أولاً- تمهيد:
إن المتخيل الجمالي مكمن الإبداع في كل منتج فني إيحائي حيوي فاعل، ولا يرتقي الفن إبداعياً، ولا يمكن أن يسمو بمعزل عن التخييل الجمالي المبدع، في تشكيل المنتج الإبداعي الخلاق؛ وهذا القول قد لا يختلف عليه إثنان، لأن وراء كل فن إبداعي مثير دون أدنى شك- تخييل إبداعي خصيب أو وهاج؛ وبهذا المنزع الجمالي يعشق علماء الجمال الفن، ويطلقون أحكامهم المختلفة عليه، يقول جان برتليمي: "إن التجديد، والرحابة، والغزارة في نمو المقطوعة الموسيقية لا يمكن أن تقاس إلا بمدى خصب الخيال الشكلي لدى الموسيقي"(1).
فالإخصاب الخيالي- من منظور برتليمي- هو أساس نمو الفن الموسيقي؛ وتناميه جماليا، وهنا نتساءل: متى يكون التخييل الفني عنصراً جماليا؟! وما هي المتخيلات الجمالية والمتخيلات اللاجمالية؟! ومتى ترتقي المتخيلات إلى مرتبة سامقة من التحريض والإثارة في الفن؟! وما هي المتخيلات الشاعرية والمتخيلات اللاشاعرية؟! وما هي مقومات التخييل الجمالي المبدع أو الخلاق؟! وما هي السبل المتحققة التي تؤدي إلى تخييل إبداعي مثير، أو خلاق منتج جمالياً؟! وهل تقاس درجة الفن بمقدار جمالية التخييل، ودرجة إتقان المنتج الفني إبداعياً؟!
لا شك في أن الإجابة عن هذه الأسئلة التحريضية المفتوحة لأمر بغاية التعقيد والصعوبة، وما سيضطلع عليه البحث ما هو إلا مقامرة بحثية تحاول أن تجذر ما لا يتجذر، أو أن تخلق حواراً جمالياً تحريضياً من نوع آخر بين الفن بوصفه قيمة تخييلية جمالية عالية، قائمة على دهشة المتخيل، وغرابته، وبكارة العوالم المرتادة؛ وبين الفن بوصفه صنعة جمالية محرضة للخيال.وقد وجدنا في شعر تميم البرغوثي مثالاً للفن بوصفه قيمة جمالية تخييلية عالية؛ والفن بوصفه صنعة جمالية محرضة للخيال.
وبتقديرنا: إن قيمة المتخيلات الفنية ترتقي حينما تلامس هذه المتخيلات الواقع، وكأنها تعيش في هذا الوجود، أو كأنها مستمدة من هذا الوجود، وتتجاوزه بحيثيات جمالية ذات آفاق تخييلية عالية، ورؤى جمالية غير مرتادة؛ وبهذا المنزع الرؤيوي يقول عالم الجمال (دي برسي) ما يلي: "إن أقل ما يمكن أن يقال عن الأعمال الفنية الكبرى أنها لا توجد فحسب، بل إنها كذلك تعيش فيها" وفوق الوجود" ، ذلك أنها تتمتع بواقعة خاصة؛ بل إنها تقوم وتحيا في نوع من فوق الواقعية "السريالية"(2)..
وبهذا المنظور، فإن درجة جمالية الفن تتحدد في دهشة المتخيلات الرهيفة الحية التي تصنع جودة الفن وبكارته؛ والفن - وفق هذا المنظور- هو تجلي المتخيلات في الوجود، وتجاوزها لهذا الوجود، بوجود فني- إن جاز التعبير – هذا الوجود الفني- هو الوجود اللامرتاد، وهو الوجود الذي يصنع جودة الفن، ويستثير لذته. وتأسيساً على هذا، فإن جمالية المنتج الفني تقاس بمستوى الجودة، أو التناسق في الشكل الفني الذي تتخذه هذا من جهة؛ وبالمتخيل الجمالي الذي تثيره، وترقى إليه،من جهة ثانية؛ وتبعاً لهذا المستوى، تتمايز الفنون فيما بينها في مدى قدرتها على تنشيط المتخيلات الشفافة، واستثارة قوى التخيل الدفاقة؛ من حيث بكارتها ، وجدتها، وخصوبتها الإيحائية، ومقدرتها على تجسيد الواقع؛ والرقي من خلاله فنياً.
وما ينبغي ملاحظته:
إن التخييل الجمالي هو الذي يستثير الفن إذا كان التخييل خلاقاً في إنتاج شكل فني، مبتكر بإحساس جمالي خلاق نابع من تمازج الحس بالروح، والواقع بالخيال؛ بمزاوجة فنية فاعلة بينهما، بحيث يبدو الواقعي خيالياً والخيالي واقعياً.
وبهذا التصور، فالتخييل الخلاق لا ينتج بلا حدث طارئ، أو رؤية محفزة، ولهذا، لا يرتقي الفن بوصفه فناً بعيداً عن محفزات الحدث الطارئ، والخيال الواسع المجنح الذي يرتقي بمثيرات الفن، وبهذا المنزع الجمالي، والحس الشعوري المرهف يقول( مايير):"إن الفن يتجه بطبيعته نحو عالم آخر،والأسطورة تدخل في نطاق العقل، وهي تعني أن الفن، يظل مقيماً في مكان ما هو خيالي"(3).وبهذا التصور، فإن جوهر الفن ليس ما تراه الأعين، وإنما ما يراه الخيال؛ وتبعاً لهذا المنظور يرى برتليمي:" أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الفن الحديث هو الأشياء التي نراها من خلال الطبيعة الخاصة بنا، لأن من الخطأ أن يكون طريقة يتبعها البصر"(3). وإنما من الصواب الاعتقاد بأنه طريقة مبتكرة يتبعها الخيال بريشته الإبداعية المجنحة؛ وبتقديرنا: إن الفن الجمالي لا يستثيرنا بوصفه فناً إبداعياً مؤثراً إلا بمنظار المخيلة الخلاقة المبدعة التي أنتجته ، هذا من جهة، والحساسية الجمالية العالية التي جسدت هذه المتخيلات في قالب فني جمالي محسوس ؛ من جهة ثانية؛ وبهذا المنزع المقارب يقول عالم الجمالي( بايير):" إن العمل الفني يتقدم لنا على هيئة تجميع للآثار التي يتركها خيال الشاعر البناء ، وهذه هي حقيقته الجمالية... وحقيقته بالضبط هي مظهره، وكل عمل فني مظهر وظاهرة"(4).
وهذا يعني أن التوليف الفني في ترسيم المتخيلات في قالب فني، ومظهر حيوي جذاب هو جوهر الفن ولعبته المثيرة؛ بوصفه مظهراً فنياً مؤثراً؛ وظاهرة خلاقة مبدعة في التشكيل الفني المنتج جمالياً. وبهذا المنظور المقارب يقول: إن الفن طاقة تخييل وتعبير، والفنان حر في تجسيد متخيلاته، بالشكل الذي يريد، وبالمظهر الذي يرتضيه لمنتجه الفني، ولهذا، فالأشياء الخيالية التي يرسمها الفنان ليست هي نفسها كما نراها في الواقع ، أو كما هي مجسدة على أرض الواقع؛ إنها تشاكل، أو تحايث الواقع من جهة، وتنأى عنه من جهة أخرى، وبقدر هذه المفاعلة بين التجاذب والتباعد ترتقي حساسية المشهد الكلي؛ وتزداد مداعبة الخيال القارئ؛ وحساسيته الجمالية؛ وبهذا المعنى يقول (جان برتليمي) موضحاً رؤية العالم الجمالي بايير:"فالفنان لا يكتفي بتقليد " مثل أعلى"، أو جوهر مختلف خلف المظاهر، كما أنه لا ينقل المظاهر تماماً، فالشجرة التي يصورها المصور ليست كما أرادها (شوبنهاور) تلك الشجرة التي تعيش خارج الزمان والمكان، والتي لا توجد بينها، وبين هذه الدنيا علاقة ما؛ بل إنها الإدراك البصري لوجود ملموس إلى ما لا نهاية؛ يبينه الفنان؛ ابتداءً من قريحة ما .. فليست –إذاً- هناك شجرة بالمعنى الحقيقي، بل الموجود هو ترددات الحساسية كلها، تبعاً لما تشير إليه الطبيعة وتقدمه، إشارات تكون بمثابة دعوة لحركة تتحرك بناءً عليها المزايا المميزة للشجرة، أكثر منها تلك المزايا نفسها. ولن تكون هناك إذاً معطيات ما، بل إن هناك خلقاً يتم طبقاً لموضوع معين"(5).
وتأسيساً على هذا القول، فإن المبدع لا يجسد متخيلاته الشعرية في منتجه الفني إلا ليُقَرِّب ما في ذهنه إلى حيز الواقع، بمظهر ما، وحيز تجسيدي ما، وهذه المجسدات حتى وإن شاكلت الواقع وحايثته فإنها تبقى لها خصوصيتها الفنية المميزة، ومؤثراتها الإبداعية اللامتحققة في أي شكل أو مظهر واقعي مرئي على أرض الواقع، وهذه هي سمة الفن الجوهرية؛ أنه يمس الواقع مساً طفيفاً؛ دون أن يكون صورة فوتوغرافية مصغرة عنه. وهذا يقودنا إلى تأكيد حقيقة مهمة في عالم الفن:
إن التخييل الجمالي يُنَشِّط القريحة الجمالية؛ ويرفع سوية جودة المنتج فنياً هذا من جهة، ومن جهة ثانية يكسر حاجز صمت الأشياء المتخيلة المجسدة؛ وجمودها في أعيننا من جهة ثانية؛ بمعنى أن يحرك الأشياء من حولنا، وكأنها شخوص حية؛ فالتخييل الجمالي- إذن- هو تنشيط للأشياء، وحركتها، وكسر جمودها ، لإبرازها كفن حيوي ناطق، أو متحرك؛ لا فن جامد أو صامت. ولهذا، ينبغي على الفن أن لا يسأل:" لماذا بقي الحبر الأعظم صامتاً؟"(6) بل لماذا لم يكسر هذا العمل حاجز الصمت واقعياً، ويحرك الحساسية المتلقية إزاء ما يجسد هذا الفن من رؤى ودلالات مؤثرة.
وهنا؛ نقول: إن التخييل الجمالي عنصر جوهري في الفن، لأن الفن لا قيمة له بمعزل عن التخييل العميق، والدقة، والبراعة في الإنتاج، والخلق الفني، وقيمة العمل لا تتحقق بشكلها الأمثل من دون ركيزة فنية تتمثل في بداعة الخيال ومبتكراته التقنية؛ يقول بيرجسون:" إن أكبر الفنانين ليس بأقل قدرة على الخلق بكل ما في هذه الكلمة من قوة، فهو يضيف فعلاً إلى الطبيعة أشياء جديدة، وبفضله يأتي إلى الدنيا بشيء جديد غير منتظر. لهذا -من الواضح- أن الفنان يخلق المحتمل في نفس الوقت الذي يخلق فيه الواقع، وذلك عندما ينجز عمله الفني"(7).
وبهذا التصور، فإن الفنان المبدع هو الذي يحيي بأخيلته الأشياء؛ ويكسبها رونقاً جديداً؛ وإغراءً حيوياً باهراً، لا يجدبنا بتموضعها الفني الجمالي اللامعتاد فحسب، وإنما بانفلاتها الخيالي؛ وتجاوزها اللامتوقع لأخيلتنا؛ ومنظوراتنا الضيقة؛ وبهذا المقترب المحايث لما ذهبنا إليه، يقول ( بيرجسون):" إن الفنان هو القادر على الكشف عن نواحي الطبيعة المتحركة بكل جوانبها؛ ولا نبالغ إذا قلنا: الكشف عن كل ما يجعل من الفن خلقاً يفوق إدراكه وإدراكنا"(8). والفن- تأسيساً على هذا- مغامرة تخييل، واستغراق، وتأمل، واستبطان عميق في ماهية الأشياء وتحريكها المباشر، ولهذا؛ يعد الفن- في كثير من جوانبه-"وسيلة للإغراء"(9). حسب برجسون، لأنه يستثير فينا لذة ما، وإحساساً جذاباً، سرعان ما يتنامى؛ ليخلق في ذواتنا إحساساً جمالياً؛ لم نعتده أو نحلم به.
والفنان بناءً على هذا- صانع أخيلة، ومولّد انفعالات، وأحاسيس، ومذاهب. والفن الرئيس هو الارتقاء بهذه الأخيلة من فوضاها، وعبثها في المخيلة إلى أخيلة وهاجة؛ منظمة جمالياً في قوالب فنية تثير الدهشة، والاستغراق من جهة؛ وتخلق الإثارة بحقيقتها الملموسة أو المجسدة؛ من جهة ثانية؛ وبهذا كان(فلوبير) محقاً في قوله:" افقأ عينك وأنتظر طويلاً."(10) لا شك في أن النظر، والتأمل الطويل لا ينتج فناً، ولا يولد أخيلة، وإنما ما يستثير الرؤيا، ويستحث المخيلة عمق الإحساس، وشدة ضغط الحالة وهيجانها، لحظة تأمل مشهد، أو التركيز البصري على منظر طبيعي يتأمله بعين إحساسه وخياله؛ فالعين ليست وسيلة الفن؛ وإنما الإحساس هو أداة الفن، وهو وسيلته في تجسيد هذه المتخيلات في قوالب جمالية، ورؤى جمالية محفزة ومنشطة للمتخيل الجمالي/ والمتلقي الجمالي في آن، وبهذا المنزع الفني يقول برتليمي:" النظرة ذاتها ليست عملاً فنياً، لكن لا بد من أن تكون النظرة نقطة البدء ، وإلا فلم يبق الفنان طويلاً أمام نموذجه ليدرسه"(11).
فالتأمل الجمالي – من منظور برتليمي- يخلق الفن، وليس النظرة الأولية السطحية المباشرة؛ لأن النظرة الأولية ما هي إلا خطوة بدئية في عالم الفن، وما الفن إلا سلسلة خطوات متعاقبة ومتضافرة في آن؛ لخلق المنتج الفني المثير أو الممتع جمالياً؛ وتبعاً لهذا، فإن الفن- من منظورنا- ليس رؤية بقدر ما هو رؤيا الرؤيا؛ وليس حدساً ، بقدر ما هو إحساس، وتبئير جمالي لهذا الإحساس ، وكم من النظرات التأملية ما بقيت إلا أسراراً، وكم من الفنانين قد فشلوا في تحويل هذه النظرات والتأملات إلى أعمال فنية مؤثرة؛ أو ممتعة؛ فالفنان ليس بما يرى، وإنما بما يحس، ويرسم بأحاسيسه منتجه الفني الخلاق أو المبدع؛ ودليلنا أن الكثير من الفنانين قد أنتجوا أشدَّ الأعمال لذة وجمالية، وصوروا أشياء لم تراها أعينهم مطلقاً، ووصلوا فيها إلى قمة الفن، وذروة الإثارة الفنية؛ وهذا يعني أن غنى الفنان بغنى مخيلته، وليس يغني مشاهده ورؤاه البصرية المباشرة؛ وهذا، بالتأكيد، يدل دلالة قاطعة لا سبيل إلى الشك فيها: أن الإغناء الفني ليس بما يراه الفنان، وإنما بما يحسه، ويعيه، ويطوره إلى منتج جمالي ممتع أو وهاج.
وإن من يطلع على تجربة الشاعر الفلسطيني تميم برغوثي يدرك أن المتخيلات الجمالية تنفتح على رؤى ودلالات محرضة للشعرية؛ فالمتخيلات الجمالية لديه ذات خصوبة في إكساب المتخيل الشعري حراك الواقع وصخب الحياة؛ ولعل قصيدته الموسومة بـ(في القدس) تعبر بدقة عن حيوية المشاهد والصور المتخيلة الضاجة بالحياة؛ باعتماد تقنية التراكم التي تغذي تيار الرؤيا وحراك المشاهد الصاخبة؛ كما في قوله:
"في القدسِ شرطيٌّ من الأحباشِ يغلقُ شارعاً
في السوقِ رشاشٌ على مستوطنٍ لم يبلغ العشرينَ،
قُبَّعةٌ تحيي حائطَ المبكى
وسُيَّاحٌ من الإفرنج شُقْرٌ لايرون القدس إطلاقاً
تراهم يأخذون لبعضهم صوراً
مع امرأةٍ تبيعُ الفجلَ في الساحاتِ طوالَ اليوم
في القدسِ أسوارٌ من الريحان
في القدسِ متراسٌ من الإسمنت"(12).
هنا؛ يعتمد الشاعر تراكم المشاهد والصور في وصف مدينته القدس؛ فيحاول التقاط الصور المتراكمة التي تعج بالحياة في زمنها القديم وواقعها المعاصر؛ فيرسم شبكة من العلاقات والرؤى الدالة على مواقف عدة؛وكل صورة تتضمن مشهداً من مشاهد الحياة؛ أو صورة صاخبة من الصور؛ الدالة على خصوبة الحياة وازدهارها في مدينته (القدس) التي تمثل قمة في الهيجان والفوران الوجودي؛ ولهذا راكم المعطوفات بتتابع الصور والمشاهد الشعرية؛ كما في قوله: [في القدس شرطي- في السوق رشاش -قبعةٌ- في القدس أسوارٌ- في القدس متراسٌ]؛ وهذا يدلنا على أن شعرية الصور تبدو في حراكها المشهدي؛ لتحقق أعلى درجات التفعيل الجمالي للصوروالمشاهد المتعلقة بالقدس، بكل ما فيها من صور مرئية، أو مشهدية تزدهي بها في زمنها القديم والحديث.وهذا يعني أن المتخيلات الجمالية في قصائد تميم برغوثي هي نتاج حساسية جمالية؛ وإحساس جمالي في تشكيل الرؤيا الشعرية الخلاقة التي تتفتق برؤى خيالية عميقة، ودلالات جديدة.
والملاحظ أن المتخيلات الجمالية في قصائد تميم البرغوثي تعتمد على إثارة المشاهد والصور بإيقاع سردي قصصي شائق ينزع فيه إلى إبراز إيقاع السرد، بتلوين الدلالات؛ واعتصار إيقاعها الجمالي الخلاق،عبر الرشاقة والخفة والانسيابية الآسرة في الانتقال من نسق صوري إلى نسق سردي؛وتنوع الضمائر من ضمير المتكلم إلى ضمير الخطاب،ومن ثم إلى ضمير الغائب؛ وإن هذا الالتفات والانوع في حركة الضمائر دليل كثافة الرؤى، وهيجان الحالة وفوران الرؤى والمشاهد في مخيلة الشاعر؛والتعبير عنها بعمق؛ وفاعلية رؤيوية مفتوحة؛ ففي قصيدته (أنا لي سماءٌ كالسماء) يحاول الشاعر أن يعتمد على السرد الوصفي الشائق؛ بمراكمة الصور والمشاهد المتتابعة التي تحرك النسق الشعري بإيقاع جمالي جذاب؛ كما في قوله:
"أنا لي سماءٌ كالسماءِ صغيرةٌ زرقاءُ
أحملُها على رأسي
وأسعى في بلادِ الله من حيِّ لحيِّ
هذي سمائي في يدي
فيها الذي تدرون من صفةِ السماءْ
فيها علوٌ وانكفاءْ
وتوافق الضدين من نار وماءْ
فيها نجومٌ شارداتٌ كالظباءْ
فيها الرياحُ كما هو المعتادُ وعدٌ أو وعيدْ
تاريخها متكررٌ كالصبحِ فيها والمساءْ
فيها الطيورُ تطيرُ دوماً للوراءْ"(13).
لابد من الإشارة بداية إلى أن الحنكة الجمالية التي يعتمدها الشاعر في إبراز المشاهد والصور المتحركة؛ بالانتقال بين الضمائر من ضمير المخاطب إلى الغيبية، ومن الغيبية إلى المخاطب، يثير المشاهد،ويحرك السرد،ليجري رشيقاً متنوعاً يشي بهالة من الكثافة الشعورية والرؤى المتداخلة؛ وكأن الشاعر بهذا التنوع بين السرد والوصف، والصور المتحركة؛ يعبر عن كثافة المتخيلات الشعرية في وقعها وإحساسها الجمالي؛ على شاكلة قوله: [هذي سمائي في يدي/ فيها الذي تدرون من صفةِ السماءْ /فيها علوٌ وانكفاءْ/ وتوافق الضدين من نار وماءْ/ فيها نجومٌ شارداتٌ كالظباءْ]؛ واللافت أن الشاعر يعتمد حراك الرؤى المواربة والصور المعكوسة لرصد الواقع المعكوس في زماننا؛ وكأن الصور بانتقالها وتنامي حركتها بين السرد والوصف ،والحوار يباغت القارئ؛ ويثير الحساسية الجمالية؛على شاكلة الصور التالية: [فيها الرياحُ كما هو المعتادُ وعدٌ أو وعيدْ/ تاريخها متكررٌ كالصبحِ فيها والمساءْ/ فيها الطيورُ تطيرُ دوماً للوراءْ]؛ إن كل صورة من هذه الصور تشي بحالة من الإحساس بالتناقض والصراع والوجاعة الداخلية عن ترهلات الواقع وانكساره؛ وهكذا يؤسس الشاعر تميم برغوثي متخيلاته الشعرية على رؤى تعروية كاشفة عن إحساسه المتصدع ورؤاه المواربة إزاء الواقع المعاصروتناقضاته الكثيرة وتأزماته المحجمومة بالتناقض والمفارقات والاحتدامات الكثيرة. والملاحظ أن المتخيلات الشعرية – في قصائد تميم برغوثي- تعتمد إيقاع تراكم الرؤى والمشاهد الكثيرة ؛إيذاناً بالحركة الجمالية التي تثيرها تلكم القصائد في تفعيل الموقف والرؤيا الشعرية الخلاقة؛ وهذا يعني أن الحنكة الجمالية التي تقف عليها قصائد البرغوثي تتأسس على تتابع المشاهد،بحراك جمالي وإحساس شاعري عميق؛كما في قوله:
" لاشيءَ جذرياً
ستسقطً المدنً العالياتُ
ويخفتُ المصوِّرُ الأبديُّ الضوءَ عن مبانيها الشاهقهْ
ويضيءُ الفئرانَ وأكياسَ القمامةِ السوداءْ
فتلمعُ وكأنها قبةُ البرلمانْ
لاشيءَ جذرياً
ستنمو الشقوقُ التي في أصولِ الجدرانِ كاللبلابِ
كبرقٍ مضاءْ، يسري من الأرض إلى السماءْ.
لاشيء جذرياً
أشجارُ الخريفْ التي عريت من أوراقها
تشبك أغصانها كأيادٍ في مظاهرةٍ كبرى
والطيورُ تقرِّرُ بعد نقاشٍ طويلٍ ألا تهجرها"(14).
لابد من الإشارة إلى أن الشعرية – في قصائد تميم البرغوثي- تعتمد تراكم المشاهد، والصور، واللقطات؛ إيذاناً بكثافة الرؤى الشعرية المحركة للمشاهد؛ وقد اعتمد الشاعر التكرار اللزومي (لاشيء جذرياً) باعثاً جمالياً لحركة الأنساق الشعرية؛ لتدل على رؤيته المتغيرة في الحياة؛ فجاءت اللازمة المكررة ،لتكون بمنزلة الناقوس الوجودي الذي يؤذن بالتغير والاختلاف؛ فلاشي ثابت في الحياة في ظل معمعة الوجود المتغيرة، وصراعاته المستمرة؛ وقد عبر الشاعر عن هذا التحول بعد كل لازمة تكررية؛ إذ يبث رؤاه المتراكمة (ستسقط المدن العاليات/ ستنمو الشقوق التي في أصول الجدران كاللبلاب/ أشجارُ الخريفْ التي عريت من أوراقها/ تشبك أغصانها كأيادٍ في مظاهرةٍ كبرى/ والطيورُ تقرِّرُ بعد نقاشٍ طويلٍ ألا تهجرها"؛وهكذا؛ يتبدى لنا أن التراكم في المشاهد والصور من متغيرات الرؤيا الشعرية في قصائد تميم برغوثي؛ مما يدل على حنكة جمالية؛ في ترسيم اللقطات الشعرية، لترصد أدق التفاصيل؛ وكأن الشاعر يعنى برصد جزئيات الوجود بكل نمنماتها الصغيرة؛ ليؤكد عدسته الرؤيوية البسيطة في التقاط المشاهد وتحريكها جمالياً؛ على شاكلة قوله:
"أنا لي سماءٌ كالسماءْ صغيرةٌ زرقاءْ
أحملها على رأسي
كما رفعَ من أرادَ بها اتقاءَ الشمسِ
أو مثلَ التماثيل بمعابدِ اليونانِ
تحملها على مضضٍ كعمالِ البناء
أومثلما رفعَ المؤذنُ بالأذانِ
حمولَ تاريخٍ طويلٍ
حين أوقفه على حدِّ البكاءِ
أو الغناءْ
أومثلما حملَ المواجعَ
كلما نادى المنادي أهله حرفُ النداءْ"(15).
إن القارئ سرعان ما يدرك التراكم في الرؤى، والدلالات، والصور إيذاناً بحالة من الولع في تركيب الصور وتكثيف الدلالات؛ ارتداداً نفسياً شعورياً عما يختزنه في واقعه؛ من مؤثرات؛ مرجعها رغبة الشاعر في رصد التفاصيل الصغيرة التي جاءت لتبين سرعة بديهة الشاعر وعدسته اللقطة لكل جزئيات الواقع بنمنماتها الصغيرة، وهذا ما أثبته الشاعر بقوله:
يا أمتي، ياظبيةَ،في الغارِ قومي وانظري
الصبحُ تلميذٌ لأشعارِ العربْ
يا أمتي؛ أنا لستُ أعمى عن كسورٍ في الغزالةِ؛
إنها عرجاءُ، أدري
إنها عشواءُ، أدري
إن فيها كل أوجاعِ الزمانِ؛وإنها
مطرودةٌ مجلودةٌ من كلِّ مملوكٍ ومالك
أدري
ولكن لا أرى في كلِّ هذا أيَّ عذرٍ لاعتزالكْ
يا أمنا لاتفزعي من سطوةِ السلطانِ،
أيَّةُ سطوةٍ؟
ما شئتِ ولِّي، واعزلي
لايوجدُ السلطانُ إلا في خيالكْ" (16)
إن القارئ يلحظ في هذا المقتطف الشعري براعة الشاعر في تكثيف الرؤى الرافضة للتخاذل والجبن العربي،والاستسلام لسلطة السلطان الجائر؛ مؤكداً أننا تجرعنا الخوف من داخلنا فلم نملك له خلاصاً؛ وكأن الشاعر يرمي بثقله كله في سبيل إبراز الضعف والانهزام الشعوري الذي تعيشه النفوس العربية من رضوح واستسلام لما يشرعه الحكام والسلاطين على شعوبهم المستضعفة من أحكام وقوانين؛ ما يجعلهم رهين قوقعة الخوف والجبن وعدم القدرة على المواجهة،حتى مواجهة أنفسهم ؛وهذا ما يدلل عليه في قوله: [أيَّةُ سطوةٍ؟ ما شئتِ ولِّي، واعزلي/ لايوجدُ السلطانُ إلا في خيالكْ"؛ وهكذا، يؤسس الشاعر تميم البرغوثي إيقاع قصائده على المشاهد المتحركة المتراكمة التي تبث رفضه واحتجاجه وتقريعه للواقع العربي المتخاذل الذي تعيشه شعوبنا العربية المستضعفة مقارنة بحكم السلطان الجائر؛ وتعسف أحكامه وقوانينه الصارمة عليهم؛ ليكون التراكم قيمة جمالية لاغنى عنها في تكثيف الرؤى الاحتجاجية الصارخة التي تبثها القصيدة في إيقاعها النهائي.
ثانياً- أشكال المتخيلات الجمالية في بنية القصيدة عند تميم البرغوثي:
لابد من الإشارة بداية إلى أن الفن مقامرة تخييلية إبداعية، أو لنقل: مقامرة فنية بالمتخيل الجمالي لتخليق الفن الجمالي، وخلق استثارته الجمالية، وتبعاً لهذا، تتعدد أشكال المتخيلات الجمالية في المنتجات الإبداعية؛ تبعاً لفاعلية كل منتج على حدة، ومستوى طاقته التخييلية العالية، ومنظوره الرؤيوي المتطور؛ فالفن الجمالي- بتقديرنا- هو الفن الذي لا يقف على طريقة، أو منظور، أو منهج أسلوبي معين؛ وإنما هو الفن الذي يبتكر دوماً في أدواته، وطرائقه، وينمي قيمة الجمالية باستمرار، وهذه القيم ليست وليدة لحظة الحدث المرئي البصري المباشر، وإنما وليدة الحراك التخييلي التأملي العميق؛ أي وليدة المحفز الفني الذي يؤدي إلى الخلق، وتحقيق الاستثارة، والابتكار؛ وبما أن الفن لا يرتقي إلا بما هو مثير حقاً فضاءً تخييلياً مراوغاً، وأنساً تأليفياً عجيباً بين أجزاء المنتج الفني، فإن ما يحقق للمنتج خلوده قدرته على التغاير التام، وفقاً لقدرة كل مؤول على ترجمة هذا المخزون الجمالي، وحنكته في إبراز جماليته بشكل غير مسبوق. ونظراً إلى تنوع المتخيلات الجمالية في المنتجات الفنية الإبداعية الراقية، فإن أشكال المتخيلات قد تنوعت واختلفت وسمت تبعا،ً لمؤثرات كل منتج فني على حدة، وما يختزنه من طاقات إبداعية جمالية خلاقة، ولهذا سندرس الخصائص الجمالية لكل شكل فني جمالي متخيل ، تبعاً لما يثيره في المتلقي ، وما يحدثه من أثر جمالي بالغ الغنى والتأثير، في قصائد تميم برغوثي؛ وهي كما يلي:
1. المتخيل الجمالي الواقعي:
لابد من التأكيد بداية: إن الفن إيقاع ممتع على المستوى الحسي الواقعي ، وتبعاً لهذا، فإن فنية المتخيل الواقعي تكمن في الفن المخاتل الذي يمتعنا بقدر ما يقترب من الواقع من جهة؛ وبقدر ما ينأى عنه من جهة ثانية؛ فإن اقترب منه، وحايثه أثارنا، وإن ابتعد عنه ونأى إلى المتخيل الفانتازي أثارنا؛ وتأسيساً على هذا نقول: لا يمتعنا الفن إلا حين يلامس الواقع مساً شاعرياً طفيفاً؛ ثم يرتقي به جمالياً؛ فالواقعية الفنية لا تعني –إطلاقاً- أن ننقل الواقع بحذافيره، وحيثياته الصغيرة، نقلاً أميناً دقيقاً (مباشراً) كالمصور الفوتوغرافي الذي يلتقط المشهد والصورة بجزئياتها الحسية المشاهدة بصرياً؛ وإنما من واجب الفنان أن يلتقط ما يثيره، وينأى به بعيداً عن حيز السذاجة، والسطحية المباشرة؛ وبهذا المقترب الرؤيوي المراوغ يقول الشاعر أدونيس في مفهومه للواقعية في الشعر، إذ يقول: "لا يكون الشعر واقعياً حين يلتقط الواقع كما هو، كذلك لا يكون واقعياً بمجرد التقاطه للواقع في حركته، الشعر جزء لا يتجزء من الواقع، لكنه لا يحيا به، بل بالصورة التي يكونها عنه. الشاعر يصهر الواقع في حساسيته، ورؤياه يحوله إلى إيقاع. يعيد كل شيء فيه إلى فرادته الخاصة، فيما يصل كل شيء لكل شيء .. الشاعر إذاً، لا يتصل بالواقع كمادة أو كتلة بل بصورة يكونها عنه، ومن هذه الزاوية يصح القول حتى الشعر( غير الواقعي) يستمد مادته أو بعضها من الواقع"(17).
وبهذا التصور الأدونيسي- للشعر الواقعي نقول لأستاذنا الكبير أدونيس: "متى كان الفن خارج الواقع أو حيادياً؟! أو متى كان الخيال واقعياً أو مجرداً في لعبة الفن؟! هذه اللعبة التي تقتضي تنويعاً وتداخلاً لا يكاد يبين بين [الواقعي/ والمجرد]، و[ المرئي/ واللامرئي] ، و[السطحي / والجوهري]؛ ففي لعبة الفن يندمج الواقعي/ بالخيالي، ويختلط الحسي/ بالمعنوي، والمرئي/ باللامرئي، والسطحي/ بالجوهري؛ والفن –إطلاقاً- لا يقتصر في لعبته الفنية على ما هو واقعي، أو على ما هو مجرد؛ إن الفن قدرة تخييلية عالية، وطاقة حيوية متغيرة دوماً، ومتداخلة – شئنا أم أبينا- وهذا التداخل هو الذي يمنح الفن خصوصيته الجمالية، أو لنقل الإبداعية، وذلك، حين يرتقي ما هو حسي فوق ما هو مجرد، ويرتقي ما هو مجرد فوق ما هو حسي في تداخل فني؛ تبعاً للمنظور الفني والأسلوب التعبيري المثير للمنتج الفني جمالياً. وما ينبغي الإشارة إليه: أن متعة الفن تكمن في الطاقة التخييلية العالية التي يتضمنها، وتبعاً لهذا، فإن المتخيلات الجمالية لتكون مؤثرة في مجرى الفنون جميعها ينبغي أن تكون أكثر واقعية،وأكثر قرباً من الحقيقة الملموسة أو المرئية ؛ يقول فال كوخ:" إن رغبتي الكبرى هي أن أصنع هذه الأخطاء، وتلك التعديلات والتغيرات في الطبيعة؛ بحيث تخرج من أكاذيب ، لكنها أكاذيب أكثر حقيقية من الحقيقة المضبوطة"(18).
وبهذا التصور، فإن الفن هو أكذوبة تخييلية، وليس أثراً، أو وقعاً من الأحداث الواقعية. فالفن ليس من الضروري ليكون واقعياً أن يشاكل الواقع، أو يحايثه، وإنما أن يصور أحداثاً ورؤى تخييلية أشد أثراً ووقعاً شعورياً من أكثر الأحداث واقعية، وحقيقة ملموسة، وبهذا المقترب المحايث لمنظوراتنا في التخييل الواقعي الجمالي، أو الإبداعي يقول( كلوديل):" إن الإبداع تحت الشهيق الساحري ما هو إلا مجرد تصوير يُنقَل مُحَرَّفاً"(19). فالفنان ليس من واجبه – بتقديرنا- أن يرصد متغيرات الواقع، وأحداثه، ورؤاه، ومؤثراته الوجودية في متخيلاته الجمالية؛ وإنما من واجبه أن يخلق اللذة في متخيلاته الجمالية، بالشكل المحايث للواقع، أو بالشكل المجرد عنه، تبعاً لمنظوراته الفنية، وقدرته على المناورة في هذه المتخيلات، مما يحقق لمنتجه الجمالي دهشته، وحنكته الإبداعية، يقول الشاعر نذير العظمة:" إن التجربة الشعرية لا تحيا إلا بتواصلها مع الآخر. والتجربة الشعرية لا تنفتح في أفقها الجمالي أو حيزها التخييلي إلا من لغة تعبر عن هذا الوجود، متميزة، ملتهبة تطلع من جوهر الوجدان، والقلب في تفاعلها مع الأقطاب المتناقضة من حياة، ولغة، ومعاناة، تصلهما معاً في خليقة واحدة"(20).
وبهذا التصور؛ فالمبدع الماهر هو القادر على امتطاء صهوة الخيال، بأثواب الحياة؛ باعثاً الحيوية في متخيلاته الجمالية؛ محققاً الإمتاع في إنتاجها وتلقيها في الآن ذاته؛ كما لو أن هذه المتخيلات جزء لا يتجزأ من الواقع في صيرورته الوجودية الدائبة صوب المغايرة والاختلاف. ولهذا، رأى الكثير من الشعراء أن جمال الفن الشعري يتوقف على جمال الصورة بفضاء أفقها التخييلي المفتوح (الواسع) الذي يحايث الواقع، ويرسم صيرورته الوجودية بجمالية آسرة؛ وبقدر ما يحلق الشاعر في متخيلاته الشعرية في بنية الصورة، يستثير المتلقي بمنتوجه الشعري، محققاً جاذبية الصور، وتأثيرها الفني في القصيدة ، يقول الشاعر صالح هواري في القيمة الجمالية للصورة الشعرية التي تنبني عليها قصائده ما يلي: "أحرص دائماً على التعبير عن المعنى عن طريق التصوير، ذلك أن الصورة الشعرية تفتح مدى واسعاً للخيال كي يتحرك، ويبتكر المعنى، وانسيابية الصور عندي نابعة من خيالي الذي أدعي أنه متوثب؛ وقادر على الابتكار والتحليق بأحنحة المجاز، وبث الحياة والحركة في أوصال الجمادات، وتحقيق الاستعارات المكنية التي تعطي الصورة خفقانها الدائب، حتى إذا وقعت في القلب هزته من أركانه"(21).
وبهذا التصور نقول: إن المتخيل الجمالي الواقعي- في الفن- هو إنتاج تخييلي في واقع فني، مشاكل للواقع المباشر من جهة، ومجرد عنه إلى واقع شعري من جهة ثانية، وبهذا الاختلاف، نظر علماء الجمال إلى جدلية الزمان والمكان التي سنتحدث عنها فنياً في فقرة قادمة، لكن ما نود قوله: إن منبع إجادة كل فن من الفنون يتوقف- بالدرجة الأولى – على الفضاء الجمالي للمتخيل الفني، وبقدر ما يرتقي الفنان في فضاء هذا المتخيل فإنه يستثير الحساسية الجمالية، ويزيد من درجة التلقي الجمالي للمنتج قيمة ولذة وانتشاءً جمالياً مؤثراً.
وتعتمد قصائد تميم البرغوثي في إثارتها وحنكتها الجمالية على متخيلها الجمالي الواقعي الذي تؤسسه على صرعات الواقع بأحداثه، وتقلباته، واصطراعاته المحتدمة؛ وهذا يعني أن فضاء متخيلها الجمالي واقعي في استقطار الأحداث، والمواقف المحتدمة في عالمه الوجودي؛ فالشاعر تميم من الشعراء الذين نهجوا الأسلوب المقاوم في لغته الشعرية، فأصبحت الكلمة الشعرية –لديه- رسالة يبث فيها اصطراعات الواقع وقلقه وتأزماته الكثيرة؛ ففي قصيدته الموسومة بـ(ياهيبة العرش الخلي من الملوك) يطالعنا الشاعر بنيرته الاحتجاجية الصارخة؛ وأسلوبه الواقعي في تعرية الواقع بكل مافيه من تشتت وضياع وتناحر وضغينة؛ قائلاً في هذا المقتطف الشعري:
"يا أيها الملكُ الذي قد مجَّدوك، ليعزلوك، ويقتلوك
أنتَ الجميلُ ولست محتاجاً إلى صلواتهم ليجمعوك
يا أيها الأمل الحقيقي الذي
تركوك مصلوباً بقارعةِ الطريقِ
ومرَّ عنك الناسُ لم يتأملوك
يا ايها الطفلُ الذي من بيتِ لحمٍ
لاتظن بأنهم يبغون عودتك الجليلة هاهنا
والله لو علموا بأنك قادمٌ حقاً
لخاضوا ألف حربِ مرة
ليؤجلوك"(22).
هنا؛ يؤسس الشاعر الحركة الجمالية على فضاء المتخيَّل الشعري الواقعي، بإبراز الحركة الواقعية في شكل الصور؛ ومداليلها المباشرة؛ وهذا يعني اعتماد الشاعر تميم على قرب الصور من حيز المحسوس والمرئي؛ من خلال إبراز ملمح السرد الوصفي بدقة متناهية، وقرب من الحدث الواقعي المجسد؛على شاكلة قوله: [يا أيها الأمل الحقيقي الذي تركوك مصلوباً بقارعةِ الطريقِ/ ومرَّ عنك الناسُ لم يتأملوك/ يا ايها الطفلُ الذي من بيتِ لحمٍ/ لاتظن بأنهم يبغون عودتك الجليلة هاهنا]؛ إن القارئ- هاهنا- يلحظ رتابة السرد؛ وكأنه حديث مباشر؛ لكن ماعمق قرب الصور من حيزها الواقعي هذا الخطاب التصويري في تجسيد الصور من حيز الواقع؛ شكلاً لغوياً، وصوراً تشكيلية؛ وللتدليل على ذلك أكثر نورد قوله:
"في القدسِ يرتاحُ التناقضُ،
والعجائبُ ليس ينكرها العبادُ،
كأنها قطعُ القماشِ يقلبون قديمها وجديدها،
والمعجزاتُ هناك تُلمسُ باليدينْ
في القدسِ لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً
لوجدتَ منقوشاً على كفيكَ نصَّ قصيدةٍ
يابن الكرامِ أو اثنتين"(23).
إن القارئ يدرك قدرة الشاعر على تجسيد الصور والمشاهد الواقعية المتراكمة الضاجة؛ بصخب الحياة إزاء مدينة القدس؛ فهي رمز الوجود، والحضارة، والحياة، وصخبها في هذا العالم الوجودي؛وقد عمد الشاعر بفاعلية الرؤيا الشعرية إلى خلق الصور المتتابعة؛ بإحساس واقعي يقرِّب الصور إلى حيز الواقعي، لا المتخيل؛ وإلى حيز المرئي المحسوس لا المجرد؛ ناهيك عن إحساس الشاعر الجمالي بالصور التي تقترب من المحسوس لدرجة تبدو وكأنها تصوير فوتوغرافي للمشاهد الواقعية التي هي عليها مدينة القدس؛مثالنا هذه الصور: [في القدسِ لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً/ لوجدتَ منقوشاً على كفيكَ نصَّ قصيدةٍ/ يابن الكرامِ أو اثنتين"؛ فالشاعر هنا يلامس أحاسيس القارئ عندما يقترب من الصور بملامسة شفيفة لحيز الواقع؛ وكأن يرسم معالم القدس لتكون أشبه بالقصيدة التي تلامس شغاف القلب وعمق الأحاسيس. ومن االمتخيلات الواقعية التي تقرِّب الصور من حيز الواقع ما يدعمها بإيقاع السرد القصصي الشائق،وتراكم الصور الواقعية التوصيفية المحسوسة التي ترسم الموقف أو المشهد المجسد،وكأنه ظاهر عياناً في شكله وملمحه الفني؛ كما في قول الشاعر:
" الخيلُ تركضُ في الشوارعِ
أوقفَ الشرطيُّ سيلَ المركباتِ؛ وفرَّ منها هارباً
خيلٌ رمتْ أوزارها في الريحِ
ثم تراكبتْ موجاتها بيضاً ذراها
الخيلُ تركضُ في الشوارعِ لاترى إلا هواها
ركضاً إلى الموتِ الحصينِ تحاصرهْ"(24)..
لابد من الإشارة بداية إلى أن المتخيلات الواقعية في قصائد تميم البرغوثي تقرِّب الصور إلى الإدراك والإحاطة بالمشهد الشعري بتفاصيله الجزئية، وحيثياته الصغيرة؛ مما يدل على حنكة تشكيلية في تجسيد الواقع، والإحساس به شعوراً بصرياً، وإحساساً جمالياً؛ أي أن السرد الوصفي الذي يعتمده الشاعر يملك المهارة والخبرة في الارتقاء بالصورة من حيز جمالي إلى آخر؛ وهذا ما يحقق للصور قربها من الواقع رغم الصور المتشعبة أحياناً بتفاصيلها الكثيرة التي تراوغ القارئ، وتحاصره بحيز واقعي تفصيلي لاتكاد عدسة المتلقي الانفصال عنه، كما في قوله: [الخيلُ تركضُ في الشوارعِ/ أوقفَ الشرطيُّ سيلَ المركباتِ؛ وفرَّ منها هارباً/ خيلٌ رمتْ أوزارها في الريحِ/ ثم تراكبتْ موجاتها بيضاً ذراها]؛ واللافت أن الشاعر يُعَمِّق فاعلية الصور الواقعية لتقترب من مخيلة القارئ؛ وإدراك الحسي البصري؛ مما يدل على عمق المخيلة الجمالية التي يملكها البرغوثي في تخليق عالمه الشعري؛ وإثبات حيوية المشهد بإيقاعه المحسوس وصوره التي تقترب من عدسة الواقع بكل تفاصيله وحيازته لهذا العالم. ولعل ما يجسد القيمة الجمالية لهذا الشكل من المتخيلات الجمالية التي تحتفي بها قصائد البرغوثي قوة الرؤيا؛ وعمق التجسيد الحركي للصور المجسدة،على شاكلة قوله:
" الخيلُ تركضُ في الشوارعِ حرةً
أطللتُ من شباكِ داري ناظراً للشارعِ الملآنِ من أعلى
ومقابلي في الضفةِ الأخرى
وقفَ العدو مراقباً
لهباً توحش في البيوت"( 25)
هنا؛ يبدو المشهد واقعياً؛ من خلال الرسم التفصيلي للصور الشعرية، وكأن الشاعر يرسم الأحداث؛ بخطى وئيدة؛ وعدسة مونتاجية، ترسم المشاهد والرؤى عن قرب؛ عبر تقنية السرد التي تلون الدلالات؛ وترسم منعرجات الرؤيا الشعرية الخلاقة؛ وهذا يعني أن شعرية المشاهد تبدو في حراك الدلالات؛ وقربها من الحيز الواقعي؛ مما يدل على هندسة جمالية في رسم المشهد وكأنه واقعي بتفاصيله السردية، كما في قوله: [أطللتُ من شباكِ داري ناظراً للشارعِ الملآنِ من أعلى/ ومقابلي في الضفةِ الأخرى/ وقفَ العدو مراقباً]؛ فهنا؛ يرسم الشاعر الصور بمتخيل واقع أو ريشة واقعية تنقل المشاهد والصور بعين لاقطة، تبدو وكأنها؛ صور من صور الواقع العياني المباشر. كما في الدليل المرجعي التالي: [أطللتُ من شباكِ داري ناظراً للشارعِ الملآنِ من أعلى]؛ وهذا الأسلوب في تجسيد الصور الواقعية يرتقي بالحدث الشعري؛ ومقومه الجمالي البليغ. وصفوة القول: إن المتخيل الجمالي الواقعي من الأسس الجمالية الخلاقة التي تنبني عليها قصائد تميم البرغوثي في تحقيق إثارتها؛ فالمتخيل الواقعي لم يكن ساذجاً بسيطاً؛ وإنما كان حيوياً خلاقاً يشي بدلالات جديدة لايسعها السرد التفصيلي؛ وإنما تطمح لتحقيق عنصر الجاذبية والجمال في النسق الشعري المتموضعة فيه؛ من خلال قرب المتخيل الواقعي من المشهد التفصيلي العياني المباشر الذي يرقى بالحدث والمشهد الشعري ليحاكي معاناة الشاعر وقلقه الوجودي.
2. المتخيل الجمالي الأسطوري:
ما من شك في أن المتخيل الجمالي الأسطوري- في الفن عامة، والأدب خاصة- مؤثر جمالي مهم؛ يستثير الحدث أو المشهد الفني بالزمن الأسطوري الممتد؛ ويعد المتخيل الجمالي الأسطوري من أبرز محفزات المنتجات الأدبية الراقية في تعميق رؤاها، واستثارتها جمالياً، فالفن الممتع جمالياً ليس المثير للجمالية فحسب، وإنما المثير للرؤية، والمغنطة الشعورية، بالحدث الارتدادي المفاجئ لهذا الزمن بزمن انبعاثي تولده الأساطير، وتتلاعب بزمنه الإبداعي، فيصير زمنها زمناً مفتوحاً بالحدث التتابعي والواقع اللامتناهي، وتبعاً لهذا، فإن المتخيل الجمالي الأسطوري- في الفن عامة- هو ما يمنح المنتج الفني خصوصيته بالغة الغنى والتأثير؛ لاسيما في المنتج الفني الأدبي الرفيع؛ فالفن- عامة- يغتني بالأساطير، والأسطورة تغتني به، تبعاً لفاعلية الحدث في الزمن الأسطوري الإيحائي، وخصوية المتخيل الأسطوري في التعبير والتفعيل الفني، يقول قصي حسين:" يعد ارتباط الزمن الشعري بالزمن الأسطوري، ارتباطاً حميماً ينبثق منه زمن المبدع الأصيل، إنه انبثاق يدعو إلى زعزعة الأشكال وتحولها، وكشف الأبعاد المطموسة في برهة الإبداع الحقيقي، بحيث يسيطر هاجس التعبير"(26).
وبهذا التصور، يبدو المتخيل الأسطوري الجمالي عنصراً فاعلاً في تفعيل الزمن الشعري، بوصفه عنصراً منفتحاً زمنياً، فالمتخيل الجمالي الأسطوري ليس حدثاً أسطورياً، أو زمناً منفتحاً في فضاء المتخيل الشعري فحسب، وإنما هو متخيل إبداعي في حدث أسطوري خارق، أو مفتوح على أمداء ترميزية وإيحائية واسعة، ولهذا؛ فرق النقاد بين المتخيل الجمالي الأسطوري؛ والمتخيل الجمالي اللاأسطوري، فرأوا:" أن الأسطورة جسد يسكن الماضي، وهو جسد قائم بذاته، يمتلك وجوداً خاصاً، مغلقاً على ذاته، أما الزمن الأسطوري فهو موجود في الأسطورة، ومفارق لها من جهة ثانية"(27). وهذه المفارقة للأسطورة أو زمن تخييلها الأسطوري هو ما يمنح الحدث الأسطوري المتخيل فضاءه الإبداعي، لأن المتخيل الأسطوري في المنتج الفني الأدبي الرفيع يرتقي باللمسات التخييلية المقامة على واقع الأسطورة بوصفه:"بعداً من أبعاد الوجود متداخل على نحو عضوي لمسيرة الإنسان طيلة رحلة عذاباته وصراعاته على الأرض. إنه يتولد نتيجة فعل وقوع للخيال على لحظة تقاطع الواقع، مع اللاواقع، وتلاقي العادي مع الخارق، وتداخلهماعلى نحو تضيع الحدود الفاصلة بين هذين البعدين"(28). وفي ضوء هذا التصور، يمكن القول: إن المتخيل الجمالي الأسطوري لا يعني تجميل الحدث الأسطوري؛ أو التلاعب بالأخيلة الأسطورية وفق منطق الفن، أو التلاعب الفني بالحدث؛ وفق مقتضيات فنية، وإنما هو خلق أخيلة تلائم الفكر الإبداعي للفنان في متخيلاته الجمالية من جهة، وتلائم الإدراك وعملية الاستقبال لدى المتلقي من جهة ثانية . وهذا يعني أن الوحي الفني للمتخيلات الأسطورية في المنتج الفني يبقى قاصراً على التلقي الفني الفعال في حال وجود شرخ بين الحدث الأسطوري المعقد، أو اللامخصوص فنياً؛ ودرجة الاستقبال أو الترجمة لماهية الأسطورة، وأحداثها، وفاعليتها الفنية من قبل المتلقي؛ فالفنان الحق هو الذي يلائم في منتجه الفني بين متخيلاته الأسطورية ومتحققاتها التأثيرية، لتحقيق تلقيها الفعال، وترجمتها فنياً، لأن الحدث الأسطوري بمتخيله الجمالي يبقى غريباً عن التلقي في حال وجود هوة بين جمالية المتخيل ودرجته الإيحائية من جهة ، وجمالية الإدراك والخلخلة في تلقي المنتج الفني بوسيطه الأسطوري من جهة ثانية، لأن النشوة في تلقي الحدث الأسطوري، بمتخيلاته الجمالية يزيد من وتيرة التأمل الجمالي حدة وإثارة وتأملاً في الحيز الجمالي الذي أثارته الأسطورة، وحرَّكته فنياً . وتبعاً لهذا ميز علماء الجمال بين الفنان المبدع والفنان التقليدي من حيث خصوبة المخيلة وعمقها. وهذا ما أكده ( برييرديبوامون) في قوله:" إن خيال المبدع هو خيال خصب يأتي لخدمة العقل والشعور، في حين أن خيال الفنان التقليدي خيال ضعيف ما هو إلا اجترار جاف لا قيمة له"(29).
وتبعاً لهذا، يختلف الحدث الأسطوري عن الحدث الشعري، في الآلية ومستوى التخييل، وبهذا التصور يقول قصي الحسين:" في الحدث الأسطوري، يقيم أناس في السابق، حيث الزمن العابر، يتحركون بحركته، ويتقدمون بتقليده، أو يقيدون حركتهم بحركته المثقلة بالتاريخ، وجموده، وجلموده، أما في الحدث الفني المتحول إلى الصورة الفنية، فقد نرى الشاعر يقيم في الماضي الذي يستدعي القادم، وهو في عز تبصره بالسابق، إذ " الآن" في خاطره، وفي الصورة الفنية التي يبدعها ذلك الخاطر، هو شرفة عالية يطل منها الماضي لاستشراف المستقبل، وفي ذلك تحقيق لوحدة الزمن وسيولته اللامتناهية التي تبلغ السردية. فزمن الصورة الفنية معادل الزمن وسيولته اللامتناهية التي تبلغ السرمدية للأزل ،وكذلك زمن المبدع فهو معادل الزمن الخالق أو صورة عنه"(30).
وبهذا التصور، فإن الزمن الأسطوري من منظور الحسين زمن إرجاعي لا زمن مستقبلي؛ وفي هذا مغالطة كبيرة؛ فالحدث الأسطوري زمنه لا متناهٍ؛ ولهذا، فإن الأسطورة حدث ماضوي ومستقبلي في آن، لأن زمن تخيلها زمن مفتوح، وفضاء متخيلها الجمالي يحايث كل الأزمنة، ويتماشى مع كل العصور؛ لأن الأسطورة ليست حدثاً ماضوياً يتلاشى بتلاشي واقع الأسطورة وزمنها ، وإنما تمتد امتداد الكون؛ لأن في الأسطورة خيالات، وعبر، وأحكام، ورؤى مستقبلية؛ تظل في صيرورة دائبة من الحراك والتوالد على الدوام، ومن أجل ذلك يقول نعيم اليافي: "في الأسطورة الزمن خارجي تاريخي، أما في القصيدة، فالزمن داخلي وخارجي معاً، بل هو يتجاوز التاريخ من أجل تحقيق " الآن" في المستقبل، فالبرهنة التاريخية الأسطورية المتدثرة بالبرهنة الإبداعية الشعرية تجعل للصورة الفنية سيولة في الزمن يتحرك بتحركه، ويتحول بتحولات العالم"(31).
وتأسيساً على ما سبق، يمكن أن نعد المتخيل الجمالي الأسطوري متخيل إبداعي يسبح في فضاء زمني مفتوح أو عائم، فأثر المتخيلات الأسطورية لا ينتهي بانتهاء المنتج الفني، وإنما يبقى في توالد مستمر، وبهذا التصور؛ يؤكد عز الدين إسماعيل في سياق توضيحه للأسطورة بأنها ليست مجرد إنتاج بدائي يرتبط بمراحل ما قبل التاريخ، وإنما نجد الأسطورة باقية في الحياة المعاصرة، فكل عمل شعري في تصوره يمثل الطابع الأسطوري، أو تتمثل فيه روح الأسطورة، أي كل عمل شعري تكشف لنا بنيته عن تركيبة أسطورية ومضمون أسطوري"(32).
وبهذا المنزع الرؤيوي نقول: إن فضاء المتخيل الأسطوري الجمالي- في المنتج الفني عموماً- ينشطها دلالة ورؤيا؛ وبقدر ما يستطيع الفنان أسطرة التخييل الجمالي في منتجه الفني يبقى هذا المنتج فضاءً تأملياً جمالياً مفتوحاً لدى تلقيه؛ وهذا يعني أن الفن الجمالي فن تخييلي؛ يزداد مهارة بالمتخيل الأسطوري الذي يفتح الأزمنة على قنوات ، مستقبلية مفتوحة، أو مطلقة؛وهذه قيمة فنية عظمى في المنتجات الإبداعية االخلاقة. ويعد فضاء المتخيل الجمالي الأسطوري- في قصائد تميم برغوثي – من مثيراتها الجمالية الخلاقة التي تنبني على حراك الرؤى والدلالات وإثارتها جمالياً؛وهذا يعني أن فضاء المتخيل الجمالي الأسطوري من مغريات الشعرية، وطاقاتها الإبداعية التي ترتكز عليها في بث المتغير الجمالي عبر الحدث الأسطوري المؤثر وطاقته البليغة على شاكلة قوله:
" أبصرتُ في أحدِ المتاحفِ مرةً
منحوتةً من أول العصر الوسيطِ
أظنُّ صدرَ كنيسةٍ أو مذبحاً،
عرشاً كبيراً خالياً
نحتت عليه بُردةً مطوية
وعمامةٌ أو تاجُ غارْ
عرشٌ خليْ يسألُ الزوارَ عن أربابه
وقد استعاض عن المليك بتاجه وثيابه
والعرشُ فوق غزالتين
كأنما دبَّت حياةٌ فيهما
وجهاهما دفءٌ يشي بالشمسِ
من قبلِ النهار
إحداهما نظرت إلى العرش الخلي،
وأختها نظرت إلى جهةِ السما
وكأن غيماً ما سيمطرُ للأنامِ خليفةً
ومعلما"(32).
لاشك في أن المتخيل الجمالي الأسطوري يغني فضاء القصيدة لاسيما إذا أدركنا أن فضاء المتخيل الجمالي الأسطوري من مؤثرات الرؤيا الشعرية الخلاقة التي تشي بها؛فالقارئ-هنا- يدرك أن الشعرية تتمثل في إثارة المتخيلات الأسطورية من خلال الحبكة القصصية التي صيغت صياغة أسطورية؛ محققاً درجة من التكثيف والإيحاء الجمالي، كما في قوله: [والعرشُ فوق غزالتين كأنما دبَّت حياةٌ فيهما/ وجهاهما دفءٌ يشي بالشمسِ/ من قبلِ النهار]؛ وهكذا؛ يأتي السرد الأسطوري وفق متخيل جمالي يشي بالعمق والتخييل؛ وهذا مانلحظه في إيقاع المقاطع التي ترتكز عليها قصيدته (ياهيبة العرش الخلي من الملوك)؛ كما في المقتطف التالي:
"أنا مادحُ العرشِ الذي وقفتْ عليه غزالتان
تهدي عيونهما إلى الناسِ الأمانْ
أنا منكما ياظبيتان
أهلي ظباءٌ من حجرْ
فيها الصلابةُ والحنانْ
فيها الوداعةُ والحورُ
والصبرُ ما طالَ الزمانْ
أهلي الشوارعُ والصورْ
ومظاهراتٌ في الدخان
أهلي المهانُ إذاصبرَ
وهو الكريمُ ولايهان"(33).
إن القارئ يدرك الحبكة الأسطورية بإيقاع غنائي ينأى به الشاعر عما هو معتاد في الأسلوب التشكيلي للحدث الأسطوري في القصائد المعاصرة؛ ليحول المتخيل الأسطوري إلى حدث واقعي من خلال الانتقال من أسلوب السرد الأسطوري إلى أسلوب البث الغنائي؛ عبر تواتر القوافي والتحامها في النسق الشعري؛ وهذا يدلنا على تحول في الأسلوب الشعري الذي اعتمده الشاعر تميم البرغوثي بتحويل السرد من الإيقاع الهادئ إلى الإيقاع الغنائي على شاكلة البنى اللغوية التالية: [أهلي ظباءٌ من حجرْ/ فيها الصلابةُ والحنانْ/ فيها الوداعةُ والحورُ/ والصبرُ ما طالَ الزمانْ]؛ وهنا؛ انتقل من الحدث الواقعي بعدما استطال في السرد الأسطوري؛ لتأتي الأنساق الشعرية الأخرى نقطة تمفصل الأحداث وتشعبها الجمالي على شاكلة قوله:
" ياظبيتان أرى المليكَ إذا أتى
سيحلُّ في قلبيكما
لافوقَ عرشٍ من رخامٍ
لم يكن يوماً بنجارٍ وديعٍ مغرما
هذا انتظارٌ لايضاهيه انتصارٌ،
ربما شتانَ ما بين انتظارٍ مثل هذا
أيها الشعبُ النبي
وبين ما قد أمَّلوكْ
يا أيها الجمعُ الذي من ألف ظبيٍ
فوقه رملٌ قديمٌ لانهائيٌّ
ويبركُ فوقه جملٌ يلوك
لك لا لغيركَ يصلحُ العرشُ الخليُّ من الملوك"(34).
لابد من الإشارة بداية إلى أن درجة شعرية القصيدة تتحدد بمتغيرها الجمالي الذي يحقق إثارته بالانتقال من السرد الأسطوري إلى الحدث الواقعي؛ومن الحدث الواقعي إلى الحدث الأسطوري؛ مما يدل على حبكة جمالية في الصوغ الشعري؛ وهذا يحقق للقصيدة تناميها الجمالي؛ أي سرعة الانتقال من حدث إلى آخر؛ ومن مشهد جمالي إلى آخر؛ محققاً درجة من التكثيف الجمالي؛ وحركة جمالية في الانتقال من الوصف إلى السرد، ومن السرد إلى تكثيف الصور الغنائية المعبرة عن رغبة الشاعر في إبراز التحول والصيرورة في الحياة ؛ ولايمكن لملك أن يدوم ،أو للسطان أن يخلد؛ فالحياة كما احتفت بالأساطير والملوك الذين بنوا وعمروا فإنهم ذهبوا،و لم يتبق من ملكهم شيء؛وهذا ما أراده الشاعر بالانتقال بالمتخيل الأسطوري إلى الحدث الواقعي؛ بكل مغريات الحالة الشعورية وفورانها وهياجها الشعوري.
ووفق هذا التصور؛ فإن حرص الشاعر تميم برغوثي على تمثيل الحدث الأسطوري بواقعية وإحساس جمالي قد أغنى الحركة الجمالية في قصائده لتتلون بدلالات جديدة لاحصر لها من الإحساس والتنامي والغليان الدلالي؛ واللافت ان الشاعر ينتقل من الحدث الأسطوري إلى نقيضه المشهد التصويري السينمائي ليرصد حركة المشاهد بدقة؛ وكأنه أمام عدسة الكاميرا؛ ليحيط بالمشهد بكل ما فيه على شاكلة قوله:
"ضبعٌ تهاجمُ سربَ غزلانٍ فتهربُ كلها
رسمتْ حوافرهُنَّ عشرةَ أفرعٍ في الأرضِ عشوائيةٌ
والضبعُ تعرفُ أنهُ لاوقتَ كي تحتارَ فيما بينها
تحتارُ واحدةً لتقتلها
حياةُ غزالةٍ ومماتها أمرٌ يُبَتُّ بسرعةٍ
لاتعرفُ الضبعُ الغزالة،لا عداوةٌ لاتنافسٌ"(35).
إن القارئ يلحظ الحنكة الجمالية في رصد مشهد الضبع والغزالة بمشاهد متتابعة وصفية دقيقة في رسم المشاهد، وهذا يعني براعة الشاعر في رسم حيثيات المشاهد بدقة متتالية غاية في الكثافة وبلاغة التعبير؛ فالشاعر المبدع يرتقي بالحدث الشعري من حالة إلى أخرى محققاً قيمة جمالية في تكثيف الرؤى وتحميلها بدلالات لاحصر لها؛ وهنا ،رسم الشاعر مشهداً سينمائياً تصويرياً يشي بجو الغابة وشريعة الغاب الوحشية؛ ليعكس هذا المشهد الدموي على واقعنا المؤلم؛ الذي يشي بالعمق وبلاغة التعبير.
وصفوة القول: إن فضاء المتخيل الجمالي الأسطوري في قصائد تميم البرغوثي- لايتأتى من الحدث الأسطوري ذاته، أو البناء الأسطوري للحدث الشعري؛ وإنما بالانتقال من الحدث الأسطوري إلى الحدث الواقعي؛ ومن السرد الأسطوري المتتابع للأحداث إلى المشاهد الوصفية أو السينمائية التي ترصد المشهد بعدسة مونتاجية تقرب المشهد في واقعيته من المشهد المرئي العياني البصري الملتقط بطزاجة الحالة الشعورية وعمقها.
3. المتخيل الجمالي/ الفني:
بادئ ذي بدء، نقول: إن المتخيل الجمالي الفني هو متخيل شعوري عميق؛ أو متخيل شعوري مركب ينطوي على عمليتين مركبتين ومعقدتين في الآن ذاته؛ الأولى عملية إنتاج التخييل الوهاج الممتع، أو المتخيل الجمالي المرُكَّز؛ وإمكانية تحويل هذا المتخيل إلى رؤية مركزة، ومظهر فني جذاب تتجسد فيه هذه الرؤية، وتبعاً لهذا نقول: إن قيمة أيَّ فن من الفنون تقاس بدرجة متخيله الجمالي الفني، أي مقدار القيمة الفنية التي حازها المنتج الفني على المستوى التخييلي، أو التخييلي المقامر، أو المغامر بفضاءات عميقة لا حد لها. والفنان الماهر- من منظورنا- هو القادر على ارتياد فضاءات تخييلية لا حصر لها، والرقي بها فنياً، تبعاً لمثيرات المنتج، وأهميته، وسويته الفنية، وبهذا التصور؛ فإن المتخيل الجمالي الفني هو الذي يمتلك الطاقة التخييلية الإبداعية الخلاقة التي تنطوي على أكثر من منظور جمالي، وأكثر من رؤية متوهجة في المنتج الفني، وعلى هذا الأساس، تقاس سوية المنتج الفني بمقدار النشاط التخييلي الجذاب الذي يفجره المنتج، محركاً فيه لذة جمالية؛ إثر عنصر المفاجأة، أو خيبة التوقع إزاء الصدمة أو الدهشة التي ولدها المتخيل الفني في المنتج الجمالي.
وما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه: إن المتخيل الجمالي الفني هو الذي يستقطب الرؤى، ويُحرِّض الذاكرة الإبداعية، محققاً عنصر جاذبيتها، وإيحائها الفني، وبقدر ما يرقى الفنان في متخيله الفني يستثير القارئ، أو المتلقي إلى منتجه الإبداعي، محركاً مشاعره، أو محرضاً ذاكرته الصدئة من ثباتها، لتلقف هذه المتخيلات بحس جمالي، وذوق شاعري رفيع المستوى والحساسية الجمالية. وللتدليل على أهمية الممارسة التخييلية النشطة في المنتجات الفنية نورد قول العالم الجمالي (ديلاكروا):" يجب أن يظل استقلال الخيال قائماً بأكمله أمام اللوحة.. إن النموذج الحي بالمقارنة بذلك الذي صورته، وأوجدت التناسق بينه وبين باقي التشكيل.. هذا النموذج يضطر الفكر إلى فقدان الطريق، ويدخل عنصر غريباً في مجموع اللوحة"(36).
إن قول (ديلاكروا) ينطوي على حقيقتين مهمتين في مسألة التخييل الفني- الجمالي، الأولى: حرية الخيال واستقلاليته، والحقيقة الثانية، خلق التناسق بين الشكل والنموذج، أو الشكل المتخيل، وبقدر ما يلائم الفنان بينهما يسمو بفضاء متخيله الفني، إلى درجة سامقة من الإثارة، والتأثير بالمتلقين، لحظة تلقي المنتج الفني، وهذا ما خلص إليه (ديلا كروا)؛ وشدد عليه لتنشيط التخييل الفني، وتنشيط تلقيه الجمالي المثير كذلك؛ إذ يقول:" إن خيال المبدع النشط لا يستطيع التأثير في الناظرين، والإفادة من النموذج عند استثارته إلا لدى أولئك الذين يستغنون عنه مقدماً"(37).
وبهذا القول، يصل" ديلاكروا" إلى ما وصل إليه الإنطباعيون فيما يخص قضايا الفن، ومسألة" التخييل الفني"، فها هو" جوجان" رغم أنه ليس من الانطباعيين إلا أنه يذهب مذهبهم الفني، إذ يقول: "يجب أن لا تصور الواقع بحذافيره ومرئياته المباشرة الملتقطة من الطبيعة؛ لأن الفن يجدد استخرج الفن من الطبيعة؛ وأنت تحلم أمامها، ولا تفكر في الإبداع الذي ينتج عن ذلك"(38).
إن من واجب الفنان- حسب جوجان- أن يرقى في متخيلاته الفنية، لا أن يصور الواقع تصويراً حياً مباشراً ؛ لأن الواقع- بالأساس- هو مرئي (روتيني، سطحي) ، وما هو سطحي لا يصلح للإبداع؛ لهذا، يتحفظ (جوجان) من أولئك المصورين الواقعيين الذي يعتمدون الشكل المثال، أو الشكل النموذج ويلهثون وراءه، أو أولئك الذين يلتقطون الصور المباشرة، بحيثياتها الفوتوغرافية الصغيرة المشتقة من حقل الطبيعة ، مؤكداً أن هذا الذي يحدث لا يخلق الفن، وإنما الذي يخلق الفن المهارة، والجدة، والابتكار، لأن الفن تجديد، وخلق، وإبداع؛ ولذا؛ علينا أن نخلق الأشياء، أو أن نبدعها بشكل غير متوقع، أو معتاد؛ بمنظور جديد مغاير لمنظور الواقع؛ أو لما ترسمه الطبيعة؛ وبهذا، يصل الفن إلى مرتبة الخلق، ويصل الفنان إلى مرتبة سامقة من الخلق الإبداعي الوهاج في ابتداعه وخلقه في أنموذجه الفني؛ أو شكله الفني الجديد المبتكر.
وبتقديرنا: إن الفن تجاذب بين الواقع والخيال، وبقدر ما يتم التلاحم والتجاذب بينهما؛ يرقى الفن، وترقى درجة حساسيته، واستثارته، وتأثيره في المتلقي؛ وهذا ما ينطبق تماماً على عملية التخييل الفني؛ فالفنان ليس مطالباً بأن يبقي فنه أو منتجه الفني مستعلياً في عليائه، منفتحاً إلى ما لا نهاية في متخيلاته الفنية، بعيداً عن الأرضية الصلبة التي يرتكز عليها بملامسته للطبيعة والواقع؛ وإلا فلا قيمة للفن إن لم يكن تحريضياً؛ مغيراً للواقع، وصانعاً للحياة. ولا غرو إزاء هذه الحالة أن نردد مقولة شاعرنا الكبير نذير العظمة في هذا السياق:؛ إذ يقول:" الفن هو التعبير الجميل عن الحياة، وإنك تكتشف الحياة في النص من خلال جمال البنية، ويحبب الفن المأساة ،والشقاء، والظلم كمعاناة خيالية ليس هناك فن من أجل الفن، الفن كله من أجل الحياة؛ له وظيفة- بالدرجة الأولى- تُعنَى بتزويد النفس الإنسانية والقدرة على المشاركة، والحساسية، والجمال"(39). وبهذا التصور، يبدو المتخيل الجمالي الفني عنصراً حيوياً بارزاً في تحفيز المنتجات الفنية جمالياً، وعلى هذا الأساس، يبدو الفن مقوماً تحريضياً مهماً في خلق الاستجابة، والإستثارة، والتأثير في المتلقي؛ للمشاركة في البناء والخلق الفني.
ومن يطلع على تجربة الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي – بعمق- يدرك أن المتخيل الجمالي عنصراً بارزاً في تحقيق شعريتها؛ فهو ينوع في متخيلاته الشعرية؛ تبعاً للموضوع المقصود، والموقف الشعري المجسد؛وغنى الأخيلة الشعرية بمبتكراتها ومؤثراتها الجمالية؛ ولا غرو إزاء ذلك ان نلحظ تنوعاً في الدلالات،والإيحاءات تبعاً لفاعلية المتخيلات الفنية وقيمتها ونواتجها الفاعلة؛على شاكلة قوله:
"رأيتُ اكتئابي عجوزاً لهُ بسمةٌ طيبة
أليفاً كمن يسكنون الشوارعَ دون مأوى
ينامُ على بابِ داري يُصبِّحني بابتسامته حين أخرجُ أو أدخلُ البيت
ضيفي هو الشيخُ،لكنني، وأنا صاحبُ البيتِ،في يدهِ،كالأسير
ملاكٌ مكيرْ يسيرُ بعكازتين؛ وإن كانَ يبدو الجناحانِ في ظهره
كنتُ أسألهُ ماالذي يمنعُ المرءُ مثلكَ ياسيدي أن يطير؟"(40).
لابد من الإشارة بداية إلى أن مصدر غنى المتخيلات الشعرية في قصائد تميم برغوثي يرجع إلى خصوبة الخيال الشعري المتوهج الذي يملكه الشاعر لاسيما في ظل امتلاك الشاعر تميم البرغوثي لمؤثرات جمالية خصبة في الإيحاء والتأثير؛ وهنا، يلحظ القارئ القيمة الجمالية للمتخيل الشعري في إبراز الرؤى المتخيلةعلى شاكلة قوله: ["رأيتُ اكتئابي عجوزاً لهُ بسمةٌ طيبة/ أليفاً كمن يسكنون الشوارعَ دون مأوى]؛ فالشاعر يتخيل اكتئابه رجلاً عجوزاً يهش على عكازه، يصحبه في بيته، ويرافقه في البيت والشارع؛ ليكون ظله الذي يظلله، محاولاً رسم التفاصيل المشهدية بكل ما فيها من رقة وحساسية وجمال، لاسيما في وصف ملامح الشيخ بصور مشهدية؛ وكأن الشاعر يوجه عدسة الكاميرا لتحيط بملامح الشيخ؛ وصفاته، وهيئته، قائلاً: [ملاكٌ مكيرْ يسيرُ بعكازتين؛ وإن كانَ يبدو الجناحانِ في ظهره]؛ وهذ يدلنا على امتلاك الشاعر لفضاءات جمالية قائمة على بداعة المتخيلات الجمالية في إبراز الصور المتخيلة وتحريك المشاهد بعدسة الرؤيا لا الرؤية، وهذا ما يحسب له على المسار الإبداعي.
ومن المتخيلات الفنية الجمالية التي تزخر بها قصائد تميم برغوثي المتخيلات التصويرية ذات المشاهد المتحركة والمعاني المبتكرة؛ كما في هذه المشاهد المتحركة في قصيدته (الأمر):
" وقفَ العدوُ مراقباً
لهباً توحَّش في البيوت
قلقي من اطمئنانهِ
هذي الخيولُ أرى لها في آخرِ المجرى العظيم رداها
إن الورودَ إذا رأيتَ ذبولها ستراهُ حينَ تراها
قاسٍ عليَّ حمامها
وعلى عدويِّ حين تهلك بردها وسلامها
أدري ويدري بالمصيرِ فينتشي وأموتْ" (41).
لاشك في أن المتخيل الفني الجذاب في قصائد تميم البرغوثي- يرتكز على الحدث بوصفه قيمة جمالية جذابة وعلى سيرورة المشاهد المتحركة في إيقاعها الجدلي الصاخب بالإيقاعات المتحركة/ والمداليل العميقة؛ فالقيمة الجمالية للمتخيلات الشعرية البليغة التي تصيب مرماها بحس جمالي شاعري يوظفه بفنية عالية التركيز (هذي الخيولُ أرى لها في آخرِ المجرى العظيم رداها/ إن الورودَ إذا رأيتَ ذبولها ستراهُ حينَ تراها/ قاسٍ عليَّ حمامها)؛ وهذا دليل غنى قصائد تميم البرغوثي بالمثيرات الجمالية التي تحرك الحدث بمغريات الصور؛وحراكها الجذاب. واللافت ان حراك المتخيلات الجمالية- في قصائد تميم البرغوثي- يعتمد المزاوجة بين إيقاع السرد/ والوصف، مكرساً الدلالات الشعرية التي ترصد الرؤى المواربة في فضاءاتها المتخيلة، كما في قوله:
ياغربتي ياغربة المغتربِ
عن داره أوغربة المقتربِ
من نفسه التي تظلُّ تختبي
كأرنبٍ يعدو وراء أرنبِ
أو ربما يعدو وراء ثعلبِ
كم طالبٍ من جهله بالمطلبِ
يدفعه مطلبه للعطبِ
حديقةٌ جمالها كالقطبِ
يديرني من حولها تعجبي
كأن مقلاعاً كبيراً دار بي
فصرتُ مثلَ المبعدِ المنجذب
أرعى تناقضاتِ قلبٍ قلَّبِ
كأنهُ سربُ قطا في رعبِ
كأنني عن الرياضِ أجنبي"(42).
لابد من التنويه بداية إلى أن المتخيل الجمالي الفني- في قصائد تميم البرغوثي- يعتمد على المزاوجة بين إيقاع الصور المحسوسة من جهة؛ والوصفية أو المشهدية المتتابعة اللقطات من جهة ثانية؛ ذلك أن الإبداع الجمالي الذي تشتغل عليه قصائد تميم برغوثي متخيل جمالي فني لاتغيب عنه الغنائية وتواتر القوافي، وحراك الدلالات المؤثرة في تحريك مجرى الحدث؛ ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية المتخيلات الفنية تعتمد النسج الفني المحكم في توليف الأنساق المتواترة بنزوعها التشكيلي وحراكها الجمالي.
وبالنظر- في جمالية المتخيلات الفنية- في المقتطف الشعري السابق- نلحظ درجة تكثيف المتخيلات الجمالية بإيقاع غنائي متواتر القوافي، على شاكلة قوله: [كأن مقلاعاً كبيراً دار بي/ فصرتُ مثلَ المبعدِ المنجذب/ أرعى تناقضاتِ قلبٍ قلَّبِ/ كأنهُ سربُ قطا في رعبِ]؛ واللافت أن تسارع الإيقاع التصويري يزداد تدريجياً؛ بالتواتر الصوتي بين القوافي؛ ليحرك الصور بإيقاعها الغنائي؛ وهذا يدلنا على أن شعرية المتخيل الجمالي بالمتحول الجمالي الذي ينشأمن جراء المزاوجة بين السرد/ والإيقاع الغنائي التقفوي المتوتر؛ محققاً أعلى درجات الاستثارة والتاثير.
ومن المتخيلات الفنية التي يؤسسها تميم البرغوثي- في قصائده- تناغم الصور واختلافها وحراكها الفني المباغت كما في قوله:
" أضعُ ذهولَ عينيكْ
الحقيقي والمصطنع
في زمانك كيف تُذهلُ؟!!
في زمانك كيفَ تكفُّ عن الذهول؟!!
دهشةً متوقعة دائماً
كبيتِ الرعبِ في مدن الملاهي
أو كمدينة الملاهي في بيت الرعب
أضعُ ارتباك شفتيك"(43).
هنا، يباغتنا تميم برغوثي بالصور المرهفة ذات المتخيل الفني الجمالي المؤثر؛ عبر الصور المتلاحقة التالية: [ كبيتِ الرعبِ في مدن الملاهي/ أو كمدينة الملاهي في بيت الرعب/ أضعُ ارتباك شفتيك"]؛ واللافت أن كل صورة تحقق إثارتها من متخيلها الجمالي وحسها الشاعري المرهف؛ وكأن الصورة لحظة تاملية تحقق متغيرها الجمالي بحس تأملي عميق غاية في التفعيل والحراك الجمالي المؤثر.
وصفوة القول: إن فضاء المتخيل الجمالي الذي ترتكز عليه القصائد الشعرية عند تميم البرغوثي تحقق متغيرها الجمالي بالانتقال الفني بين الصور؛ وإثارة الرؤيا المتخيلة التي تأتي غاية في التجسيد والتفعيل التصويري للحدث أو الموقف الشعري المجسد. ولهذا، تتحرك قصائده على أكثر من مقوم فني، منها مايتعلق بالصورة، ومتخيلها الواقعي أو الأسطوري أو المشهدي؛ أو التوازن الصوتي على مستوى القوافي، وكأن الشاعر يهندس قصائده بإيقاعين: إيقاع تصويري ينسجم مع البنى السردية وتتابع هذه البنى وفق متغيرات جمالية كثيرة؛ تتعلق بالصوت والدلالة.وإيقاع متخيلها الجمالي بما تثيره من أخيلة جديدة تبرز بشكلها الجمالي وحراكها الموحي.
4. المتخيل الجمالي (السريالي):
ما من شك في أن لجوء الفنان إلى التحليق والابتكار في منتجه الفني؛ دفعه إلى المغامرة في كل شيء؛ بغية ابتداع طرائق فنية جديدة، ومنظورات رؤيوية متطورة، لإبراز منتجه بشكل فني لائق؛ ومن ضمن هذه الاتجاهات ما نلحظه على مستوى فضاء المتخيل الجمالي السريالي؛ إذ أصبح الفنان طليقاً في آفاقه التخييلية العالية، لدرجة حاول معها أن يتخلى عن كل ما هو واقعي، لتخليق صياغة فنية تخييلية عالية ، ويرتقي مرتبة سامقة من الإثارة، والمباغتة الفنية، وبهذا المعنى يقول برتليمي:" لقد كانت السريالية أكثر من حركة أدبية وفنية، ومع هذا؛ فهي وسيلة أتخذها الشعر خاصة، حين أراد أن يثبت وجوده إزاء الوجود والإنسان والمجتمع، فإذا صدقنا ما يقول برينتون وأصدقاؤه، نرى أن الشعر كان إلى ذلك الوقت الذي ظهرت فيه السريالية قد اتخذ طريقاً خاطئاً ، فإنه قد ضحى بالحقيقة الثابتة كلها من أجل توضيح الفكرة وتمييزها ، ومن هنا، كانت ضرورة تجديد الشعر تجديداً شاملاً، وإعادة قوته التخييلية؛ بأن يسمح له بالارتواء من مناهله الحقيقية، ومن مصادره غير المنطقية للفكرة والحياة"(44).
ومن هذا المنطق، جاءت السريالية تحويلاً للنسق الفني الاعتيادي، إلى منطق التخييل، وحرية التخييل، لخلق منظورات فنية جديدة؛ ترتقي بفاعلية المتتج فنياً، يقول( بريتون) في منظوره للسريالية في الشعر:" يجب أن تكون القصيدة الشعرية تخليصاً، وتنقية للفهم، ولا يمكن أن تكون شيئاً آخر. والأذن عند الشاعر تضحك . أما الفهم المنطقي. فعليه أن يلزم الصمت. والشعر انطلاق في متاهات الخيال ،وياله من خنجر حين تكتب دون أن تعرف ما هي اللغة، وما هي الكلمة والمقارنة وتغيير الأفكار والنغم، أي لا تعرف إطلاقاً السبب أو الوسيلة"(45). ومن هذا المنطور، يمكن القول: إن فضاء المتخيل السريالي فضاء عبثي مفتوح على آفاق تخييلية تنعدم فيها الروابط المنطقية؛ ولهذا؛ فإن أجمل المغامرات في الفن هي مغامرة اللاوعي، أو دهشة اللاوعي التي تخلق شكلاً فنياً جمالياً مدهشاً بمحض المصادفة اللاواعية ،أو دهشة المصادفة الفنية، يقول جان برتليمي:"فالقصيدة الشاعرية عبارة عن انقلاب عقلي، لكنها انقلاب يحكم نفسه بنفسه"(46).
وبهذا التصور؛ تبدو السريالية هذياناً لاواعياً؛ أو جنوناً فنياً متخيلاً – إن جاز التعبير- يحكم نفسه بنفسه؛ والشاعرية تزداد عمقاً وإثارة، تبعاً لدرجة موجة الهذيان أو اللاوعي في المتخيلات البعيدة المفتوحة التي تتنافر، وتتضارب في أصقاع العلاقات المنكسرة أواللاواعية ؛ وبهذا المقترب الرؤيوي المحايث؛ يقول:"( ماكس جوجوب):" إن صفة الشعر الغنائي الفردي هي اللاشعور، لكنه اللاشعور الذي تتحكم فيه الرقابة"(47). إننا نخلص من قول جاكوب إلى حقيقتين مهمتين: أولهما: إن الشعر الغنائي هو شعر لا شعوري تتحكم فيه الرقابة الداخلية، وثانيهما إن الشعر الغنائي شعر هذياني عندما تتدخل فيه قوى الحس بالهذيان؛ و بهذا التصور يخفف( ماكس جوكوب) من غلوائية الاتجاهات السريالية المتطرفة، التي تذهب مذهب العبثية في الشعر، بوصفه لعبة هذيانية تتحكم فيها قوى الخيال، واللاشعور، والهذيان، أكثر من قوى الوعي، والمنطق، والفكر؛ وبهذا المنزع يقول (إيلوار): "لقد اعتقد بعض الناس أن الكتابة التي تأتي عفوَ الخاطر تجعل القصائد عديمة الفائدة، لأنها تزيد وتنمي فحسب حقل اختبار الضمير الشاعري ،وتضفي عليه ثروة. وإذا كان الشعور كاملاً فإن عناصر مثل هذه الكتابة التي تخرج من العالم الدخلي وعناصر العالم الخارجي تتوازن كلها معاً، لتكون الوحدة الشاعرية"(49).
وبهذا التصور، فإن الاستطرادات التخييلية ، والتأملات المفتوحة التي تأتي عفوَ الخاطر تضفي على المنتج الفني قيمة جمالية؛ ذات خصوصية متميزة في الإيحاء والتأثير، وتأسيساً على هذا، يمكن أن نعد التخييل السريالي منطقاً جوهرياً يسهم في تعزيز الرؤية، وتنامي حركتها الجمالية، خاصة إذا أتت المتخيلات السريالية كاشفة عن متعة، ولذة، وتخييل حر في تنسيقها الفني، وإثارتها الجمالية؛ وبهذا ، فإن المتخيل السريالي ليكون متخيلاً فنياً منتجاً لجمالية ما يتوجب على هذا المتخيل أن يصدر عن تأمل ويبرز بمنظور عالمي، لأن الفن خطاب عالمي، إنساني وجودي، وليس خطاباً لبنية محددة، أو وسط اجتماعي محدد؛ وبهذا المغزى ، يقول جان برتليمي:" إن الفن يهدف إلى التعبير عما هو عالمي. فالمبدع والمتأمل لا يستطيعان التعبير إلا بفضل الاتجاهات الإنسانية العامة ، والعقد الجماعية"(50).
وتبعاً لهذا؛ فإن المتخيل الجمالي السريالي يحول الأشياء؛ من منطقيتها إلى ما هو لا منطقي وعبثي، وما هو هذياني، وعشوائي، ولا منضبط؛ وبهذا، يختلف الفنان السريالي عن مثيله الآخر؛ في أنه يمتلك القدرة على التلاعب بالأخيلة، بروابط حرة تزيد المتخيلات إنتاجاً، وعبثاً، وتمرداً على واقعية المنطق، ومنطقية الخيال، وسمترية العلائق الروتينية الواقعية، ليخلق واقعاً جديداً لا مألوفاً، ولا معتاداً؛ وبهذا، يمتاز الفنان في إطلالته الخصبة وتأملاته المنفتحة أو الحرة من كل الروابط والعلائق المنطقية أو العلائق التي يتدخل فيها الفكر؛ ومقاييسه المنطقية ، وبهذا الشأن يحتج (فاليري) على أولئك الذين يربطون بين المتخيلات السريالية وفضائها الحر المنفتح والمتخيلات التي تتمخض عن الكوابيس، والهواجس، والأحلام؛ ويحتج كذلك على أولئك الذين يربطون الحلم بالشعر؛ إذ يقول:" لا بد أن نتجنب دائماً هذا الخطأ الحديث الشائع الذي يخلط الحلم بالشعر"(51). وهذا يعني أن المتخيلات السريالية منفتحة، في حين أن الحلم مرتبط بالذاكرة، أو منطقة اللاوعي التي تمتص الأحداث الواقعية التي جرت في الواقع المعيش أو الواقع الراهن؛ وبتقديرنا: إن قيمة المتخيل الجمالي السريالي ترقى ذروة أهميتها، حينما تتوافر على شرطين بارزين، إحداهما: أن يرتفع المنتج الفني بهذه المتخيلات عمقاً، ومتعة، ولذة في التلقي، وثانيهما: أن تكون هذه المتخيلات مترابطة لا شعورياً بدهشة المصادفة الممتعة، أو دهشة الحدث الجمالي الصادم، وهو ما يرفع سوية المتخيل الشعري فنية، وقيمة، وأهمية، وهذا أكثر ما نلحظه في الشعر التجريدي أو الشعر العبثي البوحي.
ومن يطلع على قصائد تميم البرغوثي يظن أن قصائده بمعزل عن السريالية ومدارسها وتوجهاتها وفضاء متخيلها العبثي؛ وهذا الظن قد يصدقه من لم يتعمق حيثيات قصائده بدقة وإحساس تأملي عميق؛ فالعبث السريالي ماثل في فضاء متخيلها البعيد الذي يشي بالمواربة والاختلاف؛ فالقصيدة لديه رغم سلاسة إيقاعها وجمالية اللغة الشعرية التي تمتاز بها في شكلها ومنحاها الإبداعي فإنها تخط جمالها على الكثلافة في المتخيلات العبثية،" أو المتخيلات الهذيانية المحمومة في نسقها، لدرجة قد تبدو البساطة إلى حد الحديث المباشر شكلاً من أشكال العبث السريالي الذي تشتغل عليه القصيدة في بعض مساقاتها السردية المباشرة،كما في قوله:
"صعبٌ على الشعراء مدح الصبر في بلدي
فأهلي صابرون على الزمان كأمه
لكنني وأنا أقل الناس صبراً
سوف أمدحه
وأمدحُ الانتظار على مرارة طعمه
فمرارة الصبر التي هي مضربُ الأمثال
مرجعها إلى أن انتظار المرء
يجعل عمره صوماً"(52).
لا بد من الإشارة إلى أن المتخيل السريالي ليس فقط تشظياً وتباعداً وخلخلة بالأنساق اللغوية؛ وإنما هو شكل مباشر يصل حد الحديث والكلام السهل المتداول؛ فليس من الضروري أن يكون المتخيل الجمالي السريالي إغراقاً في التشظي والتبعيد والخلخلة النسقية؛ وإنما هو قول موازٍ للقول اليومي أو اللغة الدارجة؛ودليلنا هذا المقتطف الشعري السريالي ["صعبٌ على الشعراء مدح الصبر في بلدي/ فأهلي صابرون على الزمان كأمه/ لكنني وأنا أقل الناس صبراً/ سوف أمدحه/ وأمدحُ الانتظار على مرارة طعمه]؛ إن القارئ سرعان ما يدرك المباشرة والوضوح في السرد التفصيلي لدرجة يبدو الكلام سطحياً يصل حد البساطة والمباشرة والسطحية: [فمرارة الصبر التي هي مضربُ الأمثال/ مرجعها إلى أن انتظار المرء/ يجعل عمره صوماً"]؛ إن القارئ، هنا، يدرك هذه النزعة المعكوسة التي نزعها الشاعر تميم البرغوثي في إبراز متخيله السردي بالوقوف على الأنساق اللغوية المباشرة، لدرجة بدت الصور بديهية والكلام مجرد حديث مباشر ليس إلا. والجدير بالذكر أن هذا الأسلوب السريالي الذي اعتمده تميم البرغوثي، باختيار المباشرة، والسطحية في الكلام، لدرجة البداهة المطلقة؛ ليدخل القارئ في فضاء متخيله السردي؛ وكأنه يحادثه مشافهة بكلام عادي من طبيعة يومياته وحياته المعاصرة؛ كما في قوله:
"سائقُ السيارة الصفراء مال بنا شمالاً
نائياً عن بابها
والقدسُ صارتْ خلفنا
والعينُ تبصرها بمرأى العين
تغيرت ألوانها في الشمس من قبل الغياب،
إذ فاجأتني بسمةٌ
لم أدرِ كيفَ تسللت للوجه
قالت لي وقد أمعنتُ ما أمعنتُ
يا أيها الباكي وراء السورِ، أحمقٌ أنت؟
أجننت؟!!
لاتبكِ عينكَ ايها المنسي من متن الكتاب
لاتبكِ عينكَ أيها العربي واعلم أنه
في القدس من في القدسِ لكن
لا أرى في القدس إلا أنت.""(53).
لابد من الإشارة بداية إلى أن المتخيل السريالي الذي يعتمده تميم البرغوثي ما هو إلا البساطة في الوصف حتى يصل درجة المباشرة والوضوح التام؛ وهذا يعني قدرة الشاعر على بث متخيله السريالي بإيقاع تصويري بسيط يصل حد الوضوح والمباشرة الصادقة تقريباً؛ وهذا يدلنا على أن الإيقاع الوصفي البسيط هو من العبث السريالي بالعبارة الشعرية والتلاعب بها وفقاً لمقتضيات فنية تتطلبها هكذا سياقات؛ وما هذا الجمع بين البساطة والسذاجة المباشرة إلا أنموذجاً لتفعيل اللغة بإيقاع وصفي متتابع.
5. المتخيل الجمالي الرؤيوي:
ما من شك في أن الفن رؤيا، وجمالية المتخيل الشعري ترقى بجمالية الرؤيا؛ بوصفها ذروة إثارة الفن، ومكمن جوهره الفني؛ فالفن بلا رؤيا، إما طاقة سكونية؛ متحجرة، وإما طاقة شعورية أو شاعرية صاخبة، ولهذا يعد الفن- في بعض وجوهه- تنفيساً ليس إلا، طاي تعبيراً عن ضغط نفسي، أو قلق وجودي؛ وبهذا المنزع النفسي يقول جان برتليمي:" إن العمل الفني يمثل لدى المبدع ولدى المتأمل تخليصاً من الطاقة المشاعرية العليلة التي كانت قد تراكمت لأقصى الحدود لديهما على اتجاهات معينة، نتيجة لكبتها، ولاستحالة التخلص منها إذ ذاك. ومن هنا، يمكن أن نفهم- إلى أي حد- يمكن أن يكون الفن تنفيساً"(54).
والفن- بتقديرنا- ليس تنفيساً فحسب، وإنما هو رؤيا جوهرية عميقة تنطوي على وعي وفهم فني حقيقي مبدع، ولا ينتج الفن المبدع عن لحظة تنفيس شعوري، أو لحظة إحجام عاطفي، وانكسار مشاعري مأزوم فحسب؛ وإنما ينجم عن رؤيا جوهرية ترتقي بالفن؛ ومن أجل هذا يتطلب أي فن من الفنون وعياً، أو درجة من الوعي، والإدراك بالأدوات، والرؤى، والمثيرات التي ترتقي بالمنتج الفني، وتزيده خصوبة، وجمالاً، وسحراً، وإتقاناً، ولهذا، شددت الناقدة والشاعرة المبدعة بشرى البستاني على ضرورة توافر المهارة، والرؤيا في المنتج الشعري الفني، ليستحوذ على مرتبته الإبداعية السامقة؛ لأن النص مهارة إبداعية في اللغة في كل ما يرقى بها جمالياً، إذ تقول: "لا شك في أن المهارة اللغوية لا تتأتى لممتلكها إلا من خلال الدراسة، والتقصي، واحترام علوم اللغة؛ نحواً، وصرفاً، وبلاغة، وصوتا،ً وتركيباً، وإتقان ضروب التشكيل بوعي الأنساق، والنظم الفنية، وكيفية تشكيل العلاقة بين المستويات التي تشكل البنية الكلية للنص، ودراسة التقنيات، والآليات، والفنون التي تثري شعرية النص، وتعمل على تعميق أبعاده الدلالية من رموز، ومفارقات، وصور، محاولة عبور منطقة التصوير البلاغي التقليدي، إلى نص إشكالي؛ يدمج الرؤية بالفن، فضلاً عن أهمية الرؤيا الشعرية التي تفوق كل الرؤى الأخرى علمية، ومعرفية، وإنسانية، كونها البؤرة التي ترشح عنها كل تلك الرؤى عبر مخيلة قادرة على التمييز، والانتقاء، والدمج، والتوشج"(55).
وبهذا التصور، فإن قيمة المتخيل الجمالي الرؤيوي قيمة جوهرية بارزة في تبئير فاعلية المنتج الفني جمالياً؛ ولذا، يمكن القول: يكون المتخيل الرؤيوي متخيلاً جمالياً؛ حينما يرتقي الفنان بمنتجه الفني إلى درجة تركيز الجوهر الفني، واكتشافه، وتبئيره في منتجه الفني؛ محققاً فيه أقصى درجات المتعة من خلال الدمج، والتوليف، والخلق، والتناسق، والوئام بين جميع أجزاء المنتج الفني؛ يقول (ديلا كروا): "إن الحياة، والتعبير ، والشكل مترابطة ترابطاً وثيقاً لدى الفنان، وإن طريقته في الملاحظة، وحتى في الإدراك الحسي متكاملة أصلاً. فالمصور يرى الدوافع. وكل انطباع لديه يتجه نحو الفنن وفقاً لمحددات الرؤيا، والمهارة الفنية التنفيذية في التشكيل الفني"(56).
وبهذا التصور، يرقى المتخيل الرؤيوي بالمهارة الإبداعية التي يمتلكها الفنان، وبقدر امتلاك متخيلاته على عمق رؤيوي يرقى المنتوج الفني جمالياً، ويرقى مخزونه الفني المغاير أو المختلف عما هو سائد ومعتاد، ويعلن سموقه، ويؤكد تميزه الجمالي، وبهذا المقترب يقول جان برتليمي: "لا يكون العمل خصباً إلا لدى الفنان الذي يضم شيئاً بين أحشائه كما يقال.. ويمتلك كنزاً داخلياً يستمد منه، وموهبة للتعبير عن مشاعره بلغة معينة"(57). وهذه القدرة تتولد لدى الفنان إثر امتلاكه لرؤيا عميقة، ومنظور رؤيوي مبئِّر للحدث والرؤيا معاً؛لا يصله إلا من تذوق الإبداع، وعايشه نبضاً وإحساساً؛ يقول آلان:" فالتخيل والرسم، أو التخيل وتنفيذ البناء ليسا بشيئين ولا بفترتين من الزمن. وإدراك نمط ما موجود مقدماً على شكل شبح وترجمته بالتنفيذ أمر خيالي في ذاته"(58).أي إن الفن ينشأ بداية كفكرة، ثم تكمن درجة الفن في جمالية تنفيذ الفكرة، وطريقة التعبير الجمالي عنها. وحري بنا أن نقول إزاء هذا القول:إن الفنان ليس مطالباً بأي حال من الأحوال- أن يرسم في ذهنه نمط المنتج، وأسلوبه كما يظن، وإنما مطالب أن يخط منتجه بوعي فني، وعمق تخييلي رؤيوي بارع ينبع من وعي فني، وحساسية جمالية عالية الفاعلية والإيحاء والتركيز، وهذه هي خاصية الفن، بل هي جوهر الفنون الجمالية مجتمعة.
وبما أن الفن- في المحصلة- هو تأصيل تخييلي، أو تبئير تخييلي لما هو مركزي، ومحوري، وجوهري في الحياة، فإن أبرز ما يغري منتجه الفني بداعة الرؤيا، وسحرها، وقدرتها على ملامسة البواطن الشعورية لدى المتلقي، لتواكب مركب الحياة الجارف، وقطارها الزمني المتسارع؛ ولهذا" لا يعرف المبدع عادة الشيء الذي سوف" يخلقه " قبل أن يخرج هذا الشيء من بين يديه، وهو لا يعلم ما سيكون عليه هذا " المخلوق" تماماً قبل أن ينتهي ، وهو بنفسه يتابع ابتداءً من مفهومه، وقد استولت عليه الدهشة والذهول أحياناً، ويتابع تقدم الفكرة وتناسقها وتحولها كلما تحول منها جزء، وكلما اكتست باللحم وجرت فيها الدماء، وهو أول من تصيبه الدهشة، حين يرى الوجه أو الصورة التي جاءت من النقطة الأولى بعد أن تكون قد سيطرت على المادة، وشبعتها، وأصبحت شكلاً ملموساً بشيء له وزن وإطار وأحجام"(59). والفنان هو الذي ينبهر بمنتجه قبل أن ينبهر به المتلقي، بالشكل الفني النهائي الجمالي الذي صل إليه، ولهذا، فامتلاك الفنان للرؤيا الفنية المتطورة ، هو الذي يدلنا على شعريته إن كان شاعراً؛ وفناناً؛ وإن كان رساماً أو نحاتاً أو ما شابه ذلك في المبدعين، وبقدر امتلاك الفنان للرؤيا الجمالية الحساسة التي تخلق وعيه الفني وحسه الجمالي، بقدر ما ترتقي سوية المنتج، ويرتقي -من ثم- عنصر تأثره وتأثيره في المتلقي. والنص شأنه شأن الكائن الحي فكما يتأثر الكائن الحي بالمناخ يتأثر النص بالمناخ الثقافي الذي وجد فيه، والرؤيا المجتمعة التي يعيش في نطاقها؛ والتي أفرزته، وكونته عنصراً فاعلاً فيها. يقول الشاعر الكبير نذير العظمة: "الرؤيا ليست حكراً على شعراء الرواد والحداثة ، وإنما الرؤيا ممكنة لأغلب الشعراء في معظم العصور، لنأخذ على سبيل المثال "طرفة، أو لبيد، أو امرأ القيس .. شعراء المعلقات مثلاً قامت معلقاتهم على تجربة حياتية ورؤيا. بهذا المعنى الحداثة ليست حكراً على عصر واحد، وإنما يمكن أن نكتشفها في كل العصور، وهو جوهر الشعر .. من لم يضف على موروثه الشعري يعيش عالة على الذاكرة، ومن لم تستبعده الذاكرة يقفز إلى الهاوية"(60). وبهذا التصور المعرفي الدقيق الذي نستقيه من شاعرنا نذير العظمة نؤكد أن الرؤيا هي أفق متنامٍ لا يمتلكها إلا من عصرتهم التجربة، وشكلت مخزونهم الإبداعي؛ والفنان الرؤيوي هو الذي يتجاوز بمنظوراته، ومتخيلاته آفاق منظوراتنا ومتخيلاتنا السطحية، إنه يراودنا بفنه للدخول إلى محرابه الإبداعي باستعداد، وتأمل، ووعي، وإدراك معرفي.. يقودنا إلى ما يريد، ويفعِّلنا بمنتجه الفني بالشكل الذي يرتضيه أو يرتئيه، ولهذا؛ فسطوة الفنان المبدع على المتلقي تحايث سطوة الساحر الذي يبهرنا بصيرياً بألاعيبه، ومتخيلاته، ورؤاه العميقة. وهذا هو سر الفن كذلك، وسر الرؤيا الفنية العميقة التي يمتلكها المبدعون الحقيقيون على مر الأزمنة كافة.
وبتقديرنا: إن سر جمالية قصائد تميم البرغوثي ارتكازها على رؤيا خلاقة أومنتجة؛ هذه الرؤيا مشكلة على وعي معرفي وإحساس جمالي رفيع المستوى يمتلكه تميم البرغوثي في تشكيل قصائده،فالقصيدة- لديه- تخط ألقها الجمالي بالارتكاز على جمالية المتخيل الرؤيوي الذي تشكله القصيدة بوعي جمالي فني وإحساس شعوري عميق؛ ولهذا تتحرك الرؤى الشعرية بالارتكاز على رؤيا خلاقة بوساطة متخيلها الشعري العميق، ومنظورها الرؤيوي المتجدد؛ على شاكلة قوله:
" يا أمتي ياظبية في الغار
ضاقت عن خطاها كلُّ أقطارِ الممالك
في بابها ليلُ القنابل
والنجوم شهودُ زورٍ في البروج
في بالها دوريةٌ فيها جنودٌ يضحكون بلا سبب
وترى ظلالاً للجنود على حجارة غارها
فتظنهم جنَّاً وتبكي؛
" إنه الموتُ الأكيدُ ولاسبيل إلى الهرب
ياظبيتي مهلاً تعالي وانظري
هذا الفتى خرج الغداة ولم يُصَبْ
في كفه حلوى يناديك اخرجي
لابأس ياهذي عليك من الخروج
ولتذكري أيام كنت طليقةً
تهدي خطاك النجم في عليائه
واللهُ يُعرَفُ من خلالك"(61).
لابد من التنويه بداية إلى أن المتخيل الرؤيوي الجمالي هو الذي يخلق منظوراً جديداً في المشهد الشعري؛ ويحقق قيمة جمالية تزداد فاعليتها بالفكر الجمالي الذي تضمره، والإحساس الجمالي في التعبير عنه؛ وهاهنا، يبث الشاعر رؤاه الثورية بوعي جمالي وإحساس فني؛موقظاً الحماس في نفوس جماهيرنا العربية؛ لتنهض أمتنا من جديد؛ فهي كانت مصدر الحضارة والثقافة على مر التاريخ؛ وتوالي الأزمنة والعصور؛وأبداً لم تكن حبيسة واقعها، أو رهينة واقع العبودية والذل الذي ران عليها زمناً طويلاً؛ ولهذا، يناديها بصيغة (أمتي)؛ نداءً يحمل الأسى، والحزن، والحسرة على قوقعتها وانطوائها على نفسها؛ محرضاً فيها العزيمة والحماس من جديد؛ قائلاً: [ياظبيتي مهلاً تعالي وانظري/ هذا الفتى خرج الغداة ولم يُصَبْ/ في كفه حلوى يناديك اخرجي/ لابأس ياهذي عليك من الخروج/ ولتذكري أيام كنت طليقةً/ تهدي خطاك النجم في عليائه/ واللهُ يُعرَفُ من خلالك]؛ وهاهنا يظهر الشاعر بمتخيله الرؤيوي واقع أمتنا المنهار؛محاولاً ترميم ماكان، والحض على رؤيا جديدة، وواقع جديد يسعى إلى إبرازه، والحض عليه، ولهذا جاءت البنى اللغوية الأخرى كاشفة هذا التوجه والإحساس الجمالي، والبعد الرؤيوي في المحاججة وتعضيد الرؤية الثورية الرافضة، كما في قوله:
"يا أمنا؛ والموتُ أبله قرية يهذي
ويسرقُ ما يطيبُ له
من الثمرِ المباركِ في سلالك
ولأنه – يا أمُّ- أبلهُ
فهو ليس بمنتههٍ من ألفِ عامٍ عن قتالكْ
حتى أتاكِ بحاملاتِ
وفوقها جيشٌ من البلهاءِ يسرقُ من حلالك
ويظنُّ أن بغزوةٍ أو غزوتين
سينتهي فرحُ الثمارِ على تلالك
ياموتنا، يشفيكَ ربُّكَ من ضلالكْ"(62).
إن القارئ هنا يدرك البعد الرؤيوي الذي يملكه الشاعر في رؤاه الثورية، كاشفاً بوعي جمالي عن واقع أمتنا العربية؛ هذا الواقع الذي عايشه الشاعر إحساساً ونبضاً ورؤية؛ محاولاً النهوض بالوعي الثوري؛ وتأجيج الهمم لتعي واقعها المعاصر، وما يُحاك لها من مؤمرات تسعى جاهدة إلى دمارها، وخرابها، وتفسخها، وانهيارها؛ وهذا يدلنا على أن المتخيل الرؤيوي في هذه القصيدة مبني على الوعي المقاوم؛ وإيقاظ الهمم العربية من جديد؛ لتعي واقعها، وتبنيه بالارتكاز على أسس قوية في الوعي المقاوم.
ومن يتابع هذه القصيدة (أمر طبيعي) يدرك أن فضاء متخيلها الرؤيوي مؤسس على الوعي المقاوم؛ والاحتجاج الصارخ الذي رفضه الشاعر في جبن هذه الأمة وخوفها اللامبرر في ظل الضغوطات والتحديات المعاصرة:
"يا أمتي؛ أدري بأن المرء قد يخشى المهالك
ولكن أذكِّركم فقط فتذكروا
قد كان هذا كله من قبل واجتزنا به
لاشيء من هذا يخيف؛ولا مفاجأة هنالك
يا أمتي،ارتبكي قليلاً؛ إنه أمرٌ طبيعيٌّ
وقومي،
إنهُ أمرٌ طبيعيٌّ كذلك"(63).
إن الوعي الثوري المقاوم هو الذي يغلف الرؤيا الشعرية في هذه القصيدة؛ فالشاعر يدرك أن النبرة الاحتجاجية الانفعالية الصاخبة قد لاتأتي أُكُلَها في مثل هذا الشكل من أشكال الخطاب الشعري المقاوم الذي ساد كثيراً لدرجة مله القارئ وسئم منه؛ وإنما لجأ الشاعر إلى أسلوب المحاججة في إيقاظ الوعي وتأجيج الهمم لتغيير الواقع، وخلق منظورها الجديد؛ ومن هنا؛ جاء الوعي المقاوم نفطة تمفصل الرؤيا على اختلاف مؤثراتها، وفواعلها الإيحائية النشطة التي تغير الواقع،وتسعى إلى بناء واقع أفضل؛ ترتقي به النفوس العربية فوق حاجز خوفها وتقزمها الوجودي لتعلن الإصرار والقوة على المواجهة والتحدي. وهذا يدلنا أن المتخيل الرؤيوي الجمالي في قصائده لاتبتعد عنه النبرة الانفعالية أحياناً على شاكلة قوله:
" لم نقل للروم حرفاً
وبكينا في مسيحِ اللهِ ألفاً
لانبياً
غير أنَّا في بطونِ الأُسدِ بتنا
لم نحد عن دينه حتى امتُحِنا
وعرفنا دقة المسمارِ في الكفينِ مثله
ثم لانطلبُ أن يأتي إلينا ملكٌ
يخرجنا من ظلمةِ القبرِ بهالاتِ الضياءْ
بين نجمٍ وغمامهْ
قد عرفنا قبل هذا
إن فرزنا
نحنُ للصلبِ وأنتم للقيامهْ
لم نؤلَه
لم يسجِّل في الأناجيلِ اسمُ أبلهْ
مات منا
حاملاً في صدره أيقونةً
وجهُ ابنِ نجارٍ وديعٍ صانها تحتَ الرداءْ
وهو لايطلبُ أن يُذكرَ أصلاً
ماتَ فالأمرُ سواءْ
قبِّلي مابين عينينا اعتذاراً ياسماءْ"(64).
لابد من الإشارة بداية إلى أن النظرة الانفعالية الحادة لم تبعد الشاعر عن حيز البعد الرؤيوي في التخييل الفني؛مما يجعل القصيدة في لب الاحتجاج والتقريع تشي بالبعد الرؤيوي العميق؛ والنبض الرؤيوي الدافق بالحساسية والجمال؛ وهنا، جاءت النبرة الرؤيوية صاخبة في نبرتها،وحدتها لتشي بواقعنا المأزوم؛ عبر مراكمة النفي حيناً (لم نؤله- لم نسجل- لم نحد- لم نقل للروم حرفا)؛ والإيجاب حيناً آخر، كما في قوله:( قد عرفنا قبل هذا/ إن فرزنا/ نحنُ للصلبِ وأنتم للقيامهْ- وعرفنا دقة المسمارِ في الكفينِ مثله/ ثم لانطلبُ أن يأتي إلينا ملكٌ/ يخرجنا من ظلمةِ القبرِ بهالاتِ الضياءْ/ بين نجمٍ وغمامهْ)؛ وهذا يعني أن الشاعر في حسه الرؤيوي يزواج بين السلب والإيجاب لتعضيد الموقف الاحتجاجي الرافض وتعضيد الشعور الانفعالي الحاد، كشكل من أشكال التعبير الرؤيوي عن الحراك والانفعال الداخلي إزاء واقعنا ومصيرنا المؤلم.
وصفوة القول: إن المتخيل الرؤيوي- في قصائد تميم البرغوثي- يرتكز على بلاغة الرؤيا، وحساسية الموقف؛ حتى وإن غلب على إيقاعها النبرة الانفعالية الاحتجاجية الحادة-فإن ذلك لايقلل من بعدها الرؤيوي العميق؛ وفضاء متخيلها الجمالي الخلاق. وهذا ما يحسب لهذه القصائد رغم بساطة لغتها لتصل في بعض الأحيان إلى المباشرة والتقريرية، لدرجة يشعر حيالها المتلقي أنه أمام لغة الحديث الشائعة أو الدارجة.
6. المتخيل الجمالي الزمكاني:
لا شك في أن لكل منتج فني إبداعي مؤثرات؛ وهذه المؤثرات تبدأ من المبدع، وحصيلة معارفه، وتجاربه الوجودية، وخبراته المعرفية، وثقافته الموروثة، وانتهاءً بالمتلقي، ومؤثراته، ومعارفه المكتسبة كذلك، وبما أن الفنان ابن بيئة محددة، وزمان معين، فإنه محكوم بهذه البيئة (زمكانياً)، تبعاً لمجموعة المؤثرات التي تحكم هذه البيئة من عادات، وتقاليد، وأعراف، وموروثات عديدة، وهذه المؤثرات تفرض نفسها على المبدع والمتلقي في آن؛ ووفق هذا المنظور ؛ فإن ما يغني تجربة المبدع في مؤثراته [الزمكانية] مدى حساسيته الشعورية المرهفة، وقدرته على تجسيد الأمكنة الفنية الجمالية، وفقاً لمتخيلاته العميقة؛ وإحساساته الوجودية، ونظرته إلى الزمن، وتبعاً لهذا، يمكن للقارئ أن يلحظ أن لكل مبدع بصمته الزمكانية التي تبين فلسفته، ورؤيته للحياة، والخلق، والوجود؛ وما من مبدع إلا ولديه فلسفته الوجودية للزمان والمكان جمالياً؛ وهذه الفلسفة التي تنتابه إزاءها هي التي تؤكد بصمته ونظرته الوجودية المميزة؛ وهذا يعني أن لكل فنان رؤية خاصة تميزه عن غيره فيما يخص هذه المسألة؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قول الشاعر شوقي بزيع في فلسفته للمكان، إذ يقول: "إن أجمل الأماكن- بالنسبة لي- هي الأماكن اللامتحققة أو غير المتاحة، وهذا يذكرني بقول (كونديرا) الروائي التشكيلي الذي يقول [الحياة في مكان آخر] ، بمعنى أن المكان الذي يقيم فيه هو المكان الواقعي، هو المكان المتاح، وهذا المكان لأنه متوفر مكان نثري، ولكن عندما نكون في هذا المكان نَحِنُّ إلى غيره، إلى المكان غير المتاح، وعندما نذهب إلى المكان الثاني نَحِنُّ إلى الأول، إذاً، كأننا نحن مجموعة من الالتفاتات إلى الخلف، كأننا عبارة عن توق دائم إلى الأماكن التي غادرناها، أو التي لم نصل إليها"(65).
وبهذ التصور، نلحظ أن المكان- من منظور شوقي بزيع- هو المكان الإبداعي، أو المتخيل الذي يبقى الفنان يلهث وراءه طويلاً دون أن يحصله، وهو المكان اللامرتاد، أو اللامتحقق، إنه المكان الشعري الذي يمثل له المكان المتحرك الذي يتجدد على الدوام، تبعاً لتجدد الحياة، وتجدد المنظورات إليه، وتجدد الزمن كذلك؛ فالمكان- لدى الفنان- ليس مكاناً فيزيائياً طبيعياً، بأحجام، وأبعاد مرئية، إنه المكان اللامرتاد، إنه المكان المتخيل الذي يشكله الفنان، تبعاً لإحساساته الوجودية؛ فالفن ليس فضاءً مكانياً ملموساً، أو محسوساً؛ إنه يخلق فضاءه الفني ؛ تأسيساً على منظور المبدع الوجودي ، وإحساسه إزاء الواقع والحياة، يقول الشاعر نذير العظمة: "دهشة المكان وحدها لا تكفي.. لا بد من دهشة الإنسان التي تتجسد في فنونه وإبداعاته ... القص، والشعر، والمسرح ، وكل الأشكال الفنية الأخرى لها قدرة على سكب النشوة بما يزاحم المكان"(66).
وهذا يعني أن الفنان هو الذي يضفي على المكان قيمته الجمالية الإبداعية، وهي قيم لا متحققة في المكان ذاته، إلا بما يضفيه عليه الفنان من إيحاءات، ودلالات، ورؤى عميقة متخيلة؛ وبهذا الخصوص يؤكد (باختين) تداخل الزمان والمكان في حياة المبدع، وتنعكس على خصوبة منتوجه الفني، إذ يقول: "الزمكانية أو تلك المفردة المركبة تؤكد هذا الوصل الذي يحاول باختين تأكيد أهميته في الرؤية ، حيث يرى أن أشكال الزمكانية في صورها المختلفة تجسد الزمن في المكان، وتجسد المكان في الزمن؛ دون محاولة تفضيل أحدهما على الآخر، وقد عالج باختين هذا المفهوم ... فالزمن كما هي الحال يتكثف شخصاً، يكتسي لحماً، ويصبح من الناحية الفنية مرئياً، وبالمثل، فإن المكان يصبح مشحوناً ومستجيباً لحركات الزمن، والحبكة، والتاريخ"(67). وتأسيساً على هذا، أعتقد الكثير من علماء الجمال أن الفن نبض الحياة؛ فالفن لا يخلق إلا لكي يعلمنا الحياة؛ أو يؤلِّد في نفوسنا لذة الحياة، ولذة الوجود، والإحساس الجمالي بهذا الوجود، يقول(أوسكار وايلد):" إن الأدب يعلم الحياة أكثر من أن يتلقى منها المعلومات"(68).
ولهذا، قرن الكثير من المبدعين والشعراء الفن بالمكان والطبيعة، وما الطبيعة إلا الشهقة المشرقة في عالم الإبداع التي تحفز المبدعين للكتابة؛ ولهذا، جاءت الطبيعة عنصراً مهماً في تحفيز متخيلاتهم الجمالية؛ بوصفها سراً من أسرارهم اللامنتهية، يقول الشاعر فؤاد كحل: "أحس أنني الطبيعة ... الشجرة أختي ... والصخرة أمي، والبحر أخي، والأعشاب أعصاب روحي، وكل خفقة جناح نبضة قلبي .. وفي اللحظة التي يقل هذا التماهي لدي مع الطبيعة أحس أنني أبتعد عن الشعر. أساساً هذا الإحساس التقديسي للطبيعة هو ما يمنحني التوازن مع ذاتي، ومع العالم من حولي، ثم أنا ابن فلاح، وابن غيمة وضعتني يوماً على مفترق الشعر، وقالت: اذهب، وكن مخلصاً لأسلافك في الأجنحة، والأغصان والهواء، والتراب، والماء، وقلوب الكائنات جميعها. ولا أعتقد أن الشعر ازدهر يوماً إلا وكان قريباً من الطبيعة التي تمثل روح الكون، منذ البدء وصولاً إلى أقرب خفقة طفل توشي بأنه سيصبح شاعراً يوماً ما. ويوفق الشاعر عندما يحس بالطبيعة؛ كبعد فلسفي وجودي يطرح عليه أسئلة الوجود، والعدم، والحضور، والغياب ،والموت والحياة إلى آخره"(69).
وبمنظورنا: إن المتخيل الجمالي الزمكاني هو خاصية الفن الإبداعي أو المبدع الذي يرتقي بالمكان الواقعي إلى المكان الفني، والزمان الفيزيائي إلى الزمان الإبداعي (زمن الخلق الفني)، وتبعاً لهذا نستطيع أن نميز بين الشعر التقليدي والشعر الإبداعي- كما حددها قصي حسين بمنظوره الزمني وفلسفته للزمن؛ إذ يقول: "بداية أود التمييز بين نوعين من الشعر، الشعر التقليدي، والشعر الإبداعي. فالشعر الإبداعي أو قل: الكتابة الإبداعية بشكل عام هي مظهر جوهري أبدي متصل بعمق الحياة الحضارية عند الأمم والشعوب كافة، بينما نظام الكتابة التقليدية والشعر التقليدي بخاصة في الزمن المتقطع العابر والمؤقت. فالتضاد بين الزمن السائل/ المستمر من جهة، والزمن المتقطع من جهة أخرى، هو المعادل الحقيقي للمعادل الفني الذي يتمثل في عملية التضاد بين الشعر الإبداعي الدائم السيولة في النفس الإنسانية، والشعر التقليدي الوقتي الذي يعيش على ضفاف الآن"(70).
وبمنظورنا: إن فضاء المتخيل الزمكاني في الفنون جميعها دليل على خصوبة المنتج الإبداعي الفني المتطور، إذ يتفاعل فيه المكان مع الزمان، والزمان مع المكان، في بوتقة تفاعلية يغني كل منهما الآخر؛ وبقدر ما يتم التفاعل التخيييلي بينهما بقدر ما يزداد أثرهما فاعلية في المنتج الفني الشعري والروائي على وجه التحديد. وما ينبغي إضافته والتأكيد عليه: إن جمالية المكان والزمان في المنتجات الأدبية مازالت محط اهتمام الدارسين والباحثين للغة الأدبية التي تمتاز بها النصوص الإبداعية الفذة، وكل هذه النصوص لا يمكن أن تنفصل فيها جمالية المكان عن جمالية الزمان ، وكلما ازداد التفاعل بينهما ازدادت حيوية المنتج، وتنامت خصوبته الجمالية، ولا يمكن عزل أحدهما عن الآخر؛ لأن تفاعلهما معاً هو الذي يمنح لكل منهما الخصوبة والنبض، والدفق، والحياة. وباختصار نقول: إن الفنون الإبداعية جميعها في متخيلها الجمالي الزمكاني لا ترتقي إلا بمقدار المزاوجة والتفاعل بينهما، وما فضاء متخيلها الزمكاني إلا فضاءً إبداعياً خصباً في الخلق والابتكار الجمالي، وبقدر هذا التلاحم والتفاعل بينهما تزداد المنتجات خصوبة وجمالية وطاقة فاعلة على المستويات كافة. وهذا ما أكد عليه علماء الجمال كافة؛ وما الفنان المبدع إلا حصيلة هذا التفاعل والتناغم الخلاق بينهما في معظم الكتابات الإبداعية الخالدة.
ومن يطلع بعمق على قصائد تميم البرغوثي يدرك أن المتخيل الجمالي الزمكاني هو المتخيل الخلاق للكثير من الصور الشعرية النابضة في قصائده؛ فالشاعر لم يتخذ المكان أرضية لقصائده فحسب؛ وإنما اتخذه وجوداً وإحساساً شاملاً للحياة؛ بكل ماتتضمنه من متغيرات ومؤثرات وجودية؛ ولهذا، يجد الأمكنة متحركة في قصائده؛ تبعاً لحراك الرؤى؛ وكثافة مؤثراتها الخلاقة التي تشي بها؛ محققة أقصى درجات الفاعلية والاستثارة الجمالية؛ لأن فضاء متخيلها الجمالي أكثر غنى، وخصوبة من فضاء الأمكنة الواقعية؛ بمقاساتها الفيزيائية المرتبطة بالمكان؛ بوصفه حيزاً مادياً مخصوصاً بأبعاد، ومقاييس معينة. والحق يقال: إن فضاء المتخيل الجمالي الزماني الذي يؤسسه الشاعر تميم البرغوثي فضاء تأملي مفتوح على أزمنة عدة، وأمكنة متحولة أو متغيرة؛ فالمكان والزمن -في قصائده- مطلق،متغير؛ ومفتوح على أزمنة لامتناهية أو مفتوحة؛ وهذا يعني بلاغة المثيرات الجمالية التي يؤسسها الحيز المكاني في قصائده؛ كما في قوله:
"وقف العدو مراقباً
لهباً توحش في البيوت
فلقي من اطمئنانه
هذي الخيول أرى لها في آخر المجرى العظيم رداها
إن الورود إذا رأيت ذبولها ستراه حين تراها
قاسٍ علي حمامها
على عدوي حين تهلك بردها وسلامها"(71).
هنا؛ نلحظ أن فضاء المتخيل المكاني فضاء شعري مؤسس على إبراز حركة المشاهد المتغيرة، بإحساس جمالي؛ مبني على الفضاء الزمكاني في إبراز حركتي الزمان/ والمكان؛ فالشاعر، هنا، أبرز حراك المشاهد، لرسم صورة العدو، ورسم ملامحه؛ وهذا يعني أن فضاء المتخيل الزمكاني في هذه القصيدة يتحرك على إيقاعات الأماكن الشعرية لتبرز المشاهد على أرضية مكانية وبعد زمني مكرس لإبراز جرائم العدو، بصور حركية تشي بالتنوع الاختلاف. ولهذا؛ يلحظ القارئ تناغم الصور المشهدية مع التناصات القرآنية (يانار كوني برداً سلاماً على إبراهيم)؛ لخلق حركة جمالية في المشاهد الشعرية؛ تتماشى ونبض الشاعر وإحساسه الوجودي المأزوم. ولعل تفاعل فضاء المتخيل الزمكاني في قصائد تميم البرغوثي يظهر بوضوح في المشاهد والصور المكانية المتحركة؛ وكأن الفضاء الزمكاني متحرك في القصيدة التي تأتي فيها المشاهد صورة من صور التحرك الجمالي على مستوى فضاء متخيلها الخلاق؛ كما في قوله:
"ورُبَّ سيوفٍ معلقةٍ في بيوتِ الجليلِ
علاها غبارُ التقاعدِ بعد غبارِ الخيول
فأمستِ شيوخاً يقصون سيرتهم في الهوى والجهادْ
يعيدونها فتطمئننا لقطة في الشريط المعادْ
إلى أننا سوف نلقى الرشادْ
كأنَّ السيوفَ الشيوخَ هنا رُقيَّةٌ أو ضمادْ
وفي وسطِ الشامِ تغدو السيوفُ رموز العناد
ألستَ ترى الطيرَ إن طردوه من العشِ عادْ"(72).
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن تفاعل المتخيل الزمكاني- في بنية القصيدة عند تميم البرغوثي- يتعلق بمتخيلها الجمالي في حركة الأماكن المتغيرة، واللقطات، والصور الموازية التي تحقق متغيرها الجمالي عبر تتابع اللقطات المكانية، وكأنها رهن حراكها الجمالي الخلاق؛ والملاحظ جمالياً أن الشاعر يعتمد الصور المتحركة لإبراز حراك المشاهد واللقطات بحراك المتعلقات الزمكانية في الصورة كما في قوله: [كأنَّ السيوفَ الشيوخَ هنا رُقيَّةٌ أو ضمادْ/ وفي وسطِ الشامِ تغدو السيوفُ رموز العناد]؛ وهذه الصور رغم حراكها على مستوى فضاء متخيلها الإبداعي غير أنها ماتزال رهينة تقليدتها،ومدلولها المباشر؛وهذا القول يؤكد لنا حقيقة جوهرية في شعرية القصيدة- عند تميم البرغوثي تتمثل في أن شعريته تتمثل في سوادها الأعظم على الصور المتحركة (زماناً ومكاناً)؛ ولهذا تبدو المتخيلات الزمكانية بؤرية الدلالة،ذات مرجعية عالية في التكثيف والإيحاء؛ وهذا ما يحسب لها على المستوى الإبداعي. والملاحظ أن فضاء المتخيل الزمكاني- في قصائد تميم برغوثي- يعتمد حراك البنى والدلالات الزمكانية، لدرجة لامثيل لها، كما في قوله:
"وأعيدُ ترتيبَ الخرائطِ،
حيثُ أجعلُ سورَ بغدادَ عقالاً
في رؤوس الأكرمينَ
ونيلَ مصرٍ نهرَ خيلٍ تحتَ قومٍ غاضبينَ
وغوطةً بدمشقَ تنبتُ في زمانِ الحربِ
رمحاً كي يصونَ الياسمينَ
وربما قررتُ، من أجل المزاج فقط
وجود رجالِ أمنٍ طيبين
يؤانسون الغولَ والعنقاءَ والخلَ الوفي
هذي سمائي في يديّ"(73).
بادئ ذي بدء؛ نشير إلى أنَّ فضاء المتخيل الزمكاني - في قصائد تميم برغوثي- يعتمد حراك الرؤى والدلالات الشعرية؛وهنا؛ نلحظ براعة الشاعر في توظيف الأماكن، بما يحقق إثارة الصور المكانية التي تثير القارئ، وتحقق متغيرها الخلاق لاسيما في الصور الجمالية المتحركة التالية: [وغوطةً بدمشقَ تنبتُ في زمانِ الحربِ/رمحاً كي يصونَ الياسمينَ]؛ واللافت أن الشاعر يكثف الصور الخلاقة التي تعزز المداليل الشعرية؛ لتؤكد شعرية المتخيل الزمكاني في تحريض الرؤيا وتكثيف مدلولها النصي. وصفوة القول: إن فضاء المتخيل الجمالي/ الزمكاني- في قصائد تميم البرغوثي- يعتمد المشاهد المتحركة على مستوى الأماكن المتخيلة، والواقعية؛ والمتعلقات الزمانية المرتبطة بها؛ ليكون المكان سيرورة جمالية في تحريك الصورة وإبراز متحولها الجمالي على صعيد الرؤيا، والدلالات المرتبطة بها.
نتائج أخيرة:
لاشك في أن بلاغة المتخيلات الجمالية- في قصائد تميم البرغوثي- تتأسس على إنتاج الصور المركبة أو المجردة؛لاسيما في بعض القصائد التي تتنوع فيها الصور بين الحسية والمجردة؛ والواقعية والمتخيلة؛ وهذا ما يجعل من لغة الشعر لغة وأخيلة وتراكيب، ذات خصوبة في الإيحاء والتأثير.
1- إن الحنكة الجمالية التي يعتمدها تميم البرغوثي بالتلاعب بالمتخيلات الشعرية –على مستوى الصورة- هو ما يهبها التميز والمواربة والاختلاف؛ فتميم البرغوثي يملك رؤية خلاقة في أسلوب تركيب الجمل، ليبرز شعريتها، وبلاغتها المؤثرة.
2- إن فضاء المتخيل الجمالي- في قصائد تميم البرغوثي- يتأسس على إثارة الصور التخييلية، ذات المنزع التشكيلي في تجسيد الصور المكانية/ الزمكانية بإحساس جمالي؛ وهذا يعني بلاغة الشعرية في مثل هذه القصائد، وغناها بالمؤثرات الجمالية؛لاسيما عندما يقوم الشاعر بتركيب الصور؛وإثارة متغيرها الجمالي.
3- إن فضاء المتخيل الجمالي – في قصائد تميم البرغوثي- يمتاز بغنى الصور الشعرية، من حيث كثافة الرؤى المبثوثة،وغناها بالمحفزات الجمالية؛ التي تشتغل على الصور المفردة والمركبة؛والحسية والمجردة؛ مما يجعل من بعض المشاهد الشعرية ذات حيازة جمالية مؤثرة؛ غاية في الاستثارة والجمالية،لاسيما في المشاهد الدرامية/ وكثافة الأحداث الملحمية المرتبطة بها.
4- إن دهشة المتخيل الأسطوري- في قصائد تميم برغوثي – مردها الحبكة الأسطورية في ربط الأنساق الشعرية؛ وإكسابها الحركة الجمالية؛ في توليف الأنساق؛ ودليلنا أن الشاعر يوظف المتخيل الشعري بأسلوب واقعي جمالي؛ يثير الحركة الجمالية؛ ويحقق المتغير الجمالي الفعال.
5- إن فضاء المتخيل الجمالي- في قصائد تميم البرغوثي- يتأسس على مرجعية لغوية؛ تخييلية عالية؛ مردها نزعة جمالية في الإحساس، والبناء، والتشكيل؛ ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية الكثير من المتخيلات الجمالية يعود إلى حنكة الشاعر في توليف الجمل، وخلق متغيرها الجمالي الفعال.
6- إن فاعلية المتخيل الجمالي - في قصائد تميم البرغوثي تتمركز على المشاهد المتحركة والصور المركبة، وهذا ما يجعل من شعر تميم شعراً رؤيوياً بامتياز، رغم البساطة والسهولة التي يعتمدها الشاعر في بعض الأحيان.
7- إن فضاء المتخيل الجمالي- في قصائد تميم البرغوثي- يتأسس على إثارة المتخيلات البعيدة التي تترك إيقاعها الجمالي في النص من خلال كثافة الرؤى والدلالات الجديدة؛ والمراوغة في الانتقال من السرد إلى الوصف؛ ومن الوصف إلى السرد؛ ومن الحوار إلى السرد؛ وهكذا دواليك؛ وهذا إن دل على شيء،فيدل على تنوع الأساليب الشعرية المحرضة للشعرية إثارة وحركة جمالية.
وبعد، فإن المتخيل الجمالي -في قصائد تميم البرغوثي- هو الذي يهبها ألقها، وجمالها الشعري؛ولاشك في أن غنى هذا الجانب النقدي في قصائد تميم البرغوثي ليدل على الفكر الجمالي الذي يملكه الشاعر في تشكيل القصيدة، بملمحها الشاعري المؤثر؛ وخصوصيتها الإبداعية المميزة. والحق يقال: إن تجربة الشاعر الشعرية على الرغم من مدها الزمني ليس بالطويل؛ فإنها عكست قدرة بالغة على اقتحام مملكة الشعر الإبداعي الحقيقي؛ دون أ ن نلحظ عجزاً في مفاصلها ومؤثراتها اللغوية؛ وهذا ما يحسب لها على المستوى الإبداعي.
الحواشي:
(1) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 370.
(2) المرجع نفسه، ص 405.
(3) المرجع نفسه، ص 537.
(4) المرجع نفسه، ص 537.
(5) المرجع نفسه، ص 528.
(6) المرجع نفسه، ص 528.
(7) زين، هارون، 1998- الحرية والمسؤولية، تر: هيثم فرحت، مجلة الفكر العربي، ع92، ص 110.
(8) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 547.
(9) المرجع نفسه،بتصرف، ص 547.
(10) المرجع نفسه، ص 547.
(11) المرجع نفسه، ص 547.
(12) شرتح،عصام،2011- تميم برغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية، دار الصفحات،دمشق،ص62.
(12) المرجع نفسه،ص131.
(13) المرجع نفسه،ص.73
(14) المرجع نفسه،ص77
(15) المرجع نفسه،ص134
(16) المرجع نفسه،ص152.
(17) برتليمي،جان،1970- بحث في علم الجمال ص 547-548.
(18) شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص 27.
(19) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 405.
(20) المرجع نفسه، ص 406.
(21) شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص 82.
(22) شرتح،عصام،2012-تميم برغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)،ص101-102.
(23) المرجع نفسه،ص66.
(24) المرجع نفسه،ص119.
(25)المرجع نفسه،ص119.
(26)شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية ،ص 284.
(27) الحسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص 200.
(28) المناصرة، حسين، 2004- الحجر بين الترميز والأسطرة، مجلة علامات في النقد، ج52، م13، ص 204، النادي الأدبي الثقافي بجدة.
(29) اليوسفي، لطفي، 1992- كتابات المتاهات والتلاشي في النقد والشعر ، دار سراس للنشر، تونس، ص 100. نقلاً من مقال المناصرة، حسين ، مرجع سابق، ص 505.
(30) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 98.
(31) الحسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص 199-200.
(32)شرتح ،عصام؛2012- تميم البرغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية،ص95.
(33) المرجع نفسه،ص97.
(34) المرجع نفسه،ص99-100.
(35) المرجع نفسه، ص99-100.
(36) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 242.
(37) المرجع نفسه، ص 242.
(38) المرجع نفسه، ص 242.
(39) شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص 79.
(40) شرتح ،عصام؛2012- تميم البرغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية،ص70.
(41)المرجع نفسه،ص120.
(42) المرجع نفسه،ص192.
(43) المرجع نفسه،ص170
(44) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 74.
(45) المرجع نفسه، ص 74.
(46) المرجع نفسه، ص 80.
(47) المرجع نفسه، ص 80.
(48) المرجع نفسه، ص 81.
(49) المرجع نفسه، ص 88.
(50) المرجع نفسه، ص 94.
(51) المرجع نفسه، ص 95.
(52) شرتح ،عصام؛2012- تميم البرغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية،ص98.
(53) المرجع نفسه،ص67.
(54) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال ، ص 136-137.
(55) المرجع نفسه، ص 162.
(56) المرجع نفسه، ص 174.
(57) المرجع نفسه، ص175-176.
(58) المرجع نفسه،ص176.
(59) المرجع نفسه،ص177.
(60) شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 73.
(61) شرتح ،عصام؛2012- تميم البرغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية،ص150-151.
(62)المرجع نفسه،ص151.
(63) المرجع نفسه،ص153.
(64)المرجع نفسه،ص163-164.
(65) شرتح ،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص448.
(66) المرجع نفسه،ص447.
(67) برتليمي،جان،1970- بحث في علم الجمال،ص74.
(68) المرجع نفسه،ص77.
(69) شرتح، عصام ، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص 178.
(70) الحسين، قصي، 1998- تشظي السكون في العمل الفني، ص 198.
(71) ) شرتح ،عصام؛2012- تميم البرغوثي(دراسة في المحفزات الجمالية)ومختارات شعرية،ص111-112.
(72) المرجع نفسه،ص49.
(73)المرجع نفسه،ص136-137.