يتناول الناقد السوري هنا المحمول الجمالي في قصائد محمد عمران، ويكشف كيف يتأسس على حراك الصور، وبلاغة الرؤى المتعلقة بالصور، وقوة التعبير وإيقاعها المتنامي في تحريك الدلالات وتلوينها بتكثيف وحنكة جمالية، وأن حراك القيم الجمالية وتناميها يدلل على أنه ثمة قيم جمالية تبرز من النسق الشعري المتضمنة فيه.

المحمول الجمالي الكاشف في شعر محمد عمران

عـصام شـرتح

لا شك في أن المحمول الجمالي لأي منتج فني، أو أدبي ينتج عن قيمتين متشاكلتين في كل منتج فني إبداعي مؤثر؛ الأولى قيمة ثابتة راسخة، وهي القيمة الجمالية الكبرى للمنتج، وهي القيمة الكلية الشاملة، أو المظهر الجمالي الشامل لكل جزئيات ومنتجات العمل الفني، دون تحديد؛ وهذه القيمة قيمة جمالية عامة قد يلحظها القاصي والداني في المنتج الفني التشكيلي، أو فن النحت، أو غيرها من الفنون البصرية(المرئية)؛ ولهذا، سميت هذه القيمة بالثابتة أو الراسخة؛ لأنها تبين اكتمال المنجز الفني، بصورته الكلية ورؤيتها النهائية (المكتملة)؛ أما القيمة الثانية فهي قيمة غير ثابتة(متحولة) ومتغيرة؛ إذ تتغير، وتتحول، تبعاً لحساسية الرائي، أو المدقق للمنتج الفني، وما يتضمنه من قيم، ومؤثرات؛ تتوافر -باستمرار- كلما أمعن القارئ في حيثيات هذه الجزئيات، ومتغيراتها ضمن المنتج.

ولعل السكون أو الثبات في المنتج الفني دفع الكثير من علماء الجمال إلى تحطيم هذا الحاجز الساكن أو المائت في الفن، مرتكزين على حقيقة مؤداها: أن اكتمال اللوحة يعني سكونها وجمودها وتحجرها، ومواتها الحتمي؛ لذلك، لا بد من أن تبقى اللوحة غير منتهية، حتى لا تفقد عنصر الإيحاء، والتأثير والجاذبية لدى تلقيها، أو لمشاركة المتلقي في إضفاء لمسته الأخيرة عليها، يقول(ديلا كروا): "لا بد دائماً من إفساد اللوحة بعض الشيء لإنهائها".(1).

وبهذا المنظور حاول علماء الجمال إثبات أن العمل الفني، أياً كان نوعه، أو غايته، أو توجهه فإنه يتضمن قيماً جمالية ثابتة(راسخة)، وأخرى متغيرة (متحولة)، وهذه القيم الثابتة تبقى جوهرية في الفن ذاته، وتكاد تكون موازينها عامة، تنطبق على الفنون جميعها منها: [التنسيق – التكامل- الانسجام- التفاعل] ومنها متغيرة، خاصة بكل منتج فني على حدة، وبالقدر الذي يفيض في فن، ويغيض في فن آخر، ومن هذه القيم:" الإيحاء – والشفافية- والعمق- والتأثير- واللمسة الفنية- والإشراق- وعمق المغزى، - والتكوين الجمالي". وما إلى ذلك من قيم، ومؤثرات جمالية عديدة؛ تتفتق في كل منتج فني على حدة، لا ندركها إلا من خلال المنتج الفني ذاته، الذي ينماز فيه عما سواه؛ وبهذا المعنى يقول(ديلاكروا):" إن انعدام صفة (الانتهاء)، لا تقلل دائماً من القيمة الفنية للعمل التصويري، بل ويجوز على العكس من ذلك، وبالقدر الذي يراه الفنان نفسه، أن يكون انهاؤها ضرورياً لا غنى عنه. خذ مثلاً لهذا- لوحات المصور(ماتيس) حيث نرى نساء رؤوسهن بيضاوية، لا أعين لها، ولا أنف، ولا فم، ومع ذلك فهي لوحات مكتملة"(2).

وبرأينا: أن الفن أو الإبداع –عموماً- هو بمنزلة دارة مغناطيسية إبداعية مفتوحة، تبقى في تجاذب وتنافر، وتفاعل، وتصادم بين المبدع والمتلقي، مستثيرة المتلقي، بأكثر من تفسير، أو تأويل؛ أي تبقى قابلة للتفسير، وإثارة التساؤلات إلى آفاق مستقبلية بعيدة، لأن الفنون -جميعها- من منظورنا- تحاكي المشاعر الداخلية، والقيم الوجودية باستمرار، وما دامت –كذلك- فإن الفن- وإن تغيرت أدواته وطرائقه وأساليبه- فإنه ما يزال يحاكي في الإنسان القيم، ويستثير الغرائز، وبالتأكيد، فإن ما يحاكي القيم، وما هو جوهري فيها، فإنه سيبقى بقاء الحياة، دافعاً عجلة التأمل، والرؤيا، إلى الكشف، والتغيير باستمرار، ولهذا، ظل الفن معضلة الخلق والوجود، لأنه الأصعب، ولأنه المتغير- دوماً- في قيمه، ومقاييسه، ومنظوراته الوجودية الإنسانية؛ وهذا ما دفع الشاعر نذير العظمة إلى تعريف الفن بمقترب رؤيوي شاعري عميق، إذ يقول:" الفن هو التعبير الجميل عن الحياة، وإنك تكتشف الحياة في النص من خلال جمال البنية، ويحبب الفن المأساة، والشقاء، والظلم كمعاناة حياتية.. ليس هناك فن من أجل الفن، الفن كله من أجل الحياة، وله وظيفة- بالدرجة الأولى- تعني تزويد النفس الإنسانية بالقدرة على المشاركة والحساسية والجمال"(3).

ولهذا، لم يعد الفنان يخضع للموضوع الجمالي، وإنما أصبح الموضوع الجمالي يخضع لنشاط الفنان، وحيوية منظوراته الوجودية العميقة، وهذا ما أشار إلى بعض منه الناقد الجمالي (جان برتليمي) في قوله:" لقد ظل الناس يظنون أن على الفنان أن يخضع أولاً لموضوع العمل الفني، أما الآن فإن الموضوع هو الذي يجب أن يخضع للمخيلة الشخصية للفنان، وأن يقع تحت تأثير قانونه هو"(4).وبمقدار ما يملك الفنان من مخيلة إبداعية خلاقة، ويوظفها في منتجه الفني يرقى فنياً، ويسمو على الموضوع الجمالي ذاته، ويحكم سيطرته عليه، فالفن ليس سطوة التجميل أو التصنيع الجمالي، وإنما سطوة الحس، والملكة الإبداعية التي لها الأثر الهام في التحكم في مسارات المنتج الفنية، وتوجيه مؤثراته الفنية.

ولا بد من الإشارة إلى أن الكثير من النظريات الجمالية التي تناولت مسألة الفن وقيمه قد تغيرت، واختلفت، تبعاً لاختلاف الرؤى، والمنظورات، والتوجهات، والمعايير الجمالية؛ فمنها من دعت إلى الأصالة، وعدت الفن الجمالي حالة فردية تتأصل إبداعياً بأصالة المبدع؛ حيث ترى:" أنه كلما ازدادت أصالة الفنان ازدادت عظمته، وتأكدت فاعلية إخلاصه لوحيه، وإحساسه الفني، وخبرته الفنية"(5). ولعل أبرز ما دعت إليه هذه النظرية في أنها اعتمدت الفن أصالة، وعلامة لا شعورية للعبقرية(6). في حين اتجهت النظريات الجمالية الأخرى إلى مسألة الإعلاء من شأن القيم، والمهارات، والخبرات، والتجارب المكتسبة التي تغني الفنان، وملكته الإبداعية القادرة على صنع ما هو غير متوقع، ولا مرئي، حيث طالب الفنان بالإبداع، لا المحايثة على شكل، أو أنموذج، أو مثال. ولهذا؛ فإن أولى مبادئ هذه النظرية التحرر من الوسيلة؛ لتحقيق الغاية الجمالية المثلى؛ حيث لم يعد الفنان – إزاء هذه النظرية- يريد أو يستطيع أن يكون منفذاً ماهراً، أو حتى موهوباً لشكل ما سبق أن عرفه الناس؛ بل إنه يريد أن يقدم تعريفاً للجمال لا ينتظره أو يتوقعه أحد، ويريد أن يكون له أسلوبه وطريقته هو، وعالمه الذي لا يشبه أي عالم آخر"(7).

وأصحاب هذه النظرية كـ(برتليمي- وموروا- وكانط) يرون أن الفنان المبدع هو الذي لا يخاف التقليد ما دامت ملكته الإبداعية تخوله أن يخوض غمار الفن الإبداعي الحقيقي، لتخطي ما هو واقعي وتقليدي ومعتاد إلى ما هو جمالي، ومبتكر، ومختلف، يقول برتليمي:" يفلت الفن الرفيع من مجال النظرة السطحية، بحيث لا تلحظه أول وهلة"(8). ولهذا" لا يخاف الفنان الكبير من أن يقلد أفكار الناس جميعاً ما دام متمكناً من تجديدها مهما تكن عتيقة أو مكررة"(9). وتبعاً لهذا، تتحدد قيمة الفن بنشاط الفنان ذاته لا نشاط المقوم الجمالي ذاته، وبهذا المقترب الرؤيوي يقول:" موروا" " ضع فكرة عادية في مكانها، نظفها، وجدد بريقها، وألقِ عليها ضوءاً يلفت إليها النظر، ويجذب انتعاشها النصر، انتعاشها هو الذي كانت تتصف به، عندما نبعت من منبعها الأول تجد نفسك، وقد أخرجت عملاً شعرياً"(10).

إن هذه اللمعة هي بروق الفن، وهي لذة الإبداع، فالأصالة -في الفن- ليست تقليداً أو محاكاة؛ وإنما إرجاع لوعي المرء إلى الجميل الكائن بالموضوع الجمالي ذاته، وبهذا، يتنافى الفن أن يكون نشاطاً أو حراكاً جمالياً للذات، ولتحريك الفن، وإكسابه صفة الجوهري، أو الخلق العبقري؛ ولهذا، يختلف الفن في كونه حالة سكونية، أو تقليداً لا نموذجاً في النظرية التقليدية؛ ولهذا، يختلف الفن في كونه حالة متحركة متغيره، تنبض بمستجدات الحياة، وبحس العبقري النشط الذي يحرك المنتج الفني كيفما يشاء، وبالسبل المؤدية إلى تخليده وإمتاعه، وتأكيداً على ما ذهبنا إليه يقول جان برتليمي:" إن الاختراع في الفن صفة ثانوية، والمخترعون يتسكعون في الشوارع، لكن النادر هو هذا العبقري الذي يكتشف اختراعات الآخرين، ويضفي عليها الحياة، وما فكرة الواحد إلا فكرة الجميع، وهي مادة تمر بلا انقطاع في عقول الكثرة الغالبة وتهزها، فإذا ما استقبلها آخر الناس، وأفاد مما تم فيها من أعمال، ثم فرض عليها صيغته هو، تمكن من أن يضفي عليه اسمه هو"(11).

ومما لا شك فيه أن الأجيال الفنية المبدعة في عالم الفن متعاضدة أو متكاملة؛ إذ إن كل جيل يكمل الجيل الآخر؛ ويفتح آفاقاً مستقبلية للجيل الجديد الذي يجيء... وهكذا، فإن الفن العظيم لا ينشأ منفصلاً عن جيله، أو جذره الرئيس الذي نشأ منه.. فالإبداع لا يأتي من رحم الذات، ليصب في الذات؛ وبهذا المقترب يقول(كوكتو):" لا يوجد في الفن جيل نبع من ذاته، وهناك سلسلة طويلة تربط بين قدامى التقليديين، وأكثر المجددين جرأة"(12). وهذا ما صرح به كذلك الشاعر المبدع نزيه أبو عفش، إذ يقول:" إن الشاعر ابن هؤلاء المبدعين جميعاً أنا ابن هؤلاء العظام الذين قدموا إبداعهم الحقيقي، ولا أخفيك إن هناك الكثير من الشعراء الظلمة والنكالين.. كل واحد منا مصر على إقناعك، بأنه صنع عبقريته بيديه وأسنانه.. نزيه أبو عفش لو لم يقرأ نزار قباني، وبدوي الجبل، ومحمد الماغوط، وأدونيس ما كان نزيه أبو عفش هذا الشاعر الآن الذي تحاوره.. أنا شاعر تأثرت بكوكبة من الشعراء.. أكلت وشربت على موائد الشعراء ونتاجاتهم جميهم، وأخذت من عصارة تجاربهم حتى نضجت تجربتي واكتملت"(13).

ويرى الشاعر نزيه أبو عفش:" أن كل التراث الإنساني وراء أي قامة شعرية مهمة، ووراء أدونيس كوكبة أو زخيرة من تجارب الشعراء العظام، بل تراث ثقافة حضارية بكاملها كالفلسفات والتجارب العربية والأجنبية التي أسهمت في نضوج هذه الشخصية الأدبية الفذة"(14).وهذه الحقيقة التي أشار إليها نزيه أبو عفش عضدها علماء الفن والجمال بقولهم: إن الفن حصيلة خبرات، وتجارب، ومعارف، ومواهب إبداعية خلاقة سابقة؛ والشخصية الإبداعية أو الفنية الفذة لا تنشأ من رحم ذاتها؛ بمعنى أنها ليست وليدة ذاتها؛ وإنما هي نتاج خبرات وتجارب عظيمة أسهمت في رفدها؛ وتناميها جمالياً؛ ولهذا؛ فإن نتاج الفنان الحقيقي نتاج إبداعي منفتح؛ وليس منغلقاً على الذات، ومخزونها وطاقتها الفردية فحسب؛ وبهذا المقترب يقول جان برتليمي:" الفنان الذي يريد لنفسه أن يكون أكثر الفنانين استقلالاً لا يمكن إلا أن يتلقى التأثيرات من فن غيره، وإن هو تخلص من بعضها فإنه يستقبل البعض الآخر أحسن استقبال. وأقل الفنانين فناً صحيحاً هم الذين يخافون هذه التأثيرات، في حين أن الشخصيات القوية هي التي تحاول أن تفيد منها، وهكذا، لن يأنف المبدع من أن يقلد غيره، لأنه يعرف أن إصالته لن تتعرض لخطر ما، فهو مهما استقى من ينابيع فن آخر، فإنه سيظل محتفظاً بذاتيته"(15).

وبهذا التصور، فإن الفنان الحقيقي هو فنان إبداعي خلاق، منفتح في رؤاه، وتجاربه، ممتشق العزة والجسارة، والجرأة في تقليده، وتجديده، يقول (كوكتو):" إن الفنان الأصيل هو من أولي القدرة على النقل، فما عليه -إذاً- ألا أن ينقل حتى يصبح أصيلاً"(16). وهو، بهذا التصور، يريد أن يؤكد أن الفنان بالدربة، والمران، والتقليد، ستكتسب الخبرة، ويدرك سر اللعبة الفنية، وتأسيساً على هذا، فإن الفنان الحقيقي- من منظورنا- هو المختلف في تقليده، والمبتكر في إبداعه، فهو -وإن تأثر بالآخرين- ففي تأثره العميق يكمن اختلافه، وتتبدى خصوصيته الإبداعية، يقول جان برتليمي: "أما الأثر العميق، فإنه يختلف كل الاختلاف عن سابقه، وهو الذي يبحث عنه فنان يود أن يحافظ على شخصيته، ويشعر بالحاجة إلى تنويع مائدة فنية، وتغير نغمته.. لهذا، نرى المبدع الحقيقي من عصر إلى عصر يلعب دور حصان طروادة داخل ثقافته ليدخل إليها فناً جديداً"(17).

وما ينبغي ملاحظته والتنويه إليه: أن ثمة تأثراً خصباً يمنح المبدع طاقة إيحائيةـ وجمالية عالية يسهم في ترسيم المنتج الفني جمالياً؛ وثمة تأثيراً سلبياً عقيماً لا ينتج فناً إطلاقاً، وإنما ينتج أنموذجاً لفن مستهلك، لاقيمة له، وهذا ما يسمى بالتأثر السلبي أو العقيم، يقول برتليمي:" إن التأثر الخصب، أو التأثر الإبداعي هو الذي لا يصبح نقلاً لنموذج مألوف، أو لعمل قام به الفنان وحده"(18). وإنما يصبح إبداعاً لشكل مألوف، أو تحولاً لشكل مألوف إلى أنموذج فني غير مألوف، وبهذا، تتبدى درجة الفنية -لدى الفنان- بالمهارة والقدرة الإبداعية الخارقة على التجاوز، والتخطي، والابتكار؛ ولهذا، جاء قول برتليمي دقيقاً في إصابته المغزى العميق للفن والفنان؛ إذ يقول:" إن الأعمال التي تؤثر فينا تتبع طريق المعجزات في الأديان القديمة؛ فهي تقول ما ندفعها لقوله، وتعطي ما نأخذ منها"(19).

ومن هنا، تأتي عظمة الفنون، من كونها تحاكي ما في داخلنا، وتحقيق ما يهجس في أعماقنا، وتعكس متطلباتنا الوجودية، وهي، إذ تفعل ذلك تسحبنا إلى سرها الإبداعي، ولعبتها الفنية، منقادين إليها لا شعورياً، تبعاً لهاجس ما يعتصر كياننا، ويلبي حاجاتنا الإبداعية، ومداخلنا الشعورية العميقة منذ القديم، لهذا كان يطلق على الفن مقولة:[العمل الإجماعي]: لأنه يُوحِّد بين القيم، ويجمع بين السشعوب، ويصهرها بحس الجمال والحب، ووحدة الشعور، والمقترب الإسنادي الأصيل، يقول جان برتليمي:"لا بد للناس أن يرتفعوا إلى مستوى عال من الوجود، لكي ينسوا خلافاتهم، ويتقابلوا، ويتآلفوا . والفن يعاون- في هذا- لأنه كما قيل عنه- إجماعي. بمعنى أنه يرفع الكائنات فوق ذاتها، وينشئ روحاً مشتركة بين جميع الناس؛ لاسيما عندما يمسهم الجمال والحب. لهذا يتعين علينا أن نؤكد أن الفن في بهذا المعنى يخلق المجتمع أكثر من أنه نتاج وانعكاس له. وهو قانون يصنع المجتمع، أبعد مدى من أي قانون يكتمل به هذا المجتمع"(20).

وتبعاً لذلك، تتحدد عظمة الفنان أو الفن –عموماً- بقدرته على التحديث، والتغيير، وتكريس المعاصرة بقيمه الفنية من جهة، وتأصيل إبداعه، وتجاوزه لما هو مؤصل من جهة ثانية، وبهذا المقترب يتجاوز الفنان زمنه الإبداعي والمستوى الفكري لمرحلته الإبداعية الراهنة؛ وهذا يعني:" أن الكاتب أو الفنان شاء أم أبى- يتعامل بشكل تعاقبي مع زمانه، يجعل فيه محطات، تسمح له، وللقارئ بالاتكاء عليها رمزياً، وهذه المحطات؛ سواء أكانت ظاهرة، أم مخفية، تلعب دور المفعلات بالنسبة إلى عمليات التفكير، تحث الذهن على المقارنة، وعلى التوقف العقلاني، عند اختلافاتها الجوهرية، ومن ثم، تحث العقل على البحث عن مرتكزات نوعية في عملية الانتقال من هذه الحالة إلى تلك"(21).

وبهذا التصور، فإن المستوى الفني للفنان يختلف من مرحلة إلى أخرى؛ وبهذا الاختلاف يكمن التطور والتحديث، وتبعاً لهذا، تتحدد قيمة الفنان أو الفن عموماً فيما يصل إليه من رؤى، ورموز محتشدة، بهذا جاء قول برتليمي مصيباً؛ حين ذهب إلى أن: "العمل الفني نتاج مميز، بل، ونتاج كلي للاشعور وأن على الشعور أن يحذر من التدخل، حتى لا يفسد الأمور، وأن الحالات التي تقضي على الشعور، أو تضعفه هي أنسب الحالات بالنسبة للإبداع"(22).

وبناءً على هذا، فإن الفن هو الذي يتجرد عن الشعور، أو هو الذي يملك حاسية تنظيم الشعور، ولهذا، يقال: "إن الفن يبدأ حين تنتهي المصادفة، ومع هذا، فإن كل ما تجلبه المصادفة يضفي عليها ثروة جديدة، ودون هذه المصادفة بصفتها مصدراً؛ لن تبقى إلا القواعد الثابتة"(23). وهذه المصادفة ليست وليدة الفن فحسب، وإنما وليدة الإبداع. وتأسيساً على هذا؛ فإن الفن لا يخلق المتعة من جديته فحسب، وإنما من هزله، ومصادفاته الشائقة، ومباغتاته اللامتوقعة(المفاجئة أو الصادمة) وهذا ما أشرنا إليه من سابق.

والمحمول الجمالي المؤثر في شعرية القصيدة عند محمد عمران يتمثل في حراك الدلالات، وخلق توازنها الفني الذي يميل إلى الكثافة والحراك الشعوري المؤثر، على شاكلة قوله:

" امنحيني وقتاً أُطرِّزُ منديلَ عينيكِ

بالصلواتِ،

وأذبحُ وردةَ لوني على شفتيكِ

امنحيني وقتاً من الأمنِ أفضي بسري إليكِ

أعلمكِ الحزنَ في نضجِ رمانةٍ،

وأعلمكِ الخوفَ آن انعقادِ الحلاوةِ في قلبِ

تفاحةٍ،

امنحيني وقتاً يبوحُ نبيذي بأسرارِ

نشوتهِ الموجعةْ"(ج2/ص83).

إن القارئ هنا، يلحظ فاعلية المحمول الجمالي الذي يتمثل في حراك الدلالات، كما في قوله: [أذبح وردةَ لوني على شفتيك]؛ وهذا الأسلوب يباغت القارئ بالصورة المؤثرة، ومحمولها الإيحائي، الذي يبدأ من الشكل المثير والصورة المعبرة؛ وهذا يدلنا على أن علاقة الحامل بالمحمول في نسق الصورة، بقدر ما يكون مؤثراً، وبعيداً عن حيز التوقع بقدر مايثير النسق الشعري، ويحرك الدلالات، وهذا يدلنا على أن قيمة الحامل والمحمول تتحد شعريتها بالتنامي الجمالي الخلاق. وبتقديرنا: إن فاعلية الحدث الجمالي تتمحرق على بلاغة الرؤيا، وقيمتها في خلق الوئام والالتحام بين الحامل والمحمول، ولهذا، فإن الحامل الدلالي قد يختلف عن المحمول في الخصوصية والرؤيا، وقوة التأثير، مما يولد مسافة من التأمل بين ما يشي به كل منهما، على شاكلة ما نلحظه في هذه الصور المتباعدة:

ياحباً يوجعني حتى الدم،

غص في نبضي،

وافتح أيامي لك

(أيامي

مزمارٌ منكسرُ الصوت)

افتح خطواتي

(خطواتي نهرٌ يبستْ أسرارُ تدفقه)

يا حباً يغرني حتى العشب الميت على شفتي"(ج2/ ص81).

لابد من الإشارة إلى أن القيمة الجمالية للصورة، أو للنسق الشعري تتحدد من خلال مسافة التوتر والانزلاق بين الحامل والمحمول؛ وبقدر حراك الدلالات، وتكاثفها في النسق ترتقي شعرية الصورة، ويزداد حراكها الجمالي، وهنا نلحظ الاختلاف الشاسع بين الحامل التصويري(المشبه) و(المشبه به) كبيرة، أو صادمة للقارئ، على شاكلة قوله: [أيامي مزمارٌ منكسرُ الصوتٍ]، فهناك تباعد جد كبير بين دال(المزمار) ودال(الأيام)، ناهيك عن استحالية الجمع بينهما في نسق تشبيهي أو تصويري واحد؛ مما يدل على عدم وجود تطابق أو تماثل بين (الحامل/ المحمول) في قوة الرؤيا وكثافة التعبير؛ وهذا يعني عدم وجود إمكانية جامعة لهذا النسق الشعري ضمن صيغة أو مشهد، دليلاً على حساسية الصورة، وعمق الموقف، وفاعلية الرؤيا، على شاكلة قوله:

" صدري منكشفٌ للحلمِ،

فمي منفتحٌ للقبلاتِ،

ذراعي للغيم العاشق،

أدخلُ مملكتينِ معاَ؛

مملكة الموتِ

ومملكة العشقِ

أؤاخي الدمَ بالوردةِ،

أنسجُ عائلةً من قمصانِ الوردِ الدموي

وألبسها للوطن العاري

للأرضِ المصلوبة"(ج1/ص371)".

إن القارئ يلحظ – هنا- عمق المؤثرات التصويرية البالغة التي تثيرها الأنساق الشعرية، وهذا يعني أن فاعلية المحمول الجمالي تبدو في الحراك الجمالي؛ كما في قوله: [أنسجُ عائلةً من قمصانِ الورد الدموي]؛ وهذه الصورة تحمل بلاغة في الرؤيا بين الحامل الدلالي والمحمول المدلولي، فالشاعر يستعين بالمحفز التصويري البعيد الذي يتحرك على أعلى من مستوى، وأكثر من مدلول، وذلك بالمسافة الشاسعة بين ما ترمي إليه الصورة، وما تبعثه من دلالات، وما ترمي إليه من رؤى ومحفزات؛ تستثير القارئ، وترفع وتيرة النسق الجمالي، على شاكلة قوله:

" من قاعِ جوعي أناديكِ:

يا امرأةً في شفافية الضوءِ

لوسلَّم اتسَلَّق شرفة َ عينيكِ

ياامرأةً في حساسيةِ الصمتِ

لو لغةٌ تتابطُ قلبي إليكِ"(ج1/ ص362).

لابد من الإشارة – بداية – إلى شعرية الحامل الجمالي تتمظهر بفاعلية محموله الجمالي وحيازة هذا المحمول لقيمة جمالية أو رؤيا جمالية؛ والشاعر المبدع هو الذي يرتقي بأنساقه الشعرية إلى آفاق خلاقة من الشفافية والإيحاء، والفاعلية، والعمق، وبلاغة التأثير؛ وهنا على ما يبدو استطاع الشاعر أن ينقل الحدث من قيمة جمالية إلى أخرى، تبعاً لزاوية الرؤيا المشكلة التي تتلون بها في هذا النسق الجمالي أو ذاك، فلو تأمل القارئ في سيرورة الأنساق الجمالية التالية: [يا امرأةً في شفافية الضوءِ لوسلَّم اتسَلَّق شرفة َ عينيكِ]؛ إن هذه القوة في خلق التناغم بين الحامل والمحمول الجمالي تؤكد على بلاغة الرؤيا الشعرية المتضمنة في قصائده، مما ينم على قوة فاعلة في خلق الاستثارة، والخصوبة الجمالية.

 والجدير بالذكر أنى النزعة الغنائية في قصائد(محمد عمران) لا تقلل من قيمة البعد الجمالي للحامل/ والمحمول اللغوي في النسق الشعري الذي يثير الحركة، ويقوي أواصر الدلالة، كما في قوله:

"ياسيِّدي الأبديْ

أنا، الكائنُ المعدنيْ

بما في دمي من فناءْ

أُصلي لوجهكَ،

في مجده السرمديْ

لكَ الملكُ،

ياواهبَ الكبرياءْ"(ج4/ ص15).

إن الشاعر المبدع هو الذي يحوِّل الدلالات، ويرسم منعرجها الدلالي؛ لاسيما عندما يدخل في أتون الرؤيا، محققاً قيمة جمالية في تشكيلها ورؤاها؛ وهنا، استطاع الشاعر عبر تقنية الصورة المتحركة أن يغني فضاء الدلالة، بالمسافة الواسعة التي خلقها بين (الدال/ والمدلول): [أُصلي لوجهكَ، في مجده السرمديْ]؛ وعلى هذا النحو الفني في الاستثارة والتأثير يخلق الشاعر قيمة جمالية في توليد الأنساق بما يحقق أعلى درجات الفاعلية في التكثيف والإيحاء الشعري.

ولعل ابرز مظاهر فاعلية المحمول الجمالي تتبدى فيما يلي

(1) التوازن:

إن أي منتج إبداعي فني جمالي مؤثر لا شك في أنه يتضمن خاصية التوازن، كقيمة جمالية جوهرية في هذا المنتج، وهذا التوازن والتناغم يخلق المتعة والراحة في نفس المتلقي؛ إزاء تلقي الموضوع الفني، يقول(ماتيس) :" أريد أن يتذوق الإنسان المرهق المتعب الهدوء، والراحة أمام لوحاتي"(29) لأن الاستجمام، والراحة أمام المنتج الفني المنظم، أو المتوازن يستثير في النفس المتعة، ويخلق اللذة، ولهذا، يقال: إن الفن توازن، وانسجام، ومتعة، واستثارة، تتحقق عبر التحفيز، والمغنطة الجمالية التي يحققها المنتج الفني المتوازن، وهذا يعني أن الفن توازن وانسجام؛ ينشأ من فكرة جمالية، أو حس جمالي ضاغط، يستولد مظهراً، أو شكلاً فنياً إبداعياً مخصوصاً؛ يقول برتليمي:" فكرة الجمال تتضح، وتتنوع، وتنمو بفضل ما يبديه الفنان، وحيث يصبح كل إبداع بمثابة رفع الجمال درجة، وكشف عن أحد وجوهه"(30).

وبهذا التصور؛ فإن الفن ليس توازناً أو انسجاماً فحسب، وإنما هو خلق صياغة مبتكرة، ونسيج فني منسجم؛ ولهذا، يقال:" الفن توازن، لا اختلال، " وتفاعل، وانسجام؛ ولهذا قال(مالرو):" ليس الفنان العظيم ناقلاً للعالم، بل هو منافس له"(31). في التنظيم، والخلق، والتوازن، والابتكار؛ تقول سهام حسين قحطاني:" كل عمل مقصود هو فن"(32). وبهذا القول المبالغ فيه تصل الباحثة القحطاني حدَّ التناقض؛ إذ إن الكثير من علماء الجمال عدَّوا القصيدة قيداً للجمال، وليس مؤثراً فنياً، فالفن يخرج عن القصيدة وعن الوعي أحياناً، بوصفه حالة من السكر الروحي، والبعد التأملي؛ والفن هو مزيج من الوعي، واللاوعي، وبقدر التداخل، والتفاعل بينهما ينتج الفن الخارق، ويرتقي، فالتوازن- من منظورنا- ليس قانوناً فيزيائياً يجري على كل المنتجات الفنية؛ وإنما التوازن هو حالة يفرضها كل فن بطريقته الخاصة، بل كل منتج بطريقته الخاصة، لكن -على العموم- فإن خاصة التوازن تعد قيمة جوهرية من عالم الفن يحددها كل فن على حدة؛ وكل فن يؤسسها هو -من منظوره- ونبضه، وجوهره الفني، وطريقته الخاصة. وهذا ما جعل علماء الجمال يعتقدون أن التوازن شكلاً فنياً لا منتجاً فنياً، يتبع في خصائصه إحساس الفنان، وتأزمه الوجودي.

وبتقديرنا : إن قيمة المنتج الفني جمالياً ترتبط بما يحرك النسق، ويخلق فيه حالة من المتعة، والإثارة والجاذبية، ويعد التوازن من القيم التي تثيرها المنتجات الجمالية المؤثرة في حراكها الجمالي الفني، لاسيما في المنتجات الشعرية التي تكتظ بالرؤى والدلالات المراوغة والحنكة في التوليف فيما بينها، وإبراز متغيرها الجمالي البليغ، هذا المقتطف الشعري لمحمد عمران؛ إذ يقول فيه:

"تقفُ حبيبتي في قلبي

يُعَلِّقني جسدها على غصنٍ منه

بينَ الأوراقِ والبراعم

حيثُ تتفتحُ زهرةُ الوجع"(ج2/ص165).

لابد من الإشارة إلى أن بلاغة الصورة تتحقق تبعاً لمتغيرها الجمالي، بوساطة التوازن الذي تحققه على مستوى محمولها الجمالي، وما تثيره من رؤى ودلالات جديدة تتمظهر في هذا الشكل الأسلوبي، أو ذاك؛وهذا يعني أن قيمة الإثارة الشعرية تتحقق من خلال التوازن بين نسقي الصورة ومرجعها المراوغ:[تقف حبيبتي في قلبي/ بين الأوراق والبراعم]؛وهذا يعني كثافة القيم الجمالية تحدد القوى الفاعلة في تحريك البعد الجمالي لعلاقة الحامل اللغوي بمحموله الجمالي، على شاكلة قوله في هذا المقتطف الشعري لمحمد عمران:

"هناكَ في أولِّ الرشاقةِ

حيثُ وجهكِ عصفورٌ يرقصُ

أتكئُ، أنا الكثيف، على شجرتي

وأهز أيامي

يساقط رطبٌ

ينقره وجهك ويفرُّ(ج2/ص194).

إن القارئ يلحظ عمق التوازن الذي تخلقه الصورة، إذ إن الحيز اللغوي للحامل(وجهك) يباغت القارئ بمحموله التصويري المدهش(عصفورٌ يرقص)؛ وهذا يعني امتلاك الشاعر لرؤية جمالية تراوغ القارئ بحسها الشاعري، وإحساسه المفعم بالإثارة، والتشكيل اللغوي المبتكر؛ وهذا يعني ولع الشاعر محمد عمران بإثارة الأنساق اللغوية المبتكرة؛ من خلال إثارة الأنساق اللغوية المبتكرة، وحيزها الجمالي المفتوح، على شاكلة قوله:

"نعماكَ من صوتي،

ولكنَّ النشيدَ يشحُّ

كيفَ تركتِ زيتي

ينسلُ من جرحِ السراجْ

مولاي! عفوَ يديكَ!،

إن دمَ الزجاجْ

ينثالُ في مزمارِ صوتي"(ج4/ ص46).

لاشك في أن التوازن الذي خلقه الشاعر في الجمل يدل على بلاغة في الرؤيا، وقيمة جمالية عالية في تحميل الأنساق الشعرية مداليل عميقة من الاستثارة والتأثير الفني، على شاكلة قوله: [إن دمَ الزجاجْ.. ينثالُ في مزمار صوتي]؛ فالتوازن القائم بين التوكيدين [لكن النشيج يشح]، والتوكيد الثاني [إن دم الزجاج] يدل على تنظيم وتوازن محكم، تجلى أيضاً في التوازن بين قوله: [ينسل من جراح السراج= وينثال في مزمار صوتي]؛ وهكذا تتحقق شعرية التوازن بين الحامل/ والمحمول اللغوي في خلق الاستثارة والفاعلية الجمالية، ممايدل على شعرية خلاقة، غاية في الاستثارة والجاذبية الجمالية.

(2) الانسجام:

إن كل منتج فني إبداعي مثير يقوم في ركيزته الجمالية على الانسجام؛ لأن الانسجام، والتناسق قانون الفنون جميعها، فما لا انسجام، وتوافق فيه لا قيمة جمالية متضمنة فيه على الطلاق؛ ولهذا، وقف علماء الجمال عند مسلة القبح، مؤكدين أن الفنان الحق هو الذي يحول القبح إلى جمال، أو هو الذي يصنع من الفوضى الوجودية نظاماً فنياً منسجماً؛ ومتألقاً، ومتناغماً يرقى فيه المبدع أقصى مراتب الإثارة، والجاذبية، والجمال، والانسجام- في الفن- ويتبع المنتج الفني ذاته، من حيث طريقة التشكيل، والمظهر الكلي العام، وخصوبة المنظور الجمالي، ومردوده الفني، وتبعاً لهذا؛ يأتي الانسجام ليس وليد مظهرها الخارجي فحسب، وإنما هو وليد نبض داخلي، وإشعاع جمالي يتبدى في انسجام جمالي، لا مثيل له، وهذا يعني أن مسألة الانسجام- في الفنون جميعها- مسألة جوهرية لا انفصال عنها، أو لا خلاف حولها؛ وتكاد تكون من المسلمات أو البديهيات التي لا يختلف فيها أحد. فما لا انسجام فيه، ولا تناسق، وانتظام لا متعة في تلقيه، وإن استحوذ على أسهم الجمالية كلها؛ إذ ثمة انسجام في كل فن من الفنون، وهذا الانسجام يختلف من فن لآخر، ومن منتج فني لآخر، ولهذا؛ فإن الانسجام ركيزة جمالية تكاد تكون موحدة في الفنون جميعها، ذلك الانسجام الذي تفرضه فنية المنتج الجمالي ذاته، لا شكله، أو مظهره الخارجي فحسب، يقول جان برتليمي:" إن الشكل الفني يصبح –بالضرورة- فكرة جميلة"(36)

لأن الشكل الفني هو نتاج فني بالتأكيد، وبالمحصلة، نتاج فكرة فنية، أو لحظة جمالية، أو حدث فني مفاجئ، والانسجام ليس قيمة فنية فحسب، وإنا قيمة جمالية تنبع من كل منتج فني على حدة؛ وهذه هي جوهر رؤيتنا الجمالية للانسجام في الفن الجمالي عموماً. وبالمقابل نقول: إن الفوضى، أو العبثية في الفن ليست قيمة سلبية، أو ردنية دوماً، فالكثير من الفنون تعتمد إيقاع العبثية؛ كقيمة جمالية في استثارة الخيال، والفنون التجريدية ما هي إلا إفرازات حقيقية لهذه المنظورات؛ فالجمال ليس نظاماً أو تشكيلاً لنظام، وإنما هو نظام في فوضى الفن، أو نظام في فوضى الخيال؛ وما الفنان إلا منظم لفوضانا الوجودية، مخلخل للقيم الثابتة القارة في داخلنا، وأذهاننا، ولهذا؛ يعد الفن حراً لأنه كشف عن الحدثة، وخلق للحرية؛ بوصفه فناً يخلخل الرؤى، ويهدم القيم، ليفجر ما هو راكد، أو مكنون في قرارة أنفسنا، ولا يملك الجرأة في البوح به، أو الإفصاح عنه.

وتبعاً لهذا، يمكن القول:" فلكي ينجح الفنان يجب أن يكون حر التصرف طلقه"(37). والفنان الحق هو الذي يخلق موضوعاته الجمالية بانسجام فني، ينطلق من بنية العمل الفني ذاته؛ لا من خارجه؛ وأي قيمة جمالية تعرض على المنتج الفني من الخارج تفقد قيمتها، وليس ذلك فحسب، بل تتحول إلى قيمة سلبية ترهق المنتج الفني بدلاً من إحيائه، والرقي به فنياً. ويعد الانسجام من المؤثرات الجمالية التي تثيرها قصائد محمد عمران على مستوى حاملها ومحمولها الجمالي؛ فالشعرية؛ لديه تتأسس على إيقاع التضافر والتفاعل والانسجام على مستوى الأصوات، والدلالة، والرموز والإيحاءات المقترنة بهذه الأصوات، كما في النسق الشعري التالي:

"يملأُ الحزنُ جسدي

مثلَ ضبابٍ يغشى الأوديةَ

من يبيعني بأشجاري الغائبة في الضبابِ

بحصى مسيلي

نافذةً على سفحِ حبيبتي

من يحملُ أحراجي الشتوية

إلى فصلِ حبها الأخضر

وهذا النبيذ البنفسجي في قلبي

من يسكبُ في عينيها نشوته الشاحبة"(ج2/ص82).

إن القارئ يلحظ الصدمة الجمالية من جراء الجمع اللامتوقع بين أنساق لغوية متباعدة، هذا الجمع – من شأنه- أن يخلق حالة من التناغم بين الجمل، والصور في إبراز جانب الإخضرار، والأمل، والتفاؤل في نفس الشاعر، ليعيش حالة من الوداعة، والسكينة، والراحة الوجودية، كما في قوله: [من يحملُ أحراجي الشتوية/ إلى فصلِ حبها الأخضر/ وهذا النبيذ البنفسجي في قلبي/ من يسكبُ في عينيها نشوته الشاحبة]؛ وهذا الأسلوب الرؤيوي المتنامي في تشكيل الصور الشعرية يحقق إيقاعه الجمالي المتناغم على الرغم من المواربة والاختلاف في إيقاع التشبيهات والصور الشعرية التي تحققها القصيدة في مسراها الرؤيوي العميق.

ومن أشكال التناغم ما يأتي متناغماً مع حركة القوافي، ونسقها الجمالي المتآلف، كما في قوله:

" لا وقتَ للندمْ

الكلماتُ احترقتْ على شفاهنا

وانفضح الألمْ

الماءُ والرمادُ في أفواهنا

وجثةُ النغمْ"(ج2/ ص85).

لابد من الإشارة بداية إلى أن اللعبة الشعرية – في تشكيل القصيدة عند محمد عمران- تعتمد إثارة المتباعدات بإيقاع تجاذبي فاعل، يرمي الشاعر من ورائه إثارة الصور المتناغمة، رغم تمفصلها الموارب، وطرفيها المتباعدين، وهذا يعني أن إيقاع المواربة والاختلاف -في نسق الصورة- يأتي في الشكل النسقي، وليس في التجاذب والتفاعل الداخلي؛ إذ إن إيقاع الداخل منسجم جمالياً ضمن الوحدات، والبنى الدالة التي تتأسس منها الوحدات والبنى اللغوية، كما في قوله: [الماءُ والرمادُ في أفواهنا/ وجثةُ النغم]؛ فالشاعر يخترق كل ما هو معقول في إبراز القلقلة الجمالية أو الصدمة الجمالية في تشكيل بنية القصيدة.

ومن أشكال التآلف والانسجام الجمالي ما يقوم على مفاجأة القارئ بالتناغم التام بين الأنساق اللغوية، لتحقق متغيرها الجمالي الفاعل، على شاكلة قول الشاعر:

"تعالي سرِّحي عينيكِ في مرآةِ أيامي

التي اغتسلتْ

تعالي ازينتْ لغتي لمقدمكِ الجميلِ

أزيَّنَ البيتْ

اعبري خطواً من العشبِ اللطيفِ ترابَ أيامي

عسى يتفتحُ الصوتُ

عسى تلقينَ فوقَ أصابعي ظلاً"(ج2/ص84).

لابد من الإشارة إلى أن الدهشة الجمالية التي تخلقها الأنساق الشعرية لا تأتي إلا من حيازة الأنساق لقيم جمالية مراوغة في الاستثارة، و التأثير؛ فالشاعر يدرك أن اللعبة الجمالية تتأسس على وعي جمالي في إبراز النسق المتناغم في شكله الفني، وهنا، استطاع الشاعر أن يوائم فنياً بين الصور، لإبراز حياكتها الجمالية، ومنظورها المراوغ، كما في هذه الصور، [اعبري خطواً من العشبِ اللطيفِ ترابَ أيامي]؛ فالقارئ يلحظ القوة الدافقة للصورة في إبراز ملمحها الجمالي الخلاق، وهذا يدلنا على أن شعرية الأنساق اللغوية تتحدد بقيمتها الفاعلة وحياكتها المراوغة، ودليلنا أن الشاعر جمع في نسق واحد [العشب]، و[تراب الأيام]، ليحقق قيمة جمالية في النسق الشعري المتضمنة به، وهذا دليل أن " الشاعر لا يعتمد في بناء قصيدته على انتقاء المفردات، واختيار الأساليب النحوية الملائمة بقدر ما يركز على الناحية الفنية، والإيحاءات الفكرية، ووقع الكلمات موسيقياً؛ فهناك مفردات تأتلف مع مفردات من دون غيرها؛ وهناك أساليب لغوية تتجاوز العرف الشائع إلى الإبداع الخاص. وهذا كله يحتاج إلى مقدرة إبداعية يمكنها تركيب المفردات والتنسيق بينها. فلغة الشعر أغنى وأعمق لا بالكلمات فحسب؛ بل في الصياغات وطرق التركيب؛ فكل عنصر لغوي في الشعر يستخدم في تطوير قدرة العنصر الآخر، ومن هنا، تقوم لغة الشعر على أساس تنظيمي يشارك فيه الشكل الشعري المعنى الشعري في انسجام لا قرين له خارج الشعر"(ترمانيني، ص95).

وهذا يدلنا على أن التنظيم الجمالي من مؤثرات الشعرية في قصائد محمد عمران التي تعتمد الانسجام والتفاعل، التضافر كقيم فنية مؤثرة في تخليق الشعرية، وإبراز ملمحها الجمالي المؤثر.

(3) التماسك:
إن ثمة مقولة جمالية -بغاية الدقة والدهشة- لبرتليمي تقول: "الفن -في مجمله قيمة- عليا، والفنان بصفته كفنان يخدم المطلق، الذي لا يقبل مساومة ما لصالح أي مطلق آخر، والشيء الذي يحدد نشاطه هو الجمال الذي يهدف الفنان في إطاره إلى أن ينتج عملاً"(38) مؤثراً في شكله وإثارته الجمالية. وبهذا التصور، فإن درجة وعي الفنان، وتحليقه في المطلق، وسعيه إلى تجاوز ما هو عيني مباشر؛ هو أول دوافع الفن إلى خلق منتوجه الجمالي، ولن يتحقق هذا بتمامه إلا بالتماسك الفني الذي يربط أواصر المنتج، ويوحِّد حركة الأشياء، وينمِّي علائقها الجمالية المكونة، ولهذا، جاء قول برتليمي: "الجمال يغير كل شيء"(39). صائباً؛ لأنه ينبع من صلب الفن؛ وقانونه الوجودي، لأن للجمال سطوة لا يتلذذها إلا من عشق الجمال، ولا يعي قيم الجمال، و حقيقة الفن ومتغيراته الفنية إلا من خبر الفن وعاشه؛ وليس جديراً بأن يكون مستقبلاً للمنتج الفني، أو حتى عنصراً وجودياً مشاركاً فيه، لأن مساحة الوجود كلها مسرح للفن؛ والفنانون هم أبطال هذا المسرح، وصانعو أحداثه، وقيمه الوجودية.

ولهذا، فإن أية قيمة جوهرية -في الفن- لا تملك عنصر تأثيرها إلا ضمن منتجها الفني، أو نطاقها الفني الخاص بها، ولذلك، فإن الكثير من القيم الجمالية متحولة- حتى ولو كانت قيمة أساسية، أو جوهرية في معظم الأعمال الفنية، لأن ما يكسب أي قيمة جمالية للفن مدى جاذبيتها، ومتعتها، ولذتها، و مقدار حيازتها، وتفعيلها، وممغنطتها للمنتج الفني ذاته؛ وليس للمنتجات الفنية الأخرى، وهذا ما ينطبق على خاصية التماسك، بوصفها قيمة جمالية جوهرية متأصلة في الفنون جميعها دون تحديد .

وما ينبغي تأكيده- فيما يخص قيمة "التماسك"، إن أي منتج فني إبداعي مؤثر لا بد وأن يعتمد خاصية التماسك كقيمة جمالية مؤثرة في خلق حيوية المنتج، ونشاطه الفني، والتماسك- من منظور علم الجمال- لا يعني ربط الجزئيات على المستوى الكلي، وإنما ربط المنظورات، والرؤى، والقيم الجمالية؛ سواء أكان ذلك على المستوى الجزئي، أم كان ذلك على المستوى الكلي، أي على مستوى الشكل الفني الخارجي، والمحتوى الداخلي، فالقيم الجمالية التي تملكها خاصية "التماسك" تختلف من فن لآخر، ومن منتج لآخر، تبعاً للشكل الفني الجمالي للمنتج الفني من جهة، وتبعاً لمؤثراته وقيمه الجمالية من جهة ثانية.

والتماسك في المنتج الفني- ليست قيمة جمالية جوهرية ثابتة في الفنون جميعها فحسب، وإنما قيمة متغيرة؛ بوصفها تمثل انعكاساً ذهنياً لنشاط المبدع التخييلي، لحظة التشكيل الفني؛ لأن كل" قدرات الروح تجد مجالاً لنشاطها في هذه القيمة، وكلها ترمي إلى نفس الهدف"(40)الذي تكمن في تحقيق منظور جمالي متكامل، أو إنتاج رؤية جمالية جوهرية في الفن، وما لفن- في أسمى غاياته إلا سيرورة صوب إكساب الرؤيا، وخلق منظور مغاير للوجود، يرقى به فوق حقيقة الواقع، ويحايث عالم المثل العليا، أو عالم المطلق، وجوهر الفن الإبداعي الخالد.

وأعود وأقول: إن جوهر أيَّ قيمة جمالية تتحدد بالقيمة الإبداعية التي أثارتها في ذلك المنتج، وبمنظوري لا أهمية لأية قيمة جمالية؛ إن لم ترتبط بالمنتج الكلي للعمل، أي بالمظهر الجمالي الذي تتخذه في مسار المنتج الفني، بتمامه، وكماله لدرجة تشكل جزءاً من قيمته الفنية العظمى؛ التي تسهم في الارتقاء بالمنتج الشعري إلى جو جمالي جذاب. ولهذا كان (ماريتان) على حق في قوله: "إن القيمة الفنية هي وحدها التي تتخذ مكانها، لكن هذا يحدث عن طريق فلسفة عجيبة تربط بين تلك القيمة، بوصفها نابعة عن الإبداعية الشاعرية، والعمل الشاعري الذي يطالب بالسيطرة على الحياة الإنسانية كلها، ويتخذ لنفسه وظيفة يعمل بها، لتهيمن على مصير الإنسانية كلها"(41). والفنانون المبدعون هم الذين يسيطرون بجاذبية الجمال على الآخرين، وهي التي تدفعهم للتفاعل معهم بلذة الإحساس الجمالي، ومتعة الجمال؛ وأعود وأقول: إن خاصية التماسك هي الثمرة العظيمة التي تنتجها الفنون جميعها، بوعي جمالي، وتكامل فني، لتستثير اللذة التي تصنع الجسارة، والامتشاق الفني، لكن كل بطريقته، وأنموذجه الخاص في خلق التآلف والتماسك النصي.

ووفق هذا التصور، فإن خاصية التماسك من الخواص البليغة في إصابة مرماها الجمالي، وهذا يعني أن القيم الجمالية متغيرة بتغير الأنساق اللغوية، وتعدد مشارب الشعرية؛ وهذا ما احتفت به قصائد محمد عمران في سيرورتها الجمالية المتنامية، بمنطق الإحساس والتكثيف الجمالي، على شاكلة قوله:

"كلُّ شيءٍ يموتُ

فيسقطُ ظلٌّ على النافذةْ

وأنا كنتُ أجلسُ في نعسِ الوقتِ

ما بين خيطِ السواد

وخيطِ البياضِ

وكانتْ طيورُ الكلامْ

تنفلتُ من قفصِ اللغة المتدلي

على شرفاتِ الظلامْ" (ج4/ص140)

هنا، يحقق التناغم الجمالي على مستوى الأنساق فاعليته القصوى في تكثيف الرؤى وتحفيزها جمالياً؛ مما يدل على قيمة جمالية محفزة للقارئ؛ نستدل عليها بالشكل الجمالي الفاعل الذي يحققه التلاحم والتماسك بين الجمل، كما في قوله: [وكانتْ طيورُ الكلامْ/ تنفلتُ من قفصِ اللغة المتدلي على شرفاتِ الظلامْ]؛ ولعل المحفز الجمالي البارز في القصيدة؛ هذا التسلسل والتماسك الدلالي بين الصور والجمل، لتنتج القيم الجمالية الخلاقة التي تثيرها القصيدة.

واللافت أن مغريات التماسك الجمالي- في قصائد محمد عمران- يهبها التلاحم والتكامل الفني، لاسيما حين يستتبع هذا التكامل كثافة في القيم والمحفزات الجمالية، لاسيما في ابتثاث الدلالات المراوغة، خاصة في سياقات السرد الوصفي وكثافة الرؤى المحفزة للشعرية، كما في قوله:

 "تعالي بأريجكِ المنكسرِ

يا وردةَ الدمعِ

لكِ عروةٌ خاليةٌ

فوقَ نهدِ البنفسجِ،

ولكِ سريرٌ

في اليدِ الضاحكةِ

يا طفلَ الفرحِ

المطلَّ

من دفترِ النوم" (ج4/ص71).

هنا، يأتي التماسك الجمالي آية في الحساسية، والدهشة الجمالية لاسيما في إسناد الدلالات، وتكثيف الرؤى عبر فاعلية الصورة، والقيمة الجمالية التي هو عليها؛ كما في قوله: (تعالي بأريجكِ المنكسرِ/ يا وردة الدمعِ)؛ واللافت أن حراك الدلالات ينشط بتفاعل الصور، والمحفزات الجمالية كما قوله: [ياوردة الدمعِ/ لك عروةٌ خاليةٌ فوقَ نهدِ البنفسج]؛ وهكذا، تتلون الدلالات، و تؤدي حراكها الجمالي المؤثر عبر فاعلية التماسك التي تخلقه الصورة، والمشهد الشعري في تكثيفها، وابتثاث مغرياتها النصية. وبتقديرنا: إن التماسك الجمالي قيمة فنية لا يستهان بها في التشكيل النصي، لاسيما حين يمعن الشاعر في إبراز فاعلية تلك القيم، وتحقيق منتوجها المؤثر. كما في قوله:

"كلُّ أشواقِهِ مقفلةْ

كيفَ جاءت، إذن، هذه الغيمةُ المثقلةْ؟

كيفَ ألقتْ بهذي الخزائن في فمهِ

بهذي الكنوز،

على أفقِ اللونِ في حلمه،

وبهذي اللغات،

على دفترِ النومِ في قلبهِ؟!!

.. عندما في الصباحِ أفاقَ،

رأى الغيمة المرسلة

تتنزل بالحبر

والسورِ المقبلة"(ج4/ص132).

هنا، يحقق التماسك الجمالي قيمته الشعرية؛ لأنه أسهم في الارتقاء بالصورة من خلال تفعيلها للنسق الشعري، وإبراز ملمحها الجمالي؛ وهذا يعني غنى المؤثرات اللغوية بالصور المتفاعلة التي تشي بالحراك الجمالي، كأن حالة من التفاعل والانسجام والتضافر والتماسك الفني تحققه الصور وفق المخطط التالي:

 عندما في الصباحِ أفاقَ،

 رأى الغيمة المرسلة

 تتنزل بالحبر

والسورِ المقبلة.

إن القارئ مدرك لفاعلية الرؤيا الجمالية التي تتضمنها الصور لإبراز متحولها الجمالي؛ لاسيما من خلال السرد الوصفي الرشيق الذي تعتمده الجمل لإثارة المتلقي، وتكثيف مغريات النسق الشعري؛ وهذا يعني قوة الرؤيا الشعرية في توليف الأنساق، إبراز دفق الصور وحساسية الرؤيا. وهذا يعني أن القيمة الجمالية تتحقق بالتماسك الذي يظهر في تواشج الصور وتلاحمها في بنية القصيدة العمرانية ذات الحياكة الجمالية والنسيج التصويري الآسر.

(4) التضافر:
إن التضافر قيمة جوهرية -حقة- في تحريك كل منتج فني على الإطلاق، وإكسابه قيمته الجمالية المثلى، خاصة إذا كان المنتج الفني وليد تفاعل، وتكامل، وتضافر جميع القيم الجمالية الأخرى؛ وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إن خصيصة التضافر قيمة القيم في المنتجات الفنية جميعها، ولا غنى لأي منتج جمالي إبداعي مؤثر فنياً، إن لم تكن سمة التضافر، قيمة مركزية في اكتناه مغرياته الجمالية، وتفعيله الإيحائي لها. والفن لا ينجز من وراء العواطف الجارفة والمتقدة بفوضى الحواس الجارفة، التي تقلل الفن، وتزيبه فنياً، لأن الفن- بمنظوره الإبداعي الجوهري- هو تضافر حيثيات، ورؤى تقوم على أرقى محفزات النشاط الجمالي، والأحكام الفنية، وقد وعى هذه الحقيقة بتمامها وكمالها عالم الجمال(فيدر) إذ يقول:" إن العواطف الجارفة لا توجد أمام الأعين إلا لكي تبينه القلقلة التي تسببها هي"(42). وما ينبغي تأكيده: إن التضافر كقيمة جمالية ليست قيمة معيارية نقيس بها جمالية كل منتج فني على حدة، إنها قيمة مركبة من مجموعة قيم؛ تجسدها قيمة جوهرية مطلقة؛ هي قيمة الفن الكلية؛ أو هدف الفن، وزبدة العمل الفني، وما دام العمل الفني في منتوجه التأثيري ما هو إلا مجموعة قيم، ومحفزات، ومؤثرات فنية بات أبرز ما ينشط الفن هو التضافر، والإيحاء، بوصفها مبعثاً للفن، والتمتع بالقيم الفنية.

وهذا يعني أن الفن عبر قيمة التضافر لا ينتزع جاذبية الفن انتزاعاً، أو جاذبية الإمتاع الفني انتزاعاً، وإنما يخلقها خلقاً، تتضافر فيه مجموعة قيم لا بأس بها من القيم الجمالية، ويخطئ من يظن أن الفن قيمة جمالية محددة، وإنما هو مجموعة قيم متضافرة؛ تشكل قيمة إبداعية عظمى؛ هي الغاية الفنية، أو ذروة الفن، والإحساس الفني. ويخطئ من يظن أن الفن امتلاك، وإنما هو نشاط جمالي في المنتج الفني، يتخلق هذا النشاط بالتضافر، بوصفه قيمة جمالية، محرضة للتنشيط الجمالي، فالفن ليس انتزاعاً، أو هدفاً، أو غزواً، إنه إمتاع لا يُمتلك، وحاجة ماسة إلى الإمتاع اللاممتلك، وأجمل الفنون هي الفنون اللامستهلكة أو اللاممتلكة، تلك التي تقود صاحبها، إلى متعة البحث، والنشاط كما هو مدفون ضمن نتاج العمل الفني الإبداعي المؤثر.

ويخطئ من يظن: أن الفن حاجة مستهلكة، أو حاجة للتمتع، ومن ثم الانتهاك، إنه ضرورة من ضرورات الحياة؛ ففي كل لحظة ينشط المرء فنياً تزداد قيمته الجمالية نمواً، وتكاملاً، وحراكاً، وإدراكاً فنياً، والفن ليس رحلة ترفيهية، تنقضي فور انقضاء المنتج الفني، وإفراغ محتواه، وإنما حركة نشطة تتوالد باستمرار، تنتزع خاصية الفن الجوهرية، أو الشحنة الجمالية التي لا تخبو على مر الحياة. وتبعاً لهذا، يبدو الفن مغامرة إبداعية ليست جافة، أو محاولة الامتلاك؛ إن لذة الفن الجوهرية في عدم الامتلاك، وإن حقيقته غير مستهلكة إطلاقاً، ولهذا، فإن قيمة الفن ليست بتضافر القيم، وتناميها جمالياً فحسب، وإنما بطريقة توليف هذه القيم، والرقي بها جمالياً؛ وتبعاً لهذا، تتجدد القيم الجمالية للمنتجات الفنية بمقدار تضافرها وإنجازها الفني المتكامل المحلق للذهنية الإبداعية، وإشراقاتها الفنية، يقول الشاعر المبدع شوقي بزيع:" الجمال ليس معطىً جاهزاً، ولكنه شيء نستطيع أن نجترحه نحن بالمكابدة، وبالألم، وبقوة الحياة في داخلنا؛ إلا أصبح الجمال أعطية مجانية أو شيكاً بلا رصيد"(43). وبهذا التصور، فإن قيمة الجمال في التنشيط الذي يولده فينا، ويستثيره على الدوام؛ وهذه القيم لا تأتي إلا من إثارة المنتج الفني، وتضافر قيمه، وتحفيزها الدائم لمنظوراتنا، وأحاسيسنا الجوانية العميقة.

ومن يطلع على تجربة الشاعر محمد عمران يدرك أن اللعبة الشعرية تتأسس على وعي المدركات الجمالية عبر ماتثيره أنساقه الشعرية على مستوى دوالها ومدلولاتها، بتضافرها في القيم الجمالية وتفاعلها؛ سواء على مستوى الشكل اللغوي، أم على مستوى الصور والدلالات، وحراك البنى اللغوية المحفزة للنسق الشعري على شاكلة التضافر الذي تشكله الجمل الشعرية التالية في هذا المقتطف الشعري:

" وجهها كوكبٌ ينام

وجهها حجرٌ يتكوم في ظله، وينامْ

والنخيل على جفنها يتلوى،

ويعتنقُ الجدبَ، ثم ينامْ"(ج1/ ص341).

إن القارئ لهذه الجمل الشعرية يدرك اللعبة الجمالية التي يؤسسها الشاعر بالاعتماد على تقنية التضافر، وتبدأ فاعلية هذه التقنية منذ الصورة الأولى: [وجهها كوكبٌ ينام]؛ثم يردفها بصورة جديدة تشتغل بقنوات الرؤيا على إبهارنا بحراك جمالي شاعري مفتوح: [وجهها حجرٌ يتكوم في ظله]؛ ثم يفاجئنا بالقلقلة النسقية على مستوى الصورة: [والنخيل على جفنها يتلوى]؛ مما يدل على حراك الدلالات، وإثارة متغيرها الجمالي الخلاق. وبتقديرنا: إن تقنية التضافر والائتلاف بين الصور تحقق للصور قيمة جمالية عظمى في الاستثارة والتأثير، لاسيما عندما تتضافر الصور فيما بينها في تعميق الحدث، والمشهد الشعري، فكم من القصائد الشاعرية تحتفي بالتضافر كقيمة جمالية عظمى في تشكيل (القصيدة- اللوحة)، أو القصيدة(المشهد)، تأكيداً على قيمة عظمى، تستثير المتلقي، على شاكلة قوله:

"على شباككِ الشرقيِّ ترميني

طيورُ الريحِ، عصفوراً من الشوقِ

أُغني تحت شرفتكِ الربيعية

لعلَّ صوتاً منكِ يأتيني

لعلَّ مدائن النعمى

تمدُّ ذراعها الغافي، وتدعوني"(ج1/ص88).

لابد من الإشارة – بداية – إلى أن التضافر الجمالي قيمة جمالية مؤثرة في تحريك النسق الشعري لاسيما عندما تتفاعل الجمل الشعرية، محققة أعلى قيمة في تشكيلها، على شاكلة التضافر الانسجام الذي تحققه سلسلة الصور بالارتكاز على الجذر اللغوي المكرر(لعلَّ صوتاً منكِ يأتيني/ لعلَّ مدائن النعمى)، وهذا يدلنا على أن التضافر يبدو في الانسجام والتكرار الذي يزيد من تلاحم الجمل تكثيف الدلالات على شاكلة التكرار التضافري الذي تخلقه الأنساق اللغوية في هذا المقتطف الشعري:

"وأنتِ التوتةُ الخضراءُ في داري

وأنتِ عريشةُ العنب

وأنتِ السنديانةُ بين أشجاري

وأنتِ الشهدُ في طبقي

وأنتِ على نهاري باقةُ الحبقِ"(ج1/ص88).

إن هذا التكرار الضاغط للضمير (أنت) بشكل تعاقبي أدى دوراً رابطاً في إبراز التلاحم والتضافر في النسق الشعري؛ مما يدل على فاعلية المشهد الغزلي، حركة الصور المتنامية المتتابعة على شاكلة النسق التالي:

أنتِ عريشةُ العنب

أنتِ الشهدُ في طبقي

أنت على نهاري باقة الحبق

وهذا الأسلوب التضافري المتنامي في التشكيل التركيبي النسقي هو الذي يحقق أعلى درجات الكثافة والإثارة الجمالية، في تجسيد المشهد الرومانسي، وتحريكه ليصل أعلى درجات الإثارة والخصوبة الجمالية. وهذا الأسلوب التشكيلي هو الذي يرفع وتيرة الاستثارة والجمالية في الأنساق الشعرية.

وتأسيساً على هذا، يمكن القول: إن التضافر قيمة جمالية ترتقي بالأنساق الشعرية، محققة بلاغة ما في استثارة الصور، وتحقيق مؤثرها الجمالي البليغ، كما في قوله:

دعيني أغسلُ الأحزانَ عن مرآةِ عينيكِ

عن الوجهِ المغبر فيهما،

عن هذه النظارة السوداءِ

عن شمسي التي صدئت بعينيكِ

دعيني أخترقُ بوابةَ الموتِ

أشك بقلبه صوتي

دعيني. لم تزل في الأرض معجزةً، سأصنعها

وأحملُ فوقها وطني إلى النصرِ"(ج1/ص87).

إن القارئ يلحظ التضافر الجمالي بين الصور بالارتكاز على النسق الشعري التكاملي الذي تشي به الصور بالارتكاز على التكرار كمقوم بنائي في تحريض الرؤيا الغزلية، ولعل التتابع والتوالي على مستوى الجمل يحفز قيم التضافر الجمالي لإبراز الأنساق التصويرية اللاهبة في رؤاها؛ومداليلها الشعرية؛ وهذا يحمل دلالات واسعة على مستوى الإحساس المتواتر، والشعور العاطفي المتقد الذي تشي به الحالة كقيمة تعبيرية لا يستهان بها.وهكذا تتساوق الدلالات الشعرية مع الحالة الشعورية العاطفية المتقدة من خلال إثارة الصور، وبلاغتها في إصابة مقصودها.

(5) التراكم:
لاشك في أن ظاهرة التراكم من الظواهر الجمالية التي اعتمدتها القصيدة المعاصرة في تكريس رؤاها ومؤثراتها الجمالية الخلاقة لاسيما القصائد الشعرية التي تتراكم فيها الصورة لدرجة التناغم والتفاعل اللوني بين جزئياتها ومشاهدها الجزئية، لأن الصورة بتراكمها" تتميز بوفرة المواد التي تساعد على تشكلها، وترفع من قيمتها الجمالية، كالإيقاع، وتنوع الحركة، وتعددها عن طريق اتكائها على الفعل والزمان، وامتداده، وتنوعه"(عساف، عبد الله- اللوحة التشكيلية، مجلة الوحدة، ص28). وتعد تقنية التراكم على مستوى الصور من مغريات المحمول الجمالي في قصائد محمد عمران التي تكتظ بالرؤى والدلالات المفتوحة في نسقها الشعري، لاسيما في القصائد المشهدية أو القصائد ذات الصور المتوازية أو المركبة، كما في قوله:

"كانت الأطيارُ تحملني إلى وطني

عصافيرٌ، من الأفراح، خضراءُ

تغردُ في دمي، وتطيرُ. ترحلُ في فمي الأظلال والماء

وأشجارٌ من النعمى، وأقمارٌ، وأضواءُ"(ج1/ص86).

هنا، يلحظ القارئ تراكم الصور، واختلاف درجات تكثيفها الجمالي، فالصورة الأولى:[عصافيرٌ، من الأفراح، خضراء)، والصورة الثانية: (ترحل في فمي الأظلال والماء)، ثم تتراكم الصور وتتشظى: (وأشجارٌ من النعمى، وأقمارٌ، وأضواءُ)؛ وهكذا تتأسس درجات الشعرية على فاعلية التراكم ومستوحيات الرؤية الجمالية التي تخطها في هذا النسق الشعري؛ وهنا، تعبر الصورة عن حالة شعورية ممزوجة بالأمل، والتفاؤل، والخصوبة في تشعباتها، ورؤاها المكثفة. وعلى هذا" تتجاوز الصورة معنى الزخرفة أو الشرح، أو التوضيح، لتعبر عن حالة شعرية متكاملة. وهذا يؤكد فاعلية الصورة بوصفها جزءاً من بنية النص المتحركة. وهاهنا تظهر الصلة بين الصورة والإيقاع من خلال انتظام العلاقات بين عناصر الصورة في نسق فني يتناغم مع رغبة الشاعر في تحقيق الانسجام و التوازن وفق ما تقتضيه التجربة الوجدانية التي يعيشها؛ وهذا يقدح الشرارة الأولى للإيقاع" (ترمانيني ص262).

وثمة شكل من أشكال التراكم في الصور والأنساق الشعرية يتبع الحالة الشعورية المأزومة وحدة الصوت الداخلي، وانكساره على شاكلة قول الشاعر في هذا المقطع:

"آه، سيدتي، امنحيني حزناً

يليقُ بقلبي

امنحيني قمصانه،

وعباءآته

زهوه،

ازرقاق سحاباته

طقسه النبويِّ

........

ها أنا سيدُّ الحزنِ،

يتبعني

الشجرُ المتوسد صدر الموائد

تتبعني الشرفاتُ

الشوارعُ

رائحةُ الليل

والمطرُ الطفلُ

والأرصفةُ"(ج1/ص263).

هنا، تتأسس الصور في مدها الشعوري بالاعتماد على تقنية التراكم للتعبير عن تأزمه واغترابه الشعوري، وكأن حالة من الوجاعة، والألم والتشرد والتسكع الوجودي تعتصر كيانه وشعوره، ولهذا، تراكمت الصور ارتداداً نفسياً عن احتراقه، وتأزمه، وانكساره الشعوري، وكأن (الشوارع، والشجر، والمطر، والأرصفة) ترصد معاناته وحرقته الداخلية، وهكذا يتجاوز التراكم المد اللغوي وتواتر الأصوات، وحالات العطف، ليدخل في صميم النبض الداخلي للكلمات، وإيقاعها الصوتي، والرؤى الشعرية؛ وهذا ما يجعل التراكم قيمة جمالية لا غنى عنها في تشكيل القصيدة العمرانية، وإبراز متغيرها النفسي والجمالي في آن.

ومن أشكال التراكم ما يأتي متلاحقاً لإبراز قيمة جمالية ما، أو رؤية تصويرية مشهدية غزلية مترامية، كما في قوله:

"وجهها كوكبٌ ينام

وجهها حجرٌ يتكوم في ظله، وينامْ

والنخيلُ على جفنها يتلوى

ويعتنقُ الجدبَ، ثم ينامْ"(ج1/ ص341).

إن القارئ يدرك القيمة الجمالية للتراكم في إبراز الصور الذهنية التخييلية الجمالية للحبيبة لرصد جميع الأطياف والرؤى الماثلة أمام عينيه في تجسيد ملامحها المكثفة أمام ناظريه، فلم يجد وسيلة تعبيرية أنجع من تقنية التراكم للإلمام بهيكيلة الصور، وتتابعها في النسق الشعري الذي يحتويها؛ ولرصد كامل الأوصاف والمشاهد أمام عينيه في تجسيدها بمفاتنها، ومحاسنها الكثيرة؛ فوجهها تارة كوكب ينام، وتارة حجرٌ يتكوم، وتارة نخيل يبشر بالخصوبة، وتارة جدب ويباس؛ إن تنوع هذه الصور تقوي الانفعالات والرؤى المصاحبة لكل صورة من الصور السابقة. وقد يتخذ المحمول الجمالي عبر تقنية التراكم شكل المتوالية من الأسماء المكتظة والصور المكثفة المختلفة إزاء مسمى واحد أو موصوف معين، كما في قوله في هذا المقتطف الشعري:

"لوجهكِ الملكُ

يفرشُ طفولته على الينابيعِ والطرقاتِ

البيوتِ والشجرِ،

الحجارةِ والهواءِ

وعلى خلايا العسل"(ج2/ ص29).

إن القارئ هنا، يدرك أن المحمول الجمالي الذي تظهره خاصية التراكم يتمثل في إضفاء هالة من القدسية والجلال على وجه الحبيبة؛ فله المهابة والقدسية والخصوبة والجمال على جميع المخلوقات والأشياء الأخرى من حوله، لدرجة أن ضياء وجهها وهالته القدسية يغطي البيوت، والشجر، والحجارة، والهواء، وهو موكب الجمال الذي يفيض بحلاوته وشهده على الخليقة كخلايا العسل؛ وهكذا، يتحول التراكم إلى قيمة جمالية لا غنى عنها في تعميق المشهد أو الصورة، وإبراز ملمحها المؤثر.

(6) التفاعل:
إن قيمة أي منتج فني تكمن في تفاعله، وتفعيله على الدوام؛ ولهذا؛ لا تتكشف هذه القيمة إلا بمقدار الجاذبية التي يحققها المنتج الفني للمتلقي؛ ولهذا؛ لا يسمو المنتج الفني إلا بتفعيله، وتفاعله مع قيمة هذا المنتج؛ وتبعاً لهذا، تكمن قيمة هذه الخصيصة بمقدار الجاذبية التي يستثيرها هذا المنتج في المتلقي أو بالقيمة التي ينشطها في المتلقي؛ ولعل أبرز مصدر لتفاعل المنتج الإبداعي هو حيازته على قيم جمالية مؤثرة؛ ودافقة للإحساس الجمالي؛ فكم من الفنون الجمالية لم تنم، ولم تتطور فنياً، بسبب فقدانها هذا الإشعاع الجمالي في التفعيل، والتنشيط الفني؛ وبهذا التصور؛ فإن الفنان الحقيقي هو الذي يُضمِّن فنه إغراءات كثيرة لا حدود لها؛ ومهمة الفنان ليست إثارته لهذه الإغراءات فحسب، وإنما لخلق اللذة والاستعداد الجمالي لتلقي هذه الإغراءات؛ لتصبح جزءاً لا يتجزأ من بنية إيحاء الفن، وخصوبته جمالياً. يقول ماريتان:" إن مهنة الفنان تتضمن إغراءات خطيرة للغاية"(44).

وما ينبغي التأكيد عليه: أن خاصية التفاعل تمثل المعادلة الوجودية الجمالية الأولى على وجه الخليقة، فمن لا يتفاعل مع وجوده إنسانياً يبقى بمنأى عن تجاربه، ومتغيراته، وتأثيراته، ومؤثراته الكثيرة، والفن الرفيع- من منظورنا- هو فن تفاعلي، ولا يخلد الإبداع إلا بتفاعل المنتج الفني مع بنيته الداخلية أولاً، ومحيطه الوجودي أو عالمه الوجودي المحيط به ثانياً، وتغلغله إلى المتلقي، ليغير من مساراته، ورؤاه، وتطلعاته الوجودية ثالثاً، وهذا دليل: "أن الإبداع الخالد هو القادر على مقاومة الزمن، ومرور القرون، متمكناً من العبور نحو القارئ بمثابرة وجدية، وهذه القدرة لن تكون إلا بامتلاكه الوشائج التي تلامس الروح، وتحاور المصير الإنساني المشترك، وتنهمك بالتلاحم مع فواجع الإنسان الأزلية كما فعل مبدعو التاريخ الكبار الذين نقرأ عنهم اليوم، فنحس أن إبداعهم يعبر عن همومنا نحن، وعن هواجسنا، ووجعنا الإنساني الكبير"(45)

ولا بد من الإشارة إلى أن الفن قيمة جوهرية تفاعلية عظمى في تاريخ البشرية، ولهذا، يعد الفن الأصيل هو الفن التفاعلي الخالد الذي يطور الخبرات، ويعلي شأن الأمم، ولا تخلد الأمم إلا بفنونها المؤثرة، وثقافتها الإبداعية المميزة، وتاريخها الفني الطويل الحافل، ولهذا؛ فإن قيمة الفن لا ترتفع إلا بتفاعله، والقدرة على الاستجابة لتأثيره؛ وإدراك قيمته، ولهذا، فإن الفن الإبداعي الأصيل هو الذي يتمرد على قانون الفن، يقول جان برتليمي: "ليست هناك قيمة للفن، سواء أكانت جمالية أم غير جمالية إلا بالنسبة لضمير قادر على استقبالها"(46) والتفاعل معها؛ والفنان المبدع هو الذي يوقد شرارة التفاعل الخلاقة بين المبدع والمتلقي على الدوام، ومن هذا المنطلق؛ فالفن الذي لا يسكننا ونسكنه لسنا بحاجة إليه، وليس بقادر على الثبات في وجه الدهر؛ لأن ما يخلد هو الفن التفاعلي الذي يبقى، ولا يرضى لمؤثراته التلاشي والزوال.

ومن يطلع على قصائد محمد عمران يلحظ أن التفاعل يشكل قيمة جمالية لا غنى عنها في تعميق الرؤيا الشعرية، وإبراز منتوجها المؤثر، كما في قول الشاعر محمد عمران:

"بجوارِ نومكِ الطفل

مسترخٍ على غبطتي أتنفسُ أعشابَ جسدكِ

وفي دمي

عبقُ ليلٍ من كُمَّثرى تفتحت

وأزهارُ صبارٍ" (ج2/ص30)

بادئ ذي بدء، نقول: إن التفاعل بين الصور على مستوى الأنساق اللغوية يثير الحساسية الجمالية في القصائد العمرانية التي تنطوي على أكثر من رؤية، وأكثر من مثير لغوي يؤسسه الشاعر على قيم جمالية بليغة تصل فيها قمة في التفاعل والفاعلية الدلالية، وههنا، بدت الصور متفاعلة متناغمة في التعبير عن الحالة الشعورية بكامل احتدامها العاطفي ورهافة ماتشي به من دلالات وجدية تفيض خصوبة وشاعرية وإيحاءً على شاكلة قوله: [وفي دمي عبقُ ليلٍ من كُمَّثرى تفتحت وأزهار صبارٍ]؛ وهذا يدلنا على أن التفاعل قيمة جمالية مؤثرة في تفعيل دلالات الصور وتكثيف إيحاءاتها ضمن النسق الشعري المتموضعة فيه.

واللافت أن التفاعل الصوتي المتناغم يؤدي دوره المهم في تشكيل بنية القصائد العمرانية التي تتمحور على التناغم والانسجام الصوتي بين الإيقاعين الداخلي والخارجي على شاكلة المقتطف الشعري التالي لمحمد عمران:

"لو أنتِ معي، لكان رغيفُ هذا العمرِ أشهى،

كان ملحُ العمرْ

كفانا جوعنا القاسي،

لكان طعامنا ورقَ الرضى،

وشرابنا،

ولباسنا الكاسي"(ج1/ص105).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التفاعل الصوتي يحقق قيمته المثلى بتفاعل الإيقاعين (الداخلي) /و(الخارجي) في النسق الشعري؛ فالإيقاع الأول يظهر من خلال إيقاع الكلمة المموسقة وانسجامها وتناغمها مع الكلمات المجاورة على شاكلة؛ التفاعلات الصوتية التالية:[رغيف هذا العمر= ملح العمر] والثاني من خلال تألف القوافي وانسجامها وتواترها على مخارج متماثلة أو متجانسة، على شاكلة التفاعل الصوتي:[جوعنا القاسي=لباسنا الكاسي]؛ واللافت أن هذا التفاعل الصوتي حقق للقصيدة سحرها الجمالي، ونبضها الإيقاعي المموسق مع رجع الحالة ورنينها المموسق.

وقد يأتي التفاعل الصوتي بين الكلمات جزءاً لايتجزأ من شعرية الدلالة، لاقتران هذا التفاعل بالموجات الصوتية المتجانسة التي تقف عليها الأنساق الشعرية في نهاياتها الشطرية، كما في قوله:

"أنتِ التي تهبُ الحبَّ

أو تهبُ الموتَ.

كنتُ أسميكِ

صيفاً،

وأخزنُ حبكِ

قمحاً زيتاً"(ج1/ص239).

إن القارئ للكلمات الشعرية السابقة ومدى تناغمها وتفاعلها صوتيا يدرك تفاعل أصواتها وتناغمها وموسقتها للدلالة، فالحبيبة ليست إلا وجه الحياة بأسرارها وتناقضاتها الوجودية؛ فهي التي تمنح الحياة، وتغير وجه الموت، وتمنح الخصوبة، والخير، والإشراق في الحياة؛ ولهذا جاءت التناغمات الصوتية والتفاعلات الدالة غاية في الخصوبة كما في النسقين المتفاعلين الآتيين: [كنتُ أسميكِ صيفاً= أخزنُ حبكِ قمحاً وزيتاً]. وهكذا، يأتي التفاعل الصوتي ذا قيمة بلاغية مثلى في تحفيز الدلالات، وإبراز متغيرها الجمالي؛ وهذا يرتد صداه على إيقاعيها الصوتي/ والدلالي في آن معاً. محققة قيمة جمالية في نسقها الصوتي المتناغم شكلاً ومعنًى.

وقد يتجاوز التفاعل إطار الكلمة والجملة، ليرتقي إلى التفاعل المقطعي، أي التفاعل الجمالي على مستوى المقاطع، كما في قوله:

1

تقفُ حبيبتي في قلبي

أعلِّقُ أحزاني على غصنٍ

من جسدها

وأرقصُ في العري.

أصيرُ مرآةً

تدخلني الوجوهُ العاشقةُ

والأوطانُ العاشقةُ...

......................

2

 تقفُ حبيبتي في قلبي

يعلقني جسدها على غصنٍ منه

بينَ الأوراقِ والبراعم،

حيث تتفتحُ زهرةُ الوجع

..............

3

تقفُ حبيبتي في قلبي

أقفُ في قلبِ حبيبتي

نتسلحُ بالحبِّ والموتِ

ونخرجُ إلى خبزِ الملاجة

.............."(ج2/ص163-167).

إن التفاعل المقطعي يظهر للقارئ من خلال الفاتحة الاستهلالية المتواترة التي استهل الشاعر من خلالها المقاطع جميعها، كلازمة افتتاحية تؤكد تلاحم وتفاعل المقاطع في انتظامها ووحدتها الدلالية، للتدليل على الرابط الدلالي الموحد الذي يوحد الحركة الدلالية والجمالية لحركة هذه المقاطع، فكلها تقريباً تقف على الفاتحة الاستهلالية نفسها، لإبراز ملمحها البلاغي، وقوتها التفاعلية الرابطة؛ وهي:

(تقف حبيبتي في قلبي)؛ وهذه اللازمة تشي بوحدة الإيقاع وانتظامه على الرغم من اختلاف الصور وحدة برزها في كل مقطع على حدة؛ لكنها في إطارها النصي العام تؤكد اللحمة التامة بين المقاطع، ومؤثراتها الدلالية؛ ففي المقطع الأول، تأتي الجملة بعد اللازمة متفاعلة بدلالاتها مع الجمل التالية لكل لازمة من المقاطع الثلاث، كما يلي

أعلِّقُ أحزاني على غصنٍ

من جسدها

وأرقصُ في العري.

يعلقني جسدها على غصنٍ منه

بينَ الأوراقِ والبراعم،

حيث تتفتحُ زهرةُ الوجع

نتسلحُ بالحبِّ والموتِ

ونخرجُ إلى خبزِ الملاجة

إن هذا الائتلاف والتفاعل التام بين الجمل في إبراز حركة المشاعر المصاحبة لرغبة الشاعر في تمثيل مشاعره الغزلية بكل لقطات الإثارة والجمال دفعه إلى الوقوف على لازمة موحدة؛ تربط شتات مشاعره وحراكها وصخبها الداخلي، ومراميها البعيدة؛ في تمثيل المشاهد المحسوسة، بكل ماتتضمنه من رؤى مرئية تجعل الصور قريبة من الإدراك الحسي؛ وهنا يلحظ القارئ أن كل مقطع شعري يتفاعل مع الآخر في دلالات الصور، وتمثيلها للمشهد الرومانسي الآسر الذي اشتغل عليه في جلَّ مقاطع القصيدة، لتشكل لحمة جمالية لاتنفصم، وإن تعددت المقاطع، في طولها أو قصرها، لدرجة لايشاكل مقطع مقطعاً آخر إلا ما ندر. وهذا يدل على ارتقاء تقنية التفاعل بجمالية القصيدة العمرانية في بنائها النصي العام.

(7) التنوع:
إن أي منتج إبداعي فني لا بد وأن يتنوع وفي مؤثراته الجمالية، وطرائقه الفنية، ولهذا، تعد خاصية "التنوع" خاصية جوهرية في المنتج الفني الجمالي المؤثر، أو المنتج الفني الرائق جمالياً؛ إذ إن الفن سره الإبداعي المتميز الفاعلية، والإتقان، بالإضافة إلى التنوع الذي يلون المنتج الفني بأكثر من رؤية، ويستثيره بأكثر من سبيل، أو طريقة؛ وهذا يؤكد أن الفن إن لم ينوع في طرائقه وأساليبه سيشيخ ويهرم شأنه في ذلك شأن الكثير من الفنون التي شاخت، وتآكلت، وانقرضت قبل وصولها إلى زماننا. ومن أجل ذلك، تعد خاصية " التنوع" محركة للفنون جميعها، ولا نبالغ إذا قلنا: إن خاصية (التنوع) منشطة للفنون جميعها، ولكي تستثير هذه الفنون القارئ لا بد وأن تتنوع في الأسلوب، وطريقة التشكيل؛ وبكارة المنجز؛ وإلا فقد المنتج الإبداعي جاذبيته، ومن ثم عنصر تواصله(تأثيره واستثارته) في المتلقي.

فالتنوع- في الفن- لا يشكل فقط قيمة جمالية، أو عنصراً جذاباً لنقل المنتج الفني جمالياً، وإنما التنوع قيمة جوهرية تساعد المتلقي على التفاعل مع المنتج الفني؛ بوصفه مصدراً لإثارته، أو خلق استثارته، لأنها حركت في باطنه ما كان مدفوناً في أعماق أعماقه؛ ولهذا، يرى الكثير من علماء الجمال أن مصدر جاذبية الفن تنوع طرائقه، وتعدد أساليبه، وبقدر ما ينوِّع المبدع في أساليبه، يستثير القارئ، ويوجه مساراته التأويلية مسارات رؤيوية صحيحة، ومركزة جمالياً .

وتبعاً لهذا، تعد قيمة التنوع من القيم الفنية المؤثرة في تنامي جاذبية الفن؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن القيم الوظيفية للفن تضعف، وترتقي بقيم الجاذبية، ولا غرو حيال ذلك أن يؤكد برتليمي "أن الفن مهارة لا يمكن أن يدعيها ناشئ، أو متدرب"(47) وهذه المهارة هي مهارة التنوع، والاختلاف، وتعدد المنظورات، والأساليب، ولهذا، تعد خاصية التنوع من محفزات المنتجات الفنية؛ بوصفها قيمة جمالية مركزة لا غنى عنها في الاستقطاب، والتحفيز الجمالي. ولذلك، كتب برجسون عبارته الصريحة [الأشياء الجميلة عسيرة](48). والمقصود بمقولته تلك أنها صعبة التنفيذ، أو أنها تحتاج إلى خبرة، وممارسة، وتنوعاً في الطرائق الفنية؛ والأشكال التعبيرية؛ ومن أجل ذلك نقول: إن الفنون الممتعة جمالياً هي الفنون العسيرة، أو الفنون التي تتطلب جهداً في التشكيل، وبعداً في المزج، والتخييل، والتنوع في توليف الأشياء، والربط فيما بينها، بطرائق تشكيلية تنشط الخيال، وتستثير الذائقة الجمالية لدى المتلقي.

ولعل خاصية التنوع من الخاصيات المهمة التي ترتقي بالنسق الشعري إلى أواصر جمالية عالية الاستثارة والتأثير، لاسيما إذا استطاع الشاعر أن ينوع في أساليبه، تبعاً لمغريات الحدث والمشهد الشعري المجسد، بين الإخبار والإنشاء على شاكلة قوله:

"دمٌ على الأشجارِ

 أينَ تهدلُ الحمائمُ؟!!

دمٌ على الزهرِ

 أينَ يجني عسلًهُ النحلُ؟

دمٌ على الأعشاب؟!

 أين ترعى الماشية؟

دمٌ في الحدائقِ

 أينَ يلعبُ الأطفال؟

.................................

أين يأوي الحبُّ الراجعُ من الحقول؟!!

أين تتناولُ خبزها القصائد؟!!"(ج2/ ص157).

إن القارئ يلحظ تنوع الصيغ بالانتقال من الاستفهام إلى الإخبار؛ وهذا التناوب يحقق للقصيدة تكثيف الدلالات، وتنوع الرؤى الضاغطة على مشهد ما، أو رؤية معينة؛ وكأن مشهد الدم المترامي أمام عينيه قد جعل المشهد الشعري يصطبغ بصبغة دموية تلقي بظلالها على الصور، والمشاهد الشعرية المتتابعة، بجامع المقابلة بين ثنائية (الدم/ والحب)، وكأن الشاعر يقابل التساؤل بالإخبار، ويربط الدلالة الدمية بدلالة الحب الرومانسية، محققاً تنوعاً في الدلالات والرؤى، تبعاً لتغير الصيغ اللغوية وتحولها من الإنشاء إلى الإخبار؛ وهذا ما يحقق غنى الرؤى والقيم الجمالية الفاعلة في القصيدة.

وقد يأتي التنوع في طرائق التشكيل إلى تنوع الدلالات، تبعاً لمؤثرات النسق وفواعل الرؤيا الجمالية التي تثيرها الصيغ اللغوية بالانتقال من أسلوب إلى آخر، ومن دلالة إلى أخرى على شاكلة قوله:

" الوقتُ يجمعُ أعضاءَه المتكسرة،

الوقتُ ينهضُ من وقتهِ

الوقتُ يصعدُ،

سيدتي،

انكشفي للرياحِ وللغرقِ

انكشفي للجنون وللطرقِ

انكشفي للبحارِ البعيدة، للأرغفة

وانكشفي لرأسي"(ج1/ص370).

إن القارئ يلحظ تنوع الرؤى والدلالات بالانتقال من صيغة الإخبار إلى صيغة الأمر والطلب؛ وهذا الانتقال من صيغة إلى أخرى، بجامع البث والشكوى، وإظهار التوق والحنين الذي يبثه الشاعر على لسانه بالتناوب بين صيغتي الغياب والحضور، ليقرب ما هو بعيد إلى حيز المشافهة والمثول التام عبر استخدام صيغة الأمر والمواجهة المباشرة؛ على حساب الإخبار الذي اعتمده عبر ضمير الغياب؛ (الوقتُ يجمع= الوقتُ ينهض= الوقتُ يصعد)؛ثم أجرى تحويلاً تاماً في الصيغة بالانتقال إلى الطلب المباشر عبر ضميري المخاطب والمتكلم (انكشفي لرأسي)؛ وهذا الانتقال، يحول النسق الدلالي إلى التنوع في الرؤى والدلالات المفتوحة.

وبتقديرنا: إن التنوع في التشكيلات اللغوية، ورشاقة الانتقال من صيغة إلى أخرى من مغريات المحمول الجمالي للأنساق اللغوية المواربة التي تمتاز بها القصائد العمرانية في نموها السردي، أو تصويرها المشاهد الرومانسية الحافلة بالصور المركبة والدلالات المفتوحة، كما في قوله:

" يا امرأةً في شفافيةِ الضوءِ

لو سُلَّمٌ أتسلَّقُ شرفةَ عينيكِ

يا امرأةً في حساسية الصمتِ

لو لغةٌ تتأبطُ قلبي إليكِ

ويا امرأةً في عذوبةِ شمسٍ معتقةٍ

لو دنانٌ أصبكِ فيها

وأشربُ"(ج1/ص364).

إن التحول الجمالي بالانتقال من صيغة النداء المتتابعة إلى صيغة الشرط والإخبار ما جاء عن ترف لغوي وقلقلة نسقية، وإنما جاء لإبراز شوق الشاعر ومشاعره المحمومة التي تصطلي في أعماق أعماقه؛ بجامع الألفة بين الصور؛ وإبراز حراك المشاعر بالانتقال والتحول من صيغة النداء إلى الشرط، ومن الشرط إلى النداء، لإبراز المحمول الجمالي الموارب، في الصيغ، ورشاقة التعبير؛ وكأن اللهب الداخلي انعكس على الشكل اللغوي تنوعاً وحركة نشطة تؤكد – بشكل أو بآخر- غنى فصائد محمد عمران بالمثيرات الجمالية في مستوى تحولاتها النسقية، ورشاقة انتقالها من صيغة إلى أخرى، لدرجة لامثيل لها من التكثيف والتحول النسقي البليغ.

وهكذا، تزدهي الحركة الجمالية في قصائد محمد عمران بانتقالها من صيغة إلى أخرى؛ من شكل لغوي إلى آخر؛ لدرجة أن إيقاع كلماته الشعرية يتغلغل في بنى القصيدة ليدخل إلى أعماق النفس الباطنية، باثاً الكثير من الخلجات الروحية التي تفيض على النسق الشعري، بلاغة وشاعرية.

(8) الابتكار:
إن أي منتج فني مؤثر جمالياً لا بد وأن تكون قيمة الابتكار قيمة جوهرية تستدعي تلقيه، والتأثر بمنتجه، أياً كانت طريقة المبدع، والشكل الفني الذي يعتمده في منتجه الفني، ولهذا؛ فإن لبَّ ما يسعى إليه الفنان أن يفاجئ المتلقي بمنتوجه الفني المبتكر، بأسلوب جديد، ورشاقة جمالية. ونبض شعوري إيحائي عميق، ولذلك، فإن أغلب الفنانين اليوم لا يرتضون لمنتجاتهم الفنية، أن تجري بمسالك معتادة، وأشكال مرتادة، فيحاولون ارتياد فضاءات تشكيلية جديدة؛ الأمر الذي يوقعهم في تصنيع الأشكال الفنية، ببهرجة زائفة، لا قيمة لها على حساب جودة الفن، وقيمه الجمالية الأصيلة، وتأسيساً على هذا، يمكن القول: إن الابتكار ليس بالشكل، والتمرين اللغوي الإيهامي ليس مظهراً خارجياً أو قناعاً نلبسه بزي حداثي، أو قوالب فنية جديدة هي بالأساس محنطة، أو مقولبة بقوالب فنية لا حراك فيها؛ وإنما التحديث جودة فنية، ومحتوى حيوي مشرق، يحقق الإثارة، والفاعلية، والتأثير؛ يقول الفنان التشكيلي (فيتسير)": "إن لوحاتي تريد أن تكون شاهداً على شيء يعيشه القلب، لا أن تكون تقليداً لشيء تراه الأعين"(49). وهو -بهذا- يعني أن لوحته يجب أن تثير الحساسية العاطفية، والاستجابة التأثيرية؛ لا أن تبقى مجرد رؤية بصرية مشاهدة، ليس إلا. وهذا ما ينفر منه الفن الحقيقي، ويبتعد، لأن الفن مغامرة، وحداثة في الشكل والجوهر. والفن إن لم يكن متطوراً سيندثر، ويموت شأنه في ذلك شأن كل المخلوقات، والموجودات التي تبلى دون أن تترك أثراً يُذكر.

ولا بد من أن نشير إلى أن ثمة مسائل تساعد على الابتكار في المنتج الفني، أولها الموهبة الفنية التي تدفع عجلة الوعي الفني، ثم المهارة في التشكيل، والرؤيا النافذة التي تستدعي التأمل، وجدته، وبكارته، ثم الثقافة، والخبرة، والانفتاح التقني؛ والفني، والشمول المعرفي؛ هذه الأمور مجتمعة تساعد المبدع في إنتاج فنه المبتكر، أو فنه الجديد، بحساسية جمالية، ووعي فني. وبهذا المقترب الرؤيوي يأخذنا الشاعر صالح هواري إلى عالمه الشعري، ورؤيته للحداثة الشعرية، إذ يقول:" الحداثة هي رؤيا جديدة للحياة والإنسان في آن معاً ... وهي المغامرة الذاهبة في عذوبة الاكتشاف عن طريق الوعي اللاواعي، القادر على هدم العلاقات النمطية بين الأشياء، وإقامة غيرها على أسس ثورية جامحة، ترفض كل ما هو نمطي"(50).

وبهذا التصور، فالحداثة -عند صالح هواري- اكتشاف، ووعي إبداعي بهذا المكتشف؛ وهي، بناء على هذا، شكل فني جديد بأسلوب تقني جديد من الكتابة، وهي كسر لكل ما هو نمطي، أو تقليدي في العلاقات والروابط النصية؛ ولهذا يرى صالح هواري: "أن الحداثة تقوم على الثقة في قدرة الأسس الحديثة على هدم النمطيات، وإعادة هيكلتها بشكل متطور، ودفع حركتها بديناميكية تسعى إلى التغيير، ورفض المألوف. ولا ترتبط الحداثة بشكل فني محدد، ولا بشكل إيقاعي معين. وهذا يقودنا إلى أن الحداثة تكمن في الخلق، والإبداع، والمضمون لا بالشكل . ولا يمكن تحديد بوصلة المغامرة في خوضها، لأنها مجهولة النتيجة، فيمكن أن تشير إلى عالم من الدهشة والذهول؛ أو أنها تقود إلى الفشل والذبول، وأستطيع أن أقول: إن كثيراً من النصوص المبنية على إيقاعات بحور الفراهيدي، تمتلك من الحداثة ما لا تمتلكه قصائد عدة تدعى الحداثة، ذلك أن جذور الحداثة تكمن في شرارات المعاني التي تشيع التوتر في النص.. وليست في البناء الشكلي، وإيقاعاته الخارجية، المتمثلة في حركة الروي والقافية"(51).

ولهذا، فإن الوعي بالابتكار الفني، أو التحديث التقني هو وليد الفن الإبداعي الذي يلهث وراءه الفنان المبدع في سعيه إلى تطوير موضوعاته الفنية، عبر الأسلوب الجمالي المبتكر، وطريقة التعبير الجمالي عنها، وهكذا- حسب فايير- "يعطي الفنان نفسه حق قيادتنا، بعيداً عما هو قائم. ومهمته هي إنكار الواقع، بقصد إعادة بنائه"(52) وفي إعادة بنائه بطريقة جديدة، وبأسلوب جديد، وحساسية فنية، تخلق شكلاً جديداً، أو محتوًى حيوياً خصباً، يخلق المنتج الفني المبتكر، ويؤسس له؛ ولهذا، فإن الوعي بالمنتج الفني المثير، والابتكار في تشكيله بأسلوب تقني غير مسبوق هو ما يعلي بقيمة المنتج الفني، ويؤكد فرادته.

ومن يدقق في بنية القصائد الشعرية عند محمد عمران يدرك الدهشة الجمالية في إسناداته الشعرية التي ترقى أعلى مستويات الاستثارة والتأثير لاسيما في استعاراته المفاجئة في نسقها الشعري المتموضعة فيه، لدرجة لامثيل لها من الفاعلية، والتكثيف، والإيحاء، كما في قوله:

" آهٍ، وجهُكِ

طفلُ الفرحِ النزقُ، هذا

هارباً من هداياه العائلية

يركضُ في أشجاري

أدعوه إلى حبةِ توتٍ حمراءَ

إلى عنقودٍ أبيضَ

كرزةِ، أو تفاحةٍ"(ج2/ص193).

إن القارئ هنا؛ يلحظ غنى المؤثرات الجمالية عبر الدهشات الإسنادية التي تحققها هذه التشكيلات: [وجهك طفلُ الفرحِ النزقٍ]؛ وهذا يعني أن بلاغة الرؤيا تتحدد من خلال الفواعل والرؤى النشطة التي تثيرها الأنساق اللغوية المبتكرة، لإبراز درجة المفاجأة والدهشة التي تثيرها الأنساق الشعرية، لرسم ملامح الصورة؛ وإبراز متغيرها الجمالي؛ وكأن كل صورة لقطة محركة للأنساق الشعرية؛ وكاشفة لحراك البنى والرؤى الدالة؛ على شاكلة قوله:

"من يناديني على مهرِ الهواءْ

فارسٌ تزهو به الريحُ

على صوته نسرانِ من عشبٍ وماءْ

وعلى جبهته البرقُ، وفي

يدهِ، من لطفها، سيفُ السماءْ

من يرى سرجاً من النورِ،

على مهرِ الهواءْ"(ج4/ص215).

إن قارئ المقتطف الشعري يدرك أن اللعبة الجمالية التي يؤسس عليها شعرية هذه الأنساق، تتعلق بالبكارة والدهشة الجمالية في تأسيس النسق الشعري؛ وإبراز متغيره الجمالي؛ فقارئ هذه التشكيلات: [مهر الهواء- سيف السماء-نسران من عشب وماء] يدرك أن اللعبة الجمالية ترتكز على مقدار الدهشة والمواربة التي يخلقها النسق الشعري في موضعه المناسب؛ مما يدل على أن اللعبة الجمالية مؤسسة على الحراك الشعوري، والقلقلة النسقية عبر الإسنادات الصادمة المواربة في تحريك الحدث، والارتقاء به جمالياً؛ فالقيمة الجمالية تتحقق في تفاعل هذه الأنساق المواربة في شكلها اللغوي الذي ترتكز عليه محققة قيمة جمالية عليا، على شاكلة المقتطف الشعري التالي:

 "وطنٌ من نبيذٍ،

أُنزِّهه في دمي، ويُنزِّهني في مرايا الذهولْ

نتحاصرُ طفلينِ، أو عاشقينِ، على كوكبٍ وثنيْ"(ج3/ص144).

إن القارئ يدرك سرَّ اللعبة الجمالية التي يحققها الشاعر في إبراز شعرية القصيدة؛ أو شعرية النسق الشعري باعتماد التشكيلات المواربة التي تزيد حيوية المشهد الرومانسي، ليحقق الشاعر قيمة جمالية في إسناد صفة إلى موصوف لا تقبله، أو لاتحقق متغيره الجمالي؛ وهنا ارتقى الشاعر بحيوية النسق إلى آفاق تشكيلية مراوغة في الإثارة الشاعرية كما في الأنساق التالية:[كوكب وثني= مرايا الذهول= وطنٌ من نبيذ]؛ وهكذا؛ تتحدد شعرية القصيدة بالارتكاز على مغريات التشكيلات المبتكرة والتزامها بالنسق الشعري المراوغ في شكله، ونسقه الجمالي.

وهكذا، تعد خاصية الابتكار من الخواص المؤثرة في شعرية القصيدة- عند محمد عمران- لاسيما القصائد الملتهبة بدلالاتها المفتوحة ورؤاها العميقة؛ مما يدل على شعرية بالغة في استثارة الأنساق الجديدة في مسارها النصي؛ ورؤاها المواربة المحمومة بالدلالات المفتوحة.

(9) الجودة:
ما من شك في أن مصدر جاذبية أي عمل فني مؤثر يتوقف- بالدرجة الأولى- على مقدار الجودة، والمهارة، والإتقان في صنع المنتج الفني، أو تشكيله، ومقدار الدهشة، والجاذبية التي وصل إليها في أسلوب تشكيله، وتركيبه. ولهذا؛ كان يقال عن الفنان أنه بنَّاءٌ... أو مُرَكِبٌ، للأنساق اللغوية بصيغة جمالية أو توليفة جمالية نادرة. ويقال عن الشاعر دائماً:(الرائي أو الملهم)، لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، والفن – بتصورنا- ما هو إلا هندسة تركيبية محكمة، وفق أشكال هندسية منسقة متناغمة، أو منسجمة في شكلها ومعمارها الفني العام، إنه فن الجودة في التعبير عما هو مخزون في قرارة الذات، بأسلوب جمالي مثير، وبقدر ما يرتقي الفنان بمنتجه جمالياً يستثير منتوجه القارئ، ويحفزه لتقبله جمالياً؛ ويخطئ من يظن أن الجودة تأتي من هندسة الشكل فحسب، وإنما من هندسة الشعور الداخلي، والمحتوى الجمالي الذي تتضمنه، فكل فن إبداعي مؤثر هو- بالضرورة- فن مجيد، أو فن عالي الجودة، شديد الحساسية، والجاذبية، والفاعلية، والتأثير، وعلى هذا الأساس؛ تزداد جودة العمل الفني بمقدار جدته، وبكارته، وجاذبيته، وإشعاعه الجمالي، وقيمه الجمالية المتوالدة على الدوام. ولهذا، يطلق على الفن المؤثر أو الفعال:" الفن الآسر أو الساحر"، وبهذا يقول الشاعر طالب هماش:" الفن سحر، والسحر يأتي من منابع كثيرة قبل الموهبة والثقافة، والهاجس. وإذا فُقِدَ السحر لا أهمية للباقي.. والشاعر الناجح هو الذي يمتلك خصوصية أسلوبية في التشكيل والتعبير"(53).

وما ينبغي ملاحظته أن الجودة الفنية لا تقتصر على حسن الصوغ، وبداعة الصياغة، وإنما على الجوهر الجمالي الذي تختزنه، أو تبثه من إيحاءات، وإشعاعات جمالية؛ ولذلك، من الجهل الاعتقاد أن الفن شكل؛ أو مظهر جمالي بمعزل عن المضمون الجمالي، أو المحتوى الجمالي، ولا نعني المضمون الجمالي الفكرة الجمالية، وإنما النبض الشعوري في ترسيمها، والارتقاء بها جمالياً. وكم كان قول علماء الجمال مصيباً من أن الفن الجمالي هو فن تجميل القبيح، والارتقاء به جمالياً؛ ولهذا؛ يعد الفن الهادف فن تجميل المثل، والارتقاء بها أخلاقياً؛ وإذا لم يغير الفن المجتمع إلى ما هو أفضل يبقى هدفه رهين جماله، وإشراقه الفني، ولذته الآنية، والفن لا يسمو – من منظورنا- إلا بالجودة الفنية العالية، والهدف الجمالي المركز، والمنظور الرؤيوي العميق.

وبتقديرنا : إن من يطلع على تجربة محمد عمران في بعدها الجمالي يدرك أن معيار الجودة والإثارة متحققة في قصائده على أعلى المستويات؛ لكن الأفق الرؤيوي المباغت الذي يفاجئ القارئ بماهو غير متوقع فإن الشاعر مازال في بعض الصور تقليدياً أو تراثياً، بمعنى أن صلادة الصورة وجهامتها في بعض المواضع يفقد الكثير من الصور إثارتها رغم بلاغتها وجدتها في نسقها الشعري؛ ولعل الملمح المهم في شعرية محمد عمران أن شعريته مؤسسة على إثارة الفجوات والبنى والرؤى الفاعلة، التي تخترق الحيز السطحي المتداول في تشكيل الصورة إلى ماهو رؤيوي وعميق؛ فالنبرة الخطابية الني غلبت على قصائد محمد عمران لم تنقص من كفاءة إثارة الصور، وغلوائية الرؤيا الفنية المركزة، كما في قوله:

"ورأيتُ وجهكِ في مرايا البحرِ مبتلاً

تهجيتُ اسمكَ الممحو في لغة البنادق،

واسمكَ الممحو في لغةِ العنادِ" (ج3/ص76).

إن القارئ يدرك أن الحرفنة الجمالية ماثلة في الجودة الفنية في إسناد الأنساق والتوليف فيما بينها؛ مما يدل على شعرية النسق الجمالي المركز؛ وخصوبة الدلالات التي خطها الشاعر بألق الصورة والمشهد المتنامي بحراكه الجمالي البليغ، على شاكلة قوله:[لغة العناد= مرايا البحر= اسمك الممحو- لغة البنادق]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الأنساق شعرية جمالية مراوغة تحتفي بالدلالة ونواتجها الفاعلة من رمز وإيحاء. وبتقديرنا: إن الحرفنة الجمالية في إسناد الدلالات، هي التي خلقت الجودة والإثارة في قصائد محمد عمران الشعرية، لاسيما تلك القصائد التي تراوغ في أنساقها الشعرية لتحقق متغيرها الجمالي الفعال على شاكلة قول الشاعر في هذا المقتطف الشعري:

"جسدي غيمةٌ

ووجهي أفولُ

ودمي عرشه على الماءِ،

والقلبُ على العرشِ كوكبٌ مذهولُ" (ج3/ص153).

إن القارئ لهذه الأنساق الشعرية يدرك الجودة الجمالية في تشكيل الصورة، وتحميلها من الدلالات مالا تحتمل؛ فالشاعر على مايبدو يحرك الأنساق الشعرية لتبرز في صيغ تشكيلية مراوغة، يستقي جل إثارتها من المغنطة الجمالية التي يؤسسها في هذا النسق الجمالي المتحرك التالي:[كوكبٌ مذهولُ- وجهي أفول]؛ فهذه الأنساق الشعرية تبرز متحلها الجمالي عبر الدلالات النشطة في التعبير عن حالة الشاعر وقلقله، وإحساسه العاطفي المتقد صبابة وإثارة جمالية.

وهكذا، يمكن القول: إن الجودة الجمالية التي تمتاز بها قصائد محمد عمران ترجع في نسبتها العظمى إلى جمالية الصورة، وغليان الاستعارات، والتشكيلات اللغوية المتحركة التي تثير القارئ بالشكل التركيبي الأمثل، والطاقة البنائية الخلاقة التي مرجعها قوة الدلالة، وبلاغة الرؤيا، وحساسية الاستعارة التي تغلي في نسقها دلالة وخصوبة جمالية. ولعل القيمة العليا التي تستحوذ عليها هذه القصائد تنوع مصادر الصورة من طبيعة وخيال، وبيئة، وثقافة معرفية وظفها الشاعر بمرجعيات مختلفة، تصب في خانة الرؤيا الجمالية والمشهد الشاعري الرومانسي الذي يرتكز عليه.

(10) التكثيف الدلالي أو التوالد الجمالي
ما من شك في أن أي منتج فني إبداعي مؤثر تتوالد قيمه الجمالية باستمرار، والفن –عموماً- هو توالد جمالي في قيمه، ومؤثراته الفنية، وأفضل المنتجات الفنية عمقاً وتأثيراً- من منظورنا- هي تلكم المنتجات التي تتزايد درجتها الجمالية باستمرار، وبمقدار ما تتوالد المنتجات، وتختلف فيما بينها فنياً، يزداد عنصر تأثيرها، وجاذبيتها في المتلقي. ولا غرو إزاء هذه الحالة أن نُعدَّ قيمة التوالد قيمة جوهرية جمالية في المنتجات الفنية جميعها؛ لأن لها تأثيرها الجمالي، وجاذبيتها الفنية، ونقول بثقة: إن قيمة التوالد في أي منتج فني إبداعي مؤثر هي قيمة عليا؛ بوصفها المحرض لتطور الفنون. والفنون إن لم تتنام وتتوالد باستمرار؛ فإنها آيلة للانقراض والاندثار، والفن إن لم ينتج ويُغيِّر ويتغيَّر يصبح فناً عقيماً سرعان ما يخبو ويموت، ويتلاشى دوره الفني؛ كأي منتج فني مستهلك. فالفن ليس لغة استهلاك، وإنما لغة إنتاج، وإبداع. والفن الذي لا ينتج فناً، لن ترتفع درجته الابتكارية، وتسمو، ويخطئ من يظن أن الفن تفريغ وانقضاء؛ وإنما هو شحن، وتجدد، وتوالد باستمرار؛ ولهذا، يبقى الفن متحركاً على الدوام؛ والفن حسب (برجسون) هو" الأصل المتحرك للأشياء"(54) أي هو المحرض التوالدي لتطور الأشياء، وتغير مسارها؛ وهذا رد منا على علماء الجمال الذين يدعون أن الفن استقلال؛ وقيمة الفن تكمن في استقلاله؛ لنقول لهم: إن قيمة الفن بتوالده، وتناميه، وتضافره، وليس باستقلاله وتعاليه، يقول برتليمي: "إن الفن يتمتع باستقلال كامل"(55). وهذا بالتأكيد منظور مخالف لطبيعة الفن ذاته؛ لأن الفن لا يخلد باستقلاله، وإنما يخلد بتناميه، وتضافره، وقيمه المتغايرة المتوالدة دوماً، وبمنظورنا: إن الأعمال الفنية الخالدة هي التي تتوالد جمالياً باستمرار، وتسهم في تفتيق أعمال أدبية خالدة، فالفن لا يمكن أن نعده استقلالاً، أو انعزالاً، أو انقطاعاً؛ لأن الفنون متعاورة، ومتضافرة كلها في سبيل إعلاء جوهر الإنسان، وقيمه، والرقي به جمالياً، وإنسانياً. لأن الجمال يصوغ" من القبح ومن الرذيلة فناً إبداعياً خالداً"(56). وهذه المهارة الفنية التي يمتاز بها المبدع الفنان عن غيره.

وتأسيساً على ما سبق نعد خاصية" التوالد"أو التكثيف الدلالي قيمة فنية جوهرية لا غنى عنها في الفنون الإبداعية جميعها، وهي قيمة تكاد تكون ثابتة في معظم الفنون. ولا نبالغ إذا قلنا :إنها جوهر الفنون كلها دون استثناء.

ومن يطلع على قصائد محمد عمران لاسيما القصائد التي تتجاوز نطاق البوح الذاتي إلى رثاء الذات، وهي مرحلة بث الشكوى بإيقاع جنائزي لاتخفى عنها رائحة الموت والفراق، والرحيل، ناهيك عن صوت الغياب، والصدى المتلاشي الذي ينبعث من رحيق الكلمات، وعذوبة إيقاعها، كما في قول الشاعر محمد عمران في هذا المقتطف الشعري:

"عائلةُ التوتِ ماتت، وخمسُ نفوسٍ من السنديانٍ،

يسمي البيت التي لم تمتْ

ثم يجلس في شمس مرآتِهِ، يقرأُ

الزمن الضائعا" (ج4/ص249).

إن حالة البث والشكوى والحنين تغري الشاعر أن يفتح أفق البحث الوجودي عن عالم آخر يحلم به بعيداً عن دائرة التشظي والهذيان، والرحيل المطبق، وصوت الغياب الخانق الذي يعتصر كيانه ليسترجع صدى ذكرياته للأزمنة الماضية التي تلاشت ولم يتبقَ منها إلا هشيم الأحلام وبقايا من رماد الأمكنة؛وذكراها العالقة في مخيلته؛وهكذا؛ تحقق قصائد محمد عمران عبر تقنية التكثيف درجة فاعليتها القصوى ومتحولاتها النسقية الخلاقة؛ مما يدل على بلاغة في استثارة النسق الشعري، تحريكه جمالياً.

واللافت أن التكثيف والتوالد الدلالي من مغريات قصائد محمد عمران التي تفيض برؤاها، ومؤثراتها الجمالية على شاكلة المقتطف الشعري التالي، لمحمد عمران:

"فليكن ما بين عينيكِ وبيني سفرٌ

إني تزودتُ، خذيني ليديكِ

كلما قلتُ دنوتُ، ابتعد الوقتُ

كأن الوقتَ رملٌ وسرابْ

 إنني أعشقهُ هذا العذابْ

إنه أغلى هداياهُ إليكِ" (ج4/ص239).

إن القارئ الذي لديه أدنى درجات الوعي والخبرة الجمالية يدرك التكثيف الدلالي، والتوالد الإيحائي الشفاف الذي تفيض به هذه القصائد على مستوى علائقها وتشكيلاتها النصية؛ فكل جملة تخفي دلالات متعددة، وهذا الدلالات تتضاد فيما بينها لتكثيف حدة الرؤيا وفاعلية التجربة بين الرغبة بالوصال، والاحتراق والموت بلذة هذا الوصال، وهذا ما يحقق للقصيدة تناميها الجمالي حراكها البؤري العميق.

وهكذا، تحقق هذه القصائد درجة شاعريتها من خلال توالد القيم الجمالية وتعالقها مع باقي الدلالات التي ترتكز عليها القصيدة في بث رؤاها، وتحميلها ما لا تحتمل من الدلالات والمعاني الجديدة المبتكرة.

نتائج أخيرة

  1.  إن المحمول الجمالي – في قصائد محمد عمران- يتأسس على حراك الصور، وبلاغة الرؤى المتعلقة بالصور، من حيث الكثافة، والرؤيا، وقوة التعبير؛ ناهيك عن متعلقات الصور بالمواقف، والأحداث، والدلالات المبثوثة التي تبثها القصيدة في حراكها الجمالي ومتغيرها الفني الخلاق.
  2. إن سحر اللغة ومحمولاتها الجمالية – في بنية القصائد العمرانية- يتأتى من خصوبة الرؤى الكاشفة، وحياكة الأنساق التشكيلية المراوغة التي تخفي رشاقة في توليد الدلالات، والإشادة ببناها الفاعلة المحركة للشعرية في أوج خصوبتها، وتناميها الجمالي.
  3. إن التقنيات الجمالية التي تظهرها القصائد العمرانية تتأسس على وعي جمالي في تشكيلها وخبرة جمالية عالية في الوقوف على المثير الجمالي الخلاق الذي يلون الدلالات، ويبث فيها درجات من الوعي والإثارة والتحفيز الجمالي المؤثر.
  4. إن مرجعية الرؤيا الخلاقة في القصائد العمرانية تنبني على إيقاعها المتنامي في تحريك الدلالات وتلوينها بدلالات واسعة لا حصر لها من الاستثارة والتكثيف والحنكة الجمالية؛ ناهيك عن قوة المشاهد المتحركة، والصور المركبة التي تخفي دهشة في الرؤى المركبة، وكأن مزج الصور وتفاعلها اللوني يغطي مساحة القصيدة بظلالها وألوانها وإيقاعاتها المختلفة.
  5. إن ثمة انتقالاً مفاجئاً في البنى الدالة على مستوى الصور والأنساق التشكيلية المواربة، وكأن الحنكة الجمالية في الوقوف على المفصل الجمالي في القصيدة يبرهن على قوة الرؤيا الشعرية وبلاغتها في تجسيد المشهد، وتعميق الموقف الشعوري المرتبط به.
  6. إن المحمول الجمالي الذي تظهره القصائد العمرانية ليس نتيجة علاقة دال بمدلول، ولا حامل بمحمول، ولا قرين دلالة بأخرى مواربة، وإنما هي علاقة فنية تقتضيها الرؤيا الجمالية وفاعليتها وإحكامها الجمالي.
  7.  إن حراك القيم الجمالية وتناميها على هذا الشكل الفني الرائق يدلل على أنه ثمة قيم جمالية تبرز من النسق الشعري المتضمنة فيه. ولهذا لا يمكن إعطاء قيمة جمالية مسبقة على قصيدة من قصائده حتى تبرز قيم أخرى لم نعهدها في هذا النسق الشعري أو ذاك، ودليلنا أن ساحة البحث الجمالي عن القيم الجمالية في قصائده تبقى في حيز المغامرة، والكشف الدائم، والرغبة الخلاقة لدى كل من يطالع قصائده بوعي معرفي وانشداه رؤيوي خلاق.

الحواشي:
(1) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 247.
 (2) المرجع نفسه، ص 247.
 (3) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 79.
 (4) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 247.
 (5) المرجع نفسه، ص 63.
 (6) المرجع نفسه، ص 63.
 (7) المرجع نفسه، ص 63.
 (8) المرجع نفسه، ص 64.
 (9) المرجع نفسه، ص 64.
 (10) المرجع نفسه، ص 64.
 (11) المرجع نفسه، ص 64
 (12) المرجع نفسه، ص 65.
 (13) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 152
 (14) المصدر نفسه، ص 152.
 (15) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 67.
 (16) المرجع نفسه، ص 67.
 (17) المرجع نفسه، ص 68-69.
 (18) المرجع نفسه، ص 69.
 (19) المرجع نفسه، ص 70.
 (20) المرجع نفسه، ص 71-72.
 (21) معتوق، فردربك، 1998- بين سلطة التلفزيون وانحسار الكتاب (تواصل أم انقطاع)، مجلة الفكر العربي، ع92، ربيع، ص 194.
 (22) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 73.
 (23) المرجع نفسه، ص 167.
 (24) المرجع نفسه، ص 231.
 (25) المرجع نفسه، ص 231.
 (26) المرجع نفسه، ص 231.
 (27) المرجع نفسه، ص 455.
 (28) المرجع نفسه، ص 455.
 (29) المرجع نفسه، ص 456.
 (30) المرجع نفسه، ص 459.
 (31) المرجع نفسه، ص 495.
 (32) المرجع نفسه، ص 481.
 (33) المرجع نفسه، ص 50.
 (34) المرجع نفسه، ص 256.
 (35) القحطاني، سهام، 2004- قصيدة النثر في الشعر السعودي، ج52، م13، يونيو، ص 422.
 (36) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 461.
 (37) المرجع نفسه، ص 461.
 (38) المرجع نفسه، ص 461.
 (39) المرجع نفسه، ص 461.
 (40) المرجع نفسه، ص 373
 (41) المرجع نفسه، ص 470.
 (42) المرجع نفسه، ص 501.
 (43) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 448.
 (44) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 636.
 (45) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 373.
 (46) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 418.
 (47) المرجع نفسه، ص 147.
 (48) المرجع نفسه، ص 146.
 (49) المرجع نفسه، ص 259.
 (50) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 279.
 (51) المرجع نفسه، ص 279-280.
 (52) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 537.
 (53) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 221.
 (54) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 542.
 (55) المرجع نفسه، ص 512.
 (56) المرجع نفسه، ص 512.