هنا نص الكلمة التي كتبها الشاعر المصري أحمد الشهاوي بطلب من بيت الشعر في المغرب، وهو التقليد الذي يحرص عليه البيت كل سنة ضمن الاحتفاء باليوم العالمي للشعر يقدم خلالها الشاعر رؤيته للقصيدة والعالم ووظيفة الشعر والشاعر في عالم يمور بالعديد من التحولات.

سلطانُ الشاعر، وسلطة الشِّعر

أَحْمَدُ الشّهاوي

لا يدخل الشِّعرُ وأهله (وهم أمراء الكلام، وبناة المعاني، وخارقو القواعد ، الذين يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم) في مقارنةٍ مع فنٍّ من الفنون الأخرى، وليس له عصرٌ أو زمنٌ ما، يعلو فيه أو يهبطُ ، يفيضُ فيه أو ينحسرُ، يعيشُ فيه أو يموتُ ، يُزاح أو يسيطر، إذ هو السيِّد الذي " يشعر بجوهر الأشياء " في كل عصرٍ، وينير ظلامه، مهما تلقَّى من ضرباتٍ يبقى مرفوعَ الرأسِ، عارفًا بالماهية، كاشفًا السر، واصلا ما يستحيل وصله، ولا يمكنُ أن نضعه في موقع التفاضُل مع سواه من الأجناس الأدبية، لأنه القلب من المرآة؛ وفي روحه انطوى العالم المتناهي في الدقة والصغر،" وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ".

وسيبقى الإنسانُ في حاجةٍ إلى الشِّعرِ الذي يجلِّي جوهرَهُ، ويُشرِق باطنه، ويصفِّي معدِنه، وينقِّي أرضَه الخصيبةَ؛ ليقاومَ القبحَ في صوره الكثيرة، ذلك الفن الذي يهزُّ بلفظه ومعناه هيمنةَ كلَّ سلطةٍ، لأنَّ له سلطةً على الرُّوح، إذ يخشاه الفقيهُ والسلطانُ معًا، وفي مواجهة القمع والاستبداد السياسي والديني، لابد أن نذكِّر أن "الشعر بمعْزِلٍ عن الدين"، غير ناسين مقولة عبد الله بن عباس (619 – 687 ميلادية ): "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب ، ... " أو " إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، ... "، وأن الشَّاعرَ رب المعاني – الذي ينفونه ويقصُونه الآن – هو نبيُّ قومه، إذ هو قادرٌ على إيصال رسالته الشعرية بتعدُّد جمالياتها، على الرغم من المناوئين لحريته في التعبير والكتابة والنشر، ولم يفلح أحد منهم أن يسرق دولةَ معناه، وإذا كان العرب قديمًا قد قالوا إن: " الشعر ديوان العرب "، فهو الآن ديوان أرواحهم، رغم كثرة الوسائل والوسائط، بقدرته على الجذب لا المنافرة، والجمع لا الافتراق، في وقتٍ نرى فيه الرأسَ العربيةَ مضروبةً من الأهل والغرباء، فالشعر - بالأساس - هو ما يمكن أن نعوِّل عليه في الوصُول إلى عقل الرُّوح، تلك الرُّوح التي هي الذاكرة الجديدة والبديلة، لأنه القادر على النخْلِ والبناء، حيث إن عمارته هي الأكملُ والأتمُّ جماليًّا، ومن ثم يمكن اعتباره المرجعَ والموئلَ، وشجرةَ المعرفة التي لا تعرفُ خريفًا أبدًا .

سماء الشعر ليست واحدةً؛ لأنه منذ آدم إلى يومنا هذا خُلق الشعرُ متعدِّدا وكثيرًا، لا سواحلَ له، فهو ابن الأفق المفتوح، الذي يدخله المريدون طواعيةً، كأنهم أمام شيخٍ لا يطعن في السن، ولا يكرِّر لغاته، ولا يعرف وجهه الأقنعة .

هو السلطة حيث لم تعد هناك سلطاتٌ أخرى يمكن التعويلُ عليها، إذ هو يشكِّل بناء الإنسان، ويُسهم في بناء حضارته، لأن الشِّعرَ هو حضارةُ العمارة الحديثة .

وعلى امتداد العصور حاولتِ السلطاتُ على درجات استبدادها أن تخلقَ سلطاتٍ بديلةً لسلطةِ الشِّعرِ، لكن الفشل والإخفاق كانا حليفها، إذا من الصعب أن تقنع روحًا تتلقى كتابةً مُدجَّنةً ومكتوبةً وفق شروط السلطان، فلم يعرف الشعر عبوديةً ما، وإن كان له عبيدٌ عند العرب، فهي " العبودية المختارة " للعمل عند الشعر بإتقان وتجرُّد وتفانٍ، " وشَرُّ الشِّعْر ما قال العَبيدُ "، أي عبيد السلطان، لا عبيد الشعر، و ذلك الخطاب الشعري الذي نخلص له لا نتخلَّص منه ، إذ هو الخلاص من القهرِ والقمعِ والقتلِ، لأن الشِّعر هوية ولغة، وعنوان حضارة، وراية أعراف وتقاليد متحركة ، وليست جامدةً ثابتة .

الشعر - الذي يجري الماء في الحجر - عنوان الأمم والدال عليها ، خُصوصًا في الثقافة العربية منذ الجاهلية حتى يومنا هذا ، وقد خُلِق الشِّعرُ ليقاومَ لا ليُهادن أو يُقاولَ، فلا هو يعرفُ المتاجرةَ أو التنازلَ أو المُبادلة، لكنَّه يقبل دائمًا المُنازلةَ والمُناطحةَ بما أوتي من سلطةٍ وسحرٍ لا يُقاومَان، وإن ظنَّ مستبدو الشعوب غير ذلك .

لقد أدركتُ - بعد محنتي مع الاستبداد الدينيِّ في بلادي - أن الشِّعرَ هو المنتصر الوحيد في معركة أمل التحرُّر والفكاك من أية سلطةٍ مطلقةٍ، تمارسُ ديكتاتوريتها ضد الأهل وأهل الكتابة خُصوصًا، أو أي استبداد غاشم يقسو على شعب الشعر .

الشِّعرُ هو من حوَّل العاديَّ إلى مقدَّسٍ، ونفخَ في صُورةِ العادي حتى أعلى من شأنه ، ومن يستقرئ تاريخَ الشِّعر يدرك أن الشاعرَ وُلد من رحم آلهةٍ لفرط تنوُّعه واختلافه ومغامرته وشطحه وجمُوحه الذي لا سواحلَ له .

ومثلما قالت العرب على لسان أحد بنيها ( معمر بن المثنى (110 - 209 هـجرية / 728 - 824 ميلادية ): " إن الشعر جوهر لا ينفد معدنه " ، فهو يحي الناس؛ لأنه لباب قلوبهم، وقد قال محمد نبي هذه الأمة :

" إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكَمًا ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا "، وهو القائل أيضا : " لا تدعُ العربُ الشّعرَ حتّى تدعَ الإبلُ الحنين"، وقال عمر رضي الله عنه: " من أفضل ما أوتيت العرب الشعر، ... " و لا تمر ثانيةٌ واحدةٌ إلا ويستشهد العربيُّ بالشِّعر في كلامه ، وتلك شهادةٌ على حياة الشِّعرِ في نسغِ رُوحه .