وتواصل سهير المصادفة، معايشتها للتحولات الكبيرة التي إعترت المجتمع المصري بعد هزته الكبيرة في يناير من العام 2011. فبعد أن قدمت روايتها المتميزة "رحلة الضباع" والتي رجعت فيها إلي الفتنة الكبري، التي كانت بداية التحول في مسار الدعوة الإسلامية، كبداية للدخول في الفتنة المصرية. ثم أتبعتها بـ "بياض ساخن" التي جعلت من العام الذي سرق فيه "إخوان إبليس" حكم البلاد، مسرحًا لأحداثها، فها هي تضع الجزء الثالث في تلك السلسلة، بروايتها الجديدة "لعنة ميت رهينة"[i] لتبحث عن جذور التيارات الإسلامية المتزمتة التي سعت لتفريق اليلاد والعباد، في محاولة لنزع الجذور الممتدة من آلاف السنين، للإنسان المصري، معتمدة على خلق علاقات محكمة. شابكة إياها بخيوط خيالية، لتصنع بناء روائيًّا يُضاف إلى رصيدها الروائي الذي حفرت به اسمها في سجل مسار الرواية العربية.
تلجأ الكاتبة إلى واحدة من أقدم الأماكن التاريخية المصرية، التي تقول عنها {أقدم عاصمة مدنية في العالم}، وهي "ميت رهينة" إحدى القري الشهيرة بالأثار المصرية، وأشهرها أيضًا في عملية سرقة الآثار، لتجعلها مسرحًا لأحداث الرواية القائمة على التاريخ المتخيل، وسرقته التي تتواءم تمامًا مع طبيعة ما تسعى الرواية إليه في خطابها.
فنتعرف أول ما نتعرف على "هاجر" المصرية التي تدفع بنا مباشرة إلى السيدة هاجر زوجة إبراهيم أبو الأنبياء، وأم سيدنا إسماعيل، الذي وضع شريعة تُتبع حتى يومنا هذا في الدين الإسلامي، في بؤرته التي يسعي إليها المسلمون، وهي الكعبة المشرفة. فكأن المصادفة تسعي لبداية المسألة من بذورها الأولي. لتكتمل عندما يأتي "أدهم الشواف" – وكأنها توحي لنا بآدم، بداية القصة على الأرض- ذلك الشاب القادم من الأراضي الحجازية، ليقضي على أمل "عبد الجبار" المصري الذي هام بهاجر وتمني الزواج منها، إلا ان والدها شبه المُعدم، لم يكن ليرفض أدهم حينما أغراه الأخير، لا بالمال فقط، وإنما بتحقيق أمنية زيارة الكعبة المشرفة، التي ستحوله اجتماعيًا من "لطفي مرجيحة" إلى الحاج لطفي.
ورغم أن زواج "أدهم الشواف" من هاجر سوى سنتين فقط، حيث أصابه المرض، وتوفي، ورغم توصيته بالدفن في ميت رهينة، حيث أعد لنفسه مقبرة بها، لتأتي زوجته الأولى، من السعودية، لتحمل الجثمان إلى الأراضي السعودية، في إشارة ضمنية توحي بها الكاتبة، لتوحي بها أن عملية التزاوج تلك، لم تكن إلا عملية مرحلية، لم تنجح في تغيير الهوية. فقد ترك من آثاره ما تكشف عنه الرواية مع نهاياتها، وكأننا نتكشف آثار ذلك التهجين بين الوافد، والمقيم المتمثل في التاريخ الفرعوني الممتد لآلاف السنين قبله، والذي يمكن على المستوي الواقعي أن نقول أنه شهد فترة من التعايش، استمرت حتى فترة الانفتاح الساداتي، التي أشارت الكاتبة إليها – كما لو كانت عرضًا – كعملية إحياء لهذا التزاوج من جديد، حيث أتاح السادات لجماعة الإخوان أن تمارس عملها في العلن، لمواجهة تعالي أصوات اليسار الناصري الذي كان يسعي لإثارة الكثير من المشاكل بين الطلبة في الجامعات.
غير أن الآثار الصارخة لذلك التأثر – وفق رؤية الرواية - لم يظهر إلا بعد ثورة 25 يناير، حين ذهبت تلك الجماعات لحرق ذلك القصر الذي بناه أدهم الشواف، وتحلقت جماعات الشباب لاغتصاب "سارة" أخت مايكل سمير، التي سيأتي الحديث عنها.
أسفرت علاقة الزواج تلك، بين أدهم الشواف "الحجازي"، وهاجر، المصرية، عن ابنة وحيدة "ليلى" التي سرعان ما سعت لعمل المشاريع بالتحالف مع زوجة أدهم الأولى، السعودية "ريتاج". في الوقت الذي تبلدت العلاقة بينها وبين أمها هاجر. وكأننا أمام سعي الجيل الثاني للاستفادة المادية من ثمار ما زرعه الجيل الأول، أو الجيل المؤسس، وهو ما يمكن أن يتوافق مع اختيار الكاتبة للفترة الساداتية، وما قيل عنها من انفتاح مادي، لصنع خلفية لتلك العلاقة الناشئة من استغلال "ليلى" لأموال "ريتاج". خصوصًا أن "ليلى" أقامت علاقة غير شرعية - وإن أشاعت بأن العلاقة كانت شرعية- مع دكتور" نور الدين" الأمريكي الجنسية، المصري الجذور، الذي تصفه "نور" ابنة ليلى {أعرف أنك أكول ونهم لمباهج الحياة} ليتم التجانس بين تطلعات "ليلى" وطبيعة شخصيتها، أو بمعني أصح، تجانس شخصية الجيل الثاني وتطلعاته المادية الحياتية.
غير أن الدكتور نور يختفي، ولم يعد يرد على خطابات ليلى، التي تكتشف فيما بعد أن علاقتها بالدكتور نور، لم تكن حبًّا كما توهمت، وإنما الحب الحقيقي، هو ما قام بينها وبين "مايكل سمير" المصري الذي كان يأتي بالأفواج السياحية لمنتجعها، والذي جاءت أخته "سارة" بعد ثورة 25 يناير 2011، لتسأل عنه وقد اختفي، ليتحلق حولها مجموعة الشباب المتطرف، ويجردونها من ملابسها التي رأوها لا تتناسب وشرع الله. ولتسلم "ليلى" بطلب ابنتها "نور" بضرورة مغادرة ميت رهينة، لتسافر مع مايكل سمير، ليغير دينه من أجلها، ويتزوجا لتؤكد "المصادفة" أن الحلول دائمًا، والتوافق الحق، لا يأتي من الخارج، ولكن الكنوز دائمًا بجوارنا، ولداخلنا، فلا يجب أن نبحث عنها في الخارج، فها هي "ليلى" تحدث نفسها:
{هل تحب مايكل سمير؟ نعم. الآن فقط تفهم أن رغبتها في الانتقام وغضبها المبالغ فيه وملاحقتها للدكتور نور الدين... كل ذلك لم يكن إلا ستارًا مثقوبًا ومتهالكًا لإخفاء محبتها لمايكل، المحاطة بمخاطر لا تعرف إلى أين ستؤدي بها} ص200.
وهو ما تؤكده "نور" أيضًا في حديثها، لـ "عبد الجبار"، الذي انتزع "أدهم الشواف" منه "هاجر" فتحول إلى السعي للمال وكأنه يسعي للتفوق على "أدهم" فيما اختطف به منه "هاجر" بالبحث عن دهب المقابر الفرعونية وكنوزها، إذ تحدثه نور:
(هل تعلم أنك أغبي مخلوق شاهدته عيناي على الإطلاق؟
حدق إلى انتفاخ ما تحت عينيها وترهلات ذراعيها، وفتح فاه دون أن يجيبها، فواصلت:
لأن أسهل الطرق للوصول إلى مقبرتك الموعودة يا عبد الجبار كان أن تتزوج هاجر صاحبة الأرض نفسها) ص162.
- في الوقت الذي نكتشف فيه حب هاجر لعبد الجبار الذي يظل يسكنها، بينما قد أعمته رغبة الانتقام، بالتفوق على من اختطفت من يديه، بذات الوسيلة. وكأن الكاتبة توحي بما يضيع على العربي من رغبة في الانتقام، تُضَيِع عليه ما تحت يديه من كنوز.
أسفرت العلاقة الثانية بين "ليلى" المصرية السعودية" مع دكتور نور الدين" الأمريكي المصري، عن الجيل الثالث، متمثلًا في الابنة، المشوهة جسديًّا، التي خلت من الإنوثة "نور" الخارقة الطباع، وكأن الكاتبة أرادت أن تعبر عن تلك العلاقة، العلمية العقلانية، بخلوها من الجانب الإنساني، أو الروحي، بتلك القدرات الخارقة التي جعلت من نور – مع ملاحظة التشابه في الاسم أيضًا بين الأب و الابنة- جعلت منها أكبر من سنها، متفوقة بعلمها وقدراتها عمَّن يحاولون تعليمها. مُحَطِمة تلك الأوهام التي تعشش في عقول أهل ميت رهينة، بزعم أن الفراعنة كانوا يستخدمون السحر، ولذلك هم يعتمدون في بحثهم عن كنوزهم المدفونة بفك السحر، مؤكِدة أن العلم وحده هو ما تفوق فيه الفراعنة، لا السحر:
{السحر ليس له وجود، وأن المقصود بالسحر عند الفراعنة، هو التفوق اللانهائي للعلم إلى درجة أن الجهلاء أمثال عبد الجبار يظنون أنه سحر} ص151. و لتسعى "نور" الابنة إلى التخلص ممَّن تراهم مخربين لميت رهينة، فتعرض قائمة بهم لـ "صلاح" رفيقها في رحلة العلم، وكأنها تعرض قائمة لمن أضاعوا مصر كلها، ممثلة في ميت رهينة:
{تأمل معي القائمة الجديدة يا صلاح، تأملها، إنها تشكيلة مثالية للمسئولين عن ضياع ميت رهينة.. عن ضياع أقدم عاصمة في مصر القديمة: تجار آثار ونابشي قبور جشعين، دجالين لديهم استعداد لفعل أي شئ حتى اغتصاب الأطفال، رجال دين كذابين وأفاقين ونصابين، رجال أعمال ومخدرات، وبنت حرام رأيت في عينيها قدرة استثنائية على تدمير القرية ومن عليها} ص260.
ولنكتشف أن "نور" بقدراتها الخارقة قد قضت على كل من كانت تراه مساهمًا في خراب ميت رهينة ابتداء من الدكتور نور الدين وانتهاء بالشيخ خالد أو الشيخ برهامي – مع ما توحي به الأسماء في أرض الواقع – مرورًا بعبد الجبار وولده عبد الجليل وفانوس جرجس – شريك عبد الجبار في تجاراته المشبوهة، وكأن الكاتبة لا تعفي أحدًا، ولا تلقي باللائمة على المسلم فقط - وابن ستيتة. وغيرهم كثير، وكأن نور تحولت لسفاحة، عن طريق باب سري مفتوح من وراء كتاب (ألف ليلة وليلة) – التي يمكن أن نضعها إلى جانب شخصية (الشاعر) الذي أعد قبل رحيله كتاب "بداية الفتنة"، لنتعرف على تلك الرسالة التي أرادتها الكاتبة، وكأنها تصنع بهما خلفية لطبيعة الدور الذي يقوم به "أدهم" - في مكتبة "أدهم الشواف" جدها يقود إلى سرداب ينتهي بالمقبرة التي كان قد أعدها الجد للدفن فيها، ووضع بنفسه أول ضحية المهندس عمار المصري، ذلك الذي أشرف على بناء قصر أدهم. وكأننا نعود في النهاية إلى ما بدأناه. من أن أدهم بنى مقبرة، ليدفن فيها المصري الذي كان يبني ويشيد.
وإذا كانت المصادفة لم تشأ أن تُميت مُؤسِسة تلك الأجيال، في رؤية موفقة، واكتفت بأنها اختفت، ولا يعلم أحد أين اختفت، حيث لا يقبل أحد بموتها، فكان أن زرعت جيلًا رابعًا، يتمثل في "صلاح" وداليا" التي تشبه "هاجر" في شبابها، كأنها النبتة الجديدة منها، وهي زميلة صلاح في الجامعة، ذلك الذي نشأ في قصر أدهم مع أمه التي أتت بها هاجر للعمل بالقصر، لتقيم العلاقة الممتدة من هاجر وحتى صلاح، وليصبح هو الأقرب لـ "نور" تعلمه الكثير، إلا أنه يتعلم أيضًا بالجامعة، ليرفض بعد ذلك أن يكون التخلص من المفسدين بقتلهم، أو إيداعهم في السجون، فيواجهها {أنتِ مثلهم تماما، إرهابية، سفاحة، فهم ما هم عليه أيضًا من أجل أفكارهم، والقضاء عليهم يكون بالقضاء على أفكارهم، هل تتصورين بالفعل أنك قضيتِ عليهم؟ أبدًا... إنهم يتناسخون كل يوم، ويتناسلون في أناس آخرين، أستطيع الآن أن أشير لك على عشرات مثلهم في ميت رهينة} ص260. وكأن الرواية تنتهي بإدانة المواجهات الأمنية وحدها على أرض الواقع. وليتآذر كل من صلاح وداليا لإصلاح الفساد في ميت رهينة – كجيل جديد – على أسس سليمة.
عتبات الفصول
إذا كانت سهير المصادفة قد شيدت عمارتها الروائية من أربع طبقات، فإنها لم تغفل بناء السلالم التي يصعد عليها القارئ، مستكملة رؤيتها السابقة في كل من "لهو الأبالسة" و "ميس إيجيبت". حيث في كل منهما عمدت إلى بناء مداخل الفصول، كأقوال تبدو منفصلة عن الفصل نفسه، فكان بتجميعها في "لهو الأبالسة" تصنع نصًا موازيًا، يشمل مستوى آخر من القراءة لمتن العمل. وفي "ميس إيجيبت" مثلت تلك البدايات كشافات مضيئة تلقي بالأضواء على متن الفصل، وتزيده وضوحًا، فإنها في "لعنة ميت رهينة" أدخلت مقدمة الفصل مندمجًا في الفصل، فيبدو كما لو أنه جزء من سياق الفصل ذاته، إلا أنه يظل له رؤيته الخاصة، التي تشكل في مجموعها درجات، علاوة على كونها مدخلًا للفصل ذاته، فإنها تمثل القاعدة الخرسانية التي تقوم عليها أعمدة البناء.
فإذا كان الفصل الأول يبدأ بـ {الداخل إلي ميت رهينة سائرا علي قدميه...} وكأنها ترسم صورة متمهلة للتعرف على ميت رهينة رسائرًا على قدميه}. ثم يبدأ الفصل الثاني {سيهيأ للعابر ليلًا على أرض ميت رهينة أنه رأي في الظلمة الحالكة أضواء ليس لها مصدر...} وكأن القارئ قد اقترب بسيره من المكان وبدأ يشم رائحته، أو يتنصت على ما سيواجهه فيه، أو أنه قد شرع قرون الاستشعار لتحسس ما سيلقاه. ثم يقترب القارئ قليلًا للدخول إلى الأرض المنتظرة في الفصل التالي {يستطيع العابر في أرض ميت رهينة...}. ليدخلها بالفعل ويبدأ التعرف إلى أرض الواقع، في الفصل التالي {شوارع ميت رهينة ملتفة بعضها حول البعض...}. وفي الفصل التالي، يكون الزائر قد دخل بالفعل، وبدأ التعرف إلى ناس المكان {في ميت رهينة يقعد الناس وهم رافعون رؤوسهم نحو السماء...}. ويواصل تجواله فيها {في ميت رهينة، ليس غريبًا أن يجد العابر أحد الرجال، وهو يجمع ذيل جلبابه في تكة سرواله...}. ثم يبدأ الزائر في تحديد المداخل والطرقات... كما لو أنه قد درس المكان {إذا كان الداخل إلي ميت رهينة قادما من موقف البدرشين، سيري الناس محنية الرأس...} و يبدأ الفصل التالي {على القادم من تل العزيزية إلى ميت رهينة أن يسير في طرقات ملتوية وغير معبدة...}. أما وقد مكس الزائر في المكان... فيستطيع اسنتاج بعض الخواص {تشي طبقات الضباب التي تبتلع سماء ميت رهينة صباحًا بأنها قرية غارغة في الأسرار، وتشي شمسها الساطعة التي تزيح طبقات الضباب... بأنها قرية تعيش دون أسرار...}. أما وقد دخل المكان واستقر فيه وتمت رحلته، فيبدأ الفصل الأخير {يشعر الخارج من ميت رهينة...} وكأن الزائر، أو القارئ قد وصل لمرحلة الإشباع التي وصلت إليه بصعود الدور الرابع في المتن نفسه... بتباشير الأمل التي تشع مع الجيل الرابع (صلاح وداليا) الذين اتفقا على أن يقيما في القرية مكتبة ومجمع ثقافي، لتعليم الشباب، والذي لا يخلو اسميهما من الدلالة المبشرة (إصلاح) مثلما رأينا في "أدهم" و"نور" وغيرهما.
المُقابلات الصورية
من الأمور التي تشير إلى التخطيط الدقيق في بناء المعمار الروائي الذي وصلت إليه الكاتبة هنا، إلى جانب بناء طبقات الأجيال، وهندسة بدايات الفصول، تلك الصور الخلفية التي تصنعها من بعض المقابلات التي تتضافر لتأكيد الرسالة، وضمان وصولها .
بعد موت "أدهم"، ومحاولات "هاجر" استمالة "عبد الجبار" الذي تكن له الحب والرغبة، ورغم أنه هو الذي كان يحلم بها قبل "أدهم"، ولكن حب المال والانتقام كانا قد تمكنا منه، وأصبحا مقدمين على الرغبة في هاجر. تبدأ رغبتها في الفتور، وتحاول نسيان الأمر، غير أن زيارة "هند القاضي" التي تزوجها عبد الجبار، تذهب إليها لتخبرهاعنه {لم يحب غيرك يا هاجر، رأيت هذا في عينيه منذ الدقيقة الأولي في يوم الدخلة...} فتبدلت حال "هاجر من حال إلى حال {زيارة هند لهاجر كان لها مفعول السحر على البيت كله، عادت هاجر إلي حياتها، أشرق وجهها من جديد...} ص 192. وهو ما يمنحنا تصور أن فترة زواج هاجر من أدهم، لم تكن إلا فترة سُرقت من حياة المصرييَن "هاجر" و"عبد الجبار" ولما انتهت، عادت المياه لمجاريها. وكأنها سرقت لتاريخ طويل.. أو سرقة تاريخ ميت رهينة التي هي مصر التاريخ.
- صلاح مع نور عن زميلته داليا، التي تشاركه في مشروع المستقبل. فتطلب منه نور أن تراها، لكنها تنتبه، فشكلها ربما بدا مخيفًا، فتطلب من صلاح أن يأتي بها إلى القصر، ويجلسا مع هاجر التي كانت قد بدأت تهجر الحياة، وتستقر في المكان الذي كان به (الخُص) الذي كانت تسكنه قبل بناء القصر، وهي ستراقبهم من وراء الشباك. ويتم ما اتفقا عليه. في الوقت الذي كانت هاجر قد بدأت في الغياب عن القصر {تشير نور إلى الخفير الأخرس بيديها لكي يذهب للبحث عن هاجر: ستجدها عند قبر جدي أو ستجدها واقفة عند البوابة الحديدية أو ستجدها عند شجرة التوت العجوز عند ترعة المريوطية}. وعندما تجلس داليا مع هاجر وتراقبهم نور دون أن يروها تقول {بالتأكيد كان هذا شكل هاجر وهي صغيرة، كانت تمشي مثل داليا هكذا في مكانها} ص215. وكأننا أمام صورة تسليم وتسلم، لتحل داليا مكان هاجر، وتبدأ المسير من جديد.
لماذا "لعنة" ميت رهينة؟
أحاط الكثير من آثار الفراعنة، الكثير من الغموض، الذي لم تتكشف بعد كل الظروف التي تمت بها، أو قدرتها على البقاء طوال هذه السنين، فشاع بينهم ما يعرف بـ "لعنة الفراعنة"، ليعكس التعبير الكثير من الأوهام والخيالات التي يعجزون بالتالي عن فهم أسبابها الحقيقية، أو تفسير العلم لها. وهو ما يعتبر التبرير الجاهل، والهزيمة أمام الحقيقة المخفية عن وعيهم.
وإذا كان "عبد الجبار"، رغم ما يوحيه اسمه، ورغم ما يعبر عنه في قدرته 0كإنسان مصري، صنع هذه الكنوز الفرعونية، قد انهزم أمام "أدهم" الذي فاز بـ "هاجر"، فلم يكن ذلك إلا نتيجة تخلف "عبد الجبار" وتوقفه عن مواكبة العلم، والتمسك بالقديم ، واعتباره مقدسًا غير قابل للترك، وكأن سهير المصادفة تعيد، أو تؤكد في روايتها الخامسة "لعنة ميت رهينة" ما بدأته في روايتها الأولى "لهو الأبالسة" من مواجهة أو مقابلة بين تخلف الشرق بتمسكه بالقديم، ورفض العلم الذي تحلي به الغرب. فنحن هنا أمام "عبد الجبار" الذي سمي كل أبنائه "عبد الموجود و عبد الرحيم وعبد الجليل" كأنه يؤكد عليهم العبودية. وعبد الجبار الذي - رغم استطاعته – يتمسك بالدراجة ويرفض السيارة، حيث يواجه الشيخ برهامي الذي عاتبه على ذلك: {يا شيخ النصابين، أنت لا تفهم شيئًا.. ولكني لا أستطيع الاحتماء من الطريق خلف حديد وصفيح وزجاج، أريد أن أركب الطريق، وأواجهه وجهًا لوجه، أريد أن أركب شيئًا يشبه الحصان، والموتوسيكل يحقق لي هذه الرغبة} ص172. فشخصية تفكيرها هكذا، كان حتمًا أن تقود الحفيدة "نور" وتتساءل باستنكار، وكأنها تؤكد وجود لعنة ما تحل بهذه البلد:
{ما الذي يُغري الغرباء في ميت رهينة؟ حقيقة، أكثر ما يحيرني هو تكالب الغرباء على هذه البقعة من الأرض، يأتون إليها هاربين من ظلم إخوتهم أو غزاة أو حتى عاشقين، فتكرمهم وتأويهم، ولكنهم لا يتركونها إلا وهي مجروحة ومغتصبة ومنهكة القوى، ما الذي يغريهم فيها منذ أن أهدت تاريخهم فجره؟} ص171. ولما لم يجد أهل "ميت رهينة" إجابة مقنعة لتلك التساؤلات، لم تجد سهير المصادفة أمامها، وأمام غزو "أدهم " إلا أنها "لعنة ميت رهينة".
Em:shyehia48@gmail.com
[i] - سهير المصادفة – لعنة ميت رهينة – رواية – الدار المصرية اللبنانية - ط1 – 2017.