كانت دورة مهرجان الاسماعيلية السينمائي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة 19 في الفترة من 19 الى 22 إبريل، دورة متميزة بكل المقاييس، وعلى الرغم مما وصفته جريدة الأهرام، بـ "الاقبال الضعيف جدا" من قبل جمهور مدينة الاسماعيلية..
ذلك الاقبال الضعيف ربما، الذي عوضه في رأيي أجمل مشهد في حفل الختام وتوزيع الجوائز، بل وفي المهرجان كله وأعني به مشهد دخول أكثر من ثلاثين طفلا وشابا كانوا قد انخرطوا في ورش المهرجان الفتية- ورش دراسة التحريك وكيف تصنع فيلما - وهم يحملون شهادات تخرجهم من تلك الورش المستحدثة في الدورة 19، وقد راحوا يلوحون بها على خشبة مسرح المدينة كما لو كانت شهادات ميلاد لجمهور جديد للمهرجان، يولد مع الدورة 19، جمهور الغد من أطفال وشباب الاسماعيلية، الذي لن يكتفي مستقبلا فقط بالفرجة، بل يقينا سيشارك أيضا في صنع سينما الغد..
وقد كانت الدورة 19 متميزة بحكم الشخص الذي اختير لرئاستها - الكاتب والناقد السيبنمائي البارز عصام زكريا عاشق السينما- كان مجندا يهرب من الخدمة العسكرية في الجيش كما ذكر لي في احدى جلساتنا في المهرجان ويسافر الى القاهرة ليحضر مهرجاناها السينمائي الدولي ومهما كان العقاب الذي ينتظره عند عودته الى معسكره - ..
وهي المرة الأولي في تاريخ المهرجان التي يصدر فيها قرار وزاري ليتفرغ لادارة المهرجان، ليس فقط اثناء فترة انعقاد المهرجان ثم يختفي، بل طيلة العام، ويمنح خلالها صلاحيات كاملة في وضع خطة لصنع مهرجان سينمائي بجد، وليس " عزبة " ممنوحة من الحكومة، ممثلة في وزارة الثقافة، أو" هبة " لموظف كبير، في المركز القومي للسينما، وقبل أن يحال الى التقاعد، كما جرت العادة..
واعتقد ان ذلك القرار الصادر عن وزارة الثقافة ووزيرها الكاتب حلمي نمنم - وبفضل مستشار الوزير للسينما د. خالد عبد الجليل رئيس المركز القومي للسينما، يمثل في رأيي " إنقلابا " بحق في تاريخ المهرجانات السينمائية في مصر، وأول خطوة - على الرغم من انها جاءت متأخرة كثيرا جدا - على الطريق الصحيح..
لتأسيس مهرجانات سينمائية حقيقية، واختيار الشخص المناسب في المكان المناسب، وليس " حفلات واستعراضات رسمية، لتلميع الأمير والوزير، حتى أن الجمهور المصري ومن كثرة تلك الحفلات الديفيليهية - عروض أزياء - إن جاز التعبير - أي عروض الأزياء المزعومة في ثوب مهرجانات، يترأسها قريبي وحبيبي..
إكتفى بالفرجة على تلك حفلات في التلفزيون، واعتقد ايضا لكثرتها احتفاليا وندرتها سينمائيا، انها تصنع للسادة أصحاب البلد المتحكمين فينا، وموظفي وزارة الثقافة، وأصحابهم وأهاليهم ولا علاقة لها به بالمرة..
السينما أهم من قصة الفيلم
ويحسب لمهرجان الاسماعيلية في دورته 19 توفيق لجان المشاهدة – وفي كل قسم من أقسام المهرجان على حدة – إختيار مجموعة من الأفلام المتميزة- أكثر من مائة فيلم في قائمة الاختيار الرسمي – عكست في مجملها قضايا الساعة الملحة جدا، ومشكلات وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، مثل قضية ارهاب داعش، ومعاناة اللاجئين، والمهاجرين، والهوة التي تفصل بين عالم الأغنياء والفقراء، ومشاكل البيئة، ومبحث الهوية، وذلك الدمار الذي يهدد عالمنا، ويجعلنا مسخا وغرباء في الوطن، بعدما تسللت بعض تلك الأفلام التي عرضها المهرجان، تسللت في ما وراء الجدران- واقعية أو وهمية - التي تصنعها السلطة، لتكشف عن المسكوت عنه، وتزيح عنه الستار، وتحقق بذلك وظيفة السينما الاساسية، في أن تكون أداة تأمل وتفكير، ووعي وتنوير، وليس للترفيه فحسب..
الدورة 19 واختراع " النظرة
والجميل أيضا، في بعض أفلام قائمة الاختيار الرسمي، هكذا فكرت - أنها كانت وهى تعرض موضوعاتها، لا تنسى أن تطرح سؤال السينما ذاته في كل فيلم و"ماهية" السينما، وحتى من دون وعي ربما، من خلال البحث عن أفضل طريقة أو زاوية، لطرق الموضوع الذي يتناوله الفيلم، بل لقد انشغل بعضها بإسلوب العرض هذا – سؤال السينما – أكثر من من إنشغالها بموضوع الفيلم، وهذا جيد..
لتطوير فن السينما ذاته، من داخله، من خلال اختراع إبتكار واختراع " نظرة " جديدة، مع كل فيلم جديد، فلايهم في السينما قصة أو حكاية الفيلم، بل المهم السينما التي يقدمها، من خلال اساليب الاخراج المتعددة - الميزانسين -التي ينتهجها المخرج لـ " رواية " القصة، وهكذا يتطور فن السينما ذاته، من خلال تلك الاضافات الفنية الجديدة، وهي تتقدم – بثقة - الى الأمام،.. وتسحرنا بابتكارات الفن المدهشة،وقد تحقق هذا في مجموعة من الأفلام " الضرورية " كما أحب أن أسميها التي عرضها المهرجان في دورته 19 وأعجبتني كثيرا..
كما في فيلم " خلف الجدار " – روائي قصير - للمخرجة المغربية المتميزة كريمة زبير الذي يتميز بقدرته على التركيز – أليست السينما فن " الاقتصاد " عن جدارة ؟ - ويجعلك رغم انه فيلم روائي قصير تحس بأنه فيلم روائي طويل جيد وناضج ومتميز، ويكشف عن مأساة الطفولة في عشش الصفيح التي يسكنها المعدمون الهامشيون من الفقراء على هامش المدن الكبرى في المغرب، كما في مدينة الدار البيضاء كمثال، وتكمن قيمته في أنه فيلم روائي صحيح، لكنه يستفيد من إنجازات واضافات الفيلم الوثائقي، ويعبر الحدود بين النوعين ليتوهج بما فيه من " سينما "، وقد حصل الفيلم ضمن جوائز المهرجان فقط على " إشادة " وكان يستحق أكثر، فقد رشحته وبمجرد الانتهائ من مشاهدته للحصول على جائزة في المهرجان وأكثر من مجرد تنويه فقط وإشادة..
وفيلم " الليلة الثانية " – تسجيلي طويل – 75 دقيقة -للبلجيكي إيريك بولز الذي أعتبره بمثابة قصيدة رائعة عن الأم – وهو الجزء الأخير في ثلاثية فيلمية كرس لها مخرجنا أكثر من عشر سنوات من حياته، وقد خرجت منه- بعد استمتاعي بالفيلم- بمقولة رائعة تقول أن الفن هو " جرح " يتحول الى " ضوء "..
وفيلم " اجعل الليل هناك " تسجيلي قصير – 15 دقيقة – للمخرج المجري بنيامين هاموري الذي يتركنا في صحبة شاب كفيف ويعلمنا كيف نستطيع ان " نرى" الحياة من خلاله وكما يحسها ويستشعرها ويمارسها، ويفتح هكذا عيوننا على "جمال" العالم والحياة، من خلال مصاحبة أعمى كفيف !..
وكما فيلم " أنا المذنب " - تسجيلي قصير – 30 دقيقة – للمخرج سيجبيورن هولت من النرويج الذي يناقش قضية الاحتباس الحراري وأخطار التلوث وأنماط الحياة المفرطة في الاستهلاك، وتجربة التحول لأنماط أقل إستهلاكية للمحافظة على البيئة، وتكمن قيمته وتميزه، في أنه يحكي عن تجربة المخرج "الذاتية" في البحث – وبإيقاع لاهث – عن محاولات وحلول، للخروج من مجتمعات الاستهلاك الكبري، من أجل التغيير، وانتهاج " أنماط حياة" بديلةمغايرة ومتميزة في آن..
وفيلم " بومارزو "- تسجيلي قصير – 55 دقيقة- للمخرجة الفرنسية كلود غرونسبان- الذي يحكي عن أمير إيطالي من القرن السادس عشر،أراد أن يطهر نفسه من كل الآثام التي ارتكبها، والمذابح التي شارك فيها مع " محاكم التفتيش" فأنشا حديقة غريبة في مدينة بومارزو الايطالية، حديقة بتماثيل حجرية عجيبة، وسماها " حديقة الوحوش " وجعلها "مزارا "يكمن داخل غابة ضمن ممتلكاته، وبدلا من أن تحكي كلود عن الحديقة، تحكي عن الناس الذين يعيشون حولها، والتأثيرات التي أحدثتها "حديقة الوحوش" في حياتهم، وواقع الحاضر، كما تشير- بالتلميح فقط - في فيلمها الى خطورة "محاكم تفتيش" جديدة الآن في ايطاليا، من خلال هيمنة الكاثوليكية – الفكر الديني التقليدي الرجعي المحافظ – وصعود الفاشية..
سوف تطاردك المدينة
وكما في فيلم " سوف تطاردك المدينة "- تسجيلي طويل - 72 دقيقة- للمخرج المصري المتميز أحمد نبيل، الذي يحكي في فيلمه عن عملية إزالة وتدمير بعض أهم المعالم الأثرية المعمارية في مدينة الاسكندرية، ويجعل من فيلمه وهو يتابع ويصور عمليات الهدم " قصيدة " تنجح في تعميق احساسنا،بخطر تدمير وهدم كل ماهو جميل –ويمثل قطعة من تاريخنا وذاكرتنا- في حياتنا، وتعرضه للموت والفناء والزوال..
ويتوقف هنا احمد نبيل طويلا في فيلمه عند عمليات الهدم، وتكرارها في فيلمه، ليؤكد على شيئين مهمين : أن عمليات الهدم هذه هي" خطر" مرعب، يأتي من الداخل، وربما كان يهددنا – مثل ذلك " الوحش " الذي يسكننا -أكثر من أية اخطار" ارهابية" خارجية، ويتساءل أحمد ..ماذا يجب أن نفعل ياترى حياله..
وليؤكد أيضا أن تلك المباني التي تأتي عليها معاول الهدم، هي جزء لايتجزأ من "هوية "مصر، ثقافتها وحضارتها والقيم التي تمثلتها مصر،عبر تاريخها الطويل العريق، مثل قيمة " العيش معا " VIVRE ENSEMBLE- فقد احتضنت الاسكندرية – أول عاصمة لمصر - العديد من الجاليات الاجنبية المتوسطية من ايطاليا واليونان وفرنسا وغيرها من البلدان المتوسطية، وصهرتها في النسيج الوطني الثقافي المصري الواحد العام..
ذلك النسيج المتميز بـ " تعدديته " و" تسامحه" وارتباطه بـ " كيانها الروحاني " كما ارتباط الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كفافي - الذي يحمل الفيلم عنوان إحدي أهم وأشهر قصائده،ارتباطه المادي والروحاني بمدينة الاسكندرية، التي عشقها وسكنها، واتخذها من فرط عشقه، وطنا بديلا لوطنه الأصلي اليونان..
وكارتباط البطل "عوليس " في قصيدة " إيثاكا " لكفافي بوطنه ومملكته " التي ظلت تطارده ولم ينساها قط، أثناء حرب طروادة، وظلت هكذا هاجسه الوجداني والروحاني الذي يطارده بعد إنتهاء الحرب، وأثناء رحلة الأهوال التي قطعها في رحلة العودة. تلك الرحلة التي كرس لها الشاعر اليوناني العظيم هوميروس – أبو " الحكواتية " في عصرنا وصاحب " الإلياذة " ملحمته الثانية الشهيرة " الأوديسة ".وكارتباط احمد نبيل أيضا مخرج الفيلم السكندري بمدينته الاسكندرية وعشقه لها، تاريخها وذاكرتها..
وبالاضافة الى التكريمات والندوات والأفلام وإصدارت الدورة 19 من الكتب- مثل كتاب " هاشم النحاس وأفلامه عن الإنسان" للناقد المتميز رامي عبد الرازق، وكتاب " نجيب محفوظ .. ضميرنا الباقي " لهاشم النحاس" وكتاب " مغامرة السينما الوثائقية، دروس وتجارب" لكاتب هذه السطور..
نجح المهرجان أيضا في أن يبسط ساحته داخل المهرجان، وعلى المقاهي في مدينة الاسماعيلية الجميلة، وعبرشوارعها وميادينها الوديعة الهادئة الحانية، لتكون أرضية للتلاقي والحوار، وإحياء صداقات قديمة، وتكوين صداقات جديدة والاتفاق على إنجاز مشروعات سينمائية مستقبلية، تساهم جميعها،مع تألق المهرجان في دورته 19، في الخروج من عزلتنا وانفتاحنا على كل ثقافات العالم، وهنا تكمن القيمة الكبرى التي تحققت للمهرجان في دورته التاسعة عشر ..