يكشف الناقد المصري هنا، في تناوله لبنية هذا الديوان الشعري الجديد، كيف يستخدم الشاعر المفردات الجنوبية البسيطة، والثنائيات التي ترتكز على التكامل والتماثل في تشكيل متوازيات رمزية تثريها بالدلالات، وتساهم في تخليق الرؤية الشعرية للديوان وهمومه الإنسانية والوجودية معا.

تشكيل الموازيات الرمزية لإنتاج الرؤى الشعرية

في ديوان «أحد عشر ظلا لحجر» لفتحي عبدالسميع

محمد سيد عبد المريد

-1-

يرتكز الشاعر المصري فتحي عبد السميع في تشكيل تجربته الشعرية في ديوانه أحد عشر ظلا لحجر(*) على المعادلات الموضوعية والموازيات الرمزية، في إنتاج رؤاه الشعرية المتعددة، التي انطوت على قيم متراكبة ذاتية وواقعية وإنسانية، يربطها جميعا وعيه الشعري/ الواقعي، وهذا التشكيل الوظيفي قدمه الشاعر في تجاربه السابقة، ويلاحظ المتلقي في هذه التجربة ارتكازه الدال على الأمثولة الشعرية، في نتاج بنية الموازاة الرمزية الدلالية؛ لينتج بلاغة تجربته الشعرية من ناحية، ويعضد رؤاه المضمونية بطابع رمزي مشبع بالمواقف والمفردات البسيطة المستنبطة من الواقع الفعلي من ناحية أخرى.

فبدايةً من عتبة الديوان التي تحتوي على دال حجر مرورًا بنصوص الديوان، التي احتوت على مفردات الأشياء التي حولها الشاعر عبر الموازيات الرمزية والأمثولات الرمزية إلى حد الكشف عن التجارب المجتمعية والواقعية والإنسانية بكل أبعادها التكوينية، ويحرص أيضًا على تشكيل رؤى ذاتية ترتكز على الصيغ التهكمية الساخرة والمفارقة الحادة والنزعة الصدامية الدالة. كما يشتغل الشاعر على توظيف المفردات المستنبطة من الواقع الفعلي، خاصة تلك التي يستنبطها من الواقع الجنوبي، فالمعجم الشعري للديوان يبرز هذه الخاصية اللغوية الثرية، مثل هذه المفردات :"خض الباب، أزرق، المطواة، نخربش، مَسٌّ، جبّانة، طرحة، الكراكيب، براية، الخلخال، الفلاية." وهي مفردات كثيرة تهيمن على العناوين والنصوص في تشكيل لغة التجربة، فعناوين النصوص تبرز تعمق مفردات الأشياء البسيطة والمتداولة في التواصل الفعلي؛ وهي بذلك تمثل محوريتها في تشكيل وانطلاق الموازيات الرمزية، بما يتوافق مع الرؤية العميقة للتجربة، كما أنها تنطلق من خلال تأمل العلاقات الثنائية بين الأشياء مثل الحوض الزجاجي والسمكة، أو البراية والقلم، أو القفل والمفتاح.

ومن خاصيات هذه التجربة أنها تنطوي على الاتساق بين النصوص، والملاحظ لكيفية تقسيم الديوان؛ يكتشف تكوين هذه الخاصية المركزية؛ حيث يقسم الشاعر الديوان إلى ثلاثة أقسام:

أ- خض الباب

ب- أحد عشر ظلا لحجر يقوم من النوم

جـ- رجفة الوداع

وهذا التقسيم جعل القسم الأول مجرد تمهيد، وهو يحتوي على نص واحد، والقسم الثالث والأخير مجرد خاتمة، ويحتوي على نص واحد مثل نص التمهيد، ويبقى القسم الثاني هو محتوى الديوان الأكبر؛ لأنه يحتوي على أحد عشر نصا، بما يتوافق مع عتبة القسم، والتي شكلت عتبة الديوان أيضًا.

والقراءة الأولية لعتبة الديوان تبرز التناص غير المباشر مع الخطاب القرآني، من سورة يوسف، كما أن المتأمل للبنية اللغوية لهذه العتبة، التي ترتكز على المعادل الموضوعي أو الموازاة الرمزية في تشكلها، فالعدد المركب أحد عشر الذي يتناص مع الخطاب القرآني، والتمييز العددي ظلا؛ ينتجان إشكالًا في تلقيه، حول وجود هذا الكم الكبير من الظل لحجر واحد؛ ومن ثم تتبدى مركزية دال حجر الذي ورد في صيغة النكرة، وهذه الدوال اللغوية في تركيبها الدلالي ترتكز على رمزية عالية لا يمكن تبيانها إلا من خلال قراءة محتوى الديوان كله، وتكملة العنوان في القسم الثاني "يقوم من النوم"؛ تؤنسن هذه الجملة الفعلية الدال النكرة/ حجرا؛ لتتعمق بذلك في التشكيل البلاغي للرؤية الرمزية الدالة.

ومن الخاصيات المركزية المنتجة لتشكيل الخطاب الشعري لهذا الديوان، وهي من العتبات النصية الدالة، الإهداء الذي يرد مع كل عنوان نص فرعي؛ يبرز مدى العلاقة بين محتوى عتبة العنوان الفرعي وبين الذات الشاعرة؛ ولأن المحتوى دائما ينطوي على مفردات أشياء من عالم الذات الشاعرة الحميمة، التي جعلها الشاعر تتخذ أبعادا رمزية توسع من دائرة استخدامها اللغوي إلى الاستخدام المجازي الرؤيوي، الذي يتعمق في البعد الإنساني مع تماسه الجوهري الواقعي؛ وهذا التوظيف يحدد نوعية الموازيات الرمزية وبؤرة اشتغالاتها الشعرية.

في القسم الأول التمهيدي، يبرز الشاعر عبر مقطع قصير معنون بـ "خض الباب" قيمة موروثة كانت تستخدم للاستئذان بالدخول إلى البيت، وهي بارزة من خلال عنوانها، والتي تعني رج الباب؛ ليحدث صوتًا قبل السلام على سكان البيت، وهذه القيمة مرتبطة بحلقة حديدية في الباب يتم رجها بقوة للاستئذان، وهذا الباب لم يعد موجودًا، لكنه يذكر المتلقي الذي يعرف شكل هذا الباب، وفقًا لمرجعيته الواقعية، بالبيوت القديمة العتيقة، وهذا الاستحضار لقيمة موروثة يتضمن بعدًا تشكيليا بارزًا سيتجلى بوضوح على امتداد التجربة، وهو تشكيل نتاجات الواقع الجنوبي في البنية الشعرية:

(أ)

حلقة حديدية في الباب

لا بد من خضها

قبل السلام على سكان البيوت

ولم يقدم المقطع القصير سوى وظيفته التمهيدية الدالة، حيث لم ينطوِ على النزعة التخييلية المجاوزة، ويتبع الشاعر هذا المقطع بنص بعنوان "قاطع الطريق الذي صار شاعرًا"، وهذا النص يتشكل وفقًا لأمثولة شعرية، تستثمر ممكنات السرد في تشكيلها؛ لكي ينتج الشاعر عبر البنية الواقعية قصة رمزية، تنطلق فيها الذات الشاعرة للتعبير عن رؤيتها الخاصة المتضمنة داخل الأمثولة الشعرية، وعنوان النص الطويل يبرز في البدء كيفية انطلاق رؤية النص الشعري، التي تشكلت عبر مشهدية عالية، وهي رؤية تتعمق في البعد الإنساني أكثر من تعمقها في كشف بنية المجتمع، تبدو من خلال الحدة البالغة الواردة في تشكيل معاناة الذات، مثل:
لوح زجاجي

سقط من شرفة عالية

فوق رأسي تماما

أنا الشظايا التي وقعتُ عليها

أنا الطريق الذي قطعتُه دون أن أدري

الطريقُ الذي أجهل الآن كيف أقطعُه؟

أثر الصفعة يكبر في قفاي في منتصف العنق

ها هي تتشقق ويطلع ذيل منها

جسدي كله يتشقق

ذيولٌ تتأرجح

طرق تتسع في لحمي وعظامي

وما من طريق يمكن قطعه.(الديوان، ص ص، 16،17)

هنا يوازي الشاعر بين الأنا وواقعها، عبر المفارقة المكتنزة لإشكالية الأنا مع واقعها، بحيث تبدو الذات مرآة لواقعها ورافضة له في الوقت ذاته؛ ليتعمق في تفصيلات المعاناة التي تتفاقم إلى حد بالغ، يتشقق فيه الجسد كله، وحيث تكتنز الذات بأعماقها طرقا، وفي الوقت ذاته ينفي الشاعر إمكانية قطع طريق؛ وهو ما يعبر عن الجبرية التي تعانيها ذاته، والتي أبرزت معالمها المفارقة الحادة والتصوير الشعري الدينامي المتضمن للموازاة الواردة، وتوظيفُ الفانتازيا في توصيف استفحال المعاناة الذاتية؛ لإبراز النتيجة الحتمية التي تتمثل في اغترابها. ويرتكز على إضفاء الطابَع المغاير الذي يمتاز به واقع الذات، في سياق تبيان علاقته بالعالم، والتي تحدد حركية المفارقة والمغايرة الحادة:
ترعبني العتمة

حين تذوب في العظام

ولا يعرفها أحد.

ترعبني نجاسة الموتى

وهي تدفع الناس مثل القرابين

في موكب لا نراه.

ألتف بعتمة صغيرة

فتلتف الدنيا كلها بالنور.

أجد نفسي حين أجد عتمتي

أنا الزبال الذي يلم النجاسة في جرابه

أنا اللص الذي يغافل العالم السفلي

ليحمل أرواح الأشياء

ويعيدها إلى النور.(الديوان، ص ص،19،20)

يطرح دال العتمة وفقًا لمرجعيته الدالة فعل "ترعبني"، خاصة حينما تتماهى مع الداخل/ العظام، ويكرر الشاعر هذا الفعل مع نجاسة الموتى، صانعا صورة أخرى من العتمة أو الغموض، ثم يرتكز على التناقض الدلالي في إبراز حالته الخاصة، حينما يلتف بعتمة صغيرة، يجد الدنيا كلها تلتف بالنور، وهي رؤية تعكس وعيه بجدليتهما التبادلية؛ لذا يجد نفسه حين يجد عتمته، وهنا يصل إلى حد التماثل أو اكتشاف هذا التماثل بصورة مغايرة عن صورة الوضوح التي يطرحها النور؛ مما يبرز شغف الشاعر بالغامض أو المخبوء، أو أن ذاته غامضة ويصعب مقاربتها، وهذا نراه في مسار الكشف عن ذاته عبر تشكيلات دالة، فهل هذه التشكيلات تمثل هوية الذات أم أنها مسارات ذاتية مجابهة لتناقضات الواقع المتردي؟ وهي رؤية تبرز منطلقات التجربة، التي ترتكز على البعد الإنساني؛ لاستجلاء المناطق الهامشية في تكوينات العالم أو الواقع، خاصة أنه يتعمق في تكوين مشاهد واقعية مألوفة، لكنه يصبغها برؤيته الشعرية الخاصة المتعمقة في بنية الواقع.

وفي ختام الديوان طرح رجفة الوداع:
حلقة حديدية في الباب

لا ترتجف

إلا عند الوداع

هنا تتأثر الحلقة الحديدية بوداع الأهل والأحباب، فهي لا ترتجف إلا عند الوداع؛ ومن ثم تنطوي على الطابَع التفاعلي الأصيل الذي يوسع من دائرتها الجمادية إلى دائرة التفاعل مع الإنسان، وهذا ما يرتكز عليه الشاعر في بناء خطابه الشعري، ثم يقدم بعد هذا المقطع القصير نصًّا شعريًّا كما قدم في بداية الديوان، والفهرسة والتبويب من العتبات النصية الدالة، التي تبرز خاصية توظيف الشاعر للشكل الطباعي العام للديوان، حيث لم تكن نصوص الديوان مجرد نصوص قد جمعت وكونت ديوانا، وإنما تبدو من خلال هذا التحديد والترسيم أن هناك قصدية مركزية تنتج هذا التخطيط الاستراتيجي الدال.

والنص الختامي الذي جاء بعنوان "ظل على الباب المفتوح"، وهذا العنوان الفرعي بدأ به الشاعر ديوانه، وهو يتمركز حول دلالة الظل، التي جعلها الشاعر قناعا رمزيا له، ورد ظل نكرة ولا تعرف كينونته، يطرح الشاعر بعض صفاته في بداية النص قائلا:
لا أنزل الأرض مرتين

مشاءٌ ولا أجالس الوصوليين

أمشي وأنا واقفٌ

وأمشي وأنا نائمٌ

وأمشي وأنا أمشي

كل لحظةٍ مرورٌ ووداع

كل خطوةٍ

رميةُ نردٍ في شبرٍ جديد.(الديوان، ص101)

تبرز هذه الصفات الجوهرية للظل ما ينطوي عليه من خصوصية أبرزتها مفارقة المتناقضات الدلالية، فيبدأ النص من خلال التناص مع مقولة هرقليطس الشهيرة "إنك لا تستطيع أن تخطو مرتين في نهر بعينه؛ لأن ماءً جديدًا سيظل دفاقًا عليك"، التي تعبر عن التجديد الدائم، ولكن الظل هنا يتجلى على الأرض، وأبرز خاصية لديه أنه مشاء وهي صيغة مبالغة تدل على كثرة المشي؛ مما يجعله يغاير الوصوليين أي الذين يصلون إلى نقطة محددة يتوقف عندها المشي، فعبر بنية التكرار لفعل أمشي والدلالات المتباينة، يبرز أنه لا يحب الوصول، فالظل يمشي وهو واقف، وهنا تناقض دلالي بين المشي والوقوف، كما أنه يمشي وهو نائم، وهنا مفارقة حادة تعكس تحقق المشي حتى في الحالات المغايرة تماما، ثم يبرز صيغة المبالغة في مشي الظل أثناء مشيه، وهذه صور تشريحية لصيغة المبالغة أبرزت صفات هذا الظل، كما أنه يعمق رؤيته أكثر بالارتكاز على الثنائية في قوله كل لحظة مرور ووداع، فالثنائية الدالة بين مرور ووداع، تبرز ما أبرزه التناص في بداية المقطع من جهة، وتبرز رؤيته الوجودية من جهة أخرى؛ ومن ثم يتبدى التجديد الدائم في كل خطوة.

ومن خلال هذا التشكيل الجمالي الذي يضمر الرؤية الذاتية في سياقه الرمزي، حيث تتبدى لنا رؤيته تجاه الحياة عبر الموازاة الرمزية الدالة، التي ارتكزت على توسيع التناول الشعري للموضوعة، بما يضمن تحقق الرؤية الذاتية داخل الرؤية الأمثولاتية الكلية؛ فيطرح على سبيل المثال في ختام النص اغتراب ذاته:
ينقصني تأهيلٌ للسيرِ بكفاءةٍ حول زهرةٍ

تنقصني أجيالٌ تكمل الشهيقَ الذي

بدأته

مشاء لا يحب الوصولَ

لا مِقعدَ لي في الحياة

وظهري مسنودٌ على بابِها المفتوح.(الديوان، ص104)

ينتهي المقطع بالمفارقة الحادة التي برزت في بنية العنوان، ليتساءل المتلقي حول كيفية وجود ظل على باب مفتوح!.

-2-

لقد التزم الشاعر بالاتساق بين النصوص الشعرية، بنية ودلالة، حيث جاءت النصوص الشعرية مرتكزة على خاصيات المشهدية والموازيات الرمزية، التي واءمت بين السردي والمجازي في تشكيلها الشعري، ومرتكزة أيضًا على استجلاء معالم الذات والواقع الذي تنتمي إليه الذات، ولحضور الواقع الجنوبي خصوصية شديدة في هذا الديوان.

ونصوص المتن، أي التي وردت تحت عنوان الديوان، التزم الشاعر بخاصية الإهداء تحت كل عنوان فرعي على حدة، حيث كان يبرز الإهداء جزءا من محتوى النص، فعلى سبيل المثال، يطرح هذا الإهداء في النص الأول المعنون بـ" عظامي شفافة وهذا يكفي":

إلى حوض زجاجي أعرفه وإلى سمكة لا أعرفها جيدًا.

هذا الإهداء يبرز تشكيل العنوان من جهة، ويمهد لمسار النص الشعري من جهة أخرى، فالمتلقي لدوال عتبة النص، سيلاحظ التطابق بينها وبين الحوض الزجاجي، والرؤية الشعرية تركز هنا على الموازيات الرمزية الدالة، فالعنوان يجيء على لسان الشاعر، أي أنه يعبر عن الذات، وفي الوقت ذاته يتطابق مع شكل الحوض الزجاجي أو خاصيته، فالحوض يتسم بأنه شفاف، وقراءة النص تبرز شكل الموازاة الرمزية، فالشاعر ينطلق من وصفه لحوض زجاجي إلى تتابع المشاهد الواقعية التي تشكل أمثولة شعرية دالة:

حوض زجاجي

رقيق كطرحة

وعنيف كبلطة

تقترب السمكة من عظامي وتعود

أصدمها في بوزها فترقص

تزغرد وهي محبطة.(الديوان، ص23)

وتتشكل بعد ذلك المقاطع على لسان حوض زجاجي، الذي يتضمن صوت الذات، أي تتكشف حقيقة هذا القناع الرمزي، خاصة حينما يبرز البعد الإنساني:

في لحظات كثيرة

يحن المرء إلى بطن أمه

إلى رحلته الأولى في الماء.

في لحظات نادرة

يعود كل إنسان إلى أصله

يصير سمكة ويرتعش.(الديوان، ص ص، 24،25)

فهنا تتبدى أهمية معرفة الذات لحوض زجاجي دون السمكة الواردة في الإهداء، فكلا الدالين المتقابلين يحملان مسارين للإنسان، وفقا لمنظور النص، أي يعبران عن الممارسة الحياتية، فالحوض الزجاجي دال يرمز إلى حدود واقع ما بداخله، والسمكة هي الحبيسة والمحددة، والفروق بين الدالين تبرز العديد من مكونات الرؤية، فالحوض الزجاجي شيء مادي ثابت، والسمكة كائن حي متحرك، إلا أن الذات الشاعرة التي أبدت مسارها الحياتي، بداية من عنوان النص إلى الختام الذي اكتملت به هذه الرؤية الرمزية:

أخاف من سمكة تكبر في الصدور

كلما اتسع نزولنا في الماء

أريدني حوضًا زجاجيًّا لا نهرًا

أريد سمكتي صغيرة

حسبي جزء ضئيل

يرتعش في صدري على الدوام

عظامي شفافة وهذا يكفي.(الديوان، ص29)

تبرز هنا الرؤية الذاتية المتضمنة في الأمثولة الشعرية، والتي ارتكزت على التداخل بين الذات والشيء الرمزي، فهنا الذات تريد أن تكون حوضا زجاجيا لا نهرًا، وأرادت ذلك من قبيل تفضيل المحدودية، والتي تبرز مدى قلق الذات من الاتساع الداخلي، فالسمكة قد تدل على الحياة، فالذات هنا تريد حياة محدودة تتناسب مع الهامشية التي تعانيها، والذي عبر عنها السطر الأخير، حيث الذات تبرز عبر شفافيتها ما بداخلها من حياة؛ مما يعرضها لعلنية خصوصيتها الداخلية، خاصة أن دال السمكة في سياق النص ينطوي على قيمة موجبة، أي يرمز إلى معنى حيوي تحتاج إليه الذات بشكل دائم، فقد تعبر عن الحياة أو عن الحلم، والأمثولة الشعرية بشكلها التام تنطوي على النزعة الإنسانية المنتجة لها.

ويوظف الشاعر الأشياء باعتبارها المنظور الكاشف للبشر، وكأنه يطرح عوالم الأشياء المتباينة مع عوالم البشر، مرتكزا على إبراز الجدلية التي تربط بينهما؛ لينتج عبر هذا التشكيل البلاغي الشعري رؤى إنسانية رمزية كاشفة من جهة، أو تنطوي على قيمة معنوية يود إبرازها في هذا الشكل الجمالي، كما طرح في نص "بطن يخلو من الكراكيب"، يأتي صوت الذات معبرا عن صوت قلم رصاص، الذي أبرزه الشاعر في الإهداء الهامشي مع البراية المصاحبة له:

إلى براية وقلم رصاص أعرفهما جيدا.

ويقدم رؤية مكثفة ناتجة عن هذه العلاقة الثنائية:

في البراية يرتاح القلم

في القلم ترتاح البراية

يموت ظلُّنا

إن لم نجدد رؤوسنا باستمرار

ثمة بلطة صغيرة لا بد من احترامها

لترقص الحياة(الديوان، ص30)

في هذا المقطع الشعري يبرز أهمية العلاقة الثنائية التي ترتكز على التكامل والتماثل، وعلى أن تجديد رؤوس أقلام الرصاص رغم ما فيه من قسوة ظاهرة، إلا أنه ضرورة حياتية، فالبراية هنا أو البلطة الصغيرة كما طرح، يجب احترامها لترقص الحياة؛ ومن ثم بدا فعل البراية يتضمن النقيضين معًا الحياة والفناء، وعبر هذه المشهدية البارزة يقدم رؤيته التي تتشابك مع الحياة الإنسانية بشكل أو بآخر، ولا سيما حينما تتداخل مع نبرة الذات الشاعرة، وكأن الشاعر يتأمل ذاته من خلال هذه الموازاة الرمزية، يقول على لسان القلم الرصاص:

في كل خطوة

يختفي شيء مني

ما يسقط مني يُثريني

ما يبقى ملتصقًا بروحي

يلمُّ عليَّ الذباب.(الديوان، ص ص، 32،31)

هنا يلاحظ المتلقي ظهور الذات الشاعرة التي أبرزت بعدا من أبعادها الدالة، وهو البعد الوجودي، وإن كان بشكل خافت، ويبرز ثلاثة أشكال في حضوره الذاتي، الأول أنه يختفي شيء من ذاته في كل خطوة، والثاني ما يسقط منه يثريه، والثالث ما يبقى ملتصقا بروحه يلم عليه الذباب، وهنا مفارقة حادة ساخرة، كما يطرح في ختام النص الشعري الجدلية البارزة بين الوجود والعدم، أو الحياة والفناء، مرتكزًا على التقابلات الدلالية:

يلمعُ الخلود

هنا في السفح ويختفي في القمةِ

وأنا أبدأ

لا حين أصلُ

أمد ذراعي عاليًا

لأعلن انتصاري على العالم.(الديوان، ص33)

تبرز التقابلات الدلالية "يلمع، يختفي" و"السفح، القمة"، البعد الوجودي للقلم الرصاص، وأنه يبدأ لا حين يصل، وهي تتضمن في تركيبها المفارقة المعبرة عن الجدلية الوجودية، التي أبرز علتها الشاعر في السطرين الأخيرين؛ للانتصار على العالم، وهنا تتسع دائرة الطرح الوجودي لتشمل الصراع الحدي مع العالم، وهو ما يبدي تطلعات الذات الشاعرة نحو العالم.

وإنتاجه للمشهدية في تفعيل الموازيات الرمزية يشكل بنية أساسية في خطابه الشعري؛ لكي يدعم التشكيل المجازي بما يبرزه؛ لذا حينما تتضافر هذه التحيينات الخلاقة تنتج صورا كلية متسقة ومتراكبة، ويكاد كل مقطع أو صورة كلية تستقل بذاتها؛ إذ تنطوي على مقتضيات الرؤية المركزية في إطار السرد الشعري المرتكز على حزم مشهدية تكون مجتمعة الأمثولة الشعرية. فعبر هذه المشهدية الواقعية ينتج رؤيته الشعرية المطهمة بالتخييل المجازي المستمد من الموقف الواقعي وعلاقات الأشياء مع التفاعل الحياتي مع الذات الشاعرة عبر أنسنتها الدالة، كما يطرح قائلا:

أحب شبشب أمي

كثيرا ما يخبط ظهر جلبابي

ولا يلمس ظهري.

وكثيرا ما ينحرف عني

ويكدم الهواء

متظاهرًا بأنه أخطأ الهدف.

كثيرًا ما بكى وهو يرتفع عاليًا

ويتوعدني.(الديوان، ص51)

يبرز الشاعر في هذا المشهد الواقعي الحياتي البسيط، أنسنة الشبشب الذي تلقيه الأم على ابنها، فهو كثيرا ما يتظاهر بأنه أخطأ الهدف، وكثيرا ما بكى وهو يرتفع عاليا ويتوعد الابن/ الذات الشاعرة؛ وهذا يدل على كيفية توغل الشاعر في المواقف الحياتية البسيطة، وإنتاج تخييله المجازي منها، بحيث نجد التشكيل المجازي ينتج قيمه من خلال تفصيل الموقف الحياتي البسيط بشكل رؤيوي.

ويتعمق الشاعر في المعاناة الجمعية التي تكتنز واقع العالم، خاصة في نصه "العالم فوق مقعد حمام"، وكما هو بين من بنية العنوان التي تنطوي على سخرية لاذعة، تختلط في هذا النص صوت الجدران مع صوت الذات الشاعرة، وينتج عبر التوازي بين حارس السجن والجدار أو الذات الشاعرة رؤية مغايرة، والتي ترتكز على المقارنة بينهما؛ للتدليل على أن مأساة حارس السجن أكبر وأكثر فداحة:
حارس السجن سجين مثلي

لكنني أكثر حظا

أعرف زنزانتي، وأعشق الحرية

عيناي رقيقتان وتحط عليهما الطيور

عيناه غليظتان يتقافز منهما الدود

أمشي في زنزانة

وحارس السجن يمشي في قبرٍ

زنزانتي دم فاسد يسيل داخله ويبقى.

يملك الشوارع والميادين

لكن حظه منها أقل من حظي

يحبس العالم في جيوبه

ويخطو في العدم.(الديوان، ص ص، 65،64)

لقد أبرزت المقارنة ما لدى السجين من قيم إنسانية تجعله أكثر حظا من سجانه، عبر التناقضات الدلالية؛ ومن ثم يتبدى الواقع المأساوي الذي يعانيه السجان، فهو رغم أنه يملك الشوارع والميادين إلا أنه يحبس العالم في جيوبه ويخطو في العدم، وهذه هي حقيقة السجان المأساوية. وفي سياق النزعة الإنسانية ومن خلال تحيينات التوازي، يطرح على لسان البلطة أو الذات الشاعرة؛ لكشف الواقع الإنساني المتردي:
لنا عارنا

لا بد وأن نعترف

لكل قبيلة عارها

لكل إنسان عار لا بد من دفنه

كي لا تهرب العصافيرُ من أصابعه

لماذا تدفنون أرواحكم

وتطلقون عاركم في الشوارع

ينقر النوافذ المغلقة

ويرقص عاريًا في الفنارات؟.(الديوان، ص40)

يكاد هنا تداخل الصوتين لا يبين؛ إذ يبدو صوت الذات الشاعرة حادا؛ لكشف عار الإنسان ودفن الأرواح؛ وهذا يعكس غياب النزعة الإنسانية عن أرض الواقع، ولقد تمثل هذا بوضوح في مسار المكاشفة التي تقترب إلى حد المساءلة، خاصة حين يطرح الرؤية من منظور البلطة، وهي آلة تساعد الإنسان في تأدية عمله:

رؤوسنا حجرية

وقلوبنا شجر

ماذا نفعل حتى نطير في سمائكم

بأثوابنا النظيفة؟

كلما ظهرت بلطةٌ في كلامكم؟

لماذا تزجون باسم جدتنا الطيبةِ

كلما بحثتم عن علامة

لأسوأ ما فيكم؟(الديوان، ص ص، 42،41)

هنا يغير الإنسان من أصل البلطة الطيب الموجب، إلى نزعته الشريرة؛ حيث يجعلها آلة حادة في صراعاته مع بني جنسه، مبرزا الانفعال الحاد لجنس البلطة المتألمة لواقع الإنسان:

بكينا كثيرا

منذ سرى في سلالتنا

دمُ البشر.(الديوان، ص44)

وهذا التشكيل المجازي يوسع دائرة الآلة الجامدة إلى دائرة الأنسنة لتكشف للإنسان عاره، وهذا ما ارتكز عليه هذا الخطاب الشعري بامتياز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أحد عشر ظلا لحجر، شعر، فتحي عبد السميع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016.