جديد الروائي الليبي ابراهيم الكوني

 

صدر للكاتب والروائي الليبي ابراهيم الكوني رواية جديدة في طبعة أولى اختار لها من العناوين (من أنت أيّها الملاك) ـ يناير2009. يواصل من خلالها نسج أغوار تفاصيل جديدة في الجسد السردي العربي. وفيما يلي مقطعا من هذا العمل السردي الجديد...

في ذلك اليوم لم يُحالف الحظ المواطن (مسّي)، لم يُحالفه الحظّ لا في ذلك اليوم، ولا في اليوم التّالي، ولا بعد أيّام. انتظر في رُكن المكان الخانق من فرط الحر، الشحيح بالأهوية، السخيّ بالرّطوبة، حتى نهاية الدّوام، ولكنّ موظّف السجلّ لم يظهر، ففي اللحظة التي لاحظ فيها تأهّب بقيّة الموظّفين للخروج، وجد في نفسه الشجاعة كي يتقدّم من أحدهم ليستفهم منه عن مصير زميله الضّائع. ولكنّ الموظّف رمقه بنظرة ضيق خاطفة قبل أن يتنازل ليلفظ في وجهه عبارة كأنّه يجود عليه بحسنة:

ـ غداً!

ثمّ استدار لينصرف بعجلة مدهشة مستجيباً لهوس بقيّة الزّملاء الذين تدافعوا نحو باب الخروج كأنّهم يفرّون من مُعتقل، وليس من رحاب عمَل.

خرج يومها أيضاً ليعود في صباح اليوم التّالي، ولكنّ موظّف الأمس ما لبث أن كشّر في وجهه بذات الكلمة التي لفظها في وجهه بالأمس:

ـ غداً!

استمرّ يرجمه بهذه التعويذة أيّاماً قبل أن يتنازل عن كبريائه يوماً ليستبدل بها عبارة تعمّد أن يضمّنها نبرة قرأ فيها (مسّي) سخرية:

ـ الأسبوع القادم!

نفد صبر المواطن (مسّي) يومها فتجاسر ليستفهم ببراءة السّعداء الذين دللتهم الأقدار فقضت حوائجهم، ولم تضع مصائرهم (مع حوائجهم)، في قبضة زبانيّة أمثال سدنة السجلّ المدني:

ـ هل لي بمُقابلة رئيس الدّائرة؟!

تبادل الموظّف مع أقرب الزّملاء نظرة ذات معنى: مزيج من لؤم، ودهشة، وسُخرية، واحتقار، وإيماءات كثيرة أخرى مُنكرة لم يجد لها المواطن (مسّي) اسماً. بعد تبادل النّظرات انتقل المحفل إلى الهمس. تهامسوا زمناً وهم يختلسون نحوه في كلّ مرّة نظرات استنكار وقحة، إلى أن أعلن أحدهم بصوت مسموع:

ـ صاحب السيادة يريد أن يُقابل رئيس الدّائرة!

ساد صمت لحظات قبل أن ينفجر المكان بقهقهة جماعيّة كريهة. تضاحكوا كالرّعاع في حانة قبل أن يُخاطبه أحدهم بلسان عصابة فرغت للتو من حياكة مكيدة:

ـ اعلم، أيّها السيّد، أننا في هذه الدّائرة كلّنا رؤساء!...