أحس مأمور الشرطة حسين العذّار أن الأمر بات يهدّد حياته وكل ما حققه طيلة سنوات خدمته في سلك الشرطة، فجمال الفتاة أوقع به فجأة. كان شَرَكاً، دون أن يصدّق مشاعره الجارفة نحوها.
أكد لنفسه أن لا حلّ مع قضية كهذه سوى الانصياع للأمر الواقع وتسليم ملفّها إلى قاضي التحقيق، وهي الإجراءات المتّبعة عادة. لن يتحمل نظرات الاستغراب التي ستنبعث كومضات ضوء من عيني معاونه المفوض الشاب، والأخير محقّ بصورة عامة، فلا تعدو جريمة شرف أرتكبها شاب متهوّر بحق أخته المسكينة، بينما هناك ضحايا يتساقطون يومياً في أنحاء البصرة، والكثير منهم لا أحد يعرف قاتلهم، وفي أحيان يكون القاتل انتحاريا فيذهب برفقة ضحاياه.
ردد " الجمال قاتل أيضاً يا صغيرتي!"
كان قد بدأ يثمل عندما توصّل لقناعته المنطقية، وهو لا يسكر أو يبدأ الشرب إلا في ساعة متأخرة مفضّلا الشرب في قسم الشرطة على البيت، ما دام ( أبو سعده) الشرطي القديم قدم أحد أقسام الشرطة في منطقة العشّار يشرف على خدمته بصورة ممتازة، لعل أبو سعده كان سبباً في قراره بنفض يده من القضية " لأنك سيدي مع احترامي لوجهة نظرك ومشاعرك لا تستطيع أن تتهم أحداً آخر بينما أعترف الجاني بفعلته. رأى أخته في وضع غير لائق مع عشيقها فأرداها وفرّ العشيق وستطلبه عائلة الفتاة عشائرياً، سُيفصل في القضية مع عشيرة العشيق، وينالون مبلغاً محترماً، وتحلّ المشكلة بينما يسجن القاتل ثلاثة أعوام أو أقل .. حكم مخفّف وعش بسلام..!"
كان تلخيصاً مقنعاً للقضية التي أرّقته طيلة الأيام الماضية. هؤلاء الشرطة القدامى لديهم حلول لكل المسائل العصيّة. مع الوقت لم يعد يتحكّم بضمائرهم سوى المصالح الشخصية وبعض الحيل التي تبدو في صورة تفكير واقعي.
أنساه كلام الشرطي العجوز للحظات وجه الفتاة ذات الثمانية عشرة عاما بعد أن رافقه ليل نهار. هو شخصيّا لم يدرِ ما حدث له، فلم يكن صاحب ضمير حي إلى هذا الحد، وليس معنى ذلك أنه شخص شرير، لكن أكثر من ثلاثين عاماً في سلك الشرطة لم تترك لديه سوى آلية عمل محدّدة تتعلق بمجاراة محيطه العام، عدا أنه أهتم بالقضيّة وقلّبها على وجوهها، لأنه لم يرَ في حياته فتاة بحسنها. أذهله جمالها وأفقده صوابه، لم تخطئ عيناه جمالها في صورة هويّة الأحوال الشخصية، وبعد يومين شعر بأنه يكنّ لها حباً جارفاً، وقد طلب من ذويها جلب صورة شخصية لها فآلمه حسنها في الليالي وهو يسكر محملقاً إلى وجهها، وكان أبو سعده يمدّ رأسه بفضول، بين ساعة وأخرى، مستغرباً صمت سيده.
منذ أيام أعترف الأخ الأصغر بجريمته وأودع الحبس، كان أخواه الأكبر سناً يخفضان بصريهما للأرض، ولم يكن المأمور يشكّ حينها في أي منهما ما دام الأصغر قد أعترف، لكنه بدافع من خبرته أرتاب بنبرة الجاني الملفّقة. لقد حفظ الفتى عباراته وأعاد ترديدها ليس أمامه بل على مسامع أخويه حصراً وكأنه يسألهما نسيان الأمر، بينما راقب المأمور وجهي الاثنين. كانا حزينين ومستسلمين، وقد فكّر أنه ببعض الضغط عليهما سينهاران ويعترفان بأمور أخرى لن تفاجئه، ولم يكن الجاني يختلف عنهما، كان وجهه بليداً، برغم احتقان عينيه والانفعال الطفيف الذي تخلل نبرته، بيد أن الحضور الثقيل لشيخ عشيرتهم والمحامي منع المأمور من استخدام أساليبه الملتوية في التحقيق.
قال المأمور لنفسه " لا أحد يسامح زانية وأن كانت ملاكاً!"
مرّ الصباح وازدحم مكتبه بقضايا شجارات وسرقات حتى أنه نسي رفع ملف التحقيق إلى القاضي، كان متعباً وقد ودّ تأجيله للغد، عندما دخل مساعده المفوض قائلا " سيدي.. والله ظلم!"
سأله المأمور بزجر خفيف " ماذا؟ من يقدر على أن يظلمك أنت بالذات جبّار؟ "
لمح بيده ورقة " الله أكبر..تقرير الطب الشرعي يؤكد إنها ما زالت باكرا.. يا لجمالها! لو كانت حيّة لخطبتها وتزوجتها! "
قال المأمور " باكر؟ من تقصد جبّار؟"
" الفتاة القتيلة سيدي. أنا لا أستطيع تمالك نفسي.. أنها آية من الجمال"
" وما الفائدة.. لقد ماتت"
ردّ المأمور متظاهراً بعدم الاهتمام وأردف " أرفعوا الاضبارة إلى قاضي التحقيق غداً"
رفع بيريته عن سطح المكتب وهو ينهض ثم وهو يواصل طريقه بين اصطفاق أحذية الشرطة الذين أدّوا التحية له متجهاً إلى رحبة العربات في سبيله إلى بيته. لكنه عاد إلى قسم الشرطة مساءً وهو يفكر بكلام مفوّض جبّار. كأنما رمى بذرة رغبة غامضة في دمه ومضى، البذرة نمت سريعاً وأزهرت وردة حمراء في قلبه. دفعه حماس مفاجئ إلى التحرك ليلا. طارت به عربة الشرطة حتى المستشفى الجمهوري في البصرة القديمة، رأى أشباح بشر ينتظرون خارج صالة الطب العدلي في عتمة الليل، فاجأ حضوره المضمد الخفر النحيف فسبقه مهرولا وسحب محفّة ذات عجلات من بين عشرات الجثث الأخرى، ثم كشف الشرشف القذر فرأى المأمور وجها مشعّاً كالقمر في سماء مظلمة، وجه فتاة مبتسمة أو هكذا أوحى له سكون محيّاها الرائع، كان خيط دم يسيل على جبينها وخدها لأن القاتل وجّه ضربة إلى رأسها فشجّه، لم تقتل بإطلاقه أو تنحر ولم تنتهك عذريتها.
قال " لعنك الله مفوّض جبّار! "
كان يشعر بأنه يتصرّف بجنون، لكنه شعر بالأسى لأنه في تلك اللحظة لم يرّ كائنا جميلا مثلها، ملاكاً غافياً برقّة، كأنما لم يمسّها الموت، متوقعاً أن تنهض في أية لحظة وتسير ماضية إلى حياتها، ولعلها تجرّ خلفها عشرات الموتى المستهدين بنورها.
جرّ شرطيّان الجاني إلى مكتب المأمور ما أن حلّ ضحى اليوم التالي، وفي الحال وجّه له توبيخاً قاسياً، تفاجأ الشاب ما خطف لونه. أنفجر المأمور ودار حول مكتبه حتى واجهه بغضب عاتٍ. أخبره بنتيجة تقرير الطب العدلي وأسباب الوفاة. كان مفوّض جبّار يقف خلف الجاني، متطلعاً لقبضة المأمور التي يتوقع في حالات مشابهة أن تهوي على وجه الشاب الذي ارتجفت أطرافه، لكن المأمور توقف، أنهار غضبه فجأة، عاد إلى مقعده وكأنه أدى ما عليه، أشعل سيجارة وارتخى للخلف مبتسماً. كان مساعده يعرف معنى تلك الابتسامة التي تلوي فمه عندما يشعر بأن أحدهم يتخابث معه ويعجز عن معاقبته.
أعاد سؤال الشاب عن كيفية ارتكابه جريمته فقال متلعثماً " قتلتها سيدي.. قتلت الزانية بيدي هاتين، كيف لا أقتلها.. لقد لوثتْ شرف أهلي.. ما خافت غضب الله.. قتلتها وسحلتها وجه الفجر ورميتها عند حاوية الزبالة. كل الزانيات يقتلن ويرمين بالزبالة.. قتلتها..ماذا تريدون مني بعد؟ "
أنهار الشاب معولا. طلب المأمور أن يعاد إلى الحبس. سأله مساعده " ما قصدك سيدي؟ أنت تحقق مع شخص أعترف بجرمه..! سنثير ضدنا أهله ولن نخلص من لوم الشيوخ وضغطهم.. هذي قضايا عشائرية وسيقفزون بوجوهنا بذرائع شرعيّة وقانونية.."
قال المأمور " أنت محق.. لكنه يكذب"
تحقق توقّع المفوض، في صباح اليوم التالي حضر شيخ العشيرة والمحامي وأهل الشاب، لم يكن صعباً على الجاني الاتصال بذويه أو إرسال أي شرطي في مقابل مبلغ من المال للاستنجاد بهم، خاصة أن أمثاله من مرتكبي جرائم الشرف يسلبون ضحاياهم التعاطف، طالما أنهم اضطروا لمعاقبة المخطئين.
بعد أن أطنب شيخ العشيرة بكلمة عن ضرورة صون الشرف والأسف على ضياع حياة اثنين من الشباب، القاتل والضحية، قال مبرراً موقفه " لو تسألونني أنا شخصياً لقلت بأن هذا غلط.. وأن على العشائر وضع ضوابط جديدة لمسألة جرائم غسل العار، لأن المجتمع تغيّر وهناك فرص متاحة للّقاء بين الذكر والأنثى دون أن يحسب ذلك اعتداءً على شرف العائلات.. ثم أن الزانية لا تكون زانية ولا ترجم إلا بشهادة شهود أربعة..عححم ! لكن ماذا نفعل؟ "
نظر لمن حوله ثم لفّ مسبحته على أصابعه وتابع " دماء الشباب حارة، وإذا وقع المحظور فعلينا أن نخفف عن أهل الضحيتين بما يرضى الله.."
رمق المأمور وتمنى عليه الإسراع برفع الملف إلى المحكمة، وهو يضغط على ألفاظه، وقد باراه المحامي الذي كانت له مصالح متشابكة بين أقسام الشرطة والمحاكم فحاول تهدئة الخواطر قائلا " لا حاجة للقلق. عقيد حسين معروف بتفهمه لهذه الحالات"
تبادلوا الأخبار عن حوادث القتل والاغتيالات ومواضيع عامة أخرى، ما أضأل قضيتهم وسط طوفان الدم، بينما هرب انتباه المأمور إلى وجه الفتاة الملقى في الظلام، متذكّراً أنه لمح أختها تقف في الممر ويسندها أحد الرجال، جامدة كحجر أسود. كانت امرأة نحيفة ملفوفة بعباءتها، وقد فسّر وجودها برغبتها في رؤية أخيها الموقوف، وهو يعلم بأنهم لن يعدموا وسيلة لتوفير احتياجاته البسيطة.
قال المحامي الذي تريّث في مكتبه بعد أن رحل الجميع " لا أظن المسألة تستحق التأخير.. الجماعة مستعدون لتحمّل أية أتعاب.. تعرف جنابك..هؤلاء الناس لديهم معارف في دائرة القضاء والحكومة.. لكن ماذا حدث؟"
كان يحملق إلى وجه المأمور بفضول، وهو يدرك أنه خارج عن طوره، فطالما رتبت قضايا في عهدته. لكنه كان ينظر بعيداً الآن.
" أريد رؤية الرجل.. عشيقها! هل تعرف عنوانه أم نتخذ الإجراءات؟ سأنهي التحقيق حين أراه.."
في بيته، مسترخياً على الأريكة بين بنتيه الشابتين، رغب المأمور حسين العذّار بأمسية رائعة تجدد حياته برفقة عائلته، تذكّر أنه لم يرافقهم في السنتين الأخيرتين، حرمتهم الأوضاع المضطربة من متعة النزهات وحضور عروض فرق المسرح الشعبي التي تأتي من بغداد في الأعياد، وهو في ثياب مدنية، دون شرطة وحماية، يغمره عطر الشابتين وأمهما فحسب، كأنما أيقظ وجه الفتاة الملائكي ذكرياته وأحاسيسه الغافية. وفي نور الصباح الباكر وجد نفسه يقف في شرفة قصره مطلا على بساط الحديقة الأخضر الذي تظلله الأشجار، فيما لم يزل نور الوردة الحمراء يضيء قلبه ويؤلمه، متذكّرا أنه سمح لنفسه بالعبث في تفاصيل بعض القضايا، لم يكن شعورا بالندم فهو يعلم ما ثمن رفاهيته. كان يقف في الشرفة ذات الأعمدة البيضاء المدوّرة حين بدأت تشعّ بالوهج الحار الذي لامس وجهه، متحسساً دوي انفجارات ألغام على الضفة الأخرى لشط العرب تجريها فرق دنمركية، شاعراً بالأريج العابق يذهله عما حوله، وقد تحسس قلبه مردداً " كأنها ما زالت حيّة! "
بعد يومين تلقى صفعة أيقظته من ذهوله، نسي أنه أمر بإحضار العشيق. جلبته مفرزة شرطة برفقة اثنين من ذويه، وقف الرجل شابكاً يديه ولم تخف على المأمور محاولاته السيطرة على أعصابه. كان في الخمسين، قبطاناً بحرياً سابقاً، له سحنة جنوبية سمراء، ومنذ البداية أعترف الرجل بحبه الفتاة، بينما تلفّت مذعوراً حين أنزلق اسمها على لسانه، وكأنه توقع أن يغدر به أحدٌ من ذوي الضحيّة، ثم قال " لكني لم ألمسها. أقسم بالله. لو أنك رأيتها لصدقتني، فهي بريئة، ولا أعتقد بأن هناك بشراً تدفعه الحقارة والخسّة لخدش جمالها.. لابد أن هناك تقريراً للطبيب.. هذه الأشياء لا تخفى.. أنا طفت العالم وكم مررت بتجارب في حياتي.. لكنها شيء آخر.. "
كان المأمور يرمقه ببرود وقد أكلت قلبه الغيرة، لأنها غدت ملاكه وحده، فزاد ذلك من اضطراب الرجل الذي أستلّ سيجارة لم يشعلها وهو يقول " آه.. هل تسمح لي؟ أعذرني.. لقد رحلتْ بسببي.. أنا أرتجف عندما أتذكّرها.. كان لها عطر ملائكي.. لو أنها رضيت كنت سأتزوجها.. لن يمنعني فارق السنّ.. لكنها كانت خائفة.. يثقلها شعور بالذنب تجاه أختها المسكينة.. العنوسة مؤلمة لكنها مقبولة في المجتمع ومحترمة.. جنابك .. أما الجمال فقدر رائع لكنه ملعون.. ولا يمكن أن يحيا الاثنان جنباً إلى جنب "
في صباح اليوم التالي قرر المأمور أن يزور الطب العدلي مجدداً، خالف بذلك لوائحه بعدم التحرك في الشوارع إلا للضرورة القصوى، رافقه شرطيان مسلّحان أستقر أحدهما في المقعد الأمامي واجتازت عربة الشرطة المسرعة شوارع تجتاحها تظاهرات، وقد صدحت مكبرات صوت بالهتافات الساخطة، بينما سبقت سيارته عجلات شرطة سوداء مكشوفة مسرعة، رأى أناسا يتراكضون بين أشجار الرصيف على امتدا ضفة نهر العشّار نحو مبنى المحافظة. أنعطف السائق بالعربة في شارع جانبي متجنباً زحمة السير. بدا السائق غاضباً للخروج في ظل تلك الظروف، فإذا بلغ هدفه شقّ المأمور سبيله بين زحام الناس. فاجأه المشهد الذي تفجّر من حوله، البكاء والصراخ والتوابيت المحمولة على الأكتاف والعربات، وقد جذب منظره بعض الساخطين على الحكومة فهاجموه لكن السائق والشرطيان تمكنا من حمايته وأعانهما شرطة المبنى.
كان الشرطي يصرخ " ماذا نفعل هنا سيدي؟ "
لم يكن المأمور يعلم فعلا ما يريد، أيقظه سؤال الشرطي ونظرته الحائرة، خطر له أن يعود أدراجه، إلا أن وجه الفتاة انبعث من داخله وناداه. استقبله طبيب شاب وقاده إلى ثلاجة الجثث، أفهمه المأمور أن الموضوع له علاقة بالتحقيق، لم يفهم الطبيب التعبير المرتسم على وجه محدّثه وحملق إلى وجهي الشرطيين دون أن يرفض الطلب الشفهي، كان ذهنه مشغولا بضحايا الساعة فتركه قبالة محفّة الفتاة وغادر مسرعاً، بينما تخلّف الشرطيّان عند المدخل ثم تراجعا إلى الممر.
سحب المأمور الشرشف القذر بيد مرتعشة، كان يخشى أن ينهار حلمه. لعل الجثّة قد تحللت وتعفنت وأظلم ذلك الوجه الحلو، لكنه كان مخطئاً فالضوء الجميل سرعان ما شعّ من وجه الفتاة، كما لفحه عطر ناعم شذي. كان جمالها ثابتاً وسط عفونة التحلل وظلام الموت، جمال الشباب وليالي حبه، هذه المرة تجرأ على لمس خدها، كان بارداً فيما أضاءت وجهها ابتسامة، وقد شعر برعشة تسري في كيانه، ثم تلمّس شجّ رأسها الذي تخثّر الدم حوله. تراجع وقال " أنها ضربة حقود يا ملاكي! "
في تلك الليلة لم يترك المكتب للضابط الخفر، بل واصل العمل حتى حانت ساعة سكره التي يقرع أوانيها الشرطي أبو سعده، الشراب والكرزات والليمون فضلا عن اللبن المخثّر لتهدئة معدته، بيد أن الشرطي تحرّك المرة على أطراف أصابعه، هيأ كل شيء دون أن يثير انتباه المأمور، وتطوّع بجلب نفر كباب، كأنما راعه شحوب وجه ضابطه القديم.
محّص المأمور وهو في سكرته ملفّ القضيّة والهويات الشخصية الخاصة بأفراد العائلة لأنه شكّ بحقيقة نسب الفتاة لذويها. كانت فكرة غريبة أثملته وأسعدت قلبه. تساءل وهو يحملق في صورة أختها " أيمكن أن تكون هذه المرأة الذاوية أختاً لملاكي؟"
مضى مستطلعاً في ذاكرته وجوه العائلة جميعاً، الأخ الذي حمل على عاتقه وزر قتلها وأخويه الكبيرين الشائبين وأمهم وأبناء عمومتهم الشهود. لا أحد بإمكانه أن ينسب له جمالها، ربما الأب المتوفى بعد أن بدت الأم متواضعة الجمال. كلا.. أنه ليس الأب!
اتكأ للخلف مقهقهاً " آآ.. يا ملاكي يا بنت الزنا! "
غفا في مكتبه وحين استيقظ في الصباح فاجأ ظهوره الشبحي الشرطة فتراكضوا يميناً وشمالا، كان رأسه مثقلاً بالسكر والكوابيس. ما أن زاوله الصداع حتى أستدعى أختها.
قدمت في الظهيرة، رافقها شرطي تأخر كالعادة في ذهابه وإيابه، وتبعها عشرة أفراد من العائلة والأقارب. ثم هرع المحامي الذي كان يعتصر مقبض حقيبته الجلد البنّية.
شرعت المرأة بالارتجاف عندما طلب منها المأمور الجلوس ووجّه لها سؤالا عابرا عن صحتها، فانبرى المحامي فوراً " لكن أسمح لي جنابك، هل تتهمها بشيء؟ المرأة مريضة.. ما هذا؟ لقد اتفقنا على غلق التحقيق وتحويل الشاب إلى المحكمة.. "
ودنا منه وهو ينحني هامساً " هل لديك مطالب لم نفهمها؟ لأن الجماعة مستعدون."
قال المأمور وهو يراقب المرأة " لا. أنه إجراء روتيني"
لكنه أهمل الاثنين ودخّن سيجارته بتروٍ بعد قدح شاي. أثار تصرفه غيظ المحامي، نهض عندما رنّ هاتفه النقّال وغادر المكتب، قبل أن يغادر أنحنى على المرأة وهمس في أذنها. كانت تطرق صامتة. في تلك اللحظة كان المأمور يفكّر بذويها المنتظرين خارج القسم، مقرفصين في الحرّ، تحت نافذة مكتبه، وهم يسندون ظهورهم إلى الجدار الخارجي في مواجهة سيل السيارات وضجيجها، فيضطرون لشراء عبوات الماء وربما جاع أحدهم فيهرول مجتازاً الشارع إلى الجهة الأخرى ويبتاع سندويجاً، ويحذو آخر حذوه، لأنهم لن يتحملوا الجوع والعطش، سينسون سخطهم ويتسللون واحداً تلو الآخر إلى محل الطعام الصغير.
مضى المأمور للحمام وغسل يديه، مصغياً لصوت المحامي الذي كان يتّصل منفعلا، حملق في المرآة فرأى وجه الفتاة، فرحا وجميلا، مدّ يده ولمسها، فإذا عاد طفت أمامه في الهواء. أستلّ سيجارة وراقب المرأة الملفوفة بعباءتها وعصّابة رأسها السوداوين إذ تطرق صامتة. كانت عيناها ضيقتين ما منحه انطباعا بأنها ترمقه بنظرة حادة.
"ماذا تريد؟ "
قال وهو يتطلع إلى نور النافذة ذات الستارة الحمراء " أنها لا تفارقني.. "
تخيّل المرأة وهي تزمّ شفتيها مخفية ابتسامة ثم سمع صوتها يتردد في داخله " لقد سَحَرتك؟ هذا واضح.. أنت تشعر بالتشفي مني لأنك تقارن بيننا.. أعلم أنك تفاجأت بحسنها حتى وهي ميتة.. لا ألومك. كانت كالملاك. أنا أعرف قبحي، منذ ولدتْ شعرت بأنها سرقت حياتي. كانت محطّ الأنظار بينما كنت ألوذ بالظلال وأتلاشى في حضورها.. كانت تتباهى بجمالها الباهر دون احترام لمشاعري.. لم تفكر باحتياجي للحب.. وقد سلبت عقله .. رجلي.. حلمي.. ما أن زارنا ذات يوم، عرفت أنه لي.. لكنه بدل أن ينتبه على وجودي ويكافئ اهتمامي به جذبته تصرفاتها العابثة.. كانت تواعده خارج البيت.. هذا الخنزير.. وكنت أشعر بالموت يأكل قلبي.. أتعرف ما معنى أن يأكل قلبك الموت؟ "
قال لنفسه " لكنها بريئة وجميلة.. "
“أنها .. زانية تستحق الموت! "
تردد لغط من وقف تحت نافذته، كان يحملق إلى ضوء النهار عبر الستارة الحمراء، يبدأ جميلا في هذه الساعة ثم يخبو سريعاً، تاركاً ظلالا شاحبة بدأت تغرق وجه المرأة التي ما زالت تطرق صامتة.