تنشر (الكلمة) هنا المقدمة النقدية لكتاب الروائي والناقد السوداني المقيم في الولايات المتحدة الذي يهيئه للنشر قريبا، وهي مقدمة تكشف عن وجود عالم خصب من الإنتاج السردي في كل من القصة القصيرة والرواية لم يحظ بما يستحقه من نقد واهتمام من الواقع الثقافي العربي العريض، أملا منها في تدارك هذا النقص.

السرد في السودان: حوارات النصوص

وأسئلة الكتابة

أحمد ضحية

مقدمة:
١
عندما كتبت قراءتين نقديتين لروايتى الاستاذ محمود محمد مدني (جابر الطوربيد- والدم في نخاع الوردة)، وقراءة ثالثة لرواية بذرة الخلاص لـ(دكتور فرانسيس دينق)، لم تكن قد تبلورت لدي بعد، فكرة إصدار هذه القراءات في كتاب. فقد كتبت القراءات الثلاثة، في الفترة بين عامي 2000 - 2002 وكان الدافع الأساس لكتابتها، الاحتفاء بكتاب لم يحظوا سوى بالإهمال والتجاهل. أو القراءات الملتوية. ولذلك بدأت في قراءة عدد من النصوص الروائية - وأيضا القصصية بعد ذلك- من موقع القارئ. وكنت قد قدمت بعض هذه القراءات، في فعاليات مختلفة، فقد قدمت القراءة في رواية (الدم في نخاع الوردة) في منتدى بيت الثقافة، الذي كنت مشرفا عليه وقتها في العام 2001. وقدمت القراءة في رواية (بذرة الخلاص) ضمن فعاليات ندوات مركز الدراسات السودانية، احتفاء بدكتور فرانسيس دينق كرمز فكري وأدبي، بقاعة اتحاد المصارف- الخرطوم. في العام 2002.

ثم رأيت فترة إقامتي في القاهرة، في منتصف العام 2004 أن أصدر هذه المجموعة، من القراءات في كتاب، على الرغم من كونها تعد ناقصة، إذ أن القراءات التي قدمتها في الفترة من 2000- 2002 في فعاليات مختلفة، في منتدى المحامين بأم درمان، ومركز الدراسات السودانية، ومنتدى بيت الثقافة: حول الطريق الى المدن المستحيلة لأبكر آدم. و الزندية لإبراهيم بشير. والطواحين لبركة ساكن. وعصافير آخر أيام الخريف لحمد الملك، إلى جانب ورقة نظرية عن (الرواية والتاريخ) نشرت أسوة بهذه القراءات في الصحافة، والصحافي الدولي والأيام وصحف أخرى: كل هذه القراءات لم يتضمنها هذا الكتاب/ المخطوط، الذي لم يحالفه حظ النشر الورقي. وذلك ربما لشعوري، بأن ما اقتصر عليه هذا المخطوط، من قراءات حول السرد الروائي جهد غير كافٍ، لإلقاء الضوء على التجربة السردية، في السودان، من خلال رموز أو كتاب، ينتمون لأجيال مختلفة في الرواية والقصة القصيرة، ومع ذلك يظل جهد المقل ومحاولة، نأمل أن تكون قد ألقت حجرا، في بركة ساكنة! تضاف إلى ما أنجز من قراءات بأقلام نقاد سودانيين نكن لهم كل تقدير، كأستاذنا معاوية البلال.

٢
إذن ضممت إلى ما تجمع لدي، قراءة كنت قد أجريتها في العالم القصصي للأستاذ عثمان علي نور: رائد القصة القصيرة في السودان، قدمتها للمرة الأولى، في ندوة مركز الدراسات السودانية 2002 احتفاء ببلوغه سن التاسعة والسبعين. إلى جانب دراسة نظرية كنت قد كتبتها عن السرد في السودان، قدمتها في منتدى مجلة (أدب ونقد) في مستهل العام 2004 بالاشتراك مع الصديق الناقد المصري أحمد الشريف، الذي تولى الجانب التطبيقي، بينما توليت الجانب النظري. أضفت إلى هذه القراءة، قراءة أخرى كنت قد قدمتها في (ورشة الزيتون) حول اعمال دكتور طارق الطيب السردية والشعرية، بمشاركة الصديق الشاعر عفيف اسماعيل، والصديق الشاعر والناقد المصري شعبان يوسف، وآخرين من النقاد والكتاب المصريين، في خواتيم العام 2003.

وإلى جانب ما تقدم من قراءات، قمت بإجراء قراءات نقدية جديدة، لنصوص قصصية قصيرة، اتخذت من الأساتذة: عيسى الحلو، علي المك، محمد ابراهيم الشوش، مختار عجوبة، زهاء الطاهر، عادل القصاص، احمد الجعلي "أبو حازم"، صديق الحلو، آرثر غابريال، اغنيس لوكودو، استيلا قاتيانو، و الراحلة المقيمة: منال حمد النيل، نماذجا لها، كقراءات تطبيقية، تعطي فكرة محدودة، متصلة بما قالته القراءة المتعلقة بعثمان علي نور، ولكن عامة وواضحة، عن القص في السودان. خلال من اشرت اليهم بانتمائهم لأجيال مختلفة (من الستينيات مثل عيسى الحلو مرورا بالسبعينيات مثل زهاء الطاهر وانتهاء بأواخر القرن الماضي مثل ستيلا ومنال حمد النيل)، وذلك لشعوري أن واحدة من مشكلات القصة القصيرة في السودان، أنها لم تحظ سوى بالتجاهل النقدي. وهو ذات الإحساس، الذي جعلني أشعر، بضرورة نشر هذه القراءات، في كل من أدب ونقد، والثقافة الجديدة وفصول للنقد الأدبي، والمحيط الثقافي. إذ وجدت ترحيبا حارا من قبل هذه الإصدارات المصرية. وكان بعضها قد نشر في كتابات سودانية، وبعض المواقع الثقافية في الشبكة الدولية. كما أن صحيفة الصحافة السودانية -وأنا أشرف على إنهاء الفصل الأخير من هذا المخطوط، قامت بنشر بعض القراءات الواردة به في ملفاتها الثقافية، واسعدني هذا الاهتمام والمتابعة، لفصول كتاب نقدي لم ترَ كل أجزائه النور بعد.

من هنا تحاول هذه القراءات، أن تضيف إلى الخط البياني الأولي الذي رسمه د. مختار عجوبة والاستاذ معاوية البلال، لمسيرة السرد في السودان، إحداثيات جديدة، فهذه القراءات، تتصل بما سبقها -أعني تحديدا هنا الدراسة القيمة للدكتور مختار عجوبة (القصة الحديثة في السودان) ودراستي المركز الإعلامي السوداني اللتين اشرف عليهما الاستاذ معاوية البلال (كتابة الجنوب/ جنوب الكتابة) و(الانثى كذات كاتبة موضوع للكتابة)، وقبل كل ذلك كتابه القيم (الشكل والمأساة) فقد أفدت من هذه الدراسات كثيرا، خاصة في الفصل الأول، الذي خصصته للرواية. كما أفدت من دراسة دكتور عجوبة بوجه خاص، في الفصل الثاني (الذي خصصته للقصة القصيرة)، وكلا الفصلين عبارة عن قراءات تطبيقية، في النصوص موضوعها في سبيل الكشف عن الانحناءات والمنعطفات في تجربة السرد في السودان. ولذلك تظل هذه القراءات، مجرد مقدمة أولية، لابد من متابعتها، من خلال الممارسة النظرية. للنقاد والمبدعين السودانيين، في سبيل تشكيل حركة سردية ونقدية فاعلة، عبر التراكم الكمي فالنوعي -للنقد والإبداع معا- لتنطلق من هذا التراكم، بوصفه ممارسة تنجز رسم خط تطوره -الابداع والنقد معا- وانعطافاته وانقطاعاته، من خلال القدرة على التحرر، من سلطة السائد!

وهنا لابد لنا من إدراك، المجال الثقافي، الذي يتحرك فيه السرد في السودان. فالسودان عبارة عن افريقيا مصغرة .. إفريقيا التي يتقاطع عندها كل المحمول الحضاري الثقافي العربي الوافد، مع ثقافاتها وحضاراتها العريقة. وإذا كان السرد العربي الحديث، منذ بداياته يسعى في إصرار لا يلين، لأن يكون مرآة المجتمع المدني الصاعد وسلاحه الإبداعي، في مواجهة نقائضه، التي لا تزال إلى اليوم، مقترنة بتخلف التعصب، والتسلط والتطرف، متواصلة مع تراثها السردي العربي، في أبعاده المناقضة للاتباع والنقل، محاورة غيرها من روايات الدنيا العريضة، التي قاسمتها الهموم(1) فإن السرد الافريقي، هو الشكل الفني الأدبي الوحيد، الذي دخل عن طريق الاستعارة الخالصة، وفرض -فوق هذا- على تطور النموذج المحلي، ونهض في التأسيس لأرضية، ذات اتصال واستجابة شخصيين، بصورة ملموسة.

وقد قام السرد في افريقيا، بتكملة الرؤية الفنية للعالم، بل ادمج هذه الرؤية -بمعنى أكبر وأهم- في جماليات التقاليد الشفاهية، التي لم تنتم اليها اطلاقا! ونتج عن التفسير الأوروبي لها، بعد أن طوره التفسير الافريقي المحلي، مايسمى اليوم باسم السرد الأفريقي، والذي كان تطوره عن طريق الممارسة، ابتداء من التعبير المباشر، المسطح الفج، إلى التجربة المتقنة(2) وبلادنا -السودان- بحكم انها الملتقى لثقافة العرب وافريقيا. نجد أن السرد فيها حمل ما حمل من سمات الثقافتين. كما يعكس تطوره منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى الآن. شيئا من منعطفات ومنعرجات السرد في بلاد العرب وافريقيا، في مسيرته بين نتوءاتهما وعلى تضاريسهما الاجتماعية والثقافية. ليتخلق كسرد سوداني له قوامه الخاص، الذي يحمل ما يحمل من جرح السودان ومشاكله وهمومه! وربما ذلك ما جعلنا، نفكر في تخصيص قراءات (للسرد الافريقي) كجزء ثان من (السرد والرؤى)، وقراءات في (السرد العربي)، (كجزء ثالث)، ومن ثم تخصيص (الجزء الرابع) لأسرودات العالم الواسع، الذي تأثر به سردنا في السودان، سواء كان السرد الوافد من الغرب أو أمريكا اللاتينية وآسيا. والتي (القراءات) قد شرعنا فيها فعلا، نأمل أن يسعفنا الزمن في إكمالها!

٣
ثمة مقولة لـ(طراد الكبيسي) في كتابه (شجر الغابة الحجري). لا يزال سياقها العام -ومنذ وقت بعيد- يحاصر فضاء ذاكرتي. إذ لا تربط بين الإبداع العظيم والتمزقات الكبيرة، التي تحدث في المجتمعات فحسب، بل تتسامى بهذه التمزقات. مما يقترح أسئلة محددة، بخصوص الكتابة، في شروط مثل شروط السودان؟! وأزمات كالتي تحاصر مبدع السودان؟! هل هي كتابة معاناة.. أم كتابة تنفذ إلى الجوهر الإشكالي الإنساني .. وهل ترتقي -أو تتضاءل- الحالة الإبداعية، في مثل هذه الشروط، وهذا المناخ الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، الذي يولد كل هذا التمزق الذهني والمعنوي، الذي يتصل بالقيمي؟ وكيف يسهم مثل هذا الوضع، في انتاج كتابة مفتوحة على الإنسان، تحقق منه وفيه حضورا إنسانيا وجماليا عاليا -بل كيف يمكن لمنتج ابداعي، أن يتم في مثل هذه الشروط؟ وعندما يتم ما هي مساءلتنا الممكنة له؟ عن ماذا نغض الطرف؟ وعلى أي بؤر نسلط الضوء؟

٤
يبقى ما ارتبط بالتاريخ الإنساني كعلامات بارزة، ربما تضيء لنا، التعرف على بعض ما يحيط بالكتابة. وبتركيز خاص: أجناس السرد. وأكثر خصوصية: الرواية. وبتعبير بارت "انها موت -إذ- تصنع من الحياة معبرا، ومن الذكرى فعلا مفيدا. ومن الديمومة زمنا موجها، ودالا. لكن هذا التحويل لا يمكن أن ينجز، إلا في عيون المجتمع، فالمجتمع هو الذي يفرض الرواية، أى يفرض مجموعة من الإشارات(3) ولأن الإبداع عموما ينهض في الخيال، فالحيوات التي تتخلق في الرواية، هي في الواقع تتخلق من سقط الأفكار وركام الحياة. ومن بين كل انواع التشظي هذه، تتخلق البنى الحكائية، تبني عالما شاسعا، داخل الفضاء العام للحياة الواقعية. عالما ينتمي لهذا الفضاء، ولا ينتمي اليه في آن! فبين انتمائه للواقع ونهوضه في الخيال، خط وهمي رفيع، لا نستطيع الإمساك به أو تحديده. مهما قلنا بالتقنيات والنظريات. و.. و.. لأن لحظة التجلي، التي تمظهرت عنها هذه الرواية أو تلك، هي القانون الأساسي، الذي من خلاله يمكننا العبور، إلى واقعية هذا النص. لكنها -ويا للسخرية- اللحظة ذاتها هي القانون أيضا، الذي يؤكد نهوض هذا النص في الخيال! إذن من هنا تمثل محاولة التفسير أو التأويل، مأزق على نحو ما!

٥
تأثر مجالنا الثقافي السردي بـ"الواقعية الاشتراكية" لوقت طويل، -كما تأثر بالوجودية ايضا، ولكن بعد أن تمت معادلتها، في هذا المناخ الاستوائي -كان ذلك من الأوقات الخصبة لجنس الرواية. وكذلك من الأوقات التي بدأت فيها الرواية في السودان، تدخل في مأزق الواقعية الاشتراكية، كغيرها من روايات العالم الثالث، وهو يستقبل جنسا أوروبيا، لم ينتجه تطوره الحضاري، ويتأثر بالتطورات التي تطاله كل يوم. إذن ما هو مأزق الواقعية الاشتراكية؟! إذا غضضنا النظر عن تحويلها للشخصيات، إلى محض رموز ايديولوجية، بما ينعكس على مفهوم الشخصية "الإنسان"، بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي أو الطبقي (مع مراعاة أن بلادنا ليست صناعية، بالتالي لا ينطبق على مجتمعاتها مفهوم الطبقات، بالمعنى الذي عناه ماركس! كما أن الناس لا يولدون من أرحام امهاتهم فلاحين أو عمال، فعوامل عديدة تحدد مصائرهم مستقبلا!) .. إذا صرفنا النظر عن ذلك، يمكننا التوقف عند جملة المفاهيم الشمولية الأممية البائدة، التي حملتها هذه الرواية أو تلك. فإذ حاولت الواقعية السحرية، إلغاء ذلك الخط الوهمي، الفاصل بين المستوى الواقعي والمستوى الخيالي، في النص المكتوب. فان الواقعية الاشتراكية، نجحت في عكس الواقع البائس الرث كما هو!

هذا الجدل بين الواقعي والوهمي، استحوذ على الاهتمام عند النظر للواقعية السحرية .. هذا الجدل المفقود، فيما انتجته السوفياتية واستبدادها وصلفها -يتغنى البعض الآن بالتقاليد الديمقراطية القديمة لروسيا القيصرية - بما عبرت عنه - الكتابات المنتجة: غوركي وتشيخوف من تمزقات كبيرة، وبما اشبعت في وجدان الأمة الروسية. لما حملته هذه الكتابات من احزان وهموم ومآس. صحيح ان الثورة البلشفية، لم تنتج جوركي وتشيخوف، لكن بمجايلتهم لها حاولوا -مع أقرانهم- التعبير عن حلم منخفض الكلفة الإنسانية، ولا يمت لمدنية الدم والحضارة العسكرية بصلة! وكانت تلك واحدة من لحظات التمزق الكبرى، في مسيرة الكتابة السردية. التي يتحاور فيها الواقعي/ الوهمي، ليعبر عن الإنسان المحض دون ان يحوله الى رمز ايديولوجي، او يضع له مصيرا مسبقا!

لحظة التمزق هذه على مستوى الكتابة، هي تجل لتمزق أكبر على مستوى المجتمع. فأعظم مبدعي فرنسا -في وقت ما- مالارميه، شاتوبريان بلزاك، الخ.. انتجتهم تناقضات مجتمعاتهم، وتمزقات المجتمع الفرنسي بالدرجة الأولى. لذلك عندما كتب ريجيس دوبريه (غير المرغوب فيه) -في العقود الأخيرة للقرن الماضي- كان ذلك بمثابة خروج عن التناقضات، التي أثقلت التاريخ الفرنسي، بعد الثورة التي التهمت أبنائها. كذلك هي الميثولوجيا الخاصة بـ دوبريه، وعالمه السري واحباطاته. وتمزقه الفكري وذكرياته اليسارية وقلقه الجارودي. لذلك مثلت (غير المرغوب فيه) علامة مهمة على مستوى الواقع، وفارقة جديرة بالتوقف عندها، باعتبارها مرآة عكست التمزق الثوري في "فرنسا الحرة"، وتقلصات وتداعيات الخط الديجولي رغم كل شيء. وهزيمة التطبيق امام النظرية، والطموح لجيل عنيد حمل حلم فرنسا الشعارات الإنسانية النبيلة، لكنها تنهض على مستوى الخيال، بكل أسى الغربة وجمال الحزن، ولوعة الاحلام الكبيرة لعاشقين، مطاردين، راحلين في الأبدية -النضال- في سبيل زمن خاص وأجمل ومكان خاص وأجمل! فيما كانت التمزقات الانجليزية، والامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تتداعى إلى محض جزر في الارخبيل العريض، أحد دواعي الشعور بالانتماء، الذي عبرت عنه، الوجودية الجديدة واليسار الجديد، وتجلى لدى كولن ويلسن في "ضياع في سوهو" كتطبيق للامنتم، ومعضلاته النفسية ومشكلاته المعقدة، ازاء حياة واقعية قاسية لحد التفاهة، حيث الاشياء اكثر انسانية من الإنسان!

وعندما أخل النفط بقوانين البنى الاجتماعية، وأحدث اختراقات ثقافية عميقة في الفضاء الإسلامو- عربي. واهتز الواقع الافتراضي/ الماضي .. الراهن.. الذي ظل يعيشه العرب والمسلمون في العالم الثالث. ونقلهم -العرب- بذات الوقت بمنجزاته -النفط- الى حدود ارخبيل كوني، لا يرغبون بالغوص فيه، ويريدون -مع ذلك- الاستمتاع بمنجزاته، لضغوط البنى الاجتماعية -الهشة مع ذلك- والمعبأة بالمتناقضات، والمقيدة بالتقاليد السحيقة! هكذا إذن أضحى الواقع مزيجا من الواقع والمتخيل، وما بينهما معنى التحول: ممزقا التاريخ والناس والأشياء. وجابها تصورات الواقع الافتراضي! في الآن نفسه! فقط الواقع الفعلي، بتصوراته المختلفة للحياة والعالم والكون. لدرجة أن توترت المفاهيم وتساقطت الرؤى. فكان التحفز السري للجنس، والإلحاد والقلق الوجودي للإنسان. وكان عبد الرحمن منيف، والإبداع المغاربي بعد طول كمون، وصمت على التواطؤ السافر، للداخل والخارج والحرمان من الحقوق، الأساسية والحريات المشروعة كما في (مدن الملح). والبحث عن يوتوبيا في الصحراء، كما عند الكوني في (نداء الوقوق والمجوس ونزيف الحجر، الخ..): انه الحلم المشروع والمتضائل بالمشرق الكبير والمغرب الكبير.. وتلاقي الأطراف. لكنها الهزيمة أمام مهام ما بعد الاستقلال، بما مثلته: (نزيف الحجر) للكوني و (نوار اللوز) لواسيني و(اللاز) لوطار و(المنعرج) للفاسي.. وما حملته من تأزمات المثقفين والطلائع الثورية المزعومة، والكادحين وجماهير الشغيلة، الذين بلا هوية محددة، في جهاز القيم الهرمي سوى التوصيف لأوضاعهم الاجتماعية الرثة، التي تتناقض ووعيهم. وادمان الفشل الكبير، والبحث عن الذات كما في (أيام من عدس) لبهوش يسين" و(ألف وعام من الحنين) لبوجدرة، كقضية مطلوبة على المستوى الواقعي، تحاول أن تجد بديلا عن إجاباتها في التاريخ الزائف! الإجابات المزعومة؛ على المستوى الخيالي، بأبطال مزعومين!

ورغم الفارق الزمني بين هذا السرد وذاك، إلا أنها كـ"سرديات" (إعادة تكوين- وفق تزامن الأحداث- لزمن وبعد) وتجانس هو زمن السارد، الذي يربك صوته الخصوصي الأحداث، بحوادث سهل التعرف عليها! عملية الكشف عن التاريخ بواسطة وحدة طفيلية، تعطي للرواية التباس شهادة قد تكون مزيفة (4) تظل عالقة أقصى حدود فراغاتنا، فتساؤلات (محمد عديم اللقب) في ألف وعام من الحنين، هي شيء من احزان تلك (البيوت الواطئة)، لمحمد زفزاف .. وهي ذاتها تداعيات العم (صالح الزوفري)، في البراريك، وبعيدا عنها حيث التهريب والأخطار. إنها كتابة بين المتوهم والمزعوم و الحقيقي والواقعي! ولذلك أصر على أن هذه القراءات، هي مجرد مقدمة أو مدخل. لقراءة تجربة السرد في السودان -ضمن الفضاء السردي، الذي أشرنا إليه سلفا، فأي نص، هو نتاج حوارات مع نصوص أخرى، من مختلف أنحاء العالم- ولذلك حين أصر على كونها مقدمة، فذلك لأنها لا تتصف بصفة الشمولية، لكل المنجز السردي، وإنما تكتفي بنماذج سودانية متفاوتة، في مستوى جودتها الادبية والابداعية، في ازمان مختلفة.

وهي نماذج يسيرة، لا تعكس كم المنجز، ولكن تعبر -مع ذلك- عن المناخ العام، وفضاءات هذا المنجز السردي، وموقعه من منجز العالم والإقليم -تعبر عن السودان بمجاليه الإفريقي والعربي- خاصة أن المنجز المنشور قليل -رغم ما نراه الآن من انفجار سردي- ولا يتناسب مع الإنتاج الفعلي، وفي معرض ذلك يقول الروائي إبراهيم إسحق "الأدب العربي الآخر، ليست لديه هذه الإشكالات، التي نتحدث عنها، مثلا الكتاب العرب، يكون البعض منهم ليست لديه فكرة عن كتابة الرواية، ولا خلفية عن ذلك. وفجأة ينشر ثلاث روايات، أو رواية من ثلاثة أجزاء، لكن بقوة الدفع الثقافي لبلده، وانتماء القطر الثقافي في الساحة، يعطيه الدفع ويجد التقدير، حتى لو كان هذا العمل متواضعا، لكن الكتاب السودانيين يحتاجون لأن يقيموا أعمال بعضهم البعض".. وبالضبط هذا ما حاولناه، في (الجزء الأول من السرد والرؤى) وهي لحظة مناسبة للبدء في هذا المشروع.

إذ أن النقد في السودان، لا يزال في مراحل تطوره الأولى. منذ وضع أسسه محمد عثمان أبو ساق وأحمد حمداي وعباس صبحي، في خمسينيات القرن الماضي. وأرسى دعائمه في مراحل مختلفة، رافقت التحولات الحداثية كل من: دكتور مختار عجوبة، والأستاذ عبد القدوس الخاتم، والاستاذ احمد طه أمفريب. ومعاوية البلال، واحمد عبد المكرم، وآخرين كثر غيرهم! ومرورا بكل هؤلاء وأولئك، ممن أشرنا أو لم نشر اليهم. نجدهم قد أسسوا لعلاقة مباشرة مع النصوص الأدبية المختلفة، تتجاوز إطاراتها المباشرة، كي تستطيع الوصول إلى القدرة على التنظير، والادراج ضمن حركة نقدية فاعلة، في وسط ثقافي فاعل (بمعنى التداول الواسع، عبر المؤسسات للنص الأدبي. لقراءته وتحديد قيمته).

ما سبق كان هو الموضوع المركزي للفصل الأول، من السرد والرؤى، والذي تتصل به الفصول التالية لقراءاتنا في القصة القصيرة والرواية، التي استهللناها بقراءة حول: الأستاذ عثمان علي نور (رائد القصة القصيرة في السودان) وذلك لان الاستاذ عثمان علي نور "واحد من قلة من الكتاب السودانيين، نذروا ابداعهم. لفن القصة القصيرة. ومن هؤلاء أبو بكر خالد، جمال عبد الملك (ابن خلدون) علي المك، عثمان الحوري، ابراهيم اسحق ابراهيم (..) ان الخط البياني للقصة القصيرة. يوضح بجلاء مساهمات كتاب مثل: معاوية نور، وعبد الله رجب وعثمان علي نور ومحمد المهدي بشرى ومبارك الصادق وبشرى الفاضل وغيرهم(5)"

ولكن عثمان علي نور، يتميز عن كل هؤلاء بمختلف اجيالهم، بأنه الرائد في هذا الجنس من الابداع. ولم يطلق عليه هذا اللقب، إلا لأنه ربط مصيره، بمصير القصة في السودان. كما أكد الناقد عيدروس "كان على القصة القصيرة الانتظار بعض الوقت، بعد فترة الثلاثينيات. ريثما يظهر كاتب ينذر نفسه للقصة، ويتوفر على الاهتمام بها. كان هذا الكاتب هو عثمان علي نور(6)" وربما لكل هذه الأهمية لعثمان علي نور كتب القاص زهاء الطاهر بأسى: لو كنا في دنيا غير هذي الدنيا، وفي أرض غير هذي الأرض، وفي قارة لا كهذي القارة. وفي بلد غير بلاد الجن، وديوك الجن. لكنا أقمنا لك تمثالا من ياقوت، وآخر من زهر الماء، وكنا أقمنا لك شهبا تحكي بضياء، عن ضياءك يا نور. لكنا ملأنا الأرض عنك وردات وأزهار برية، وعصافير جوابه ومناديل عذراوات، وقناديل وقواديس وقوافي، وملأناها وفاء، وكنا زهونا بك زهوا، وقدمناك للدنيا وأهل الدنيا، وبارينا بك مواسم كل عطاء. ونفحناك من شغف القلب أوتار غناء، وضمخناك بكل عطر جال، في الأسماء. وجاء في الأسماء.. هذا القرن، الذي مضى خاننا اجمعنا. هادننا. قبل ما سقانا من كأسه المترعة (7) ولكل هذا وغيره، أفردنا للأستاذ عثمان علي نور وحده فصلا كاملا هو الفصل الأول، من هذه القراءات. ولذلك يجيء الفصل الثاني والثالث، قراءات تطبيقية. على خلفية ما تمت الاشارة اليه. في هذه المقدمة المطولة.

فنلاحظ على القصص والروايات، موضوع القراءة، كروايات وقصص: ابراهيم اسحق، محمود محمد مدني، مختار عجوبة، فرانسيس دينق، مروان حامد الرشيد، طارق الطيب، جمال الدين علي، سارة الجاك، محمد الطيب يوسف، الخ..) -بصورة عامة أن الاتجاه الواقعي السحري، يهيمن على فضاءاتها بشدة. كما عند الاستاذ مدني وأحمد أبو حازم وغيرهم .. بما هي -الواقعية السحرية- تعبير عن رؤية كونية سحرية للعالم. رؤية لا تاريخية، تنمحي فيها الحدود بين الأحياء والجماد، أو بين الثقافة والطبيعة. حيث تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة، وحيث نشاهد جانبا من هذا الواقع، السابق على مبادئ العقل والمنطق وقوانين السببية (8) ربما بسبب بكارة أرض البلاد الكبيرة -السودان- بغاباتها العذراء وسهولها الشاسعة، ونيلها الذي يشقها من أقصاها الى ادناها، وناسها المعجبين بأنفسهم -الذين يخالون، كأن ليس كمثلهم ناس!- وتنوعها الثقافي وتباينها الحضاري، الخ، الخ. ربما لحضور التنوع في كل شيء حتى العقائد. والخصوبة المدهشة للخيال في ظل هذا المناخ الثقافي .. ربما أن كل ذلك، هو ما جعل البلاد الكبيرة -السودان- مصدر إلهام لا يضاهى.

ومن هنا جاءت السحرية، أكثر من كونها نتاج اتصال بأدب أميركا اللاتينية .. فالتراث المتنوع للسودان، والذي نهض فيه الشعر والدراما، اللذان ظلا يؤديان وظيفتهما داخل التقاليد الشفاهية، هو ما أنتج الرواية والقصة في السودان -طبقات ود ضيف الله- والتي اتخذت شكلها الحديث، من شكل وتقنيات الرواية الحديثة(9) فالرواية بشكلها الحديث، تعتبر فنا أدبيا حديث العهد في تربتنا الثقافية، ولا يزال خاضعا على المستوى التشكيلي، للمثل الذي تقدمه الرواية الغربية. هكذا نستطيع أن نكتشف، الكثير من المدارس الأدبية الأوروبية في رواياتنا وقصصنا. ونلاحظ عدم تشكل هذه الأجناس في مدارس ثابتة. إذ تمت استعارتها انتقائيا، وتهجين بعضها في سبيل محاولة تمثيلها جميعا. حتى تستطيع التعبير، عن صوت الروائي أو القاص (10)

ما هو الإطار النقدي العام، الذي اعتمدته هذه القراءات -سواء في الرواية أو القصة- لتفصح عن نفسها؟ اعتمدت على بعض المفاهيم البنيوية التكوينية (لوسيان غولدمان) والبنائية (تحديدا التحليل السيميولوجي)، وكذلك بعض المفاهيم المنهجية، في التأويل. كأداة استشعرت أنها أكثر قدرة، على سبر كنه هذه النصوص "التأويل مع شيء من التجاوز- مرادفا للأدب بمعناه القديم، وهو الأخذ من كل علم بطرف. لقد برزت التأويلية، كمعرفة تسعى إلى استقطاب، نماذج الاختصاصات في مجال النقد. متسلحة بتاريخها الطويل، متخذة عناصر قوتها، من انغراس جذورها. في النصوص المقدسة أولا. وفي أمهات التراث الفلسفي من جهة أخرى.. أنها مجرد منهج تسلكه بعض المعارف ومطية تركبها العلوم(11) واعتمادي لهذا المنهج المزيج، جاء نتيجة لشعوري كروائي وقاص، أن المناهج دوما عاجزة عن الإحاطة بالنص، ذلك لأن المنهج أكثر قدرة على الاشتغال في المادي القابل للتموضع، لكن النص الأدبي مادة هاربة عن الموضعة، لذلك يصعب على المناهج العلمية ضبطها بأدواتها، التي ربما تصلح لضبط العلوم التطبيقية، ولكنها مع ذلك تكفي في لهاثها خلف النص الأدبي، للامساك ببعض تلافيفه. ثم أن هذه القراءات هي إسهامات من موقع القراءة أكثر من كونها إسهامات من موقع النقد. القراءة التي تملك معرفة، ففي تقديري هي النقد الحقيقي. من جهة أخرى تأتي أهمية هذا الكتاب، في أنه لم يكتف بقراءة كتاب شماليين، بل ومن الجنوب ايضا.

٦
ثمة سبب رئيسي آخر مضمر، خلف (السرد والرؤى)، إذ لاحظت أن المشهد (الروائي السوداني) في الثلاثة عقود الأخيرة، يعيش حالة أشبه بالانفجار الروائي كما أشرت سابقا على عجالة، فما طبع ونشر حتى الآن، يفوق بكثير ما طبع ونشر، خلال كل العقود السابقة! وكنت دائما أتصور، أن تحقيق إنتاج نوعي في الرواية السودانية، لابد أن يمر عبر الإنتاج الكمي، وعمليات التطور والفرز، التي تفضي إلى كتابة نوعية، ذات قيمة فنية وجمالية كبيرة! وهنا ينبغي علينا التوقف عند المشهد السوداني، كمشهد يغيب عنه مفهوم الوسط الفني، بمعنى المؤسسات والوسائط، التي يطرح المنتج الإبداعي من خلالها، حيث يتم تقييمه وتحديد قيمته وإعادة طرحه للقارئ!

فخلال المتابعة لسنوات، للأصداء التي ترتبت علي هذا الانفجار السردي، لفتت انتباهي مواقف أيديولوجية سافرة، بدرت سواء من نقاد أو روائيين أو محررين في الصحافة الثقافية، ينتمون لأجيال مختلفة، والحقيقة أن كل هؤلاء وأولئك، إنما طرحوا أنفسهم بالأصالة أو الإنابة عن الجهاز الأيديولوجي والثقافي الإلغائي للنظام، كسدنة لتراث السرد والنقد، وكهنة لمعبد الأخلاق، خلال حوارات ومقالات واستطلاعات عديدة، شملت هؤلاء، تحدثوا، عن بعض أعمال روائيين وروائيات شباب، كحافظين لتاريخ السرد وتقاليده السودانية (الأصيلة)؟ التي لا يسمونها أو يحددونها في معرض إفاداتهم! ظنا منهم أن السرد شأن قبلي يتعلق بأمن القبيلة وشرفها العذري وأعرافها؟! ما يوحي بأنه يتوجب على أعمال هؤلاء الشباب، أن (تتحجب، وربما تصلي ركعتين قبل أن تلج المطبعة) وفي الواقع أن هذه العقليات، في تلقي المنتج الإبداعي، هي نتاج طبيعي لانحلال الدولة السودانية، وما أحدثه هذا الانحلال من فراغ ثقافي، وما ترتب على هذا الانحلال والفراغ، من فوضى في المشهد السردي موضوع قراءاتنا، إذ ليس مدهشا أن تجد تعليقا على خروج رواية التسعينيات، على سائد أعراف وتقاليد الرواية السودانية، على نحو ما قال به أحدهم: (مثل هذه الكتابة محاولة لكسب الآخر الأوروبي، بحثا عن الشهرة. وهي كتابة ليست للمتلقي السوداني والعربي)؟!

وكما يلاحظ على مثل هذه الآراء الفطيرة، التي لا تستند إلى معرفة حقيقية بالسرد، وبطبيعة المشهد السردي في السودان، أنها لاتخرج عن سياق كونها آراء ايديولوجية، تنطلق من مواقف (قيمية- أخلاقية) لا علاقة لها بالنقد الأدبي ولا يحزنون! فمسيرة الرواية السودانية منذ أربعينيات القرن الماضي، مرت بكثير من المنعطفات والتحولات، في بحر التقليد و الحداثة والتجريب، وربما بشرت ورسمت ملامح مدارس وتيارات لم تكتمل لعوامل عديدة. أهمها عدم اتصال التجربة الإبداعية، في واقع السودان الكبير، الذي تتبدى فيه هذه التجارب كجزر معزولة عن بعضها البعض، في أرخبيل الجغرافيا والناس والتاريخ الاجتماعي والسياسي. وهذا يجيب عن سؤال، أن ما طبع ونشر بالفعل، أقل بكثير من ما كتب فعلا، خلال أكثر من ستين عاما. الرواية السودانية من ناحية المرجعية الثقافية، تقف في منزلة بين المنزلتين: أفريقيا النبيلة، وآسيا العربية، بكل ما لهذين المرجعين، من غنى ثقافي وجمالي، أخذ تعبيره المتميز، في مجمل حركة السرد السوداني.

وهنا يأخذ توصيفنا للسرد في السودان بـ(السوداني) دلالة حساسة، فهو ليس توصيف متفق عليه، وربما ذلك يعود إلى أن الفشل، في حسم سؤال الهوية الوطنية للسودان (بما هو عليه فعلا، لا كما يريد له المستلبون أفريقيا أو عربيا) ربما أن هذا الفشل، الذي جعل الهوية متنازعة، بين أكثر من قطب، ألقى بظلاله على توصيفنا للسرد في السودان، ومع ذلك خلال قراءاتي للسرد السوداني -مجازا- عبر سنوات طويلة، تلمست خصوصية في هذا السرد، عن السرد العربي أو الافريقي إذا جاز لنا التعبير، لذا وبكل جرأة استطيع الزعم أن هناك (سرد سوداني يتشكل) له خصوصيته في ركام السرد الكثيف مؤخرا، في السودان. والذي يمكن أن نطلق عليه (سردا سودانيا في طور التشكيل) خلال نماذج باذخة، عبرت عن خصوصية هذا السرد، خلال الطيب صالح، محمود محمد مدني، مرورا بإبراهيم بشير، عبد الحميد البرنس، وكثر غيرهم من مختلف الأجيال. قالت أسروداتهم أن هناك سردا سودانيا في الطريق! خصوصيته غير مكتشفة بعد، وبحاجة لجهود نقاد حقيقيين، لديهم القدرة فعلا، على سبر غور هذا السرد، وإعادة اكتشاف قوانينه، وقراءة ملامحه وسماته، التي تميزه عن السرد العربي والأفريقي!

وبقدر ما أفاد السرد السوداني، من أسئلة الواقع المتنازع ما بين الموروث والجديد والوافد، ونهوض أسئلة محايثة، كالهوية .. كسؤال وطني وإنساني كوني. وكأحد الأسئلة المفصلية في رواية السودان، والتي كان الطيب صالح، قد عبر عنها في أعماله بدرجات متفاوتة، كما عبر عنها روائيون سودانيون كثر، بأجيالهم المختلفة، هذا السؤال هو نفسه سؤال (المركز والهامش)، فالأخير ليس سؤالا منفصلا بذاته، فهو كسؤال كشف عن موقع شخصيات السرديات السودانية من العالم، او من موقعهم المركزي والهامشي داخل النص، من هامش أو مركز (ما) في مجتمعاتهم المحلية أو القومية (داخل النص)! وهو كسؤال، انطوى على القلق والحوار الفكري والوجودي المبكر، الذي استشرفه الشعراء فيما مضى، وحاولت مدرسة (أبادماك) و (الغابة والصحراء) بما تنطوي عليه من جبال ووديان وقيزان، التعبير عنه، كما ما لبث أن برز (تشكيلا) في (مدرسة الخرطوم)، ليتقاطع كل ذلك في القصة والرواية، محطما الفواصل بين أجناس الإبداع، ويتنامى كسؤال خلال مسيرة السرد، لأكثر من نصف قرن، محددا أبعادا جديدة في أسئلة الرواية السودانية. الرواية كجنس سردي في السودان، بحاجة لنقاد يتحلون بالمسؤولية، تجاه وظيفتهم، كنقاد غير منشغلين بتحسس سراويلهم، وإنما بهذا المنتج الذي بين أيديهم، الذي لا يمكن اختصاره في مشهد جنسي لا يتجاوز أسطر قليلة، بين دفتي كتاب كامل! وبحاجة لوسط معافى من أمراض الغيرة والحسد، ومحاولات الإلغاء!

٧
ارتبط السرد فى السودان، سواء فى جنس القصة القصيرة أو الرواية، بالعلاقة الجدلية بين الإنسان، والتاريخ الذي شكله، بوقائعه وأحداثه. ولأن السودان -إلى حد كبير- جزء من المجال الثقافي العربي، أخذ عن العرب، الاحتفاء بالتاريخ "إن توحد التاريخ والحضارة في المخزون الثقافي للوعي الاجتماعي العربي، أنتج وعيا مبدداً، بالتاريخ والحضارة معا (12) وهو ما نلاحظ انعكاساته، في العلاقات الإشكالية، التي تربط إحداثيات النصوص السردية، خاصة في المقولات التي تنطلق منها (وهي مقولات إجمالا تتعلق بمتناقضات البنى الاجتماعية، بما هي الرؤى المختلفة، وبما هي الدين، العادات، التقاليد، الأساطير، إلخ. وبما يسهم به كل ذلك في إذكاء وقد سؤال الهوية وعلاقة الذات بالآخر.) وهي مقومات تنهض في التاريخي، بالمعنى اللوكاتشي "التاريخي بالنسبة للوكاتش، هو اشتقاق الشخصية الفردية للشخوص، من خصوصية عصرهم التاريخية. فالهيمنة الفنية على التاريخ، تعني إمكانية المبدع في تقييم خصوصية الحاضر المباشر، بإيلاء الأهمية الملموسة للزمان والمكان والظروف الاجتماعية، والنظرة إلى الإنسان بوصفه نتاج نفسه، ونتاج نشاطه فى التاريخ، مما يؤدى بالضرورة، إلى اعتبار فكرة التقدم الإنسانى قانوناً تاريخياً وفلسفياً محسوسا(13) وفى هذا الإطار ظلت تجربة السرد في السودان، مسرحا لتداول الرؤى المتباينة، التي يتقاطع عندها التاريخ، والمجتمع والإنسان، بهاجسه اليومي، وأسئلته الوجودية، والكونية، المحيرة والحارقة! وتمزقاته فى واقع مبني على الاختلاف (التنوع) والخلاف (إقصاء التنوع) بما يعادل (القطيعة)! لتمثل حركة السرد فى السودان، خلال مسيرة تطورها منذ طبقات ود. ضيف الله (فى شأن الأولياء والصالحين) مرورا بملكة الدار محمد عبد الله وإبراهيم إسحق إبراهيم والطيب صالح ومحمود محمد مدنى وكل الأجيال المتعاقبة منذ الأربعينيات، حتى اللحظة الراهنة، اتصالا لهذا التوتر والقلق الإنساني الجمالى، المصنف سردا!

كما أثر غياب (مفهوم الوسط الثقافي)، عن المشهد الثقافي في السودان، سلبا على تجربة السرد إذ (أعاق حوار نصوص الأجيال المتعاقبة، بحيث يخلق هذا الحوار تجربة سردية متصلة، يمكن قياس تطور تجربة السرد من خلالها) إذ إن عدم وجود مؤسسات، لتداول المنتج السردي على نحو واسع، وتقييم العمل السردي، وتحديد قيمته، أسهم في خلق حالة من الإبهام والارتباك، إزاء تطور التجربة السردية، وهنا أيضا تبرز علاقة التاريخ بالغياب الفاجع لمفهوم الوسط الثقافي! وقبل ذلك الغياب الأكثر فجيعة للنقد والنقاد؟! وثمة غياب اخر، في الحضور الخجول للمبدع، والذي ربما ارتبط بقمع أجهزة الدولة الأيديولوجية منذ 1956 حتى الآن. ما دفع المبدعين للبحث عن متكآت أخرى، مثل انفتاح السرد فى السودان، على السرد فى أمريكا اللاتينية والغرب (سواء باللغة الإنجليزية أو لغة الترجمة إلى العربية)، ومما لا شك فيه أن السرد في السودان، قبل انفتاحه على السرد في الغرب وأمريكا اللاتينية، كانت له تجربة حوار عميقة ومتصلة مع السرد في مصر، والمشرق العربي بصورة عامة.

وما يبرز كعلامة واضحة، أن السرد في السودان -إلى حد كبير- هو إعادة إنتاج للسرد العربي، بحيث غاب أثر السرد في أفريقيا عنه، إلا قليلا! وهنا يبرز سؤال الهوية مرة أخرى، ليطل برأسه كأحد الأسئلة الأشد حرقا؟! ومنذ خواتيم القرن الماضي، أخذت تتبلور رؤية جديدة حول اتصال التجربة السردية، وإيجاد مؤسسة تعبر عن هذا الاتصال، تمظهرت هذه الرؤية في تجربة نادي القصة السوداني، الذى تأسس في العام 2000 واصدار ابتداءً من العام 2001 مجموعة ضمت ثلاثين قصة لعشرة كتاب ينتمون لأجيال مختلفة، تتراوح بين الثمانينيات والتسعينيات، وحملت هذه المجموعة اسم (دروب جديدة - أفق أول) ، كما كرر النادي ذات التجربة في العام 2002، بإصداره لأفق ثان لعشرة كتاب آخرين .. وهكذا استمرت مسيرة النادي في النشر حتى الآن! وما يميز هذه التجربة ملمحان أساسيان: ١/اعتماد مفهوم العمل الجماعى. ٢/ الاهتمام بالصوت السردي الجنوبى. والتواصل مع افريقيا، خلال المشهد الثقافي التشادي!

وهكذا نجح نادى القصة الوليد، فى التأسيس لتجربة، فشل الآباء والأجيال التي أعقبتهم- باستثناء رائد القصة عثمان علي نور، منذ الأربعينيات في بنائها. هجست القصة القصيرة في السودان، بصورة أساسية، بطرح السؤال: كيف يكون الإنسان، أكثر إنسانية، ليرى كل شيء، فيشيد من هذه الآلام العظيمة، حياة أفضل، وهو نفس ما عبرت عنه نظرة تشيخوف للحياة التافهة في روسيا! ومثل هذا السؤال الخلاصة، التي تتقاطع عندها كل الأسئلة الحارقة، ابتداءً من الأسئلة، الخاصة بقضايا المرأة، مروراً بسؤال الهوية، ومتناقضات اليومي المعاش!

٨
جنس القصة القصيرة:
انطلقت القصة القصيرة في السودان، من خلال مجلتي الفجر والنهضة، منذ أربعينيات القرن الماضي، وولدت وقد هيمن عليها الاتجاه الواقعي الرومانسي والوجودي، وقد عبرت عن هذه الهيمنة، الكتابات السردية القصيرة، لرائد القصة القصيرة في السودان (الأستاذ عثمان علي نور)، الذي نشر أول مجموعة قصصية قصيرة (غادة القرية)(14)، وقد اتسمت قصصه وقصص الجيل الذي جايله وتلاه مباشرة، باعتماد الحبكة على التعمية والمفاجآت، ما جعلها تبدو مفتعلة، وتقريرية أحياناً! (15) ومنذ عثمان علي نور، وحتى اللحظة الراهنة، مرت القصة القصيرة في السودان، بمسيرة طويلة ومعقدة من التلاقح والتطوير والاستلهام، برزت خلالها أسماء عديدة مثل صلاح أحمد إبراهيم في مجموعته (البرجوازية الصغيرة)، وعلى المك في (حمى الدريس) و(هل أبصر أعمى المعرة)، وعيسى الحلو في (ريش الببغاء) و(وردة حمراء لأجل مريم) وبشرى الفاضل في (حكاية البنت التي طارت عصافيرها) و(أزرق اليمامة) وصديق الحلو فى (الفصول) و(غصة في الحلق) وسلمى الشيخ سلامة في (مطر على جسد الرحيل)، وعادل القصاص في (لهذا الصمت صليل غيابك) ومبارك الصادق، وأحمد ضحية، زهاء الطاهر، واستيلا قاتيانو، ومنال حمد النيل، بثينة خضر مكى، وعمر الصايم، ومعاوية محمد الحسن، وغيرهم تقلبوا بين مختلف الاتجاهات والتيارات والمدارس، خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، تعبيراً عن سيرورة إنسان يمضي في اللانهاية، بحثا عن قيم الخير والحرية والجمال.

إن ما أنجز من قصة قصيرة في السودان، لهو كثير مقارنة بحداثة تجربة كتابة القصة، في شكلها الحديث، كجنس غربي وافد إلى السودان. وتعتبر ملكة الدار محمد عبد الله، من الرواد الأوائل في هذا المجال. إذ إن أول مسابقة للقصة القصيرة أجرتها إذاعة أم درمان 1947 فازت فيها هذه الأديبة، بالمرتبة الأولى عن قصتها (حكيم القرية) (16) ومنذ الأربعينيات حتى الآن. تطورت القصة القصيرة في السودان. تطوراً كبيراً في ظل مناخ التنوع الثقافي الخصيب بإيحاءاته، الغني في دلالاته وبيئاته الغامضة!

وإذا كان لكل نص بنيتان، واحدة ظاهرية هي بنية المتعة (متعة الحكي) والثانية بنية خفية تحمل (رؤيا العالم)، نجد أن القص السودانى غنى فى بنيتيه: (الظاهرية) و(الخفية)، بغنى مناخاته وفضاءاته؛ المتنوعة. فالقصة القصيرة منذ موباسان وتشيخوف، حدثت لها تحولات وتبدلات كثيرة، واستطاع القاص السوداني، استيعاب كل هذه التحولات والتبدلات، فجاءت قصته دينامية الشكل والمضمون، خالية من المواقف السكونية.

٩
جنس الرواية:
تعتبر ملكة الدار محمد عبد الله، من أوائل الروائيين في السودان، إذ كتبت روايتها (الفراغ العريض) في العام 1952 وصدرت هذه الرواية في العام 1970 عن المجلس القومي للآداب والفنون، والمعروف أن أول رواية سودانية هي رواية (تاجوج) لعثمان محمد هاشم في 1947 تليها رواية (إنهم بشر) لخليل عبد الله الحاج في 1962 واتسمت الروايات فى هذه الفترة، برصانة اللغة، إلا أن تقنيات الكتابة يُلاحظ فيها ضعف واضح! وقد مرت الرواية السودانية منذ الخمسينيات حتى هذه اللحظة الراهنة بمحطات عديدة، تقلبت فيها بين الواقعية، كما عند ملكة الدار، والواقعية السحرية كما عند الطيب صالح ومحمود محمد مدنى وعيسى الحلو. وإذا كان جيل الستينيات، أرسى دعائم تقنيات حديثة، وشق السبيل إلى تطبيقاتها العملية، في سردياته الروائية من خلال: (موسم الهجرة وبندر شاه وعرس الزين) للطيب صالح، أو (جابر الطوربيد والدم فى نخاع الوردة) لمحمود محمد مدني أو (أعمال الليل والبلدة وحدث في القرية، وأخبار البنت مياكايا ومهرجان المدرسة القديمة)، لإبراهيم إسحق إبراهيم، فإن ثمرات تقنيات هذا الجيل؛ تتجلى في أعمال الأجيال اللاحقة مثل (الجنخانة) لعمرو عباس و(مسرة) لبشرى هباني و(الزندية) لإبراهيم بشير ابراهيم و(مارتجلو ذاكرة الحراز، وأشجان البلدة القديمة، وثلاثية صانع الفخار) لأحمد ضحية، وغيرها من روايات لروائيين كثر، حاولوا إلقاء حجر، في بركة ساكنة!

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن كثير من الروايات في تسعينيات القرن الماضي، هجست بالأحداث الكبرى، سواء كانت سياسية أو طبيعية، وبالتاريخ والحاضر السياسي الممأزق، بفعل تجربة الديكتاتورية المستمرة. فهي تاريخية- رواية التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، بالمعنى العام للرواية، بوصفها فنا يتعذر على بنيته التكوينية، أن تعادل الراهن وتزامنه، دون أن تخترقه تعاقبيا، وتاريخيتها تتصل برؤيتها، أكثر مما تتصل بأحداثها وتقنيتها القادرة على تفريد العام، أي اشتقاق الشخصية الفردية من خصوصية عصرها التاريخي، وما يتولد عن ذلك، من طابع ملحمي، قادر على استحضار صورة صراع المصائر الفردية، بالتقاطع مع المصائر الوطنية (17).

وقد مثلت كل هذه الروايات (بما في ذلك صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل لعيسى الحلو، المتهمة بأنها إعادة إنتاج لموسم الهجرة) حضورا إنسانيا عاليا، قاسمه المشترك، التاريخ الذي تتمحور فيه التجربة؛ بحضورها الحى ونكهتها المميزة، لكأنها تجربة طازجة، راهنة! فالذاكرة المشتركة للنص/ القارئ، تلتقط كل ما هو جوهري في المقولة والشكل والمضمون، وتكثف كل ذلك، في إبداع روائي فذ منذ الستينيات "الوظيفة المعرفية للنص، ثمرة تحقق الوعي فى الممارسة، بغض النظر عن درجة قدرة الوعي على تحقيق التطابق، أو التغاير كدال يطمح إلى احتواء مدلوله، والسير عليه فنيا ومعرفياً ودلالياً (18)، من هنا كانت للتجربة الروائية في السودان، أهميتها الخاصة، إذ تقاطعت فيها أحدث التقنيات، كما انشغلت بتوطين قيم الحداثة والتنوير، إذ نهض القول الروائي من مواقع عدة: التحديث والردة .. قضية المرأة، والسلطة الذكورية القابضة، ومشاكل الهوية وسؤال المركز، الهامش، والحرب الأهلية.

١٠
المهاجرون والسرد:
إذا كانت الكتابة مقاومة للموت، فالسرد وطن الكاتب، ومن الأمور اللافتة للنظر في السودان، ظاهرة الكتاب المهاجرين والمغتربين، فكثيرون وجدوا أنفسهم مضطرين لترك البلاد الكبيرة والاغتراب والهجرة، إلى منافٍ بعيدة، أو وجدوا أنفسهم بهذه المنافي: فى أمريكا وأوروبا والعالم العربي. وكتبوا كثيراً من الأعمال الرائعة في مجال القصة والرواية، بحاجة لأفراد دراسات وأبحاث بكاملها، لاكتشاف القوانين التي تتحرك فيها. بعض هذه الكتابات كتب باللغة العربية وبعضها الآخر بالإنجليزية، وبعضها وصل السودان، وأغلبها لم يصل! ومن أشهر هؤلاء المهاجرين والمغتربين لدى القارئ السوداني، ليلى أبو العلا وإبراهيم بشير وأمير تاج السر وأحمد محمد الأمين وعبد الفتاح عبد السلام وطارق الطيب -لكن هذا الأخير يعتبر حالة خاصة سنتعرض لها في حينها- وقد مثل هؤلاء سفراء للسرد السوداني في البلدان التي نشروا فيها أعمالهم الرائعة، التي ينقص بعضها، النقد في السودان، لإحيائها كجزء من نسيج التجربة السردية، في المشهد السردي السوداني.

١١
السرد فى جنوب السودان:
أحد أهم الأسئلة التي طرحها السرد في الجنوب: سؤال الهوية، إذ يواجه السرد في جنوب السودان مفارقة كونه مكتوبا باللغة الإنجليزية، لقارئ إن لم يكن أميا (ويكاد يكون أميا في الجنوب) فعلاقته ضعيفة باللغة الإنجليزية -باستثناء المتعلمين بالطبع وهم قلة مقارنة بغير المتعلمين- إذ إن القارئ في السودان بصورة عامة لغته الرسمية، سواء التي يتحدث بها، أو يمارس بها حياته اليومية -بل ويفكر ويحلم بها- هي اللغة العربية! وأبرز ما اعتمدت عليه البنى الحكائية، في السرد الجنوبي كتيمات أساسية: الهوية، قضية المرأة، الطقوس، الأساطير، الحكايا الشعبية وعلاقة الإنسان بالمكان، واتسم السرد الجنوبي بتوظيف التقنيات الحديثة أسوة بالسرد في الشمال، كالأسلبة الاجتماعية وانعكاس المرايا لبث التاريخ الذاتي، إلى آخره من تقنيات مثل الاسترجاع، والاستشراف. كما وسم العديد منها الأسلوب الأرسطي الموباساني كما عند جوناثان ميان وألينو رول دينق(19)، ونجد أن السرد في الجنوب والشمال يسير في خطين يتقاطعان عند نقطة واحدة، تمثل مشتركا إنسانيا كونيا في جوهره: سؤال العلاقة بين الذات والآخر!

ومن أبرز الكتاب الجنوبيين: تعبان لينفق (الكلمة الأخيرة) 1968، و(مات زنجى آخر) 1968 جاكوب جل أكول: (عودة العاصفة) مجلة الخرطوم 1995 اغنيس لوكودو: (الربيبة) مجلة سوداناو 1995 ألينو رول دينق: (نهاية القحط) صحيفة الصحافة 1978 (حفيد كاهن المطر) مجلة الإذاعة والتليفزيون 1976 (الشجرة العرجاء) سوداناو 1976 فرانسيس فيليب: (من أجل محبة اياي) 1976 أيتم آياك: (حياتان) 1976 فرانسيس دينق: (بذرة الخلاص وطائر الشؤم) 1994، وقد صدرت الروايتان عن مركز الدراسات السودانية القاهرة.

١٢

الرواية والتاريخ:

ويُلاحظ عند تناولنا لروايات روائين سودانيين، تبرز الى الذهن تيمة أساسية: (التاريخ) إذ أنه منذ أخذت الرواية في السودان، توظف التاريخ في إطار تحليلها للظاهرة الاجتماعية، التي تشكل المحتوى السردي بأحداثه ودلالاته. أصبح التاريخ بُعداً أساسياً، في الفضاءات، التي تحيل الرواية، إلى ملابساتها. وبهذا المعنى كونت ملابسات التاريخ، في موسم الهجرة للطيب صالح (شخصية مصطفى سعيد) كشخصية منبتة، ووسمت هذه الملابسات مستر سعيد بآثار عميقة، كما لم يكن التاريخ بعيداً عن الغرباء، الذين حفلت بهم رواية أحمد حمد المك (عصافير آخر أيام الخريف) المحتشدة بحكايا الذاكرة الشعبية، الناهضة في الشفاهي والأسطوري والفانتازي، وهي تبحث بين كل هذه العلاقات التي تربط الغرباء، وتحكم علاقاتهم في الجغرافيا. وفى بذرة الخلاص لفرانسيس دينق، نجد الالتباس بين مستوى الحكاية ومستوى القول، يربك المتلقي في تحديد الجنس، الذى تنتمى إليه هذه الرواية، التي تعالج التاريخ. إذ يتداخل ما هو حكاية/ تاريخ/ سياسى. مع ما هو روائي بالمعنى الروائى!(20) وهناك أيضا القاصة استيلا قاتيانو، التى يأتى تميزها من كونها الصوت النسوي، الذي يكتب باللغة العربية إلى جانب آرثر غابريال وآخرين، بين الأصوات الجنوبية.

وهنا يدخل مفهوم شمال/ جنوب فى مأزق لدى التعامل مع استيلا قاتيانو وارثر غابريال، فالكتابة إنسانية وكونية، لا تنهض في الانتماء الإثني أو الجهوي، ولكن تأخذ حيويتها وخصوبتها وخصوصيتها، من هذا الاثنى/ الجهوي الذي تنهض فيه ثقافة مغايرة لثقافة الشمال. إذن فاستيلا وارثر وأغنيس بقدر ما ينتمون للجنوب اثنيا، كذلك هم من الشمال، الذي منحهم ذاكرة أخرى، ووجدانا ثقافيا آخر، إلى جانب ذاكراتهم ووجدانهم الذي شكله الجنوب. فاللغة العربية التي تكتب بها استيلا وكتاب جنوبيون آخرون، ليست أداة تواصل وتفكير فحسب، بل هي الأسلوب الذي تحلم به، وتحيا به وتمارس به الحياة اليومية أيضاً! وهو ما يسهم أيضا في معالجة مشكل الهوية، بالإجابات اللازمة، عن طريق هذه اللغة، باتجاه تصحيح علاقة الذات بالآخر (الشمال/ الجنوب) وصولاً لكونهما ذات واحدة، تشظت إلى ذات وآخر، بتأثير عوامل متباينة.

١٣
المرأة والسرد:

باكتمال حلقات الوعى الاجتماعي والوطني في الأربعينيات والخمسينيات. ارتفع الصوت النسائي من خلال كتابات الأديبة: فاطمة عبد الرحمن في مجلة الفجر، في ظل مناخ صراعي حاد. بين قوى التقدم؛ التي تناصر قضايا المرأة؛ وقوى التخلف المناهضة لحقوق المرأة، وبرزت القاصة: امال عباس العجب، في مجلة صوت المرأة، وآمنة أحمد يونس، واستمرت المرأة القاصة في السودان، تعبر عن همومها وقضاياها، فيما تبدع من سرد قصصي وتطور من أسئلتها، ليفضي السؤال في رحلة الإجابة، على أسئلة أخرى، شائكة ومعقدة، قد تفضي لأسئلة الوجود الكبرى: الموت، الحياة، وعلاقة الإنسان بالوجود، كما عند زينب عبد السلام المحبوب وسلمى أحمد البشير، وزينب بليل، التي نشرت أعمالها في مجلة المنار 1957م. وقد اتسمت الكتابة النسوية فى هذه الفترة (الخمسينيات) بالتقليدية. فالبناء السردي محكم وفقا للمنظور الأرسطوطاليسي، ولكن اللغة تقريرية يغلب عليها الوصف، وتحاول عكس الواقع والوقائع، كما هي مكرسة لخدمة أغراض أيديولوجية وتربوية. ومنذ السبعينيات أصبحت الكتابة النسوية في السودان، ذات سمت يميزها، ككتابة مهمومة بالدرجة الأولى، بالخطاب التحرري الحداثي، انطلاقا من مفهوم: أن المرأة تعيش نفيا وجوديا، وبرزت هنا سلمى الشيخ سلامة، وسعاد عبد التام، وآمال حسين، وفاطمة السنوسي. وهكذا أشرع الطريق. بعد أن أرست قواعده الرائدات، منذ ملكة الدار محمد عبد الله، وزينب بليل، مروراً بسلمى الشيخ سلامة وصولا إلى سارة الجاك واستيلا قاتيانو، وأميمة عبد الله.

ويُلاحظ هنا أن الكتابة النسوية منذ السبعينيات، حتى الآن، استفادت من تقنيات الكتابة القصصية الحديثة، كما برزت اللغة القصصية في النصوص، كلغة تقترب كثيرا من تخوم الشعر. حيث تجد المفردة ملأى بالإيحاء، ومكثفة ومتعددة الدلالات، كما برزت تلك الوشائج الحميمة، التي تنطلق منها المرأة الكاتبة، في تأسيس إبداعها. انطلاقا من تجربتها الذاتية. ومن وعيها باختلافها. واستقلاليتها، وتصديها لآليات القهر المختلفة، التي تريد إحكام السيطرة على جسدها وعقلها "ومنذ هذه الفترة يمكن الحديث عن كتابة مختلفة للمرأة في السودان عن كتابة الرجل، وكذلك يمكن الحديث عن أن لكل قاصة صوتها الخاص (21)

خاتمة:
ظلت بنية السرد في القصة القصيرة، والرواية في السودان، منذ استقر هذان الجنسان، بين أجناس الكتابة في السودان. ظلا يكشفان عن المفارقة التاريخية للذات المتشظية إلى آخر، وهي تتحسس مركزية القمع الذي يطال كينونتها، حيث لا تملك إزاءه، سوى انكسارها الروحي والاجتماعي، وجرح هويتها المشكوك فيها، وأسئلة المهام التاريخية للتحرر الوطني، التي ظلت حبيسة الأضابير ولم تنجز. وقد تجلت هذه المفارقة، بدرجات متفاوتة. على مستوى القصة أو الرواية، منذ الميلاد في مجلتي الفجر والنهضة. في ثلاثينيات القرن الماضي، مروراً بمجلة القصة التي أسسها: عثمان علي نور، أبو القصة القصيرة في السودان، وأخذت الأسئلة الحارقة، تتطور وتنضج إثر كل جيل.

١٤
فيما اعترى البنى الاجتماعية فى السودان. من تمزقات وتشظي باعتلاء النظام الكولونيالي الإسلاموعربى منذ 1989 لدست الحكم، ووقوع البلاد في حقبة من حقب الانحطاط، التي لم يسبق لها مثيل .. برز من قلب هذا الركام من التمزق والتشظي، السرد الجنوبي، وسرد المرأة. علامتين بارزتين في هاجس الكتابة. وهى تسعى لتأكيد ذاتها، من موقع الحوار بين الذات والآخر. وإذا كانت فترة السبعينيات، هي فترة سيادة الشعر بلا منازع، فإن فترة التسعينيات من القرن الماضي، وأوائل القرن الجديد، هي فترة سيادة الرواية كجنس ينهض في تحليل التاريخ وإعادة إنتاجه، في سبيل خلق واقع أفضل، من واقع افتراضي متخيل. هذه الرحلة الطويلة منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى الآن (بالنسبة للقصة القصيرة والرواية)، هي رحلة شاقة. استلهمت فيها الكتابة من التراث تيمتها، ومن الواقع خصبه، ومن الأشكال الحداثية الغربية تقنياتها المبدعة. وتحاورت النصوص فى السودان مع النصوص الأخرى فى مصر، والعالم العربي مشرقه ومغربه، وأفريقيا، وأمريكا، وأمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا .. تحاورت حواراً بناءً. أنتج تجربة ناضجة في خاتمة المطاف: شكلا ومضمونا، عبرت عن خصوصية السودان كمفترق طرق، تلتقي وتتقاطع عنده حضارات أفريقيا العريقة، وحضارة العرب، وتقنيات الغرب الكولونيالى.

هوامش:

*مقدمة كتاب (مخطوط) بعنوان (السرد والرؤى- الجزء الأول): (قراءات في القصة القصيرة والرواية السودانية)، قيد الاعداد للطبع.

  1.  د . جابر عصفور. زمن الرواية. مهرجان القراءة للجميع 2000 طبعة ثانية . ص: 12
  2. علي شلش. الادب الأفريقي.عالم المعرفة آذار1993 ص : 141
  3.  رولان بارت. الدرجة صفر من الكتابة. ترجمة محمد برادة. مطبعة المعارف الحديثة. الرباط. ص: 57
  4.  السابق. ص: 100
  5. كتابات سودانية " كتاب غير دوري ". مركز الدراسات السودانية. العدد 22 ديسمبر 2002 ص: 35-36
  6. السابق. ص: 36
  7. نفسه: ص: 39
  8.  حسين عيد. جارسيا ماركيز وأفول الديكتاتورية. "دراسة في خريف البطريرك". الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988. ص: 52
  9.  علي شلش. السابق. ص: 141
  10.  الياس خوري. تجربة البحث عن أفق "مقدمة في دراسة الرواية العربية بعد الهزيمة". منظمة التحرير الفلسطينية "مركز الابحاث" 1974. ص: 110
  11. مجلة الرافد. أغسطس 2004 ص: 87
  12.  محمد جمال باروت والدكتور عبد الرازق عيد. الرواية والتاريخ، طبعة أولى 1991م دار الحوار للنشر والتوزيع. اللاذقية. ص5
  13. نفسه ص93
  14. مجلة الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، فبراير مارس 2004 ص: 93
  15.  ثقافات سودانية، إصدارة المركز السوداني للثقافة والإعلام، القاهرة، العدد الخامس 1999م ص76
  16.  نماذج من القصة القصيرة النسائية فى السودان، المركز السودانى، طبعة أولى 2002 ص: 21
  17.  دراسات لأحمد ضحية حول محمود مدنى نشرت بصحيفة الصحافي الدولي 2002، وأعيد نشرها في مجلة كتابات سودانية (جابر الطوربيد + الدم فى نخاع الوردة) 2003م  أهمية هاتين الروايتين، تأتي من كون مسكوت الحديث الروائي، يأخذ مشروعيته من استمرار شروط هموم مشروع التحديث، وبناء الدولة الوطنية الحديثة، والقوانين التي لا تزال تسوق المجتمع إلى الخلف: أي الضرورات التي أنتجت قوى التحديث.. وهما روايتا وقت راهن، مثلما عبرتا عن مناخ حركات التحرر فى العالم الثالث إبان الأربعينيات والستينيات

18. محمد جمال باروت، عبد الرازق عيد، الرواية والتاريخ: ط 1/ 1991م دار الحوار اللاذقية، ص11

19. كتابة الجنوب وجنوب الكتابة، المركز السودانى للثقافة والإعلام، القاهرة ط1/2002 ص 18

20. احمد ضحية : دراسات السابق كتابات سودانية ، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، مارس 2003 ص102

21. السابق. ص: 103

 

القاهرة/ فيلادلفيا ٢٠٠٥- ٢٠١٧