يتتبع الباحث العراقي في هذه الدراسة التماثلات الجوهرية بين قصتي موسى ويوسف في التوراة وبنية الثنائيات المتعارضة فيهما، ويستخلص من دراسته أننا في حقيقة الأمر بإزاء قصة واحدة تستقي مفرداتها من الأساطير السومرية والبابلية، كتبت في تنويعين مختلفين لتأكيد أهمية الشخصية المحورية في كل منهما.

تنوعات الرؤى الأسطورية

التناص بين قصة موسى وقصة يوسف في التوراة

داود سلمان الشويلي

التناص هو واحد من الاليات الفاحصة للنص "الخيالي"، النص الادبي والاسطوري والحكائي، الذي يأخذ من الواقع مادته، الا انه في النهاية يفترق عنه، لدخول المخيال في لعبة تحويل الواقع هذا الى ادب، او اسطورة او حكاية، وليس الى تاريخ. ولما كان التناص هو كذلك كآلية فاحصة للنص، فهو، اذن، آلية باحثة عن نصوص اخرى فيه تلتقي والنص الذي تفحصه، كأن تكون من نصوص الكاتب نفسه، كما في قصتي موسى ويوسف التي ندرس فيما بينهما من مفاصل التناص، او من نصوص لكتاب اخرين، كما في دراسات كتابنا (الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي).(1)

ولما كانت التوراة ككتاب مقدس عند اول ديانة توحيدية قد كتبت، كما تذكر المصادر المعتبرة، فترة السبي البابلي لليهود لانها: «قد احترقت على اثر الغزو الذي تعرضت له "اورشليم" او انها ضاعت ولم يعرف مصيرها فكتب اليهود هذه "التوراة" التي بين ايدينا اليوم وهم في الاسر البابلي».(2) في زمن "عزرا" «العزير صاحب الضريح في جنوب العراق» الذي جمع مادة التوراة من ذاكرته ومزج معها الاساطير السومرية والبابلية والكنعانية والفينيقية والفرعونية، فانه في الحالة هذه، سنجد فيها اساطير من عنديات الحضارات الاخرى، كتبت وجيرت على اساس انها مقدسة لا يأتيها الباطل من كل جهاتها الاربعة.

والتوراة هذه كما جاء في كتاب المفكر "روجيه غارودي" (الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية) هي: «ان "العهد القديم" كما وصل الى عصرنا ليس "كتابا منزلاً" . ليس توراة موسى و"صحفه " التي ورد ذكرها في القرآن، بل هي مجموعة اسفار كتبها البشر، كتبها حكماء اليهود ومؤرخوهم وقصاصوهم. وقد بُدئ بكتابتها بعد قرون طويلة من وفاته. فالأسفار الخمسة الاولى مثلاً كتبت من الذاكرة، اذ لم يعثر احد قط على "صحف موسى" وهي كتبت جميعاً من قبل مؤلف واحد، في عصر واحد، لجمهور واحد، بل كتبها "مؤلفون" كثيرون في عصور متباعدة، لجماهير مختلفة المزاج والتكوين، حتى امتد زمن تدوينها وتقنينها الى اكثر من الفي عام. ولهذا ضمت الكثير من التناقضات، والكثير من الاوهام، والكثير من الرغبات والاهواء البشرية، فأختلط فيها الديني في اصوله البشرية، والتاريخ بالأسطورة، والوحداني بالوثني، كما اختلطت فيها الوقائع بالأوهام والتمنيات، والحقائق بالاختلافات والاكاذيب، وكان للفكر الاسطوري السائد في عصور كتابتها، ومنها الادبيات الاسطورية السومرية والبابلية والفينيقية والفرعونية، اثر واضح ملموس كشف عنه بعض الباحثين».(3)

من هذه القصص التي ضمتها التوراة، قصة موسى وقصة يوسف، اذ انهما من القصص التي سنفحصهما بواسطة آلية التناص لمعرفة تأثير قصة موسى في قصة يوسف، ومفاصل التناص الحاصل بينهما. وقد درسنا سابقا مفاصل التناص بين قصة ميلاد الملك سرجون الاكدي وبين قصة ميلاد موسى في دراستنا المنشورة في مجلة الموقف الثقافي(4)، والتي اعتبرت فيها ان الاصل بينهما كانت قصة موسى التوراتية لأسباب كانت وقتها ماثلة للدراسة. أما قصة يوسف فقد درسنا مفاصل التناص بينها وبين اسطورة "جلجامش"، و نشرتها في مجلة افاق ادبية.(5)

في الدراستين اعلاه ظهر لنا ان القصتين قد تأثرتا كثيرا بالأسطورتين السومرية والاكادية.

تبدأ قصة موسى من اول سِفر كتب في التوراة، إذ انها ذكرت موزعة على الاسفار التوراتية جميعا. وتبدأ قصة يوسف في التوراة من الاصحاح السابع والثلاثين وتنتهي في الاصحاح الخمسين في سفر التكوين.(6)

مفاصل التناص:
1- غياب احدى الشخصيات:

في المنهج المورفولوجي الذي وضعه الروسي فلاديمير بروب لدراسة الحكاية الخرافية الروسية، وقد درست على ضوئه بعض القصص الشعبي العراقي، ونشرت الدراسة في مجلة التراث الشعبي العراقية، ثم نشرتها في كتاب مستقل صدر بعنوان (القصص الشعبي العراقي في ضوء المنهج المورفولوجي)(7)، هناك وحدة وظيفة (موتيفة) معنية بغياب شخص ما، وهي الوحدة الوظيفية الاولى، وان واحدا من اسباب الغياب هو موت شخص ما. في قصة موسى يتمثل الغياب حسب منهج بروب في موت الاب، إذ ان موسى يتيم الاب.

يذكر سفر الخروج – الاصحاح الثاني: «وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لاَوِي، فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا.» وينسى السفر بعد ذلك الاب، ولا يذكره بشيء. وفي قصة يوسف يمثل الغياب بموت الام، فيكون يوسف يتيم الام كما تذكر المصادر المعتبرة «وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُ قَمِيصًا مُلَوَّنًا. فَلَمَّا رَأَى إِخْوَتُهُ أَنَّ أَبَاهُمْ أَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ أَبْغَضُوهُ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسَلاَمٍ.» (التكوين: الاصحاح 37) هذا اليتم، يتيم من جهة الام ويتيم من جهة الاب، له تأثيره الكبير على كلا الشخصين في مسيرة حياتهم.

فموسى يبقى عرضة للموت، في سن الرضاعة خاصة او في سن الاربعين، ويوسف كذلك، لان والده يحبه كثيرا لفقد امه، فيتآمر عليه اخوته لقتله. إن قصة موسى تؤكد على دور الام وتأثيرها على حياة ابنها في فترة الرضاعة خاصة. وقصة يوسف تؤكد على دور الاب وتأثيره في حياة ابنه في فترة النضوج، وتأثير يوسف عليه. هكذا تتناص قصة موسى وقصة يوسف في فقد احد الابويين، وتأثير هذا الفقدان على مسيرة القصة.

2- الرمي في الماء:
في دراستي عن التناص الحاصل بين قصة ميلاد سرجون وقصة ميلاد موسى المنشورة في مجلة الموقف الثقافي، ثم نشرتها في كتابي (الذئب والخراف المهضومة) وجدت ان القصتين تشتركان في مفصل واحد هو الرمي في النهر (اليم بالنسبة لقصة موسى) بعد وضع موسى في صندوق (سفط مطلي بالحمر والزفت) او (السلة) وهو طفل رضيع. «أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ.) (سفر الخروج: الاصحاح 2) وقد تناصت قصة سرجون الاكادي وقصة موسى مع الاسطورة الرومانية (اولاد الذئبة)، ومع قصة حي بن يقظان، ومع اسطورة المهابهارتا، ومع اسطورة اوديب.(8)

وفي قصة يوسف، يرمى يوسف الصبي بعمر سبعة عشر عاما، في الماء ايضا، في الجب "البئر". «فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ مِنْ بَعِيدٍ، قَبْلَمَا اقْتَرَبَ إِلَيْهِمِ، احْتَالُوا لَهُ لِيُمِيتُوهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هُوَذَا هذَا صَاحِبُ الأَحْلاَمِ قَادِمٌ. فَالآنَ هَلُمَّ نَقْتُلْهُ وَنَطْرَحْهُ فِي إِحْدَى الآبَارِ وَنَقُولُ: وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ. فَنَرَى مَاذَا تَكُونُ أَحْلاَمُهُ». فَسَمِعَ رَأُوبَيْنُ وَأَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: «لاَ نَقْتُلُهُ». وَقَالَ لَهُمْ رَأُوبَيْنُ: «لاَ تَسْفِكُوا دَمًا. اِطْرَحُوهُ فِي هذِهِ الْبِئْرِ الَّتِي فِي الْبَرِّيَّةِ وَلاَ تَمُدُّوا إِلَيْهِ يَدًا». لِكَيْ يُنْقِذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ لِيَرُدَّهُ إِلَى أَبِيهِ. فَكَانَ لَمَّا جَاءَ يُوسُفُ إِلَى إِخْوَتِهِ أَنَّهُمْ خَلَعُوا عَنْ يُوسُفَ قَمِيصَهُ، الْقَمِيصَ الْمُلَوَّنَ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَخَذُوهُ وَطَرَحُوهُ فِي الْبِئْرِ.) (سفر التكوين - الاصحاح 37) ويرى كاتب هذه الدراسة ان الرمي في الماء يشكل شعيرة تمثل التطهير، اي انهما قد تطهرا من الذنوب. يسمي فرويد اسطورة رمي السلة التي فيها الطفل في الماء بـ (اسطورة الهجر عند الماء). (9) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل الرمي في الماء.

3- الخروج من الماء:
يمثل الخروج من الماء مواجهة الحياة وجها لوجه لكلا الشخصيتين، بعد ان تسلحا (موسى ويوسف) بطاقة التطهير من الذنوب، إذ ان هذه الشعيرة موجودة في اقدم ديانة في العراق وهي ديانة الصابئة المندائية. تخرج ابنة الفرعون موسى: «وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لاَوِي، فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ، أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ. وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ». فَقَالَتْ أُخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي». فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ». (سفر الخروج - الاصحاح 2)

يوسف تخرجه السيارة (ثُمَّ جَلَسُوا لِيَأْكُلُوا طَعَامًا. فَرَفَعُوا عُيُونَهُمْ وَنَظَرُوا وَإِذَا قَافِلَةُ إِسْمَاعِيلِيِّينَ مُقْبِلَةٌ مِنْ جِلْعَادَ، وَجِمَالُهُمْ حَامِلَةٌ كَثِيرَاءَ وَبَلَسَانًا وَلاَذَنًا، ذَاهِبِينَ لِيَنْزِلُوا بِهَا إِلَى مِصْرَ. فَقَالَ يَهُوذَا لإِخْوَتِهِ: «مَا الْفَائِدَةُ أَنْ نَقْتُلَ أَخَانَا وَنُخْفِيَ دَمَهُ؟ تَعَالَوْا فَنَبِيعَهُ لِلإِسْمَاعِيلِيِّينَ، وَلاَ تَكُنْ أَيْدِينَا عَلَيْهِ لأَنَّهُ أَخُونَا وَلَحْمُنَا». فَسَمِعَ لَهُ إِخْوَتُهُ. وَاجْتَازَ رِجَالٌ مِدْيَانِيُّونَ تُجَّارٌ، فَسَحَبُوا يُوسُفَ وَأَصْعَدُوهُ مِنَ الْبِئْرِ، وَبَاعُوا يُوسُفَ لِلإِسْمَاعِيلِيِّينَ بِعِشْرِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. فَأَتَوْا بِيُوسُفَ إِلَى مِصْرَ.» (سفر التكوين – الاصحاح 37) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل الخروج من الماء .

4- فترة انقطاع الابن عن أهله:
انقطع موسى عن أمه فترة قصيرة، حيث قامت اخته بتتبع السفط الموضوع في داخله الرضيع موسى حتى تنتشله ابنة الفرعون: «فَقَالَتْ أُخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي». فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ». (سفر التكوين – الاصحاح 2)

وانقطع يوسف لسنوات طويلة عن اهله وابيه: «وَأَمَّا يُوسُفُ فَأُنْزِلَ إِلَى مِصْرَ، وَاشْتَرَاهُ فُوطِيفَارُ خَصِيُّ فِرْعَوْنَ رَئِيسُ الشُّرَطِ، رَجُلٌ مِصْرِيٌّ، مِنْ يَدِ الإِسْمَاعِيلِيِّينَ الَّذِينَ أَنْزَلُوهُ إِلَى هُنَاكَ. وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ فَكَانَ رَجُلاً نَاجِحًا، وَكَانَ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ الْمِصْرِيِّ.) (سفر التكوين - الاصحاح 39) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل فترة انقطاع الابن عن اهله، وصحيح انهما يختلفان في طول فترة الانقطاع الا انهما يتفقان في هذا الانقطاع.

5- الجمع بين الابن البعيد والاهل:
ان التي قامت بالجمع بين الام وابنها موسى الرضيع هي الاخت: «فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ». (سفر التكوين – الاصحاح 2) فيما نجد ان الاخوة في قصة يوسف هم الذين جمعوا بين الاب وابنه: «أَسْرِعُوا وَاصْعَدُوا إِلَى أَبِي وَقُولُوا لَهُ: هكَذَا يَقُولُ ابْنُكَ يُوسُفُ: قَدْ جَعَلَنِيَ الإِلهُ سَيِّدًا لِكُلِّ مِصْرَ. اِنْزِلْ إِلَيَّ. لاَ تَقِفْ». (سفر التكوين – الاصحاح 45) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل الجمع بين الابن البعيد عن الاهل واهله.

6 - العيش في قصر الفرعون:
في قصة موسى يصل موسى الى قصر الفرعون: «وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا». (سفر التكوين – الاصحاح 2 ) فيما يعيش يوسف في قصر الفرعون ايضا «فَحَسُنَ الْكَلاَمُ فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ وَفِي عُيُونِ جَمِيعِ عَبِيدِهِ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: «هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هذَا رَجُلاً فِيهِ رُوحُ الإِلهِ؟» ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «بَعْدَ مَا أَعْلَمَكَ الإِلهُ كُلَّ هذَا، لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ. أَنْتَ تَكُونُ عَلَى بَيْتِي، وَعَلَى فَمِكَ يُقَبِّلُ جَمِيعُ شَعْبِي إِلاَّ إِنَّ الْكُرْسِيَّ أَكُونُ فِيهِ أَعْظَمَ مِنْكَ». (سفر التكوين – الاصحاح 41) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل الوصول الى قصر فرعون، اي الى السيطرة على مقاليد الحكم، موسى يقود شعب اسرائيل خارج مصر بعد ان يقابل الفرعون، ويوسف يقود شعب مصر في محنة السبع سنوات العجاف.

7- الجريمة:
في قصة موسى يفتن موسى بقتله شخصا مصريا: «وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ.» (سفر التكوين - الاصحاح 2) اما في قصة يوسف فانه يفتتن بزوجة العزيز: «ثُمَّ حَدَثَ نَحْوَ هذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ لِيَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ هُنَاكَ فِي الْبَيْتِ. فَأَمْسَكَتْهُ بِثَوْبِهِ قَائِلَةً: «اضْطَجعْ مَعِي!». فَتَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ. وَكَانَ لَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ، أَنَّهَا نَادَتْ أَهْلَ بَيْتِهَا، وَكَلَّمَتهُمْ قَائِلةً: «انْظُرُوا! قَدْ جَاءَ إِلَيْنَا بِرَجُل عِبْرَانِيٍّ لِيُدَاعِبَنَا! دَخَلَ إِلَيَّ لِيَضْطَجعَ مَعِي، فَصَرَخْتُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ. وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ أَنِّي رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ». فَوَضَعَتْ ثَوْبَهُ بِجَانِبِهَا حَتَّى جَاءَ سَيِّدُهُ إِلَى بَيْتِهِ. فَكَلَّمَتْهُ بِمِثْلِ هذَا الْكَلاَمِ قَائِلَةً: «دَخَلَ إِلَيَّ الْعَبْدُ الْعِبْرَانِيُّ الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَيْنَا لِيُدَاعِبَنِي. وَكَانَ لَمَّا رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ». (سفرالتكوين – الاصحاح 39) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل الفتنة "الجريمة" على الرغم من نوع هذه الفتنة، لان لكل فتنة اسبابها التي تمهد لها.

8- العقاب:
ولأنهما يقومان بفعل يعد جريمة بعرف القانون والاعراف والتقاليد، فانهما يعاقبان. فموسى قتل رجلا مصريا وكانت عقوبته ان يقتل بأمر من الفرعون الا انه يفر هاربا: «فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هذَا الأَمْرَ، فَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى. فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ وَسَكَنَ فِي أَرْضِ مِدْيَانَ، وَجَلَسَ عِنْدَ الْبِئْرِ.» (سفر التكون – الاصحاح 2) اما يوسف فانه يدخل السجن لأنه اراد بزوجة العزيز سوء: «فَكَانَ لَمَّا سَمِعَ سَيِّدُهُ كَلاَمَ امْرَأَتِهِ الَّذِي كَلَّمَتْهُ بِهِ قَائِلَةً: «بِحَسَبِ هذَا الْكَلاَمِ صَنَعَ بِي عَبْدُكَ»، أَنَّ غَضَبَهُ حَمِيَ. فَأَخَذَ يُوسُفَ سَيِّدُهُ وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ، الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ أَسْرَى الْمَلِكِ مَحْبُوسِينَ فِيهِ. وَكَانَ هُنَاكَ فِي بَيْتِ السِّجْنِ.» (سفر التكوين – الاصحاح 39) وهكذا يتناص النصان القصصيان في مفصل العقاب الذي يأتي بعد الجريمة.

***

من خلال هذه الرحلة في فحص النصين الاسطوريين نصل الى نتيجة مفادها ان هذين النصين هما نص واحد وقد وضع بأسلوب اسطوري في نصين قصصيين يختلف الواحد عن الاخر في التفاصيل الدقيقة، الا انهما يتفقان في التفاصيل العامة. وايضا فان مفاصل التناص الحاصلة بين النصين وضعا ضمن ترتيب زوجي تقابلي، فنجد المفصل التناصي بين "غياب احدى الشخصيات" يقابله المفصل التناصي "العيش في قصر الفرعون"، والمفصل التناصي "الرمي في الماء" يقابله المفصل التناصي "الخروج من الماء"، والمفصل التناصي "فترة انقطاع الابن عن اهله" يقابله المفصل التناصي "الجمع بين الابن البعيد و الاهل"، والمفصل التناصي "الجريمة" يقابله المفصل التناصي "العقاب".

فكاتب التوراة "عزرا" كما تذكر المصادر صاغ هاتين القصتين صياغة تتناسب والكتاب الذي اريد ان يكون مقدسا عند من يؤمن به وبالديانة التي تقف من ورائه، وقد اخذهما من الحضارة السومرية (اسطورة جلجامش) وبدل وغير فيها، حتى تتناسب وغاياته الدينية. إن ارتحال موتيفة من نص الى نص الغاية منه هو اثراء النص الثاني وتنوعه بحيث ان المتلقي له لا يفكر ولو مرة واحدة بان النص الثاني هو النص الاول نفسه، وهذا يتطلب رؤية منهجية، وحذاقة في التدوين، وابداع ايضا. اذا كان اليهود، وعند الحديث عن الاباء المؤسسين، يؤكدون على وجود يوسف وموسى في الواقع، تاريخيا، وهذا افتراض كذبته المصادر التاريخية، واللقى الاثارية لوجود موسى ويوسف في ارض فلسطين او في مصر، اذ انهم يؤكدون على الوجود الواقعي دون التفاصيل التي ذكرت في النصين الاسطوريين، وهذا يؤكد ان الاسطورة تبنى على اصل واقعي ثم تفترق عنه في التفاصيل. ان ذكر هذه التفصيل جاء لتؤكد اهمية الشخص التي تتحدث عنه الاسطورة كما يحدث في تاريخنا الديني، و في حياتنا المعاصرة، حيث تروى اخبار كثيرة عن هذه الشخصية او تلك، أكانت حية او ميتة، وهي لم تحدث في الاساس الواقعي.

 

الهوامش:
1- الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي – دار الشؤون الثقافية العامة– 2001.

2- الملخص لكتاب العرب واليهود في التاريخ– د. جواد علي - ص 67 .

3 – مجلة الموقف الثقافي - ع/7/1997 – الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية - تقديم : سامي مهدي – دار الشؤون الثقافية العامة – 100 .

4 – مجلة الموقف الثقافي - ع/ 19 / 1999، ومن ثم نشرت في كتابنا (الذئب والخراف المهضومة) المطبوع في دار الشؤون الثقافية العامة عام 2001 .

5 – مجلة افاق ادبية – العدد الثاني لسنة 2016 .

6 - راجع : موقع الكتاب المقدس: التوراة والإنجيل على الانترنيت.

7 – القصص الشعبي العراقي في ضوء المنهج المورفولوجي، الموسوعة الصغيرة تحت تسلسل 219.

8 – راجع كتابنا الذئب والخراف المهضومة.

9 – موسى والتوحيد – سيجموند فرويد – ت . جورج طرابيشي – ط2- دار الطليعة – بيروت – 1977 – ص83.