يفرغ الظليم من مطارداته الساخنة للكلب، بارود، حتى تتعلق برقبته فتمتطيه وتتجول به في أزقة البلدة أو تتنزه به في البريّة. فيما بعد، كما هو معلوم، ستلحف في الطلب لإحضار نعامة لمرافقة الظليم وتخفيف آلام الوحدة التي تعصف به، لكن الغيرة أصابت الرضية حين فضل الظليم بنت جلدته عليها فأصبح يقضي جل وقته في الاستلقاء لصق النعامة أو في حشر منقاره بمنقارها في قبلات طويلة ثم الاستغراق في مسافدتها مرة تلو مرة. فيما بعد سيقاوم محاولات الرضية امتطاءه أو اصطحابه في نزهاتها الخلوية ثم يأخذ يتجرأ عليها فيجمح بها ما أن تستقر على ظهره ويطيحها أرضاً بلا شفقة.
تغلو الرضية في غيرتها فنراها تلك الأيام تسرج ناقتها عند الظهائر تقصد السهول الواقعة شرق اللبايتور أو توغل بالأحراش في محاولات عنيدة لابتكار حيل تستعيد بها محبة الظليم. تستطيع وضع خطط تقصد بها التحول إلى نعامة فتشرع في صبغ حزم سعف بالتفتا السوداء الفاتحة والرمادية والوردية والبيضاء. وبعد محاولات تجريب كثيرة تشرع الرضية في مهمة التلوين الحقيقية. يستغرق إنجاز تلوين حزم السعف بالتفتا أسابيع عديدة فقد سعت إلى تدقيق الصباغة بحيث تزدوج الألوان وتتقولب في سلالم وظلال لا حد لها وتتدرج تدرجاً بطيئاً يزحف من اللمعان إلي الإعتام أو تندفع اندفاعاً سريعاً يركض من الإضاءة إلى الإظلام. وقد لاحت بوادر نجاح خططها حتى قبل تحولها إلى نعامة فقد اجتذبت حزم السعف المصبوغة الظليم وأصبح يقترب من الأكوام الملونة ويحدق بها لأوقات طويلة. بعدها غدا يستلقى بصحبة نعامته لساعات متصلة يراقب الرضية المنهمكة في التلوين.
تنسج الرضية قبعات سوداء، يغطيها غطاء وردي، ومناقير نعام وردية وعيون خرزية لامعة. تصنع أبسطة سوداء مجنحة وتنشئ جوارب وردية كبيرة يغطيها زغب من أعلى وتسيطر على أسطحها حتى الركبتين نتوءات وحفر متتابعة. تنتهي الجوارب بأحذية كالأظلاف. تنسج أذيالاً ناعمة، سوداء فاتحة، لامعة أو بيضاء سمنية معتمة. ستتمكن بفضل نماذجها المتعددة التي نفذتها من اختيار أفضل الأقنعة وستستطيع مزاوجتها وتطقيمها بحيث تتناسب مع رغبة الظليم. تجرب أثر نسيجها على الظليم بأن تعد خيال مآتة تلبسه سعفها الملون. تحرص على تركيز صفات الأنوثة به فتجعله رشيقاً، نحيفاً وتضفي على العينين بريقاً وقّاداً وتبرد المنقار لترقق أطرافه وتوازن الطريقة التي ينشطف بها من الأمام إلي الخلف فتجعله بيضاوياً، خالياً من الحدة والاستقامة. تنطلي الحيلة على الظليم فيؤدي حركات غزل عنيفة حول المآتة راكلاً ساقيه، مدلياً عنقه، متقدماً ومتقهقراً بطيش مراهق ذكر.
لكن سرعان ما تقل مداعبات الظليم للنعامة المآتة ويقلع عن محاولاته ملاثمتها أو مساعيه العنيفة لحنيها بغرض مسافدتها. تظن الرضية أن لذلك علاقة بخلو المآتة من أيّ روائح حيّة الأمر الذي ستتمكن هي من التغلب عليه بعبير جلدها وبدهان شحم النعام الفوراوي الذي تصفف به شعرها وتدلك به جسدها. فيما بعد، بعد سنوات طويلة، ستنتشر أسطورة "الرضية والظليم" على طول البلاد وعرضها. تغوي الرضية الظليم فيواقعها وتبيض بيضتين. تفقس البيضتان فيخرج إلي الوجود طفلان حلوان، حلاوة إلهية.
* *
تعلمين، لاري، كلف الرضية بالشعر. جئتها بخبر الأسطورة في هدنة الخريف. قلت لها أن الناس سيتداولون أسطورة "الرضية والظليم" على مدى الأزمان بكافة البقاع فسرتها نبوءتي حتى لقد رأيت الفرح يضيء عينيها. ثم تزداد مسرتها بأسطورتها إلي درجة أنها تطلب إليّ أن نسافر لزيارة الحاردلو الشاعر المعروف فنروى له قصتها مع الظليم. في خضم همومها الحربية الكثيرة تبدو عودة الرضية بذاكرتها لأيام صباها رومانسية لأقصى حد وبدهاء اكتسبته من ميادين المعارك ألمحت بطريقة مخاتلة إلي طموحها لمزج سيرتها الذاتية بجلال أسطوري يخفف من غلواء العنف الذي ستتسم بها الأحاجي التي ستسرد عن بطولاتها في حرب التحرير.
بعد أيام نمتطي نياقنا يصحبنا جرّار، راعي جمال حسين الطاهر، الخبير بشعاب البطانة، وبرمة والجراء ونقصد جهات ريرة لنقتفي آثار الحاردلو، الموله بالغزلان، والذي مضى ليقضي عينات الخريف الغزيرة المطر بسهوب البطانة القصية. ملتحفاً الأرض ومتدثراً السماء، يهيم الحاردلو في أصقاع البطانة يتعقب قطعان الغزلان، يستمتع بجمالها وينظم الأشعار في وصفها والتغزل بها. تحفل السهوب بالأعشاب مما يجعل مهمة العثور على الشاعر الهائم على وجهه عسيرة، إذ يتعرف العربان في العادة على المواضع بالبطانة بتبدّل ألوان التربة حسب البقاع. في غياب أي ألوان باستثناء الخضرة، يقترح جرّارٌ الاستعانة بخبرتنا بالحفائر التي يختزن بها ماء المطر. نستطيع أن نميّز هذه بأحجامها وأشكالها وأنواع الأشجار التي تحف بها. نعتمد أيضاً على النباتات المختلفة إذ تتكاثر أودية المحريب والتقر والنال بالأراضي الرملية الفضية ذات المسام الكبيرة التي نطلق عليها "العزاز"، بينما تنتشر الرياحين والسنامكة والنباتات الزاحفة المزهرة كالتبر وأبوعرّاق بالسهول الرملية السمراء أما الدفرة وأم كويعات وأم جلاجل والسعدة والدنكوج والدهسريب فتنمو بكثافة بالأراضي الطينية الحمراء، جهات ديار عشائر الحمر والعفصة والدخاخين. يحدث أحياناً أن تمارس الطبيعة بعض الفوضى فينمو التقر، مثلاً، حيث يجب أن ينمو الريحان ولكن قوة الملاحظة والخبرة تتيحان لنا التمييز بين النظام والفوضى فنتمكن من التقرير بثقة كبيرة ما إذا كان النبات أصيلاً أم دخيلاً. أيضاً تعيننا أشجار معمرة، معروفة بأسمائها، على تحديد البقاع لكن بعضها يكتسي خضرة سابغة في عينات آخر أيام الخريف مما يجعل الاهتداء بها أمراً غير مضمون كما أن أشجار الحراز، بعكس كل أشجار الدنيا، تيبس تماماً إن حل موسم المطر وتخضر بحلول الجفاف مما يبدل الطبيعة بشكل يبعث على الحيرة ويحول السهول إلي متاهة هائلة.
في تخوم ريرة، يا لاري، نتناوب الصياح بحثاً عن الحاردلو. تصيح الرضية:
ـ حاردلو. يا حاردلو.
فلا مجيب.
وعبثاً ينادي جرّار:
ـ حاردلو. أين أنت يا حاردلو؟
وأهدر:
ـ حاردلو، يا شيخ حاردلو.
فلا حياة لمن تنادي.
ثم نقرر الصياح سوية فأعد:
ـ واحد، اثنان، ثلاثة.
ونصرخ ثلاثتنا:
ـ يا حاردلوووووووو. حاردلووووووو.
فيأتينا صوته:
ـ أيّ، أيـــــــّــا، أي.
نمضي على أثر الصوت فنلفيه يركض ببعيره جهتنا. ننيخ إبلنا ونهبط فيأخذنا بالأحضان ويقبل الرضية على رأسها. يردد هاشاً:
ـ مرحباً، مرحبا.
لوحت شموس البراري وجهه بسمرة محببة وأطلت سيماء العبقرية من عينيه الدعجاوين. ينظر إلي الرضية ويخاطبها:
ـ أهلاً سيدة نساء البطانة، فارسة الفرسان.
ترد الرضية:
ـ أهلاً أمير الشعراء. أهلاً حبيبنا.
نعقل الإبل ونمضي إلي ظل سيالة سامقة حيث يفترش الشاعر سجادة بدوية فاخرة.
* *
تعريب لقصيدة ألف كلماتها شاعر البطانة الحاردلو، يا لاري. ضاع الأصل العربي ووجدت نسخة وحيدة مترجمة إلى الهوسا في مايرنو.
"تتحول الرضية إلي نعامة شابة، رشيقة.
كل فجر جديد تدهن جسدها بدهن النعام
وعلى سبيل الإغراء، تدلك وركيها بدلكة وطيب خُمرة بلدي
تتقن لغة النعام فتكتب بها أشعاراً وتغني أغاني
تقول:
ـ لابد أن يقع الظليم في شباكي.
عند الشروق ترفرف مصفّقة جناحيها
تنقرط بمنقارها
تغني بلسان نعامي مبين:
"أيها الظليم الوسيم
أهصرني بين جناحيك
دع حرارة جيدك الوردي الخشن تتسرب إلي روحي
اطعن وركيّ بريشك المسنن
انقر قفاي بمنقارك القوي مثل كماشة
وأثناء كل ذلك لا تنس يا حبيبي
أن تلعق،
ألعق طالعاً ونازلاً بعنقك
تماماً كما تفعل طيور عطاش."
ذات فجر
يأتي الظليم مكركراً
يقول:
ـ لماذا لا تجرب؟ جرب يا أخي
يدخل رأسه تحت جناح الرضية الأيمن ويكرف
يهتف، لا يزال رأسه تحت جناحها:
ـ أوه، غير معقول.
يخرج رأسه
وبعنف ظليم فتي يجر الرضية من عنقها
يلويها بحيث تستدبره ويكرف ذيلها
يهتف، لا يزال أنفه محشوراً جهة الذيل:
ـ أوه، غير معقووووووووووول.
بعجلة طائر مراهق، يزبد رغبة، يجر الرضية بحيث تستقبله
يحشر رقبته تحت إهاب السعف ناحية صدرها الكاعب
يتدفق في عنقه حرّها الإنساني
وتأتيه روائحها: جلد أنثى إنسان طازج، شحم نعام، عطور
يدع الظليم رأسه حيث هو
ويحشرج ويغرغر:
ـ غير معقووووووووول.
تربض الرضية بغنج نعامة فاتنة تحت ساقي الظليم
لابد أن سواد عينيها قد غاب
وعلت القشعريرة جسدها
ثم تسترخي ساكنة
ثديان صلبان، متبرعمان
مبتلة، تفوح أنوثتها
يقول الظليم:
"خشيت أن يبلغ أرجها "ساق النعام"
فيتخطفها سكان البلدة
وأمسي ظليماً مسكيناً هائما كمجنون ليلى."
من الخلف، ناحية الذيل
يعض الظليم إهاب الرضية الملون
يشقه بالعرض وبالطول
يقفز فيتقدم ناحية منقار إهاب السعف
يمسك الإهاب من المنقار ويسحب
هوبا، هوبا، يسحب
بغتة ينزلق إهاب السعف
فينفلت الظليم طائحاً
وتلوح الرضية، قائمة على يديها ورجليها
يرى فتنتها،
يشمها،
يعتليها،
يتسافدان
15
أصاب الذعر لاري ليلة أصاب الوهن جلد طبل أثري صناعة سكوتو فتقرر الاعتكاف بضعة أيام لصيانة الطبل وفحص الآلات الموسيقية الأثرية الأخرى. تقنعني بأن المهمة ستستغرق فقط بضعة أيام وتقول أن الوضع يقتضي معالجة فورية وإلا فإن أحوال العائلة كلها وربما أحوال سكان جبال موية جميعهم قد يصيبها الانحطاط. على نحو دائم تتكشف لي أسرار جديدة تخص العلاقة الملتبسة بين عائلة فكي هارون والموسيقى فهاهي لاري تزعم أن عطب الآلات الموسيقية يؤدي إلى وقوع كوارث شاملة. هذا يجعل الحياة في جبال موية خطيرة وأشبه بالعيش على فوهة بركان. لكن ما يهمني حالياً هو إمكانية تعرضي لمضاعفات روحية تقود إلي اشتداد إحساسي بالوحدة والكآبة وازدياد المرارة الناتجة من أسقامي وقلة حيلتي تجاه المشاركة في حرب التحرير.
ما أن ولجت لاري معمل الترميم معتكفة، حتى قصدتني فتينا. كنت في طريقي إلي الجبال لألتحق بكاقو. جاءت خلفي تناديني. التفت فرأيتها راكضة. سمهرية، رشيقة مديتها معقودة بخصرها وتتدلى بين فخذيها من الأمام تذهب وتجئ.
ـ أذاهب إلي الجبال؟
واضح أنني ذاهب إلى هناك. قلت:
ـ أجل.
ترتدي سروالاً كحليّاً محزّقاً وبلوزة قصيرة مقلمة، أبيض بأسود، ضيقة تكشف سرتها وتبدو الفتاة فيها مهفهفة، كاعبة.
ـ لماذا لا ترافقني إلي دغل السدر؟
السدر هذا لم يخطر لي على بال. ماذا ستظن لاري لو علمت أنني اصطحبت فتينا إلي السدر ما أن شرعت باعتكافها؟
هتفت فتينا، قرأت خلدي، فهي التي تطابق فوحها بفوحي:
ـ ستبارك اصطحابنا إن علمت.
ثم خطر لي أن كاقو ستعلم. انتظرت رأي فتينا، كأنني أدري أننا نتخاطر عامدين، فقالت تسكت هواجسي:
ـ هي الأخرى لن تمانع. هاجو، أنت حبيبي، من تطابقت روحه بروحي.
وفكي هارون، ألن يعلم. تتواصل هواجسي.
تتساءل فتينا:
ـ وماذا لو علم؟ دمك من دمي.
قلت لها:
ـ لاري، لا تتلفي ما تبقى من نقائي.
قالت:
ـ لن أفعل.
هاهي تواجهني بتقلب أهوائها. تستطرد:
ـ أنت لا تعلم.
ـ أنا لا أعلم؟ مستحيل.
تلك فتينا، من سترث طرفاً من حكمة أبيها.
أخذت كفها في كفي وتوجهنا راجلين شرقاً، حيث دغل السدر. أنظر في عينيها فلا أرى بريقهما القديم. كانتا تضجان بفوضى ولا مبالاة وبعض قسوة. مضينا صامتين، متخاصرين، أضمها إليّ، حرها يمتزج بحري. عند مشارف الدغل تتوقف ثم تسحب كفها من كفي. تنظر إلي وجهي فأرى فوضاها تتحول إلي نظام. تقول وهي تصوّب إلي نظرات رائقة:
ـ هاجو، يجب أن تسمعني فقط.
أفتح فمي أشرع في الرد فتضع إصبعها فوق شفتي وتقول:
ـ صه. ستسمع فقط، هاجو.
تتلو عليّ لوحها الأول:
«تتعرى الحكيمة ويتعرى الولد، يلتصقان فيلتحمان من الخلف، وجهها إلى مؤخرة رأسه. ولد ذو خمسة أرطال دم حار، مائة وعشرون رطل لحم دافئ، شحوم، غضاريف، أغشية، لعاب، مخاط، شعر، هو المسافة بين الحكيمة والوصول. يمكن طعنه بمدية ناحية القلب بحيث يلج حدها الزوايا بين الشرايين والأوردة، بين العروق وشعيرات الدم بين إفرازات الغدد واهتزازات الأعصاب ثم برفق يعانق رأس الحد قمة القلب. مدية حدها بحظوظ لا حد لها.
تحك المدية الفؤاد من أعلى إلى أسفل، من أسفل إلى أعلى، يسار، يمين. سحب المدية، كف مدربة تسد الجرح الطاهر. إيلاج مدى متنافرة: أنصال معادن نفيسة، درجات جذب عالية، درجات جذب واطئة، لا جذب. كذا لابد من مدى متجانسة: فضية، برونزية، نحاسية. أنصال كبيرة، صغيرة، مزدوجة. قطن مصري، كتان، جوخ، دمور، رباطات ساكوبيس، شاش صيني. أخشاب، لعوت، تمر هندي، طلح، سلم. نار من فارس، نار من أمضبان، من روما. هواء، ماء من البحيرات الكبيرة، ماء زمزم، تراب."
تسكت. تجرني ناحية سنطة غسيلي الأول. تتركني مأخوذا تحت الشجرة وتتسلقها بمهارة قردة. أراها بأعلى السنطة في بلوزتها المقلمة أبيض بأسود وبسروالها الكحلي المحزق فأظنها سحلية. تضع صرة كبيرة على ظهرها وتهبط. تفتح الصرة. بعناية تضع أدوات غسيلها على فرو من جلد الزراف. تعريني وتتعرى وتلتحم بي، يخزني صدرها ليصيبني الخدر. تمددني مخدراً فيكون آخر عهدي بها يومئذ لما رأيتها تستل مديتها من قرابها تلمع لمعاناً.
* *
أمضيت سنوات أتداوى من جراحات فتينا، يا رضية. غسلتني على نحو يضمن بقائي أسير أهوائها لذا أمسيت في نقاهتي طوع بنانها. تأتيني إن خفّ وهني فأفقت من غيبوبتي وتعقد أصابعها إلا السبابة، ترفعه ثم تخفضه، تذهبه وتعيده كرات متتابعة وتهمس:
ـ تعال، تعال....
فآتيها أتوكأ، قد أخذ مني الضنى كل مأخذ.
تقلّب كفها وتشير بسبابتها صعودا وهبوطا، هامسة:
ـ ارجع، ارجع
فأعود من حيث أتيت، سقيماً، عليلا.
ذات مرة قالت:
ـ هاجو، افتح عينيك.
فتحتهما فقالت:
ـ لا ليس هكذا. افتحهما عن آخرهما، هكذا.
تفتح عينيها عن آخرهما تريني كيف. أقلّدها. تقول:
ـ أنظر إليّ، هاجو.
أنظر.
ـ هل من امرأة أحلى؟
تكتظ عيناها بمحبة براقة وتنفرج شفتاها برغبة دفاقة. تتمشى أمامي، قد اتسعت حدقتاي، تتثنى مثقلة الخطى، عجزاء، هيفاء، جيداء. أجيبها:
ـ لا، لا، ما من امرأة أحلى.
ـ أو تهواني هاجو؟
تسألني مقطبة.
أجيبها:
ـ أجل، أجل، أجل.
مبتسمة تسأل:
ـ أو تهواني وحدي دون الأخريات، هاجو؟
أهتف مجيباً:
ـ أجل، أجل، أجل.
تسألني ضاحكة:
ـ أمتأكد أنت مما تقول، هاجو؟
أردد هاتفاً:
ـ أجل، أجل.
تقهقه ثم تسـأل:
ـ هل قلت أنك تحبني.؟
أقول أمط كلامي:
ـ أجــل، أجـــل.
تقترب مني وأنا لم أفق من خدري بعد، لا أزال بين النائم واليقظان، بين الحي والميت، وتضع رأسي بين فخذيها فتتدفق الحياة في جسدي؛ يدفأ جلدي ويسخن دمي. تتركني وتنتحي زاوية الغرفة التي تقابلني. واقفة في زاويتها، أراها بالغة الحسن، كاملة الأنوثة. تعلو آهاتي:
ـ آه، آآآه.
تسأل:
ـ هل تراني أجمل شقيقاتي؟
أرد:
ـ أي أراك، أي.
تقول:
ـ إذن فأنت تودني؟
أرفع صوتي مسلما:
ـ أي. آه، آه.
ـ ليس اليوم هاجو. ليس اليوم. بعد أن تشفى، هاجو.
وفي نقاهتي جاءتني لاري، يا رضية، فى أولى زياراتها، قلت:
ـ لاري، حمداً أن شفيتي.
ترفع حاجبيها ثم تعقدهما، قد أخذتها الدهشة. تذكرت أنها لم تكن مريضة بل معتكفة. أقول لها معتذراً:
ـ عفواً، لاري. حمداً أن خرجت من اعتكافك.
ـ شكراً، هذا كان من زمــــــــان، هاجو.
ترد، تمد الميم طويلاً.
ـ من زمان؟ منذ أيّ زمان؟
ـ ستعلم، هاجو، ستعلم.
ـ لابد أن تعلميني الآن، يا لاري.
ـ خمس سنوات ويزيد، هاجو.
ـ خمس سنوات؟
ـ نعم خمس. اصمت الآن، هاجو. يجب أن تهدأ، هاجو.
إذن فقد سلبتني فتينا خمس سنوات من عمري. أتساءل:
ـ هل أتممت صيانة آلات الموسيقى، لاري؟
ـ نعم، من زمان، هاجو.
تغطي الشفقة عليّ وجه لاري. إذن فقد ضاع عمري في الغسل والاجلاء. تناديني لاري من باب الغرفة مودعة:
ـ مع السلامة، هاجو. لابد أن تهدأ. أهدأ، ارتح.
ـ لكن كيف؟
أتساءل بصوت ضعيف.
ـ أسأل فتينا، هاجو.
أسيانة تغادرني. ترفع يدها تشير مودعة وتمضي.
* *
في النهاية خرجت، يا رضية. لم تبرأ جراحاتي تماماً ولكنني أحسست بشئ من العافية يتخلل جسدي. اقتادتني فتينا من شريط ملفوف حول ذراعي. كانت تمشي مسرعة الخطا تريد إثبات شفائي، فركضت خلفها ألهث. أخذتني إلي خلوة فكي هارون فألفيته نضراً، قد ازداد بهاء وحسناً. ابتدرني مرحبا ومهنئاً:
ـ أهلاً، هاجو، الحمد لله على السلامة.
لا زال نفسي يعلو ويهبط فقلت:
ـ ألله ههههه، هو، هو، هو يسلمك، فكي هو هو ها ها هارون، هو، هو!
ـ ها قد شفيت، هاجو. كلها أيام فتغدو بقوة بغل.
قلت وأن لا أزال في لهاثي:
ـ فكي هاو هاو ها ها هارون، شكراً.
ثم تساءلت:
ـ لكن لا أظنني أستطيع الالتحاق بالمقاتلين بعد أيام؟
ردّ مؤكداً:
ـ بلى تستطيع.
رأيته يمد رجليه، قد بدا عليه الضيق. جرّتني فتينا من الشريط المربوط حول ذراعي فركضت أتبعها. قالت:
ـ سنذهب لنقابل كاقو.
خيل إليّ أن سنوات قد مرت منذ قابلت كاقو آخر مرة. سألتها:
ـ كاقو؟ أين هي، لم أرها منذ زمن بعيد.
ـ بلى قد رأيتها. أنت لا تذكر، هاجو.
مررنا على بيت الموسيقى فوجدت مساحته قد زيدت أضعافاً. كانت هناك طبول جديدة وبالمبوهات مدهونة لامعة ومزامير وازا بأحجام عديدة، هي الأخرى لامعة، نظيفة. أرفف كثيرة أضيفت تحوي ربابات، أمكيكيهات، طنابير، شتامة، دلاليك، نحاسات، نوبات، أعواد، وعشرات الآلات الموسيقية. فيما بعد علمت أن لاري قد أمضت سنوات نقاهتي ترتب بيت الموسيقى وتثري محتوياته. جلبت آلات جديدة وقضت شهوراً مديدة تنظف القديمة وترممها، فأعادت تجليد الطبول المهترئة وقوّت لصقها وتغريتها وقامت بصيانة الأجزاء الخشبية والخزفية وراجعت الرباطات وشدت حزمها.
امتطينا فرسين واتجهنا صوب الجبال. أخبرتني فتينا أن الفرسين هما ابنتا الخيل المعاليّة التي اشتريناها عقب إنشاء مزرعة النعام. قالت أن الجواد وإحدى الفرسين قد نفقا أما الفرس الأخرى فقد شاخت. ما أن ذكرت الشيخوخة حتى انتبهت لحالي. ناديتها مستجدياً:
ـ فتينا، هاتي مرآتك.
تناولت جراباً من الخرج ففتحته وناولتني المرآة. طالعت وجهي فهالني تبدل أحوالي. كث شاربي وانتشرت به بضع شعرات شائبة. ذهب كثير من نضار شبابي الباكر فنضجت ملامحي وذهب بريق الفتوة من عيني. هتفت بفتينا:
ـ ما هذا فتينا، ما هذا؟
ركضت بجوادها فاقتربت مني. قالت:
ـ ما بالك، هاجو؟
ـ قد جفّ روائي وخفت وهجي.
ـ ستروي وتتوهج إن اكتمل شفاؤك.
ـ والشيب، فتينا؟
ـ سأعيدك سيرتك الأولى، فتيّاً، بهيّاً.
حدقت بها فوجدتها فتينا الكاعب، اللميس، ما انطمس صباها ولا ونى. قلت أحدث نفسي:
ـ ستعيدني جلياً، نقياً. أجل ستفعل.
أدركت فتينا حديثي إلي نفسي فهتفت:
ـ أجل سأفعل.
وعند سفوح الجبال هرولت كاقو تستقبلني، يا رضية. مسحت ببصري الجبال فألفيتها وريفة الأشجار ممدودة الظلال، ينعت أعنابها وازدهرت، التفت أغصانها وتشابكت وتدحرجت فبلغت السفوح وشرعت تزحف دون كلل تجاه البلدة. قفزت كاقو ناحيتي فنبهتها كاقو:
ـ احذري، لا تفسدي عليّ غسيلي.
تراجعت كاقو التي وثبت بين ذراعي. لاحظت برودي فقالت:
ـ يبدو أنه قد اغتسل بالفعل.
قلت:
ـ عن غسلي تُسأل فتينا. أمسيت لا أطيق سواها، كاقو.
اكتفت فتينا بأن حدّجتني معاتبة فقلت:
ـ إذن فقد أمسيت أطيق سواها، كاقو.
اقتربت فتينا مني وهمست محذرة:
ـ يبدو أن غسيلك لم ينصع بعد.
قلت وأنا أمسحها بنظري من أعلى إلى أسفل.
ـ بلى قد نصع. اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة.
قالت فتينا:
ـ آمين.
ـ كاقو، كيف حالك؟
سألت كاقو. هي أيضاً بدت بهية، نديّة. قالت:
- بخير، كما ترى.
لوّحتها الشمس فازدهت وأشرقت. رأيتها ناضرة، مونقة، متفتّحة، كزهرة عبّاد الشمس.
استطردت تقول:
ـ قضيت سنوات نقاهتك أبذر وأعزق وأشرف على مزرعة النعام تعينني لاري.
قلت:
ـ هذا ما أخبرتني به فتينا.
كانت إرادتي بحضرة فتينا تهرب مني، إذ أمست فتينا تبث أشواقها في روحي فلا أهفو إلا إن هفت ولا أريد إلا إن أرادت.
تخاطب فتينا كاقو:
ـ أحضرته ليرى الأعناب.
تصمت طويلاً ثم تستطرد:
ـ لكنه لم يشف تماماً. سأرافقه كل صباح إلي هنا، لعل الجبال تبرئ جراحه.
تدنيني منها وتفك أربطتي فأحس بالوهن يغمرني. تقول ممسكة وثاقي:
ـ أنظري، كاقو، ألم أقل لك؟ لم يشف تماما بعد.
كنت أتأوه:
ـ آه، ها، هو، هو، هو.
تأخذني فتينا من ذراعي الأثنين وتجلسني برفق. أقعي فأتأوه وألهث:
ـ آه، ها، هو، هو، هو.
سمعت صدى صوت كاقو يتساءل:
ـ ماذا حلّ به؟ متى سيشفى؟ كيف؟
ردد صدى فتينا:
ـ بضع ألواح، شمس، أعناب، موسيقى. شئ من هنا وشئ من هناك، كاقو.
16
أيام نقاهتي الثانية الطويلة، عقب جراحات فتينا، انتهزت الرضية الهدنات القصيرة التي تلت المعارك الطاحنة التي دارت بأسافل النيل الأبيض فوافتني بوصف دقيق لسير المعارك. وقتها لاحظت من خلال سردها للوقائع أن نفوذ الملازم أمسى يتنامى وأنها باتت تتحدث عنه بشيء من الإجلال. بعد تحليل أخبار الرضية تبيّن أن حظوظ الملازم تزايدت في أعقاب معركة هامة حقق فيها لواء البطانة انتصاراً كبيراً عبر به النيل الأبيض جهة القطينة مما جعله يقترب من الالتقاء بلواء النيل الكبير بقيادة مهدي أحمدون المتمركز بجهات بانقا والزاحف من الشرق بقصد التمدد جنوباً لعبور النيل الأزرق عند نقطة عبور المسيد.
أمّل حسين الطاهر أن يلتحم لواءه بلواء مهدي أحمدون فتتوفر قوة صاعقة يمكن بها محاصرة العاصمة من ناحية الجنوب وقطع طريق إمدادات جيش الاحتلال. لاحقاً، وفق رواية الرضية، ظن حسين الطاهر، أنه يمكن تضييق الحصار على المدن الثلاث بعد تسلل مقاتلي الصعيد عبر جبال النوبة وفيافي كردفان. حسب الخطة، سيتم في مرحلة لاحقة التوجيه بتكثيف عمليات فرق المقاومة المدنية داخل العاصمة والشروع في تصفية العملاء واصطياد كبار العسكر وقيادات أجهزة الأمن ورؤساء إدارات مؤسسات الاحتلال. معركة القطينة كانت حامية بالفعل. قتل أو جرح آلاف المقاتلين ونفقت آلاف الخيول وبقال نقل المؤن. قالت الرضية أن المعركة حين بلغت أوجها "غدت مذبحة، خيول تركض عبر السهل قد سقط فرسانها، رجال متشبثون بسروجهم يترنحون بلا أمل والدم ينزف من جراحهم، خيول دامية الجراح تتعثر مطيحة راكبيها."
غنم المقاتلون غنائم كثيرة في تلك الموقعة وفي المعارك والمناوشات التي أعقبتها لذا فقد تمكن قادة المقاتلين من ارتداء ملابس عسكرية جديدة وأصبح ممكناً من وقتها حفظ التراتب العسكري بوضع الدبورات والأشرطة العسكرية، ومنح بعض المقاتلين أوسمة اعترافاً بالشجاعة الخارقة التي تميزوا بها على مدى سنوات الحرب. كي يحتفظ بوسامة حربية دائمة، أمسى الملازم يصر على ارتداء ملابسه العسكرية الكاملة إن أصبح وإن أمسى. لم تر الرضية لشهور متصلة كرشه المنتفخ أو قامته القصيرة وملامحه المتنافرة. ولهول المعارك التي شهدتها جبهة بحر أبيض فقد كادت تنسى تأففها القديم من مظهره المسالم الذي تقمصه أثناء هدنات مواسم الخريف السابقة. أيضاً أمست تنسى أو تتناسى تفاصيل مهمة تتعلق بخططنا المتعلقة بالإيقاع به؛ كحبسه في كهف أو تضييعه في متاهات أدغال الشرق أو التخلص منه بالمرة بإطلاق النار عليه ببقعة نائية في براري البطانة الشاسعة ثم تركه طعاما للنسور والسباع.
أقول للرضية، يا كاقو:
ـ لكنه هو نفسه الملازم الذي تعرفين، يا رضية.
ترفع عينيها تنظر إلى السماء. تقول مترددة:
ـ طبعاً، طبعاً، هو نفسه.
تستطرد:
ـ لو رأيته يا هاجو يوم القطينة.
تصمت قليلا ثم تواصل حديثها وقد علا البشر وجهها:
ـ أمسك بعسكري من لحيته بيده اليمنى وعسكري آخر من لحيته بيده اليسرى ثم طاخ، طاخ، خبط رأسيهما ببعضهما. كان مشهداً مسلياً.
مثل طفل أحسست بالفضول يتملكني فسألتها:
ـ وماذا حدث للعسكريين؟
ـ هتفا: الله! وسقطا أرضاً.
ـ ثم ماذا جرى بعد ذلك؟
ـ تصور، سقط أحدهما فاقد الحراك فاتجه إليه الملازم وحطم رأسه بالدبشك. خبطتان متقنتان فانسحق الرأس انسحاقا.
ـ والعسكري الثاني، ما الذي حدث له؟
ـ كان يمسك رأسه بيده اليسرى ويستعطف الملازم باليمنى. لكنه أيضاً تلقى ضربتين ماحقتين.
لسنوات طويلة ظللت أمني النفس ببطولات مماثلة. لكن يظهر أن فتينا قد قضت على آمالي في القتال والسفر قضاء مبرماً، يا كاقو.
قلت للرضية:
ـ إذن لم يعد هو نفسه الملازم المأفون؟
ـ بلى. منذ متى، على كل حال، كان مأفوناً إلى هذه الدرجة، يا هاجو؟
ـ كرشه، يا رضية!
ـ نعم كرشه. ما به الكرش، هاجو؟
ـ وأسنانه المنكرة الصفراء!
ـ أسنانه؟
ـ كان قصيراً مدوراً وقميئاً.
ـ مدوراً وقميئاً؟ من تقصد؟
تحدّجني الرضية من أعلى إلى أسفل. هل ضمرت ذراعاي وساعداي ورقت ساقاي وفخذاي بفعل جراحات فتينا؟ أم هل هامت الرضية بالملازم، يا كاقو؟ الرضية ببهائها وسمو روحها وبطولاتها التي ذاع صيتها من جبال بوما حتى صحارى بيوضة والعتمور لاحت لي خامدة الذاكرة ميتة الحواس. سأسعى إن اكتمل برئي إلى تجريد الملازم من أقنعته الزائفة وسأستعين بقدراتي التي سأكتسبها بفضل تجلية فتينا إلي استعادة محبة الرضية وسأقنع فكي هارون ليستعين بأجلّ حيله ليبقي على الحرب مستعرة من أجلي.
* *
لكن النصر النهائي لم يتحقق. لا أخفي عليكم أنني سعدت على نحو ما بالنكسة التي مني بها لواء البطانة الزاحف شمالاً والتي حدثت في الصيف الذي تلا صيف انتصار بحر أبيض. استعان المحتلون بكتائب مرتزقة فرنسيين ومحاربين بوير ومقاتلين من إمبراطورية الحبشة كما توفرت لهم خبرات جنرالات ملكيين أسبان متقاعدين وشاركت في القتال إلي جانبهم أيضاً جماعات من مصر واليمن وحشود جاءت من الباكستان والشيشان والحجاز ونجد وجمهوريات البلقان. وطبقاً لتقرير أملاه حسين الطاهر على الرضية فقد تلقى جيش الاحتلال عتاداً من بلجيكا واسرائيل وإمدادات نفطية من العراق المحتل ومؤن من المغرب وإمارة شرق الأردن.
تصاب الرضية بنوبات أرق مضنية بعد النكسة فأخجل من نفسي للسعادة التي انتابتني بفضل تقهقر مقاتلي البطانة جنوباً وفشل محاولات لواء النيل في عبور النيل الأزرق بالإضافة إلي تأجيل محاربي الصعيد خططهم للتسلل إلي الأسافل بغية تشديد الحصار على الخرطوم. في أحد أسفارها إلي الصعيد الأوسط التقي بالرضية فتتحدث بألم بالغ عن الهزائم التي حلت بهم. من ناحيتي أخبرتها أنني لا أنظر إلي الأمر باعتباره كارثة بقدر ما هو إعادة للأمور إلى نصابها.
ـ مثلاً، كيف يمكن اقتحام العاصمة قبل رسم صورة واضحة لشكل السلطة الجديدة التي نسعى إلى إقامتها؟
لاحت الدهشة في عيني الرضية إذ لم يكن مثل هذا السؤال ليخطر لها على بال. كمقاتلة محترفة، كما ظلت تصرح دائماً، تنتهي مهمتها بإسقاط دولة المحتلين.
ـ سلطة، أي سلطة؟ أنت ستعيدنا إلى مربع واحد من جديد: تحرير أم تعمير؟ البيضة والدجاجة، نفس اللغز الدائري القديم.
ـ كيف سيحكم الصعيد؟
ـ وكم سيأخذ الصعيد، أليس كذلك؟
ـ بلى، كم سيأخذ؟
أشارت بسبابتها إلى أعلى وهي تطوي باقي أصابعها قائلة:
ـ طظ!
رغم جراحات فتينا التي تعيق انسياب روحي فقد اشتغلت على الرضية بغرض إزالة أرقها. أتت رياح الليل الصيفية الدافئة بشذا أعناب كاقو في تواتر متتابع، كثيف فاستطعت بعد جهد جهيد العبور بروحي إلى أيام مراهقتي الأولى حينما كان بوسعنا أنا والرضية إثارة زوابع من روائح الشبق يمكنها زلزلة ترابيس النوافذ وتحطيم مزاليج الأبواب. بل أن مداها بلغ في بعض المواسم حقول الذرة والدخن وصعد إلى قمم أشجار الهجليج والسدر فأثار هياجها إلي درجة أن مواسم الحصاد أتت قبل حلول أيام الدرت بينما نضجت ثمار النبق واللالوب وأم بنة والسينات مبكراً الأمر الذي حفز الأطفال على الغياب من دروس القرآن الكريم واللغة العربية التي يقدمها الفقهاء وتوجهوا إلي جمع الثمار. تزيل الرضية لفائف الأشرطة التي تطوق جسدي ثم تقوم بتدليكي صعوداً وهبوطاً، من أخمص قدمي حتى شعر رأسي وتصب عليّ زيت سمسم صافي تتبعه بلبخات قرض نيئ ثم بقليل من لخوخة القرض الناضج وتقوم بتبخيري بالسلم والطلح. أصاب بنعاس وتغشاني سنة ونوم خفيف تتبعهما بضع دقائق من النوم الثقيل. يؤدي كل ذلك إلي تحقيق تقدم لا يستهان به في حالتي، فقد خف مؤقتاً أوار لعنتي واختفت أصوات النباح التي كنت أصدرها حال إزالة أربطتي.
من ناحيتي أقوم بخلع ثياب الرضية وأجري فحصاً شاملاً لجسدها فألفي بثوراً عديدة تنتشر ببطنها وظهرها وبين ثدييها. أقوم بكشط البثور بنقيع لحاء السدر ثم أتبع الكشط بتلطيخها بطمي قرير لزج مجلوب من نواحي أربجي. أقوم بعدها بفركها بالطين لساعات متصلة دون كلل وأدعها مستلقية على بطنها حتى يجف القرير ثم أشطفها بكميات وفيرة من مياه النيل الأبيض العذبة، النقية. يكون جسدها قد أضحى مجلواً مثل الذهب ويشرق وجها وينضر وتختفي الهالات الغامقة التي كانت تطوق محجريها. يزول كل أثر للبثور وتختفي الغضون الدقيقة التي بدأت في الزحف ناحية عنقها وصدرها وبين فخذيها.
تصعد إلي سريري وتستلقي ثم بلا أدنى تأخير تستغرق في سبات عميق.
* *
ما أن أفاقت، حتى شرعت تلعن ساخطة:
ـ أف، كيف يضع مثل تلك الخطة القذرة.
تلتفت إليّ فتأمرني:
ـ ناولني زنبيل الماء ذاك.
تنسى أنني لا زلت رهين جراحاتي ورباطاتي. تهتف:
ـ الزنبيل، يا هاجو.
مستعيناً بالتدليك الذي أجرته لي، أمد ذراعي محاولاً تناول الإناء. تلاحظ المشقة التي أتجشمها فتعتذر:
ـ اللعنة، عفواً.
تندفع تستاك فتمضمض فمها. يكون المسواك في فمها حين تواصل سخطها:
ـ كيف يسقط ألفا أعرابي مسلحين ببنادق عتيقة عاصمة البلاد؟
تبصق تتف سواكها ثم تصيح متوعدة:
ـ لينتظر ابن الكلب. لم يستطع الانتظار لثلاثة أيام فقط حتى وصول كتائب أحمدون.
أحس بأن رياح حظي بدأت تهب فأنادي من تحت دثاري:
ـ الملازم أول؟ ألف مرة قلت أنني أحق منه بالرتبة!
تقول الرضية وهي منهمكة تغسل وجهها:
ـ كيف وأنت مسجى مثل جثة؟
ـ كلها شهران أو ثلاثة، يا رضية، فأعود بطلاً صنديداً.
ـ أنت بطل صنديد؟
للحظات عابرة خيّل إليّ أنني في يوم ما قد قاتلت وعاركت. قالت الرضية، ضاحكة:
ـ تصور نفسك تقاتل ملفوفاً هكذا، من رأسك حتى قدميك. ستكون مثل أير مختون يقاتل!
تقهقه الرضية حتى تسقط أرضا. تردد، تتقطع كلماتها بفعل اطّراد قهقهتها:
ـ أير مختون مقاتل!
تنظر إليّ فتراني حزيناً، مسكيناً، اشتدت كربتي وهاج شجني فتندفع إليّ تعزيني:
ـ هاجو، لا عليك. أنا أمزح، هاجو. لا عليك، لا عليك.
لا أزال، رغم تواصل أشجاني، أمزج حقي بباطلي فأصيح:
ـ أجل بطل، بطل.
يأخذها العجب فتحدق في عينيّ تود أن تجد تفسيراً لأقوالي. تسألني:
ـ هل تدربت على القتال هنا، في جبال موية؟
ـ أجل فعلت. أستطيع مقارعة كتيبة كاملة بالسيف. أما بالمدية، مدية دان حياتو التي تعرفين، فيمكنني مجابهة لواء.
ـ لواء بأكمله، هاجو؟
لن تصدقني. وحدها فتينا هي من تعترف بفضائلي التي حزتها جرّاء جراحاتها التي تنهش في جسدي. تتجه الرضية إلي ملابسها الدمور السمنية، زي المهام الخاصة، فتشرع في ارتدائها. تناديني وهي تدخل ساقها اليمني في السروال:
ـ يبدو أننا لن نجتاح العاصمة إلا تحت إمرتك.
أمتلئ زهواُ فأردد:
ـ أجل، لن تفعلوا.
سيظل القتال يراوح مكانه حتى أشفى. ببركة فكي هارون لن يهزم المحتلون قبل أن أعمل فيهم مدية دان حياتو. سأقضي ما تبقى من أيام نقاهتي ألمعها وأشحذ حدها وسأواصل المران على الطعان بالسيوف في دغل السدر وعلى الرماية بالبنادق بالتسديد على العصافير المحلقة وحيدة على ارتفاعات متفاوتة.
أقول للرضية:
ـ لن ننتصر إن بقى حسين الطاهر على ثقته التي لا تتزعزع بالملازم.
تقول الرضية وقد شرعت في ارتداء قميصها:
ـ لن يغمض لي جفن إن لم أزعزع ثقته بالملازم.
أنسى آلامي وجراحي فأقول لها:
ـ لن ألبث أن التحق بالقتال إن ذهب الملازم.
تهتف الرضية وقد أكملت ارتداء زيها:
ـ سيذهب، سيذهب.
أتقلب في فراشي فأحس بجراح فتينا تخزني فأهتف:
ـ انتظروا شفائي، يا رضية، انتظروا.
ـ أكيد سننتظر.
ـ هل ستحدثين حسين الطاهر عن ذهاب الملازم قريباً؟
أراها جالسة على ناقتها تصيح:
ـ سأحدثه. كن مطمئناً.
تنهض الناقة وتنسرب راكضة بالرضية في العتمة الخفيفة التي تعقب مغيب الشمس.
17
سيمضي فكي هارون أيام عديدة يعاني مرارات الخيبة جراء سوء التقدير والإفراط في الأنانية وتضخيم الذات. فهاأنذا، يا رضية، قد تطابقت أقوالاً وأفعالاً بفتينا. فكي هارون هو من وضعني بين يديها لتتخذني موضوعاًً لتجاريبها فتحولني بدافع من غيرتها عليّ إلي مسخ منها، يجري في عروقه دمها وتتخلل بدنه أنفاسها. فجراً ناداني فكي هارون. كانت أنفاسي تعلو وتهبط علو وهبوط أنفاس فتينا حين مثلت أمامه. جلس على فروته يتلو وينفث:
"بركات لنتنا تذهب وتجئ، تف
بسم ذي الجبروت، الأمكر، الأعلم
تف، تف، تف،
قد نفد الكلام، تف
قد بلغ الغسل الغايات
ما إجلاء تبقى
ما مدية تشفي ولا جراح
تف تف تف"
بقلبي، قلب فتينا، أدرك أن لا أمل، لا شفاء، لا قتال. أطمئن إلي استغراق فكي هارون في طقوس صلواته وأثني يدي أجرب متانة عضلات ذراعي لألفيها واهنة وهن ذراعي فتينا. أجذب أنفاسي عميقاً أختبر عضلات صدري فأجدها هي الأخرى مرتخية قد أصابها الهزال.
"تف، نلغي، نحن فكي هارون المهيمن، المقتدر، غسل فتينا:
مدية نحاس سكوتو: محو
شحذ فتينا: ثلم الحد
حك من أعلى إلى أسفل، يسار ويمين: حك من أسفل إلى أعلى يمين ويسار
جذب عالي: جذب واطئ
جذب واطئ: عالي
تف تف"
أدرك أن الحيرة تسيطر علي فكي هارون. فجراً، يجلس يتلو صلواته يسعى إلى القفز فوق إجلاء فتينا. لكن إرادة فتينا فاقت ذلك الفجر كل إرادة، يا رضية. يضع فكي هارون كفه على رأسي ويهتف:
ـ ليقو رأسك، تصلد الهامة وتصلب المؤخرة.
ما أن ينهي جملته حتى يقفز إلي أعلى صائحاً:
ـ أعوذ بالله، ما صلدت الهامة ولا صلبت المؤخرة!
ثم يضع كفه على ذراعي:
ـ ليشتد ذراعاك وساعداك.
يقفز صائحاً:
ـ أعوذ بالله، ما اشتدت.
يضع الكف على صدري ويدعو:
ـ ببركة لنتنا وقداسة دان حياتو فليقو صدرك.
قفز بعيدا هذه المرة، صاح:
ـ قم من عندي، قم!
يهتف مصعوقاً:
ـ- قد نهد صدرك فبرز ثدياك!
ألمس صدري فأجدني كاعباً، صلب الثديين. أصرخ:
ـ واي، واي، واااااااااااااااااااااااااااااى.
ثم فطنت إلي نفسي فقلت أحدث فتينا فيّ:
ـ فتينا، ببركاتك، حفيدة لنتنا، فرجي كربتي.
تتملكني نزوات ما اعتادها جسدي وصبوات ما جربتها روحي. لا أعير فكي هارون صبحئذٍ ذرة اهتمام. ثم لما اقشعرت أعضائي الطريفة والتليدة وسالت ريالتي واتقد دمي وصلب بدني، ضاع فكي هارون فقد ترادفت جوارحي وتكاثفت رغائبي. بل ضاع الكون كله وأصبحت لا إلا إلا أنا. أجلس، أدخل أنا، هاجو أو فتينا، لا فرق، كفي بقميصي جهة صدري فأعتصر صدري. يصيبني دوار لذيذ عند مشرق الشمس، دوار من جربت المحبة أول مرة؛ تكاثف الحس وتوالي الانتفاض. يبرق المشرق ويرعد وينزل الرزاز بوجهي فتتضاعف نشوتي. أنظر جهة فكي هارون أغص بالملذة فأدرك ببعض إدراكي أنه قد ولى ناحية داره أسفل الشارع. على فروة الزراف الناعمة الوثيرة حيث تلا فكي هارون كلمه أحشر كفي الأثنين وأعصر. تتأوه الروح وتتقد الجوارح. كانت فتينا في تأوهها مصروعة، تتأود وتلين. أمد يدي إلي ساقي فأجدهما طريتين، مدملجتين. أمسها من أسفل إلي أعلى وتمضي كفاي بين الردفين فتدلكان وتدلكان. أدلك وأدلك حتى تبلغ النار مداها فيأتيني صوت فتينا:
ـ ويو، ويو، ويو، هاجو.
أحمحم:
ـ حم، ححم، ححم، ححححححححححم.
كاد شروق الشمس يكتمل. تأتيني روائح الشاي من البيوت أعلى الشارع، تعقبها روائح البن المقلي ولبن الضأن الطازج الفائر والزلابية المحمرة. أنظر جهة خلوة فكي هارون فأراه يطل من النافذة في أعلى الخلوة. أطالعه يضيء الفلق وجهه الجميل فتضعف قواي فأصل. يبدأ الغيث في الهطول. يتوالى لمع البروق وتترامى أصوات الرعود القبلية البعيدة. استلقيت على ظهري ففردت ذراعي وفرجت ساقي ثم أغمضت عيني وأيقظت مشاعري كلها لتستقبل القطر الصباحي الدافئ.
* *
قالت كاقو أن لا نجاة إلا بتشييد معمل الدمور. اقترحت أن نبدأ بزراعة القطن. في شهر أربعة، عقب انقضاء الشتاء، أشرع في التحضير لموسم الزراعة الذي سيأتي ببداية فصل المطر. يلزمنا تصنيع محاريث وتدريب ثيران إن كنا نريد أن نبدأ بداية موفقة. ما أن أترك البلدة ورائي متوجهاً إلي الأدغال بقصد البحث عن أشجار سدر ذات جذوع تناسب نجارة المحاريث حتى تلتقيني فتينا. أهبط من ناقتي لتحيتها. تسألني:
ـ أذاهب لنجارة محراث من جذوع السدر؟
ـ نعم. لنجارة محراث.
تقترب مني تحدق بوجهي فلا تلبث أن تلاحظ تناسخ وجهي ووجهها فتقول والدهشة تنبثق من عينيها:
ـ هاجو، يا للهول! وجهك وجهي الخالق الناطق. عيناي الحوراوان، أنفي الزنجي، لساني غامق التورد، أسناني الناصعة النضيدة، فكيّ الأسفل المتسق الصغير بتدرجه وانخراطه التلقائي تجاه خديّ الأسيلين.
كل يوم جديد يأخذني إجلاء فتينا صوب مماثلتها. أرم عمامتي أحجب وجهي.
تواصل فتينا النظر إليّ ثم تهتف:
ـ وصدرك، وعجزك، وربلتاك. يا للهول، هاجو!
أنفض جلبابي يمنة ويسرة وأنحني أجره لأستر زينتي وجمالي. لم أجرب هذا النوع من الغزل المكشوف فيغلبني الحياء. بلغها حيائي فقالت:
ـ ما هي إلا بضعة أسابيع حتى يفارقك الحياء. سيطربك التغزل ويعجبك الإطراء.
تتقدم نحوي، تقرّب وجهها من وجهي وتقبّل شفتيّ فأتذوق نكهة سحاقية فأنتر جسدي من جسدها وأردد:
ـ يخسي، إخي!
أدفعها عني صائحاً:
ـ لابد من صناعة المحراث.
ـ محراث جذوع السدر؟
ـ أجل، جذوع السدر.
أتقدم ماشياً ناحية الناقة فأسمع فتينا تصيح:
ـ هي مشيتي ذاتها؛ التدلل والترجرج والانخذال.
تستطرد نداءاتها:
ـ امتط جواداً، تأبط بندقبة أو أدرع مدية، ذلك أضمن لك.
ثم توالي النداء:
ـ لا تأمن الرجال أيها الأحمق.
بالبر أخلع ثيابي، يا رضية. أتعجب من تبدل أحوالي؛ تضعضعت متانتي فلان عودي وبضت بشرتي. هالني أمري فزعقت:
ـ آ آآآآآآآآآآ
جاءني الزعيق رهيفاً، لطيفاً، أنثوي النبرة، نسائي الوقع.
قفزت في الهواء متقلباً متشقلباً. هبطت فمال جسدي ناحية عجزي، برز صدري، رق خصري، تهدلت ذراعاي وانقصفت كتفاي. رأيت مهبط قدمي منبسطاًً، ماهلاًً لا كما عهدته واطئاً، منحفراً. أختار جذع سدر يصلح محراثاً، أرفع الفأس عالياً، فوق رأسي، وأطيحها فتنفلت من بين يدي وتطير تحط تحت قدمي، ينسلخ إهاب اللحاء ويظل الجذع ثابتاً، قائماً.
اشتد حزني وضياعي فصوبت بصري إلي السماء ورفعت كفي أستغيث:
ـ الله، الله!
رأيت فكي هارون يمتطي بغلته البيضاء يتجه ناحيتي. خلفه أتت فتينا تسعى ثم رأيت لاري ورأيت كاقو، يا رضية. كنت عليلاً غاية الاعتلال وشجياً منتهى الشجن. تمددت انتظر الإجابة يومها. كان آخر ما رأيت هو فكي هارون يقفز من بغلته بهمة مراهق. رأيته واضح القسمات نقي الروح يتأبط نصل فأسه المكسور يهم برميها بين يدي وفتينا مكوعة، ترتدي جونيلة كاكية قصيرة بالكاد تستر عجيزتها، تلوح في تماثلها الجديد بي بهية، فاتنة. وكذا رأيت لاري تضع طبلاً أثرياً من سكوتو بأناة عند رأسي. سمعتها تعد:
ـ ديا، بيو، أكو.
ثم تضرب الطبل ضرباً خافتاً، منتظماً. كاقو وقفت بعيداً تنظر إليّ تعلو وجهها ابتسامة مشرقة.
* *
فيما بعد سيمكنني تماثلي بفتينا من تحرير إرادتي وإملاء شروطي، إذ سأستطيع الإيحاء إليها برغباتي ومصالحي مما يجعل شفائي من أدوائها ممكناً. بالطبع ستبقي عللي الموروثة عسيرة على الدواء وستظل فتينا بمنجاة منها بفضل أصولها الغربية وقدرتها على تسخير المعجزات التي انتقلت إليها من لدن جدتها لنتنا. استطعت أيضاً أن أحرر بعض وجداني الموسيقي من سطوة الإيقاعات الصاخبة المهيمنة على أعصاب فتينا. تسربت أهازيج صباي، بحنينها وفحولة نبراتها التي تميز حداء السفر وأغاني الحصاد والصيد، إلي إرزام الطبول التي انطبعت في روحي بعد سنوات من الإنصات والرقص والغناء في أنحاء جبل موية.
من ناحية أخرى، عكفت لاري علي فك إساري من فتينا خلسة بترتيب جلسات استماع موسيقي لألحان تواردت من الهوي الأوسط ألفها موسيقار فونجاوي من نواحي ودسلفاب يدعى مصطفى ولد ود مقبول توارثت عائلته عنه صوته البديع وموهبته العظيمة في صناعة الألحان وصياغة أشعار الغناء والمديح والدوبيت. كاقو في لهفتها عليّ، تمكنت من تركيب أمزجة ومساحيق عشبية استعانت على قولبتها بخبراتها الخلوية التي اكتسبتها من تعلقها بأعنابها وبقائها أوقات مديدة في الجبال إضافة على إشرافها دون كلل على مزرعة النعام وحقول القطن التي تمت زراعتها حديثاً. تضيق فتينا ذرعاً بالمشاعر البدوية التي تصيبها، إذ كنت أتعمد بثها فيها متى ما أصبح ذلك متاحاً. يحدث ذلك غالباً عندما يقل نشاط فتينا بفعل نعاسها من ناحية وتنامي أشواقي لأيام صباي باللبايتور من ناحية أخرى. يحدث في مثل هذه الأحوال أن أتمكن من تسديد سهامي ناحيتها فتصيب الفوضى أحاسيسها ويهرب النوم من عينيها.
ويا رضية، في ليالي البدر حين يتغلب النصب عليّ أثناء الرقص بسبب الجراحات المتتالية التي تعرضت لها تضطرب خطواتي وتتسرب حركات مشرقية إلى الرقصات التي أؤديها. فبدلاً من تحريك قدمي بسرعة متصلة مع تطويح ذراعي من تحت إلى فوق بقوة مع الركض إلى الأمام والخلف يتحول رقصي إلى قفزات رتيبة إلى أعلى وأسفل واضعاً كفي الأيسر على صدري من الجهة اليمنى. أستطيع كبح تنافر حركتي بأداء رقص مشرقي منتظم لكن بعد إحداث خلل شنيع في حركات فتينا يجعل رقصها أشبه برقصة العرضة المنتشرة في أوساط الرجال بالمشرق. تعم الفوضى الساحة وتفقد الآلات الموسيقية دوزنتها ويدرك الموسيقيون والراقصون على السواء أن للأمر علاقة بفتينا التي أتت بحركات لاهي مغربية صرفة ولا مشرقية مطّردة.
لاري وكاقو تبارتا في مساعيهما إلي تخليصي من سيطرة فتينا عليّ. تجتهد لاري في توليف ألحان جديدة لا تمت لضروب الموسيقى التي نشأت عليها فتينا ثم تقوم بتعريضي سراً لسطوة تلك الألحان لساعات متصلة فتحدث نقلة نوعية في الطريقة التي تتلقى بها جوارحي الأحداث ويفسر بها فؤادي المشاعر. من ناحية أخرى ستسعى إلى ترسيخ القيّم الموسيقية المعروفة بوجدان فتينا وذلك بجرها للاستماع لأوقات طويلة لأغاني التراث وألحان لنتا من دون توزيعها توزيعاً عصرياً.
أما كاقو فأنها ستكرر عليّ حكي الأحاجي الطويلة التي كنت قد سردتها عليها مما سيعيد ترتيب مواهبي بشكل يشابه ترتيبها اللبايتوري القديم وستواصل مداواتي بالأعشاب والأنبذة وشحوم النعام.
سأكتشف أن الشقة بيني وبين فتينا بدأت في الاتساع وسيتكاثف غضب فتينا كلما رأتني أتصرف بطريقة تنبي عن تحرر إرادتي. سيدفعها هذا إلى حمل مديتها من جديد وستعود سيرتها القديمة؛ امرأة فاتنة تلوح الغيرة في عينيها وتختلق مواقف إغواء سرابية مخاتلة.
18
أقول لحسين الطاهر:
ـ ثمن التحرير كان فرطاقة؟
ـ أجل فرطاقة فقط. يمكنك توجيه السؤال إلى الملازم.
إلتفت إلي الملازم الذي لا يزال يحتفظ بوسامته الحربية القديمة لأعرف رأيه. لا ينتظر سؤالي، بل يشرع في الحديث مباشرة، إذ لا تزال كل جملة يصدرها حسين الطاهر تمثل بالنسبة إليه أمراً عسكرياً:
ـ فرطاقة فقط، يا سيد هاجو. مجرد فرطاقة.
ـ ومدافع الهاوتزر وقطعان البغال والخيول ثم شاحنات النقل الروسية الضخمة؟
ـ أيّ مدافع، يا هاجو؟ أيّ شاحنات؟
يتساءل الملازم مندهشاً.
ـ الهاوتزر والمجروس. ثم فيما بعد طائرات الميج الصينية وطائرات الهليكوبتر.
أرد على دهشة الملازم.
ـ هذا الولد قد ذهب عقله!
يعلق حسين الطاهر مقهقهاً.
مرّ من هنا محاربون كثر، يا كاقو، غزاة وأولاد بلد، طغاة وعدول، طلاب سلطة ورافعو رايات تحرير. جاءوا من كل حدب وصوب وتشتتوا في كل صقع وناحية. أحمس، اسرحدون، آشور بنيبال، جستنيان، عقبة بن نافع، عبد الله بن أبي السرح، إسماعيل باشا، المك نمر، الدفتردار، غردون، كتشنر، محمد أحمد المهدي، عثمان دقنة، علي عبد اللطيف، إبراهيم عبود، وليم دينق، فاطمة أحمد ابراهيم، جعفر نميري، محمد أحمد الشيخ، حسن الترابي، جون قرنق.
لا، لم يكن تحقيق النصر أو حتى تجرع الهزيمة في مقابل ثمن بخس، يا كاقو. "رص الأسرى صفوف طويلة ثم رض جماجمهم بالشاحنات الثقيلة، إبادة قرى بأكملها حرقاً، لوي الرقاب، كسر العظام، وهرس الخصي، الخوازيق، شنق أصحاب الرأي والمفكرين، بيوت الأشباح، التطويب، قصف المدارس والمستشفيات، إلقاء الأسرى في النيل من الطائرات، وجأ المعتقلين بالسونكي، التعذيب حتى الموت، الزاكي طمل، عبد الفضيل الماظ، أحمد القرشي، جوزيف قرنق".
أتطلع إلى حسين الطاهر فألفيه غارقاً في تهويمات شيخوخته المبكرة. كيف لا تؤدي أعوام طويلة من المعارك المستعرة إلى تلك الحال؟ يمتد أثر لجرح عميق من رأسه ماراً خلف أذنه اليمنى حتى يتوارى داخل قبة عراقي البوبلين الناصع البياض. فجأة يبدأ في الصياح:
ـ رضية، يا رضية.
لن ينتظر طويلاً قبل أن يبدأ في مناداتها من جديد، كائلاً لها الشتائم هذه المرة:
- يا رضية، رضيـــــــــة، أيتها العاهرة اللعينة.
تأتي الرضية طيراناً كالعهد بها أيام حروب التحرير فيثير مقدمها الهائج عواصف ترابية كاسحة. تصيح:
ـ نعم أبتاه.
لا زالت هي الرضية نفسها، محتشدة بالحيوية والمرح. تلاحظ وجودي فتتضاعف حيويتها ويطغى مرحها. أنهض فتقفز تحتضنني ثم تتطاول بأمشاطها فتقبل خدي يمنة ويسرة، لا تعير انتباهاً للعنات أبيها أو لنظرات الملازم الغاضبة. تهتف:
ـ هاجو، غير معقول.
لا تزال دفيئة الحضن أرجة الجسد. تطلقني من بين يديها فأكاد أطيح من شدة تعلقها عليّ. تهتف مجدداً وهي تلهث:
ـ لا يمكن، لا يعقل، هاجو.
أرد مرحباً:
ـ أهلاً رضية، أهلاً بطلة التحرير.
ممتعضاً، يرفع حسين الطاهر صوته بالطلب:
ـ القهوة، أين القهوة، أين؟
تنطلق الرضية جهة البيت تسبقها عاصفتها وفي طرفة عين تكون القهوة بين يدي حسين الطاهر. تمد القهوة إليه وهي تحدق ناحيتي قائلة:
ـ خذ.
يحاول حسين الطاهر الذي عاد للغرق في تهويمات بواكير الشيخوخة صب القهوة في الأكواب فتندلق سائلة ملطخة عراقي البوبلين الأبيض الذي يرتديه. يزعق:
ـ يا للعمى. لم يتبق إلا أن يصيبنا الكساح!
تتجه الرضية إليه فتنتزع دلة القهوة الفخارية منه وتصب القهوة بثبات في الأكواب وهي ما برحت تحدق في وجهي.
* *
اللبايتور، كاقو، لا يزال خصيب المراعي. عند السفح سننيخ ناقتينا وسيكون موسم عينة الطرفة قد جاء بالأمطار غزيرة ذلك العام. ستكون بصحبتنا الكلبة برمة، كلبة هرمة سكوت، وستصطحب عائلتها الكبيرة، صارت الجراء كلاباً بينما تتبع الإناث منها جراء صغيرة سمينة، مدورة. بعض الجراء كان يهرول ظالعاً، تلك هي لعنة بارود الكبير تطارد عقبه على مدى الأزمان.
آخذ الرضية من كفها ونمضى نتسلق الجبل الحصين. نتسابق ونحن نتسلق الجبل تعدو الكلاب في أثرنا. أجرى أسبق الرضية لكنها تندفع سالكة طريقاً أقصر نحو القمة مما يمكنها من التقدم عليّ مسافة طويلة. لن يصيبني اليأس فأركض قاصداً الوصول محاولاً الاهتداء للطرق الأقصر والمتدرجة الانحدار لأستطيع اللحاق بالرضية المنطلقة تجاه القمة.
يا رضية، كانت فتينا تلاحقني مرتدية بلوزتها المقلمة أبيض بأسود وسروالها الكحلي المحزق الذين يجعلانها تبدو مثل سحلية، تحزم مديتها حول وسطها مدلية لها بين فخذيها. أتوقف عن الركض وأنظر جهة السفح فيأتيني صوت الرضية تناديني وهي تقهقه:
ـ هيا، هيا، يا هاجو.
يوم التولي، ظلت فتينا تلاحقني وهي تناديني:
ـ قف، هاجو، قف.
أراها تركض وحيدة خلفي فأعدو لا ألوي:
ـ توقف من أجلي.
أصيح:
ـ فتينا، ارجعي فتينا.
ـ يجب أن تتوقف. توقف، هاجو، توقف.
ـ لن أفعل، ارجعي، ارجعي.
جاءني صوتها يائساً وحزيناً:
ـ ستشفى، ستشفى.
ـ لن أشفى، لن.
ـ ببركة دان حياتو.
ـ لا، لا، لا.
ـ ببركة لنتنا ستشفى.
ـ مستحيل، فتينا.
ـ ببركة فكي هارون وبركتي.
ـ لا فائدة، فتينا. لا فائدة.
أنظر إلي الرضية وهي تصعد ناحية القمة وهي تقهقه. أعود أدراجي ناحية السفح فترفع الرضية صوتها تشجعني:
ـ هاجو، تعال، اصعد.
أقول لها:
ـ كيف أصعد؟
ـ سأنتظرك فاصعد.
ـ لا فائدة لن استطيع اللحاق بك، يا رضية.
ـ أسلك الطرق القصيرة، المنبسطة.
كنت قد نسيت السبل القصيرة المنبسطة التي تؤدي إلى القمة فصحت:
ـ قد تقطعت الأسباب فلا سبيل، يا رضية، ما من سبيل.
لكن هل كانت الرحلة إلي جبل موية كلها شراً، يا رضية؟ أشعار فكي هارون المنتحلة والأقاصيص المغربية البديعة، حلقات الرقص وإرزام الطبول وأنين مزامير الوازا، وأعناب كاقو، هل هذه شرور؟
تناديني الرضية وأنا قد وطّنتُ العزم على الرحيل:
ـ أما ترى القرود؟
أقول رافعاً الصوت بالسؤال:
ـ هل وصلت القمة حيث القرود؟
ـ أجل وصلت. القرود، القرود الجميلة، السعيدة.
أتردد لحظة. أنظر إلي الوديان الممتدة الخضراء وإلي غابة السيال حيث انطلقت الناقة بالملازم. الجبال يانعة والسعادين، ناعسة شبقة، قريباً من قمة الجبل الماهلة المنبسطة تقضم البطيخ البري وهي متشبثة بأذيالها على الخيول. أقف منتصباً مأخوذاً باللبايتور وأنادي الرضية:
ـ القمة والأفراس والسعادين؟
ـ أجل، هاجو.
أنظر إليها فأراها تقترب من القمة تبدو مثل يمامة فأبتسم وأصعد متسلقاً الجبال إلى القمة.
* *
تلك الليلة وقف خطباء عديدون يلعلعون:
"سيداتي، آنساتي، ساداتي،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لم يتفضل علينا أحد بالحرية، لم تكن منة من أحد. لقد خاضت أمتنا حرباً ضروساً من أجل التحرير، سالت الدماء غزيرة فدى للوطن ...."
تأتيني كلمات الخطيب هائجة، وباترة ومكررة. استعين على البقاء محتفلاً مع المحتفلين بتلاوة أشعار الحاردلو. أتذكر قصيدته التي تحكي قصة الرضية والظليم فأرتلها في نسختها الهوساوية الرائعة. يتقدم فتى تاشري ليقرأ قائمة بأهم الأحداث التي وقعت أثناء حرب التحرير، ذاكراً تاريخ وقوعها بالدقيقة والساعة واليوم والسنة. يسرد قائمة بمئات الغزوات وعشرات المعارك. يحصر أسماء آلاف الشهداء والشهيدات. ينده أسماء عشرات الأبطال والبطلات. لكن لم يرد أي ذكر لمعارك بحر أبيض الطاحنة ولا أي أشارة لحروب تحرير مزارع الموز المريرة. خصص الفتى كلمة أو كلمتين لحسين الطاهر أما الرضية والملازم فلم يشر لهما على الإطلاق.
أتذكر السوّاس الذين أفنوا أعمارهم في تدريب الخيول بنواحي الجبلين، البغال التي نفقت وهي تعبر العقبة في جبال البحر الأحمر محملة بالأسلحة المهربة والعتاد، ملاثمات حسين الطاهر والملازم عقب انتصار شبشة، رائحة البارود والوجوه المجللة بالسناج. ألم يحيا الملازم بوجهين، وجه للنصر ووجه للهزيمة؟ أصوات الانفجارات، دوي المدافع، الجثث متحللة متعفنة، ذل التقهقر، الأرق، الرغبات الفاحشة، الخيانات، الجسارة، التهور، الجبن، الغدر، الوفاء. يعتلي صبي وصبية حلوان المنصة. ترتدي الصبية رحطاً أسود وبلوزة خضراء. الصبي يلبس عراقي ساكوبيس يشف عن جسده الفتي وسروال دبلان أبيض. في جزء من المشهد التمثيلي أرى الفتاة تتقدم نحو الصبي ثم تقول مغضبة:
ـ أقول لك ستدور رحاها في المشرق والمغرب.
يتراجع الصبي صائحاً:
ـ بل في الصعيد والأسافل.
تخف حدة كلمات الصبية وهي تقول:
ـ علينا إعداد أنفسنا على كل حال.
يتقرفص الصبي ويردد بصوت هادئ:
ـ أنا الأمر لا يهمني من بعيد ولا من قريب.
تتجه الصبية نحو الجمهور هاتفة:
ـ يقول أن الأمر لا يهمه. هل يمكن أن نغض الطرف عمّا يجري؟
ينهض الصبي ويردد:
ـ أنا سأتعامى عنه تماماً.
ـ ستتعامى؟
ـ لن أتحرك قيد أنملة من هنا.
ـ يا للداء اللعين.
ـ سيتجمد الدم في عروقي لمجرد رؤية الجنود يعتلون الشاحنات متجهين إلى الميادين.
ها قد انتهى الحفل إذن. يترافق الحضور منسحبين إلي دورهم يتسامرون، بينما يممت غرباً، ضارباً في الفلوات التي تلي الميدان حيث أقيم الاحتفال. أتوارى في العتمة السابغة ماشياً بخطوات سريعة متسعة، مديراً ظهري للجبال الغارقة في الظلمة التي تلف الآفاق.
(فازت هذه الرواية بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي ـ السودان 2002)