يعرض الباحث العراقي في هذه المقالة عملية تفكيك جاك ديريدا لما تكرس من أطروحات حول البلاغة الأفلاطونية، وما ترتب على هذا التكريس السلطوي من إدانة أطروحات السوفسطائيين ذات الطبيعة النسبية والجدلية وتشويهها. ويعيد عبر هذا التفكيك طرح العلاقة الإشكالية بين الشفاهة والكتابة وبين السلطة والبلاغة.

صيدلية ديريدا الافلاطونية

في تفكيك بلاغة العلاج الميتافيزيقي

حيـدر علي سلامة

تسعى هذه الدراسة الى إعادة النظر في تاريخ الخطاب السفسطائي من خلال البحث والتحري في جدلية الكتابة والشفاهية كما عرضها تحديداً الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا في كتابه (صيدلية افلاطون). ومن المعروف ان هناك تداخل اشكالي كبير بين تاريخ سرديات الخطاب السفسطائي من جهة؛ وبين سرديات الكتابة والشفاهية من جهة أخرى. وهو تداخل فسح المجال امام تشكيل وإعادة تشكيل نسق أيديولوجي متكامل من المفاهيم المقلوبة للبلاغة والحِجَاج واللغة؛ وحجب "انطولوجيا التواصل الكلامي والبلاغي" في الفلسفة السفسطائية الذي كان من المفترض ان يمثل البديل لأنطولوجيا الكلام/ والكتابة الميتافيزيقية المتخيّلة كما ظهرت في ادبيات افلاطون الفلسفية.

وأدى ذلك في نهاية المطاف الى افراز تاريخ طويل من النسيان والاهمال لمجمل التحولات الحاصلة بفضل ظهور السفسطائية في تاريخ الانطولوجيا والفلسفة الغربية. وما تبعها من انعراجات واسعة النطاق في البلاغة والمنطق والحِجَاج؛ والانتقال بتاريخ الانطولوجيا من التمركز حول اللوغوس الافلاطوني الهوياتي الى انطولوجيا "الحدث اللغوي والفعل البلاغي في العالم" اي الى ما يُعرف ببلاغة الانطولوجيا النسبية التي كانت اصدق تعبيرا عن تطلعات الانتلجنسيا السفسطائية في التحرر من التراتبية/ الهيراركية الميتافيزيقية ومن القوانين الطبيعية المطلقة والبدهية والمحكومة بمنطق الحقيقة وحقيقة المنطق المعياري. (يُنظر: Barbara Cassin: L’effet sophistique, Paris, Éditions Gallimard,1995.)

وهذا ما يدعونا للقول ان مفهوم "بلاغة الانطولوجية النسبية" كما جرى تدشينه مع السفسطائيين، يعد بمثابة البيان الفلسفي الطليعي الاول ضد "انطولوجيا افلاطون التقليدية". بعبارة أخرى، أن بلاغة الانطولوجيا النسبية السفسطائية شكلت المقدمات الأساسية الضرورية في ولادة بلاغة جديدة لم تعد مستندة على منطق الابستمولوجيا القديم وخطابه اللساني واللغوي، وانما تقوم على منطق اخلاقيات التواصل النسبي التي يجري بفضله تفعيل التقنيات الحِجَاجية وسؤال الاحكام القيّمية كي لا تبقى مجرد هويات ومبادئ قبلية مطلقة يمكن لها ان تتحول في حال توفر الشروط الملائمة الى امتلاء شمولي وسطح سياسي تنحرف من خلاله قيّم الحق والخير والجمال لتنعكس في صور مفاهيم القوة والسلطة والاستبداد.

من هنا، تأتي محاولتنا الراهنة لتسليط الضوء على طروحات وأفكار وتأويلات ديريدا التي طرحها في كتابه (صيدلية افلاطون) حول مفاهيم الكتابة والفارماكون وذاكرة الكلام واللغة، كما تشكلت حسب رؤى وتصورات افلاطون وسقراط وارسطو، والتعاطي مع السفسطائية بطريقة حرفية اكثر منها تأويلية، وكأنها لم تكن وما زالت تمثل خطاب الآخر الفلسفي والبلاغي، ولم يكن افلاطون نفسه يبتكر إشكالية الكتابة إلا بوصفها المرادف لنقد وتقويض الخطاب السفسطائي برمته؟

النص السفسطائي: جدل الحكايات الاكاديمية والحكايات الافلاطونية:
ونظراً لان (محاورات أفلاطون) كانت وما زالت تمثل مرجعاً اساسياً لقراءة واستنطاق تاريخ الحُجَج المستبعدة والمغيبَة عن المتخيّل السردي الفلسفي والبلاغي حول الخطاب السفسطائي. وهو مرجع استند عليه «التقليد الأرثوذكسي حتى أصبح يرى في سقراط المبتكِر العظيم "لفلسفة المفاهيم"، بل ويزعم أيضا انه عثر في محاورات افلاطون، السقراطية منها حصرا، على عرض متحرر نوعاً ما من ذلك الطابع الحماسي في نقد المبادئ والمفاهيم الأخلاقية. وجرى فيما بعد إذكاء ذلك الوهم كلما قمنا بدراسة تلك المحاورات باعتبار إن كل واحدة منها تتطابق وتتلائم مع غرض الكاتب الأصلي؛ أو مع واقعة تاريخية في حياة سقراط. وما أن نواصل البحث، كما فعلنا في كتابنا هذا، في الثيمات المطروحة عبر اعمال افلاطون المتعددة والمختلفة حتى نصل سريعاً الى التعرف على المغزى الحِجَاجي لتحليلات المفاهيم التي عرضتها لنا تلك المحاورات. فلا أثر ما لأي مجهود منظم؛ ولا لنقد موجه لهدف محدد، يمكن لهما تكوين تعريف كامل ومتكامل حول مفاهيم اخلاقية وافكار عامة مهما كانت. لقد سعى أفلاطون في تلك المرحلة تحديداً من حياته، الى كتابة تلك المحاورات السقراطية عندما أصبح في حوزته الوسيلة التي تجعله يدحض بواسطتها تلك الأفكار المتداولة والاكثر شعبية بواسطة الكتاب المعاصرين له -في إشارة إلى علماء البلاغة السفسطائيين-. تلك الأفكار التي ربما كان يرغب في إعادة صياغتها في اشكال تحاكي نمط المحاورات الرائعة وتلك المجادلات الكلاسيكية القديمة بأسلوب منمّق. وبذلك إذن، يدين افلاطون بالكثير إلى تلك المصادر ولأطروحاتها سواء تلك التي نسبها إلى نفسه ووضعها على لسان سقراط او تلك التي حمَّل سقراط مسؤولية دحضها».   (Eugène Dupréel: la légende socratique et les sources de Platon, éd. Robert Sand-Bruxelles, 1922, p. 110)

وفي الوقت الذي كان يسعى فيه افلاطون الى تشكيل نظامه السردي لغرض التطابق مع لغة الانطولوجية القديمة في محاولة منه لمواجهة لغة انطولوجية الخطاب السفسطائي الحادثة. كان يعتمد -حسب رأي دوبريل- في بناء مجمل محاوراته على طروحات وأفكار السفسطائيين، فعلى سبيل المثال «ان محاورات مينوس وكرايتل وفايدروس نهلت جميعا خلال عرضها لوجهات نظر متعددة من اعمال السفسطائي هيباس Hippias كبير المنظرين حول علاقات الطبيعة والقانون. وخاصة من كتاباته حول طبيعة الكائن الانساني، وحول الطرق المنهجية لاكتسابه المعرفة؛ وعن كيفية اكتشاف وعرض الحقيقة العلمية. ان هذا العمل الضخم لاحد كبار السفسطائيين غير المعروفين وهو هيباس لم يكن يمثل فقط المصدر الأساسي لأفلاطون، بل يعد أيضا المنبع الاصيل لمدرسة كانت فيها الكتابات الأرسطية تشكل أحد اهم ثمارها الأكثر نضجاً وتقدماً».  (Ibid. p. 254-255)

ويبدو ان افلاطون ذهب الى ما هو ابعد من ذلك بكثير. «فقد ظهر لنا فيما بعد ان المحاورات السقراطية لا تدين في معارفها حول الادبيات القديمة التي زعمت عرضها، إلا لأبحاث مضنية تتعلق باستلهام عملية اخراج المشاهد وترتيب الاحداث المتتابعة في المحاورات وبناء الشخصيات من الكتابات الأدبية الكوميدية لمعاصريه من أمثال ارستوفانيس وايبوليس وأتباعهم! حيث كانت هذه الاعمال تشكل بالنسبة لأفلاطون المصدر الرئيس في بناء الجانب الدراماتيكي في محاوراته، بالضبط كما كان يمثل كل من بروتوغوراس وبروديكوس وهيباس المصدر الاساسية لأعماله في الجانب الفلسفي تحديداً. وغني عن القول أن أفلاطون لم يكن يتوفر على ذلك الوازع لدى المؤرخ كما عند الفيلسوف، وهو ما جعله يمضي قدما في التصرف بحرية تامة مع معطيات الكوميديا ومع المعطيات الفلسفية للسفسطائيين وكتاباتهم. فهنا نجده يقتطع ويوصل ويوظف النظريات والأفكار؛ وهناك نجد فنتازيا افلاطون تأخذ وتترك ما تريد، تتبنى وتحور ما ترغب به. وبقدر ما كان يعيد صياغة الشخصيات الهزلية التي استوحاها من كبار الكوميديين في محاوراته، بقدر ما كان افلاطون يعيد تزويقهم وتنميقهم بالشكل الذي يتلاءم مع المعنى المناسب له. فأصدقاء سقراط حصرا انتفعوا من حماسة هذا الأخير ليظهروا هم الأكثر لطافة. اما السفسطائيون فعلى العكس تماما، بمقدار ما كان خطابهم الفلسفي والبلاغي يتعارض ويختلف مع حجج البطل سقراط، عمد افلاطون الى الصاق جميع اشكال السخرية وصفات البشاعة بهم في كل مشهد يستدعي ذلك وبعناية متقنة.» (Ibid. p. 289)

لقد مهدت فلسفة السوسيولوجيا التعددية للفيلسوف البلجيكي دوبريل (1879-1967) الطريق لتجاوز روح التأليف الفلسفي السائدة آنذاك والمعتمدة في كتابة تاريخ الفلسفة عامة والسفسطائية خاصة. بمعنى آخر، لقد سعى دوبريل عبر مجمل مؤلفاته المختلفة الى التحرر من سلطة منطق الاعتياد على المنشورات المتآلف معها banalité في التعاطي مع محمولات جاهزة حول مفاهيم وآراء الفلسفة السفسطائية، مما اغلق باب الاجتهاد والتأويل لتاريخ هذه المدرسة الفلسفية والبلاغية العريقة على أحكام قيمية دوغمائية غير قابلة للنقاش. وقد بدا ذلك واضحا من خلال النهج الذي اختطه دوبريل في الخروج عن سيادة "الروح الكلية والوضعية" المسؤولة عن إنتاج وترويج مثل تلك الاسلوبيات الارثوذكسية الطابع في عرض الفلسفات التاريخية والنسبية والمادية كالسفسطائية وغيرها. وهذا ما دعاه الى القول: «لقد حاولت بكل ما في بوسعي أن أتتبع اثر كل مفكر من هؤلاء المفكرين القدامى عبر شتات مخطوطاتهم المتناثرة هنا وهناك، وذلك من اجل معرفة الخصائص المحددِة لإبداع كل واحد منهم»، ليتابع: «وبهذا نعلن أن كل من هذه الشخصيات الأربعة: بروتوجوراس، جورجياس، بروديكوس، وهيباس، هم في الحقيقة مفكرون اصلاء ومستقلون وخصوم بلاغيون اشداء بكل معنى الكلمة». (Eugène Dupréel : Les Sophistes Protagoras, Gorgias, Prodicus, Hippias, éd. Du. Griffon, 1948, pp. 9-10)

أزمة الخطاب التواصلي في جدلية الكتابة/ والشفاهية:
ان فسح المجال امام تلك القراءات المختلفة للسفسطائية، هي بمثابة القبول بالآخر والاعتراف بحقه في الرأي وطرح حجج مختلفة وعلينا التحاور والتواصل مع تلك الحجج التي لطالما جرى اقصائها على مدار تاريخ الفلسفة لصالح حجج خطابية مسيطرة في كل حقبة زمنية. لهذا، ان العودة إلى جينالوجيا تلك الحجج واستنطاقها وبعثها من جديد، هو مسألة في غاية الأهمية والخطورة في آن واحد. خاصة في واحدة من اهم الجدليات واعقدها في تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة والمتمثلة في جدلية الكتابة/ والكلام؛ أو جدلية الكتابة/ والبلاغة. فهذه الجدلية تعد واحدة من أهم الثيمات الفلسفية التي تسلط الضوء على طبيعة الصراع بين افلاطون والسفسطائيين وعلى مواضع تلك الحجج المغيبة والمتحولة الى منطق تراتبي تتقاسمه المؤسسة الاكاديمية والخطاب الفلسفي معاً.

من المعروف أن أفلاطون رفع من شأن الكلام الشفاهي، وحطّ من قيمة الكتابة. فقد: «عرض أفلاطون في محاورة فايدروس وجهة نظره في الكتابة بوصفها وسيلة للتعبير عن الأفكار، وتثبيت الأقوال، وأسند رأيه إلى "سقراط"، وقام "سقراط" بإسناد موقفه إلى حكاية مصريّة قديمة. وفحوى الحكاية أن الإله المصريّ "تحوت" توصل إلى اكتشاف علم العدد، والحساب، والهندسة، والفلك، ثم اخترع، أخيرًا، الحروف الأبجدية، ورحل إلى الملك "تاموز" عارضًا بين يديه كلّ ما توصّل إليه، معتقدًا بأنه قدّم منفعة لا نظير لها للمصريّين. طلب الملك من "تحوت" أن يعرض عليه كلّ ما اكتشفه، وابتكره، ثم دعاه لبيان فوائد، ومزايا، تلك الاكتشافات، وما أن بدأ بموضوع الكتابة، حتى خاطب الملك بفرح قائلاً: "هاك أيها الملك معرفة ستجعل المصريّين، أحكم وأكثر قدرة على التذكّر، لقد اكتشفت سرّ الحكمة، والذاكرة". وفوجئ إذ جاء ردّ الملك، بأنّ ذلك الاختراع "سينتهي بمن يستعملونه إلى ضعف التذكّر، لأنهم سيتوقّفون عن تمرين ذاكراتهم حين يعتمدون على المكتوب، بفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجيّة غريبة عن أنفسهم، وليس بما في باطن أنفسهم».

قرّر أفلاطون في محاورته أنّ "الكتابة غير إنسانيّة"، لأنها "تؤسس خارج العقل ما لا يمكن في الواقع أن يكون إلاّ في داخله"، وبرهانه على ذلك أنها تدمّر الذاكرة، فأولئك الذين يعتمدون عليها سوف يصبحون كثيري النسيان، أي أنّها تضعف القوى العقلية، وتضعف الاستعدادات النفسيّة. يظهر الفكر الحقيقيّ في سياق المناقلة الشفوية بين أشخاص أحياء يتحاورون، ويتبادلون الأفكار، والمواقع. أما الكتابة فسلبية لأنها "محاكاة متحجّرة للكلام". تمارس الكتابة خطرًا على الذاكرة، ومحوًا لقدراتها، لذا فهي آفة خطيرة، إنها كالترياق الذي يمكن أن يؤدي إلى الموت، فإذا كان ثمة خطر يداهم الذاكرة فمصدره الكتابة، وإذا كان ثمة سبب ينشّط الذاكرة فهو الكلام، ويعود ذلك التناقض بين وظيفتي الكتابة والكلام إلى كون الأولى غريبة عن النفس فيما الكلام صادر عنها باعتبارها مستوطَنته الأصليّة، فقدرته على التعبير عن الحقيقة مصدرها قربه من منبع الحقيقة، أمّا الكتابة فوسيلة عاجزة عن الإفصاح عمّا تدّعي حمله، وإلى ذلك فهي تثبّت وضعًا جامدًا وحرفيّا للمعنى. لا تراعي الكتابة المقام ولا تؤكد على المقاصد، وتفتقر إلى البراهين التي يقتضيها سياق تداول الحقائق، إنها بالإجمال شيء "غير إنسانيّ" لأنها تريد أن تظهر بطريقة متعسّفة ما يوجد داخل العقل والنفس إلى الخارج دون الأخذ بالاعتبار أن ما تريد إخراجه لا يمكن أن يكون إلاّ في داخل العقل والنفس». (عبدالله ابراهيم: الكتابة والترياق، مقال، صحيفة الرياض السعودية، 6 سبتمبر 2014م - العدد 16875 صفحة رقم 19 )

نستنتج من النص أعلاه، أن أفلاطون عد الكتابة لا تاريخية؛ وان الكلام الشفاهي هو التاريخي وحده لأنه متصل بالمجتمع وبحياة وكينونة الأفراد. اذ رأى الكاتب إبراهيم: «1-إن الكتابة آفة الذاكرة فيما الكلام الحي منشط لها. 2-الكتابة غريبة عن النفس لأنها تفِدُ إليها من خارجها، فيما الكلام نسيب للنفس لأنه يستوطنها.3 -الفنون الكتابيّة ساذجة لا قيمة لها، ولا يعتدّ بها، والمجد للفنون الكلاميّة. 4-التعلّم الكتابيّ لا جدوى منه لكون وسائله غريبة، والتعلم الشفويّ هو المفضّل. 5-الكتابة كائن ميت لا قدرة له على الجواب، فيما الكلام كائن حيّ له قدرة التفاعل مع الآخرين». (المصدر نفسه)

بهذه الطريقة الاختزالية والوصفية الموضوعية objectivity المحددة، تجاوز الكاتب عبد الله إبراهيم على اهم الإشكالات المنهجية والفلسفية والميتودولوجية المنهجية المؤسسة لجينالوجيا التاريخ الشفاهي oral history والذي بدت مظاهره الثقافية والاسطورية والمعرفية واضحة المعالم خصوصا في جدلية الكتابة/ والشفاهية في فلسفة/ ومحاورات افلاطون. فقد تعامل إبراهيم مع ثنائيات الكتابة/ والشفاهية في المنظور الافلاطوني بطريقة بدت أقرب الى الحرفية والارثوذكسية التاريخية التي لا تترك أي مجال لإعادة النظر في الأسس التي قامت وشُيدت عليها "أنظمة التاريخ الرسمي" - المؤدلجَة والمؤدلجِة بالضرورة. وهذا يذكرنا من جديد ببنية الإهمال المتأصلة في طرق التعاطي الاكاديمي مع إشكالية الكتابة والشفاهية في تاريخ الفلسفة اليونانية عامة والافلاطونية خاصة.

ولحق بتلك البنية من الإهمال، تغييب مفهوم الذاكرة الجماعية collective memory في إشكالية الكتابة والشفاهية. وكأن هذا المفهوم منفصل تماما عن سياق الحياة الثقافية في أثينا وعن أنثروبولوجيا اللغة والخطاب وتقنيات السرد وإنتاج اليات القصّ والحكي في بنية الثقافية الامية والعادية للمواطن اليوناني الممتلئة حياته بالحكايات والقصص والاساطير الشعبية. وهذا ما جعل نص الكاتب يتعامل مع مفهوم ثنائية الكتابة/ والشفاهية باعتبار ان الكتابة تمثل كائن ميت في حين ان الكلام يمثل كائن حي له القدرة على التفاعل مع الآخرين. على الرغم من انه بين الكتابة الميتة والكلام الحيّ هناك فضاء تاريخي يتشكل فيه منطق الممارسة والمقابلة بين المجاميع الكلامية اليومية الذين يعيدون انتاج سردهم وذاكرتهم التاريخية من خلال استعادة خبرة الماضي بطريقة شفاهية.

ولطالما مثل المحتوى السردي في الحكاية الشفوية مجموعة من الشفرات الثقافية والادراكية والمعرفية في قاع الذاكرة الإنسانية. ومن خلال عمل تلك "الشيفرات" في السياق الاجتماعي والثقافي يتشكل الخطاب التواصلي الإنساني وتتشكل معه أيضا مختلف اشكال المعارف والاعتقادات القيمية واللاهوتية الشعبية المتعلقة بالنفس والمعرفة والفضيلة والخير المطلق. فمحتوى الحكاية اذن: «هو الطريقة التي حُكيت او قيلت بها، واللحظة التي رويت فيها تشكل مصدر لكل معارفنا حول السايكولوجيا الجماعية والفردية». (Oral History… the challenges of dialogue, edited by: Marta kurkowska- krzustof zamorski, studies in narrative 10, john Benjamin bublished, Amsterdam, 2009.p13)

ومن خلال وضع هذه المصادر في قلب التاريخ الشفاهي، بعد تخليصها من الثوابت القبلية والميتافيزيقية الافلاطونية. نضع أنفسنا بذلك امام اول عتبة من عتبات الحِجَاج الاقناعي الشفاهي، وذلك من خلال المقاربة بين كل من: الحوار dialogue والتاريخ الشفاهي oral history  «فالحوار يحتل موقعا مهماً في إكساب إنسانيتنا طابعاً تاريخياً وذلك لكونه عنصرا يحوّل ويغيّر كل تواصل مع  تجربة جديدة يمكن لها ان تؤثر على مستوى فهمنا للماضي المختزل في بناء كتلوي block building قارّ في الهوية والذاكرة الإنسانية». (Ibid., p.15) فالعلاقة بين الحوار والتاريخ الشفاهي هي "علاقة جدلية" ومتفاعلة لا يمكن الفصل بينهما، لأنها في الواقع تعيد قراءة وتأويل التاريخ الرسمي من جهة؛ وتاريخ الممارسة الثقافية للذات في المجتمع من جهة أخرى. فيغدو الحوار هنا ليس «مجرد تقابل بين شخصين بل هو أفضل اختبار لوظيفة التاريخ الشفاهي في الفضاء العام public sphere بوصفه تاريخ للجمهور والعامة».  (Ibid., p.17)

يتضح من كل ما سبق ان إشكالية الشفاهية والكتابة في المفهوم الافلاطوني واليوناني، أصبحت تمثل إشكالية الفلسفة في صورها المجازية بامتياز. وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان التعاطي مع مثل هكذا إشكاليات من منظور "ارثوذكسي وحرفي واحد" كما مرّ معنا في عرض الكاتب عبد الله إبراهيم. وهو امر يدعو للتساؤل عن السبب الذي جعل الكاتب يُفضل استخدام مثل تلك الرؤية الحرفية في عرض هذه الإشكالية؛ بدلا من تفضيل الرؤية التأويلية؟ ألا تتوفر هذه الإشكالية على العناصر والاصول اللسانية والتواصلية والسردية الكافية لان تدعونا الى إعادة قراءتها والنظر في خطابها المسكوت عنه؟ الا يتوفر إبراهيم على تلك الخلفية الاكاديمية اللسانية والسردية الكافية من اجل الاضطلاع بهذه المهمة؟ وفوق كل شيء، لماذا يتم السكوت دائما عن مراجعة وتأويل ثنائية المشافهة/ والكتابة في خطابنا الفلسفي خاصة؛ واللساني والثقافي عامة؟

نعتقد ان سياسة تكريس مثل تلك القراءات النمطية والحرفية إنما يعود الى سيادة تفضيل الحُجج الافلاطونية المتنفذة في مؤسساتنا الاكاديمية حيث تعكس مجمل قيّمها الثقافية والأخلاقية الخاصة بها وبالشكل النخبوي الملائم لها. وإذا أجرينا بعض المقاربات في قراءة ثنائية الشفاهية/ والكتابة، سنجد ان هناك نقاط تقارب عديدة بين ما عرضته التأويلات الافلاطونية بشأنها وبين التأويلات الأكاديمية الجديدة. فمثلا: عندما اعطى افلاطون أولوية القول الشفاهي على النص الكتابي لم يؤسس أي قطيعة بين الانطولوجية الميتافزيقية القديمة والانطولوجية الشفاهية الجديدة؛ بين نظريات المعرفة القبلية ونظريات المعرفة الشفاهية والتاريخية؛ بين مفاهيمه عن الاخلاق والفضائل والخير والعدالة التي تقع جميعها بمعزل عن تاريخية الانسان؛ وبين الاشكال التواصلية واللغوية والمعرفية الذي يقتضي شرط تلازمها مع العقل الشفاهي، نقد مجمل الانساق الميتافيزيقية الافلاطونية الثابتة والقارة خارج حركة تاريخية القول الشفاهي. فكيف استطاع افلاطون عقد توفيق بين قيم الاخلاق المطلقة المثبتة في الكتابة والميتافيزيقا؛ وبين قيم التواصل والتحاور المتشكلة في العقل الشفاهي؟ وإذا كان افلاطون ضد الكتابة بوصفها خالية من الحياة ولا تمثل جوانية النفس وكلامها الحيّ، فلماذا اذن لم يُعر أي اهتمام للعامة في فلسفته؟ وهل يمكننا ان نفصل بين العامة والشفاهية والامية؟ وإذا كان افلاطون فعلا ضد الكتابة، فلماذا اذن لم يعمل على تأسيس فلسفة تواصلية تخرج على منطق الكتابة النخبوية القبلية؟

ربما كانت هذه بعض من الإشكالات الفلسفية والثقافية التي طرحتها ثنائية افلاطون بين المشافهة والكتابة. هذه الثنائية التي أصبح معها العقل الشفاهي يشكل مقدمة أولية لولادة العقل السياسي وإعادة فهمه وتأويله بما يتناسب والوسيط التواصلي الجديد"new medium of communication "  هذا الوسيط الذي «لا يقتصر ويتقيد وجوده بدوائر النخب فقط». (Craig cooper: politics of orality…orality and literacy in ancient creece, v6 .brill, 2007.p12) لهذا ظلت الفلسفة الافلاطونية فلسفة موالية للنخبوية والنخب السياسية/ والتعلمية على حدا سواء. فلم يطرأ عليها أي تحول او تغير سواء بعد الثنائية وما بعدها، ولم يشهد النظام التعليمي في عهد افلاطون عامة وفي مرحلة الثنائية خاصة أي تحول راديكالي يُعيد الاعتبار الى "الجمهور المتكلم/ والمخاطَب". بل على العكس من ذلك تماما فقد بقي مجتمع القول الشفاهي/ الامي يحيا في ظل سستم رعاية "الحجج المشتركة والمتداولة في ايديولوجيا الحس المشترك" وتابعا لنظام التعليم النخبوي. وهو ما يتناقض مع فلسفة التعليم/ ونظام البايديا paedeia  الثقافي بصورته التي دشنها الخطاب السفسطائي وأعاد فيها الاعتبار الى المتكلم واضعاً إياه في قلبْ الكلام والخطاب واستعمالات اللغة، وقَلَبَ منطق الحقائق والقيّم الافلاطونية لتستقر على الأرض وتكون تاريخية ومتحولة وقابلة للنقاش والسؤال وإعادة النظر في الاحكام القيمية والحُجج الشائعة. وبذلك، شكل منعرج البايديا السفسطائي قطيعة راديكالية مع مفهوم البايديا القديم ونظامه "الابستمولوجي الاساساتي الافلاطوني" وانضباطه التعليمي النخبوي المؤسس هو الاخر على قيم نخبوية اساساتية مطلقة. اذن يمكننا القول ان بلاغة الخطاب السفسطائي وحجاجه الاقناعي والحواري هي التي مثلت "الوسيط التواصلي الجديد" في "تاريخية العقل الشفاهي" حيث تحولت المفاهيم المطلقة الى ممارسات وفاعليات ثقافية واجتماعية تعيد تشكيل مجمل الاحكام الأخلاقية والقيمية المطلقة من خلال جعلها متصلة بنسبية المتكلم والمتعلم والحكيم.

من بلاغة الانطولوجية الأمنية الى بلاغة الانطولوجية النسبية:
من هنا يمكننا القول، انه مع انطولوجية بلاغة الخطاب السفسطائي النسبي، جرى إعادة الاعتبار الى ما يعرف بـ «فلسفة المحادثة الشفاهية" وذلك من خلال عملية الفحص والتحري inquiry  لعمليات تشكيل كل من: الحكم الجماعي collective judgment والرأي العام public opinion أي الدوكسا doxa. وهذا لن يتحقق الا مع مفهوم البلاغة الحوارية rhetoric conversational  المنتجة لخطاب التفاعل الاجتماعيsocial interaction  غير القابل للتمأسس الهوياتي القبلي والمطلق القابل لان يتحول الى سلطة او ايديولوجية يمكن لها ان تشكل الحياة الاجتماعية بقيم وممارسات أخلاقية مفروضة على طبقات اجتماعية معينة من اجل المحافظة على "سياسة تنميطها وتوهيمها" بمقولات أخلاقية تعمل وفق قوانين النخبة المسيطرة في كل عصر.

والمتبحر في محاورات وكتب افلاطون يمكنه ان يلاحظ انهماك هذا الفيلسوف في اعداد جسد وصياغة متخيّل سردي تتوفر فيه كل شروط الطاعة والانقياد للحفاظ على جمهوريته الفاضلة. «لا سيما وان هناك الكثير ممن وصفهم أفلاطون بالحمقى في مدينته المثالية الذين لن يمكنهم برأيه أن يكونوا فلاسفة. لذلك، كان يرى ان علينا أن نترك لهم شيئا من السعادة في الاعتقاد بعظمة ومجد الكينونة l’Être الذي لا يمكنهم الشعور به دون الكلام وتداول خطابه الميثولوجي السردي والاستسلام لنهجه الوعظي. من هنا، فرض أفلاطون سيطرة الجدل dialectique البرهاني على بلاغة خطابه الميثولوجي بطريقة صارمة للغاية، ليتمكن فيها من التحكم بعالم الصيرورة الحسي غير العقلاني وبالآراء والاعتقاداتdoxa . وهذا ما اتضح مثلا في الحقيقة التي تضمنت عليها أسطورة المعادن والقائلة ان الفيلسوف لا يحرر البشر المنضوين تحت مقولات الفضة والحديد، وإنما كل ما يفعله لهم، هو استبدال الكهف بآخر غيره، فمن كهف أقل ظلمة إلى كهف على اية حال. لان النور لا يكون صالحاً إلا لفئة معينة من الناس. فكم كان الفيلسوف كانط مخطئا عندما قال أن جمهورية أفلاطون تعبر عن المثال الأعلى في الحرية الإنسانية». (انوار طاهر: في تأويل بلاغة التعليم ... من الكهف الافلاطوني الى الحِجَاج السفسطائي، مجلة الكلمة اللندنية، العدد 115، نوفمبر/ تشرين الثاني، 2016)

وهنا علينا التوقف عند مسألة مهمة ومفصلية في تاريخ البلاغة اليونانية عامة؛ والافلاطونية خاصة. حيث نلاحظ انه بمقدار ما افاض الباحثون والمختصون في الفلسفة واللسانيات في كرم إطلاق الأسماء والصفات والنعوت حول شكل البلاغة عند السفسطائيين امثال: بلاغة تضليلية؛ بلاغة سلطوية؛ بلاغة إغوائية؛ بلاغة لاعقلانية؛ بلاغة لاأخلاقية؛ بلاغة انتهازية؛ بلاغة سحرية. نجد ان هناك شحة كبيرة لدى هؤلاء الباحثين في توصيف وتحديد "شكل البلاغة" عند افلاطون، بل ان هناك حالة من العزوف عن إعادة تأويل العلاقة الجينالوجية/ والتاريخية بين "معتقدات افلاطون الميتافيزيقية والكوسمولوجية" وبين نظريته في البلاغة التي اختلف بها عن الفلسفة السفسطائية. وهذا بطبيعة الحال انعكس سلبا على تأويل/ وإعادة تأويل نظرية الشفاهية والكتابة في الفلسفة اليونانية. لدرجة ظهرت فيها هذه النظرية في نسختها العربية، وكأنها لا تمت بأي صلة بإشكالية البلاغة بين كل من افلاطون والفلسفة السفسطائية.

وفي الوقت الذي بقيت فيه البلاغة الافلاطونية عصية على التصنيف وقلما نجد من اعطى تسمية محددة لشكل وطبيعة البلاغة عند افلاطون. أصبحت كل الصور السائدة عن هذه البلاغة تمثل النقيض الرسمي من بلاغة السفسطائيين. وكأن افلاطون لا يستمد مقوماته الفلسفية والمعرفية إلا "من جوهر خلافه مع الفلسفة السفسطائية/ مع الآخر". ليعيد الخطاب الأكاديمي تشكيل هذا الخلاف وتوظيف صوره النمطية بما ينسجم وطبيعة الأيديولوجيا المسيطرة.

فيمكننا وفق المعطيات السابقة، وصف شكل البلاغة عند افلاطون، بكونها بلاغة تعبر عن الحرب او المعركة والاقتتال والتجييش العسكرتاري rhetoric of combat وهي شكل من اشكال البلاغة التي عمد افلاطون الى تأسيسها باعتبارها تمثل "بلاغة الانطولوجيا الأمنية" التي تهدف الى خلق حالة من استقرار الحجج الميتافيزيقية والقيمية والاسطورية في بنية النظام الأخلاقي والقانوني السائد -خاصة بعد محاكمة سقراط-. وذلك من اجل ان يُضفي سمة الشرعية المستمرة والدائمة لأي سلطة سياسية وطبقية زائلة او في طريقها الى الزوال لطالما انها تحمل جذور عودتها مجددا بفضل استقرار القيم وايديولوجيا الاخلاق التراتبية. وبالطبع شكلت هذه الانطولوجيا البديل الرسمي "لبلاغة الانطولوجيا السفسطائية النسبية" التي لطالما كانت تتعارض مع مجمل تأويلات افلاطون القيمية والفلسفية للوجود ونظامه السياسي والميثو-لساني. اذن كيف يمكن ان نتخيل ونتصور شكل اللغة في ظل هذه "البلاغة العسكرتارية" و"انطولوجية افلاطون الامنية"؟ هذا يدعونا الى إعادة تأويل جينالوجيا العلاقات المتداخلة بين مفهوم النظرية والتجريد الفلسفي بوصفهما أيديولوجية سياسية تستبطن بنية العلاقات التاريخية والثقافية للوجود الإنساني.

 

انتهى القسم الأول وسيُتبع بالقسم الثاني.

باحث من العراق-متخصص في الدراسات الثقافية/وما بعدها