يقارب الباحث الأهازيج البدوية داخل الثقافة الشفاهية المغربية. ويؤسس دراسته على مقدمات في شكل وقائع وحقائق، ويستحضر الخلفية الاجتماعية والثقافية للمرسل والمتلقي، ويحاجج في دلالات ومعاني الأهازيج الصريحة والمضمرة، ويخلص إلى ضرورة البحث النقدي في خصائصها الجمالية والفكرية.

حجاجية الأهازيج البدوية

الأهزوجة الفخرية "دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ فِي الظَّهْرْة" نموذجاً

ياسين الطوسي

تشكل الأهازيج البدوية متناً هاماً داخل الثقافة الشفاهية المغربية؛ فعلى امتداد سهول المغرب شمالا وجنوبا ثم شرقا وغربا "هناك مساحات مفتوحة مترامية الأطراف من أصوات غناءٍ قرويٍّ شفوي وموسيقى تقليدية عروبية الجذور، متعددة الأشكال والأبعاد والدلالات، تجوس الروح الممتلئة بالحنين، المخترقة بفداحة الاقتلاع والفقدان والخسارة والخيبات الغامضة"(1).

لقد رسمت الأغاني الشعبية، بشكل عام، عبر الأصوات البشرية والإيقاعات والألحان الآسرة، على امتداد الأزمنة، نفسية المجتمع فرصدت أفراحه وأقراحه واهتماماته وتمثلاته ومعتقداته؛ حيث " إنها المرآة التى تنعكس فيها نفسية شعب من الشعوب.. منها، الأغنية الشعبية، نعرف طبيعة هذا المجتمع، تقاليده، معتقداته، طقوسه، أفراحه وأحزانه نوعيات اهتماماته علاقاته.. إلخ"(2).

وتعتبر الأهازيج البدوية، وفقا لما تقدم، نوعا من التواصل مع الآخر، وهكذا فهي خطاب له مقصدية معينة، شأنها في ذلك شأن الشعر، إذ أنها قد تكون مدحا أو فخرا أو رثاء أو غزلا.. والأكيد أن هذه الأغراض في الأهازيج تتأسس على آليات حجاجية، وتستقي حججها انطلاقا من محيطها البيئي والثقافي.

نحاول في هذا المقال تتبع تجليات الحجاج في فخرية "دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ فِي الظَّهْرْة"، وهي من الأهازيج التي جمعتُها في إطار المسح الذي قمت به للتراث الشفاهي بدوار أولاد السي عبد الله بن مسعود.

* * * *

الفخرية:

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ(3) فِي الظَّهْرْة مَا يْخَافْ مَنْ غَارَاتْ هاه

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَا جْمَالُ(ه) تْحَنَّنْ وُ مْوَلِيهَا يْبَعْدُو الرَّحْلاَتْ هاه

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَا خَيْلُ(ه) تْحَنْحَنْ وُ مْوَالِيهَا يْكُوْفُو الرُّزَّاتْ هاه

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَاغَنْمُ(ه) تْصَيَّحْ يَا مَالُ(ه) مَا صَابْ فِينْ يِبَاتْ آهَايْهْ.

تُردَّد هذه الأهزوجة في مناسبة حفل الزواج، وبالضبط في مرحلة "التَّدْرَاز"(4)، حيث تجلس العروس وتتحلق حولها "اهْلِيَّاتْها"، كما يحضر هذا الطقس أهل العريس أيضا، ومن ثم يمكن اعتبار أهل العروس مرسِلا، وأهل العريس مرسَلا إليه، فما وظيفة الفخر في هذه المناسبة؟ وكيف يتم التأسيس له، وإقناع المتلقي بمضامينه؟

الشجاعة صفة تميز الدوار (نتيجة مُقَدَّمة)

تنطلق الأهزوجة بأسلوب النداء "آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي"، ويبدو من البنية الصوتية للفظ النداء وجود صوت مد "آ" أي أن النداء هنا للبعيد، والبعد هنا قد يكون جغرافيا، وقد يكون رمزيا، ففي الحالة الأولى نلمس رغبة المتكلم نشر الخبر (الفخر)على أوسع نطاق، أما في الحالة الثانية، فهناك نبرة افتخار بالذات، وكأن المتكلم في القمة والمخاطَب في السفح، هذا البَوْن في الارتفاع بون مجازي، الغرض منه إبراز علو المكانة الاجتماعية للمتكلم. وبدمج البعدين، الجغرافي والرمزي، نلمس إلحاح المتكلم على التباهي بمكانته الاجتماعية، من خلال سعيه إلى نشرها على أوسع نطاق جغرافي، وكذا من خلال تأكيده على علوها وتميزها، وهذا يتساوق مع تكرار لفظ النداء "آهْوِي" داخل "البيت" الواحد وفي كل الأبيات، كما أن هذه الأبيات تختتم بنداءٍ للبعيد من خلال اللفظ "هاه".

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ فِي الظَّهْرْة مَا يْخَافْ مَنْ غَارَاتْ هاه

يتأكد غرض الفخر من خلال الاحتفال بالنحن الجمعية "نا" في اللفظ "دُوَّارْنا"، فالفخر هنا هو افتخار بالانتماء إلى القبيلة، إذ إن ما يصدق على القبيلة يصدق على الأفراد المنتمين إليها، ومن بينهم العروس. فإبراز قيمة العروس يتم من خلال إبراز انتمائها، على اعتبار أن الخلفية الدينية التي يتحرك فيها الخطاب، خلفية إسلامية، وهي تتأسس على مبادئ مثل "يد الله مع الجماعة" و"إياكم وخضراء الدمن"، فهذه المبادئ تحف الخطاب وتوجهه وتسهم في فاعليته.

يلي النداء جملة خبرية "دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ فِي الظَّهْرْة مَا يْخَافْ مَنْ غَارَاتْ"، والدوار هنا مجاز مؤسَّس على علاقتين؛ الأولى هي المحلية، إذ ذُكِر المحل "الدوار" وأُريدَ به الحال "أفراد القبيلة"، والثانية الكلية، حيث يُفهم أن الّامر يتعلق بساكنة الدوار بأكملها، في حين هو مقصور، عادة، على الرجال الذين يدافعون عن القبيلة من أي غزو محتمل، وقد حضر المجاز هنا لتعضيد سمة الوحدة والجماعة، أي أن لفظ الدوار، في هذا السياق، ذو بعد عصبي وليس جغرافي، إذ يختزل الدوار كل الأفراد، فتذوب الأنا في النَّحن، ويصبح الذم، الذي قد يتعرض له الدوار، ذمًّا لكل أفراده، والأمر نفسه ينطبق يسري على المدح، فمدح الدوار هو مدح لكل فرد منه، والعكس ممكن، حيث ينسحب ذم الفرد أو مدحه على الدوار بأكمله. فالقبيلة تشبه شجرة لها أصل أو جذع واحد، بالرغم من استمرارية توالد الفروع. هذا التوالد المستمر الذي يؤدي إلى خلق أوالية أو ميكانيزم الانشطار والتي ترافقها في الوقت نفسه أوالية معاكسة هي أوالية الانصهار، كلما كان هناك تهديد خارجي(5). وهذا ما ينطبق على دوار أولاد السي عبد الله بن مسعود، فالأصل المشترك لهذا الدوار هو الجد "عبد الله بن مسعود" أما الفروع فهي الأسر المتناسلة عن أولاده.

يشرع المتكلم في بناء "النموذج"(6)، نموذج الدوار القوي الذي ينتمي إليه، وذلك من خلال حشد مجموعة من الصفات الإيجابية، وأول هذه الصفات، الشجاعة " مَا يْخَافْ مَنْ غَارَاتْ"، حيث تم نفي صفة الخوف عن فرسان القبيلة، الذين كانوا يعسكرون خارج الدوار في منطقة تسمى "الظَّهْرَة"(7)، وقد كانت هذه المنطقة ثغرا يدخل منه الخصم، بيدا أن المتن لا يحدد هوية هذا الخصم، والذي قد يكون العسكر البرتغالي أو الوطاسيين أو القبائل المجاورة. وكان فرسان "دوار أولاد السي عبد الله بن مسعود" يعسكرون في "الظهرة" درءاً لأي هجوم محتمل(8). وهكذا فوجود الفرسان في منطقة خارج القبيلة، بهدف الدفاع عنها، سمة من سمات الشجاعة.

يمكن اعتبار هذا "البيت" بمثابة نتيجة مُقَدَّمة مفادها شجاعة ساكنة الدوار، فيما تشكل "الأبيات" اللاحقة مقدمات مؤخَّرة، في شكل حجج مؤدية لهذه النتيجة.

"البيت" الأول (الشجاعة)

المقدمة الأولى: (الجمل رمز الغنى والشجاعة)

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَا جْمَالُ(ه) تْحَنَّنْ وُمْوَلِيهَا يْبَعْدُو الرَّحْلاَتْ هاه.

يتضمن "البيت"، وحدات معجمية تستبطن سمات دلالية تتساوق والمقصدية العامة للخطاب، هذه الوحدات هي (جْمَالُ(ه)، تْحَنَّنْ، يْبَعْدُو الرَّحْلاَتْ).

توسَّل المتكلم في هذا البيت بعنصر "الجَمل" وهو بمثابة مادة تختزن "أمشاج الخصوبة الدلالية"، فقد ارتبط الجمل في الثقافة العربية بالرحلات والغنى والكرم.. إلخ، ومن ثم فاختيار الجمل هنا هو اختيار للحمولة الثقافية التي يختزنها هذا العنصر داخل الثقافة القبلية العربية، أي أن المتكلم يرمي إلى كثير من المعاني الإيجابية من خلال لفظ "الجمل"، فإلى جانب كونه وسيلة نقل، يعتبر الجمل رمزا للتفاخر بين القبائل، إذ إن الإبل مؤشر على حجم الثروة التي تمتلكها القبيلة، وبالتالي فتوظيف الجمل بصيغة الجمع "جْمَالُ(ه)"، الدالة على الكثرة، حجة يتوسل بها المتكلم لإبراز الغـنى الذي يتسم به الدوار.

تضمن "البيت"، أيضا، لفظ "تْحَنَّن"(9)، وبالرجوع إلى تفسير النسوة اللائي أخَذت عنهن المتن، فهذا السلوك هو علامة على الرغبة في التزاوج، لكن اللفظ قابل لأن يُخصَّب أكثر، فيصبح كناية عن غنى الدُّوار وشجاعته.

الكناية عن الغنى

نلمس من خلال العبارة "جْمَالُ(ه) تْحَنَّنْ" إشارة إلى كثرة الإبل في "الدُّوَّار"، فاللفظ الأول دال على الجمع يتساوق وسمة الكثرة، كما أن الدراسات البيطرية تشير إلى أن بلوغ الجمل يبدأ من السنة الثالثة وتصل الذكور إلى قمة نشاطها الجنسي بعد سبع سنوات(10)، فالبلوغ والكثرة -رغم ضعف وتيرة التوالد عند الإبل ذات السنام الواحد، بسبب التأخر في البلوغ والحمل والولادة الأولى التي تتم في سن متقدمة والفترات الطويلة الفاصلة بين ولادة وأخرى-(11) هما مؤشران على غنى "الدُّوَّار"، حيث إن تواجد الإبل البالغة بكثرة يجعلنا نخلص إلى أن سكان القبيلة لا يذبحونها، وهذا يقتضي توفر مصادر أخرى للحوم، كما أنهم لا يبيعونها وهذا يقتضي عدم حاجتهم إلى لمال أو شيء آخر كالحبوب مثلا. فتوفر مصادر اللحوم وعدم الحاجة إلى لمال والحبوب دليل على الغـنى الذي يتميز به الدُّوَّار.

وترى الدراسات البيطرية أن البلوغ عند الإبل وتكاثرها تتحكم فيه، إلى جانب العمر، التغذية الجيدة(12)، ومن ثم فوجود الإبل بكثرة وبلوغها مرحلة الهيجان مؤشران يدلان على حسن الرعاية التي تحضى بها هذه الدواب في الدوار، وهذا لن يتأتى إلا من خلال وفرة الكلأ وتنوعه، الأمر الذي يقتضي وجود أراضي شاسعة للزراعة والرعي، وهذا دليل آخر على الغـنى الذي يتسم به الدُّوار.

الكناية عن الشجاعة

إن فترة الهيجان عند الجمل موسمية ومرتبطة بموسم التزاوج، وخلالها يتغير سلوك الذكر، فيصبح شرساً له ميول عدوانية، تجعله يهاجم الذكور الأخرى وكذلك الإنسان(13)، ومن ثم لا يمكن الاطمئنان إليه، بيد أن ذلك لم يكن ليثني تُجَّار "دوار أولاد السي عبد الله بن مسعود" عن رحلاتهم التجارية، وهذا دليل على شجاعتهم.

يشير "البيت" إلى عادة من عادات الدُّوار، وهي التِّرحال من خلال عبارة "مْوَلِيهَا يْبَعْدُو الرَّحْلاَتْ"، هذا السلوك لم يكن بحثا عن الخصب إنما كان الترحال للتجارة(14)، لأن ساكنة الدوار ليست من الرُّحَّل، والدليل على ذلك تواجدها واستقرارها الدائم بالدوار، وهذا مؤشر آخر يدل على سمة الغنى.

يلاحظ في هذا البيت هيمنة سمة الغنى على سمة الشجاعة، إذ تبدو مؤشرات الغنى صريحة، بخلاف سمة الشجاعة التي تبدو ضمنية.

"البيت" الثاني (الغنى والشجاعة)

المقدمة الثانية: (الخيل رمز الغنى والأصالة)

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَا خَيْلُ(ه) تْحَنْحَنْ(15) وُمْوَالِيهَا يْكُوْفُو الرُّزَّاتْ(16) هاه

أتى البيت الثالث شبيها بالبيت الثاني، على مستوى التركيب والدلالة، حيث إن ما قيل عن الإبل يمكن أن يقال عن الخيل، فكثرة الخيل مؤشر على الغنى، لأن تربيتها تتطلب توفير العلف، وهذا لن يتأتى إلا بتوفر أصحابها على رأس مال وأراضٍ مهمة تخول لهم زراعة ما تأكله الخيل، إضافة إلى زراعتهم المعاشية.

يأتي لفظ "تحنحن" لتعضيد حجة الغنى، فسياق الكلام يجعلنا نفهم، من خلال هذا اللفظ، رغبة المتكلم وصف كثرة الخيل وقوّتها، معولا في ذلك على الثقافة التخاطبية للمُسْتَمع. وتنبع رغبة المرسِل في هذا الوصف، من معرفته مكانة الخيل ورمزيتها في المعتقد الجمعي القبلي، حيث إن هناك العديد من الآيات التي شرّفت الخيل ونوهت بمكانتها، فهي متاع من متاع الدنيا في قوله عز وجل {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاة} (آل عمران14)، كما أنها المطية والزينة في قوله تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (النحل8)، فالخيل رمز الغنى، ثم إن الرسول(ص) جعلها مقترنة بالخير إذ قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).

يبدو من خلال ما تقدم أن الخيل لها مكانة خاصة في المعتقد الجمعي، وهذا ما جعل المرسِل يراهن على حجيتها كرمز من رموز الغنى.

ورد في البيت أيضا عبارة " مواليها يْكُوْفُواْ الرُّزّات"، وهي كناية عن الترف والأصالة، فـ"الرُّزّة"، وهي العمامة (العْصَابَة)، لباس تقليدي بدوي، يتساوق ورمزية الخيل للغنى، فهي، العمامة، وسيلة من وسائل التجمُّل. ويدل الاعتناء بالهندام في ذلك الزمن على الغنى الذي كانت تعيش فيه ساكنة الدوار.

هيمنت، في هذا البيت أيضا، تيمة الغنى.

"البيت"الثالث (الغنى)

المقدمة الثالثة: (الغنم رمز غنى الدوار بأكمله)

آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَاغَنْمُ(ه) تْصَيَّحْ يَا مَالُ(ه) مَا صَابْ فِينْ يِبَاتْ آهَايْهْ.

بعد الإبل والخيل، تناول المتكلم الغنم باعتبارها مؤشرا آخر أكثر حجية على غنى الدوار، فإذا كان امتلاك الإبل والخيل يقتصر على فئات من القبيلة، وهذا ما نفهمه من خلال لفظ "مَّوالِيها"، فإن الغنم لم تقترن بهذا اللفظ، بل نجدها مرتبطة بلفظ الدوار، مما يجعلها المؤشر الأكثر حجية على غنى الدوار برمته، على اعتبار أن كل أسرة تملك الغنم، ومن ثم فهي في مستوى معين من الغنى. ويتساوق لفظ "تصيَّح" مع الدلالة على الغنى، إذ ورد اللفظ مضعّفا يفيد كثرة الغنم وقوتها.

"البيت" الرابع (الغنى)

يلاحظ من خلال ما تقدم تركيز المتكلم على الحجج التي تؤكد سمة الغنى أكثر من أي سمة أخرى. وقد رتب المتكلم حججه تبعا لقيمتها في الحجاجية، فالإبل، التي يسخرها أصحابها للرحلات التجارية، تدل على الغنى، غير أنها مقتصرة على فئة معينة في الدوار وبالتالي فهي في المرتبة الثالثة. وقد أتت الخيل في المرتبة الثانية، على اعتبار أنها تجسيد للغنى، إذ اقترنت بطقوس تدل على الترف؛ ففي حالة الإبل هناك سعي إلى جمع الثروة عبر التجارة، لكن في حالة الخيل هناك استعمال لهذه الثروة في طقوس التبوريدة، أي أن الثروة متوفرة لدى فئة من الساكنة، وتتمظهر من خلال طقوسها ولباسها، بيد أن اقتصار الخيل على فئة خاصة من الساكنة جعل هذه الحجة في المرتبة الثانية، وقد احتلت الغنم المرتبة الأولى من حيث القوة الحجاجية، إذ إلى جانب دلالتها على غنى الساكنة برمتها، تبدو الغنم مؤشرا ملموسا لهذا الغنى، فهي تتوالد وتنمو بوثيرة أكبر وأسرع من الخيل والإبل.

وهكذا يمكن أن نستعين بالسلم الحجاجي عند "ديكرو"حيث يمكن ترتيب الحجج كالآتي:

(الغنم)

غنمُ(ه) تصيّح ... (توفر كل الدوار على الثروة)

خيلُ(ه) تحنحن ومواليها يكوفوا الرزات ... (استعمال فئة للثروة)

جمالُ(ه) تحنّن ومواليها يبعدوا الرحلات ... (سعي فئة إلى الثروة)

لماذا ساق المتكلم حججا دالة على الغنى وقد قدم نتيجة مفادها الشجاعة؟

للإجابة على هذا التساؤل، وجب علينا التدقيق في طبيعة السؤال الذي اختُتِمت به القصيدة "آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي رَاغَنْمُ(ه) تْصَيَّحْ يَا مَالُ(ه) مَا صَابْ فِينْ يِبَاتْ؟ آهَايْهْ.

يبدو من خلال السياق أن الأمر يتعلق بأسلوب استفهام إنكاري، والجواب عنه يقتضي إثبات ما تم نفيه، أي أن الجواب على السؤال "مال(ه)ما صاب فين يبات" سيكون على الشكل التالي "بلى" "عندُ(ه) فين يبات"، وما سيدفع المتلقي للإجابة بالإثبات هو الحجج التي ساقها المتكلم مرتبة وفق سلم حجاجي، والتي تفيد الغنى الذي يتسم به الدوار، إذ لا يستقيم المنطق ووجود شخص غني وليس له مكان يبيت فيه.

لكن كيف يمكننا العبور من الغنى إلى الشجاعة؟

وردت في بداية القصيدة إشارة إلى أن رجال القبيلة يعسكرون خارج "الدوار" أي خارج بيوتهم: "آهْوِي آهْوِي ِ آهْوِي دُوَّرْانَا مْگَوَّرْ فِي الظَّهْرْة مَا يْخَافْ مَنْ غَارَاتْ هاه"، لكن هذا المبيت اختياري وليس اضطراريا ناتجا عن الفقر، إذ إن الغنى الذي يتسم به "الدوار" يلغي شبهة الاضطرار، ومن ثم فالمبيت خارج الدوار هو اختياري، والغرض منه حماية الدوار، وهذا أكبر دليل على الشجاعة.

لقد تم تسخير سمة الغنى لخدمة سمة الشجاعة، حيث تم التبئير، في الحجج، على مؤشرات الغنى، لإبراز شجاعة ساكنة الدوار.

لكن لماذا التركيز على الشجاعة وتسخير الغنى لخدمة هذا الغرض؟

سبقت الإشارة أن الخطاب يتحرك داخل إطار ديني إسلامي العربي. وأن هذه القصيدة يتم ترديدها خلال حفل الزواج، وبالضبط، في مرحلة "التدراز"، حيث تتحلق النسوة حول العروس، فتردد مجموعة من الأهازيج ذات طابع فخري ونصحي، وكأن هذه الأهازيج، وخاصة الفخرية، رسالة إلى أهل العريس، فإذا كان العريس من القبيلة نفسها، فالخطاب الفخري يشمل العريسين، ويتنبأ لهما بذرية شجاعة، أما إذا كان من قبيلة أخرى، وهنا يكون الفخر أكثر حضورا، فهذا الخطاب يخبر العريس بخصال أخوال أبنائه المفترضين، وأهم خصلة هي الشجاعة، إذ لما كان احتمال انتقال الثروة من عائلة الأم للأبناء احتمالا ضعيفا، وهذا راجع إلى نظام الإرث في الإسلام، حيث إن المرأة ترث "نص عود"، ولما كان احتمال الحصول على الإرث من الأخوال بدوره ضعيفا، فقد راهن المتكلم على السلوك والأخلاق؛ لأنهما غير خاضعين لهذا النظام، كما أن هناك من يقول بأن الرسول (ص) أوصى باختيار الزوج بالنظر إلى إخوانها، وذلك من خلال قوله "خوِّلوا أبناءكم"،ودون الدخول في متاهات صحة الحديث أو ضعفه، فما يهمُّنا هو الذِّهنية التي يتحرك فيها الخطاب، إذ سواء أكان الحديث صحيحا أم ضعيفا، فهو مُنْتَج ومتداوَل داخل المحيط الاجتماعي والعقدي الذي نشأت فيه هذه الأُهزوجة، مما يجعلنا نعتقد بوجود آثاره في هذه القصيدة.

تركيب

لقد أسس المتكلم خطابه على مقدمات في شكل وقائع وحقائق؛ أما الوقائع فهي كل ما يمكن إدراكه حسيا، كالأغنام والخيل والإبل وما يصاحبها من أصوات، وأما الحقائق فهي ما يُفهم من كثرة هذه الحيوانات وكذا دلالات أصواتها، مثل الغنى والشجاعة، وهي مجردة لا تدرك حسيا، وإنما تُفهم من الخطاب.

اِستحضر المتكلم الخلفية الاجتماعية والثقافية والعقدية التي تحتوي فكر المُستَمَع، وراهن عليها للتأثير فيه.

يحتوي الخطاب جانبا صريحا وآخر ضمنيا، فالخطاب الصريح هو الجانب المعلن من الحجج، التي تدل على الغنى ومن ثم على الشجاعة. أما الخطاب الضمني فهو المسكوت عنه، فالثروة، مثلا، إلى جانب دلالتها الصريحة على الغنى، هي في الوقت نفسه رسالة إلى العريس مفادها ضرورة الاعتناء بالعروس، وعدم جعلها تشتكي من الحاجة، فهي لم تكن تشكي من نقص أو الحاجة في منزل أبويها، كما أن قبولها الزواج به ليس طمعا في ماله وإنما رغبة في تكوين أسرة. ثم إن توفر عائلتها على الأغنام والخيل والإبل يجعلها مؤهلة لتدير أملاك زوجها، فقد خَبِرت رعاية الإبل والخيل والغنم.. في "خَيْمة" والديها. وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا التغني بالشجاعة، إلى جانب أنه محفز للعريس على الظفر بالعروس، هو في الوقت نفسه، رسالة له على أن لهذه العروس أهلاً شجعانا يحمونها، ومن ثم فعليه اجتناب ظلمها أو الاعتداء عليها.

لقد سمح لي التعامل مع التراث الشفاهي، خلال بحث الإجازة ومن خلال هذا التحليل المتواضع، بالتعرف على الخصائص الجمالية والحجاجية للخطاب الشفاهي، فخلصت إلى ضرورة نفض الغبار عنه، ومحاولة إعادة قراءته بمناهج جديدة، تمكننا من الوقوف على البُنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفكرية والخطابية لأسلافنا.

(باحث في البلاغة وتحليل الخطاب، جامعة شعيب الدكالي بالجديدة)

* * * *

الهوامش

(1) النجمي(حسن)، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب غناء العيطة نموذجا، كتاب الشعر الشفاهي بالمغرب: مقاربات ونصوص، سلسلة ندوات ومناظرات رقم136، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2006، ص21.

(2) شمس الدين (مجدي محمد)، الأغنية الشعبية، بين الدراسات الشرقية والغربية، مكتبة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2008، ص9.

(3) يقطن أو يُعسكر.

(4) مرحلة من مراحل حفل الزواج، وفيها تجلس العروس وتتحلق حولها قريباتها، فيرددن أهازيج يغلب عليها طابع الفخر والنصح، فتسيل الدموع ترقبا للفراق الوشيك بين الأم وابنتها. إذ مباشرة بعد هذه المرحلة، يدخل العريس فيحمل عروسه ويمتطيان جملا ثم يتوجهان إلى بيت الزوجية.

(5) يُنْظَر ضريف (محمد)، مؤسسة السلطان الشريف في المغرب، محاولة في التركيب، أفريقيا الشرق 1988، ص86.

(6) الشعر العربي شعر نمذجة بامتياز، إذ يلجأ الشاعر في المدح أو الفخر أو الرثاء أو الذم، إلى حشد الصفات التي اخدم غرضه الشعري، إذ نجد صفات كالشجاعة والقوة والكرم حاضرة في الأغراض الثلاثة الأولى مهيمنة على الخطاب مقابل غياب الصفات السلبية، أما الصفات السلبية كالجبن والضعف والبخل فهي البارزة في الغرض الأخير. والمتكلم في هذه القصيدة سيحشد عدد من الصفات الإيجابية لتشكيل "نموذج" الدوار. وفي الحالتين معا يُقْصى ما لا ينسجم مع الغرض، بل قد يتم قلب الحقائق فيصبح القتل، مثلا، حكمة والهروب شجاعة.

(7) منطقة مرتفعة خارج الدوار، تسمح بمراقبة مداخل الدوار، وكانوا يعسكرون بها لرد أي هجوم محتمل.

(8) حسب رواية النسوة اللائي أخذت عنهن هذا المتن.

(9) ترغو، من رغاء الجمل و هديره وصوته، المصاحب لخروج كرة لحمية من فمه، خلال فترة التزاوج (حسب تفسير النسوة).

(10) موقع دليلك الزراعي، التناسل في الإبل: http://dalelkelzeraee.blogspot.com/2013/03/Reproduction-in-camel.html

(11) التباري( احمد) وأنواسي(عبدا لحق)، فيزيولوجيا الجهاز التناسلي، مركز الأبحاث البيطرية – أبوظبي – دولة الإمارات العربية المتحدة 1997، الموقع:

http://spana-syria.org/Atlas/Camel/WebPage3/3.htm.

(12) مجلة جامعة دمشق للعلوم الزراعية ( 2007 ) المجلد ( 23 ) العدد 2، ص235.

(13) بوابة أراضينا للزراعة والإنتاج الحيواني، التناسل عند الإبل:

http://aradina.kenanaonline.com/posts/185268

(14) حسب رواية النسوة اللائي أخذت عنهن هذا المتن.

(15) تصهل من الصهيل.

(16) يضعون العمامات على رؤوسهم.