يلاحق القاص المغربي في نصه تلابس القيم والأعراف وشدة تعقيدها من خلال تفاصيل يومية تتعلق باستلام طرد من الولد المتغرب من اجل العمل، وبين شد الأب والأم حول الطرد يعرف القارئ والأم دون الأب بأن الأمر يتعلق بغشاء الشرف محنة العقل العربي والشرقي والمقياس الشكلي للأخلاق والشرف.

الكولية

عبدالجليل لعميري

تسلم الوالد – الموقر – " الكولية" التي وصلت باسمه من مصلحة الطرود ، بعد أن أدلى بحججه الدامغة في أحقيته بذلك. كانت " الكولية " عبارة عن علبة كرتون مستطيلة جميلة المظهر، يطغى عليها اللون الأبيض الموشوم بالأزرق والأصفر. كانت متوسطة الحجم ، وخفيفة . كتب عليها بحروف بارزة " طرد متوسط"، مع الإشارة الى الاسم الثلاثي للمرسل من الكويت ،وللمستقبل بالمغرب . خفة الطرد أثارت استغراب الأب وجعلته يتساءل : ( لماذا كل هذا التعب والسفر الطويل من اجل هذا الشيء الصغير؟؟؟).

وتداعى إليه صوت زوجته تتوعده :" ما تفتح الكولية ..فيها شي حاجة خاصة". وهم ان يفتحها ليقتل أصوات شكه وأسئلته المغرضة ، لكن صوت الزوجة ارتفع حادا في وجهه :" ما تفتحهاش..ما تفتحتش الكولية". تراجع ..وقرر العودة الى المحطة الطرقية، ثم شد الرحال نحو البلدة ، و"الكولية" بين يديه لا يفرط فيها أبدا.

****

انفتحت "الكولية" وخرجت منها امرأة جميلة ، بل فاتنة، بشعر اسود منطلق ، وجسد بض عاجي، وقامة هيفاء، عارية (والعياذ بالله) تحمل بين يديها ثعبانا يتجاوز طوله المترين بألوان زاهية: اصفر ممزوج بالأحمر وموشوم بالأسود ومتخلل بالأبيض .. أنيق يدغدغ جسدها ويتلوى عليه، منسابا بنعومة فائقة تجعل جسد المرأة يهتز و يشع منه نور ابيض يشكل هالة قمرية رائعة. أصيب الأب برهبة ، ونشف ريقه ، فأحس انه يصرخ بقوة . مما يصرخ؟ امن الخوف أم الدهشة اللذيذة؟

****

  • " سبحان الله أسيدي " قال له جاره في الحافلة ، حين وجده يصرخ و"الكولية" تكاد تسقط من بين يديه . أفاق الأب على صوت جاره واستغفر الله..متجنبا أن يحكي تفاصيل حلمه للغريب. بعد ساعة كانت الحافلة تقذف بركابها في دروب البلدة .أسرع الأب إلى البيت و"الكولية" بين يديه ، مرتاح لنجاحه في المهمة. لكن انزعاجه الملموس من المنامة الغريبة لم يفارقه... وكذا سر" الكولية"...

****

استقبلت الأم "الكولية" بحفاوة ، دون أن تعير أدنى اهتمام للأب وحالته ، انزوت في غرفة بعيدا عن أنظاره، ولحقت بها ابنتها ، ثم شرعتا في فك رموز "العلبة السوداء" رغم ان لونها تتقاسمه ألوان عديدة. ووصلتا الى قلبها :

(صورة العريس – ابنها- وعروسه ، مكتوب على ظهرها : تحية لامي وأبي وأخواتي وإخوتي ..هذا حقكم من العرس..حتى موعد مقبل...". ومنديل ابيض، ناعم الملمس، يلف سروالا مغربيا ابيض مطرزا بنقوش خضراء .. سروال الدخلة، وعليه آثار نقط دم جاف.

شمته المرأة ، وأطلقت زغرودة ، فنبهتها ابنتها إلى الأب الرابض في مكان غير بعيد، فتخلت الأم عن رغبتها في المزيد من الزغاريد ... وانتهت المهمة الخطيرة؟؟

وفي تلك الليلة كان الأب ما يزال يفاوض الأم عن سر "الكولية" ، وهي تناور لإبعاده عن السر الأحمر المهاجر عبر الطائرة من الخليج الى المحيط ... وحين حكى لها عن منامته، تضاحكت وقالت له:" أنا هي تلك المرأة ... وهذا هو الثعبان .." واستعملت غوايتها للتطويح به بعيدا عن الموضوع.