من الظواهر الاجتماعية والثقافية التي فرضت نفسها في الساحة الفكرية اليوم جدلية المثقف والسلطة لما لها من انعكاسات على التنمية والازدهار وتطوير دواليب الاقتصاد والمجتمع قصد اللحاق بمصاف الدول المتقدمة التي تهتم بالمثقف وتسانده على الفعل والعطاء وتبارك ثمراته وتمنحه الحرية والدعم للمساهمة في تنوير المجتمع وتوعيته عبر مراعاة مقاييس الكفاءة والخبرة في إسناد الوظائف والمهام القيادية في تسيير دفة الحكم أو السلطة الإدارية والسياسية. إذا، ما دلالات مفهوم الجدلية؟ وما مفهوم السلطة؟ وما هو المثقف وغير المثقف؟ وما هي مجمل التصنيفات التي اهتمت بتنميط المثقف والمثقفين؟ وما هي العلاقات الموجودة بين المثقف والسلطة؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا المتواضع هذا.
* * *
1- مفهوم الجدل والجدلية والصراع الجدلي:
يعني الجدل في دلالاته اللغوية الحوار والمناظرة والنقاش الكلامي والاختلاف البناء. ويستوجب هذه الجدل اصطلاحا طرفين فأكثر يتمتعان بالحرية والثقافة الواسعة، فيتم بينهما تخاطب تواصلي الغرض منه الدفاع عن القضية عبر مجموعة من الثوابت المنطقية والمراقي الحجاجية والبراهين العقلية والأدلة والشواهد النصية والذهنية قصد إقناع الخصم بصحة نظر المدعي ووجاهة أطروحته التي ينكرها المدعى عليه، وكل هذا من أجل إفحام الخصم النظير تأثيرا وإقناعا. ويكون التأثير هنا على أساس وجداني عاطفي، أما الإقناع فيكون أساسه عقلي ومنطقي.
وفي الفكر الإسلامي وجدنا كثيرا من التوجهات الجدلية وتمظهرات المناظرة الحجاجية كما عند فرق علم الكلام (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والشيعة والخوارج والمرجئة)، والمناظرة النحوية المنطقية بين السيرافي ويونس بن متى بله عن مناظرات جدلية أخرى تحفل بها كتب الأدب العام والثقافة الفلسفية والدينية.
ولكن الجدل في المفهوم الفلسفي يعني الصراع والتضاد الكمي والكيفي ناهيك عن دلالة التناقض والاختلاف وفلسفة التعاكس. وتوجد ظاهرة الجدل القائمة على الصراع والتضاد والتناقض في جميع مظاهر الكون، وخير دليل على ذلك الثنائيات الكونية: الليل والنهار، والصباح والمساء، والحياة والموت، والغنى والفقر، والجفاف والخصوبة، ولا ننسى أن نقول بأن حياة الإنسان بدأت جدليا على مستوى الصراع منذ ظهور أول إنسان على وجه الأرض: فآدم يقابل حواء على مستوى الغواية الجنسية، وقابل يدخل في صراع جدلي مع هابيل، وكان من نتائج هذا الصراع الأخوي نشوء الجريمة الثقافية الأولى وعملية دفن الإنسان. ومن هنا بدأ الصراع بين الكفر والإيمان من خلال صراع ثنائية الخير والشر إلى يومنا هذا بالتماثل مع ظهور الرسائل السماوية وتعاقب الأنبياء والرسل والحكماء.
ومن أهم الفلاسفة المنظرين للجدل نستحضرهيجل وفيورباخ وإنجلز وماركس ورايمون آرون وآخرين.
وعليه، فالجدل عند هيجل يتكون من أقطاب ثلاثة: الأطروحة ونقيض الأطروحة والتركيب. لكن الجدل عند هيجل كان جدلا مثاليا ترجح فيه كفة العقل والفكرة المطلقة على كفة الواقع المادي، ويعني هذا أن العقلي هو الذي يحدد الواقعي وما هو مادي. وبما أنه قد أعطى الأهمية للروح والعقل والفكر في توجيه دفة التاريخ والمعطى المرجعي فقد كان مثاليا على عكس الفيلسوف فيورباخ الذي كان جدليا ميكانيكيا وآليا في تصوراته التحليلية. أما ماركس فقد رفض التصور الهيجيلي المثالي الذي مشّى الجدل على رأسه وليس على رجله كما عدّله أنجلز وماركس.
وينبني الجدل في التوجه الماركسي على الصراع منذ ظهور الشغل وتقسيمه بين أفراد البشر، والمقابلة بين البنى الفوقية والبنى التحتية، بيد أن الأولوية تعطى دائما لما هو مادي واقتصادي وواقعي. وقد أثبت إنجلز في أبحاثه الأنتروبولوجية أن الإنسان كان أصله قردا، ولكنه تحول إلى إنسان بفضل الشغل والعمل. وهذا ما أثبته ماركس حينما أكد فلسفيا صراع الإنسان الديالكتيكي مع الطبيعة ومع مجتمعه الإنساني بمجرد ظهور الملكية الفردية وخاصية الشغل. ولكن هذا الصراع لم يكن موجودا بشكله الفظيع كما هو في المجتمع الرأسمالي عند الشعوب المشاعية والعبودية والإقطاعية. ولقد أصبح صراع العمال مع البورجوازية صراعا جدليا حول الحقوق والمكتسبات والامتيازات وفائض الإنتاج، ولا ينتهي هذا الصراع الجدلي إلا بانتصار المجتمع الاشتراكي والشيوعي الذي تندثر فيه الملكية الخاصة، وتصل البروليتاريا بعد ذلك إلى دواليب الحكم وتسيير آليات الإنتاج. ولكن هذا التصور يرفضه رايمون آرون الذي آمن بتعايش الطبقات الاجتماعية، كما حاول تلميذه ألتوسير أن يقرا الجدل بطريقة بنيوية وعلمية ناضجة تصحح الأخطاء التي وقع فيها ماركس الشاب. لكن التصورات الماركسية لم تنجح مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتحوله إلى اقتصاد السوق، وانتهاج الصين الشيوعية لسياسة الانفتاح الرأسمالي، وتقهقر معظم الدول الاشتراكية وانسياقها وراء التيار الليبرالي مع ظهور العولمة واتفاقية الغات. وهناك من ينكر الجدل والصراع الديالكتيكي، ويوقف التاريخ ويعلن نهايته كما نجد ذلك عند المفكر الياباني فوكـويوما. وبدأنا مؤخرا نسمع عن صراع جدلي بين الحضارات كما في كتاب " صدام الحضارات" لصمويل هنتغتون الذي أثبت في كتابه أن الحرب الحضارية في المستقبل ستندلع بين الشرق والغرب وبين الدين والمادية الغربية.
ولا نجد في الفكر الإسلامي هذا التوجه الجدلي القائم على الصراع السلبي؛ لأن الإسلام يؤمن بالحوار والتعارف والتكامل الثقافي والتعاون، فلا فرق بين الشعوب والأجناس سواء بالألوان أم بالأشكال، بل بالتقوى والعمل الصالح والتدين الرباني الهادف البناء مصداقا لقوله تعالى:" يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
* * *
2- مفهـــــوم السلطة:
السلطة هي تلك القوانين التي تلزم الحكام والمحكومين بمراعاتها وتنفيذها والاحتكام إليها. كما أنها عبارة عن حقوق وواجبات يلتزم بها المجتمع والطبقة الحاكمة في إطار عقد اجتماعي وسياسي أوتنازل الشعب عن مجموعة من الحقوق بشكل كلي أو نسبي للحاكم ليوفر للرعية ما تحتاج إليه من مستلزمات ضرورية كالشغل والتعليم وتوفير الحرية والآمان والسكن في مقابل واجبات يقوم بها المحكوم. لكن تبقى السلطة حلم كل فرد في المجتمع؛ لأنها تتعلق بالامتيازات والأبهة والمكانة السامية والثروة، وتنقل الإنسان من مرتبة دنيا إلى مرتبة عليا. وتساهم الرغبة في امتلاك السلطة في إذكاء فتيل الصراعات والحروب والانقلابات السياسية والعسكرية، وخلق التفاوت الطبقي والهرمي، وتوليد الحقد الاجتماعي بين العمال من فلاحين وصناع وحرفيين ورعاة ضد المثقفين من جهة والحكام من جهة أخرى.
وتنبني السلطة على مقياسين أساسيين وهما: المنفعة المادية والمتعة الوجدانية. ومن ثم، كانت السلطة في مرحلة الطبيعة ترتكز على القوة والبطش والقهر والعنف الطبيعي، وكان البقاء في الحياة للأقوى والأصلح، وكان الكل يحارب الكل كما يصور ذلك هوبز في كتابه " التنين"، وبالتالي، تحول الإنسان في عالم الطبيعة إلى ذئب لأخيه الإنسان. وهذا مادفع الفلاسفة للتفكير في مجتمع يحتكم إلى القانون والقواعد والعلم واحترام الآخرين وسموه بمجتمع الدولة وسيادة السلطة وإرساء دولة الحق والقانون كما نجد ذلك عند جان جاك روسو وكلود ليڤي شتروس وهنري ميشو وبنجمان كونستان. ومن هنا أصبح الحديث عن نوعين من السلطة: سلطة الإلزام والإكراه كما في المجتمعات الدكتاتورية والمستبدة والاستعمارية، وسلطة الالتزام والواجب القائمة على احترام الحريات والقانون والاحتكام إلى الفضيلة كما في المجتمعات الديمقراطية.
هذا، ويرتبط مفهوم السلطة بالحكم والحاكم والفئة الحاكمة أوالسلطة التنفيذية. وقد تكون السلطة وراثية أو قائمة على الشورى. كما تكون ديكتاتورية مطلقة أو ديمقراطية أو أرستقراطية أو تيوقراطية أوبيروقراطية أو أوليغارشية (حكم الأقلية). وغالبا ما تغلف هذه السلطة بقناع الإيديولوجية والديماغوجية والاعتماد على القهر والتسلط والتجبر والتحكم في رقاب العباد قسرا وجبرا. ومن ثم، تعرض علاقة الحاكم بالمحكوم أو السلطان بالرعية على محك النقد والتنظير، فتنشأ الآداب السلطانية أو السياسة الشرعية التي تهدف إلى وضع شرائع ودساتير سواء أكانت عرفية أم مكتوبة أو سواء أكانت جامدة أم مرنة من أجل تقنين سلطة الحاكم والمحكوم في إطار الحقوق والواجبات. وعندما تسيطر الفئة الحاكمة بالتعيين أو بالاختيار فهي التي سيكون لها الحكم والقرار في تسيير شؤون البلاد إما بطريقة ديمقراطية أو استبدادية تعسفية تستند إلى الشطط والقهر والقمع والتعذيب وكبت الحريات والنفي والاعتقال ومصادرة حقوق الإنسان وأملاكه.
هذا ويعرف فاولر Fowler السلطة بأنها" قدرة الأشخاص والمؤسسات على مراقبة سلوك الآخرين وحياتهم اليومية. وينتج عن هذا الوضع تماثل في العلاقات"(1). ويعني هذا أن السلطة هي أوامر ونواه تواصلية فوقية توجه من الحكام إلى الرعية والجماهير الشعبية لتنفيذها، أومراقبة الآخرين ومحاسبتهم بشكل يومي، ومن هنا ينتج ذلك الصراع الجدلي والطبقي بين الحاكمين والحكام من خلال الميل الشعوري واللاشعوري إلى امتلاك السلطة وزمام الحكم.
هذا، وترتبط السلطة بتنفيذ القرارات وتتداخل مع عدة مفاهيم كالحق والقانون والحرية والعدالة والمؤسسة والنظام والشرعية والتراتبية الهرمية والدستورية والالتزام بكل ماهو رسمي وسياسيي، وتعتمد في التنفيذ على القوة المادية والمالية والمعنوية.
ويدخل في نظام السلطة الحاكم سواء أكان ملكا أم رئيسا أم أميرا، ثم الحكومة بطاقمها الوزاري والأطر التنفيذية من قمة الهرم السيادي إلى أدنى مرؤوس مرورا بمؤسسات التشريع الدستوري والقضائي والبرلماني إلى أصغر موظف حكومي وخلية مؤسساتية وهي الجماعة المحلية والقيادة. وفي المغرب –مثلا- تتمظهر السلطة في ثنائية الملك والمخزن، وفي مقابل السلطة نجد الشعب والمجتمع المدني والمثقفين والنقابات، أما الأحزاب فهي مواقع وسيطة بين السلطة والرعية تقوم بأدوار دفاعية وتأطيرية وإيديولوجية.
* * *
3- مفهـوم المثقـف:
من المعروف أن الحضارة هي نتاج بشري مرتبطة بالجهد الإنساني والعمل الدؤوب والزمن التاريخي. وتتأسس الحضارة على مقومين بارزين: مقوم مادي يتمثل في التكنولوجيا، ومقوم معنوي يتجسد في الثقافة. ولتحقيق الحضارة لابد من صيرورة عملية وإنتاجية وإبداعية مكثفة ومستمرة عبر التاريخ والزمن لجني الثمار المادية والمعنوية(2).
وعليه، فالثقافة هي كل ما يتعلق بالعلوم والفنون والآداب والمعتقدات والصناعات التقنية والأديان. وبتعبير آخر الثقافة هي هذه" المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما"(3). ويعني هذا أن الثقافة تشمل المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية، وقد وعرفها أنور عبد الملك بأنها "كل ما يصور تجارب الإنسان -شعراً، ونثرا، ولوناً، ونغمة، وشكلاً، وصورة. كل تعبير- أيا كان شكله، ونمطه، وهدفه، وأصالته، ونوعيته. كل ما من شأنه أن يخرج أحوال الناس من برجها الذاتي إلى ساحة الإدراك والتذوق والفاعلية"(4).
وإذا كانت الشعوب البدائية تعرف بالاحتكام إلى الطبيعة وسننها وقوى الأسطورة أو الميتوس، فإن الشعوب المتحضرة تحتكم إلى الثقافة واللوغوس. أما كلمة المثاقفة Acculturation فهي عملية انصهار الحضارات وتبادل المعارف والثقافات بين الشعوب من خلال الاحتكاك الثقافي والترجمة والاطلاع على أراء الآخرين. كما أن المثقف هو الشخص الذي يمارس العمل الذهني والتفكير وينتج الآداب والعلوم والفنون ويخترع التكنولوجيا. ويعرف المثقف بأنه ذلك الشخص الذي ينتج كل الدوال اللفظية والبصرية من شعراء وناثرين وكتاب وموسيقيين وفلاسفة وتشكيليين وسينمائيين ومسرحيين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تعدد فروع الثقافة وكثرة أقطابها ومسالكها وتعدد مزاوليها من البشر. ويمكن أن نميز مع أنور عبد الملك بين المثقفين (بفتح القاف) والمثقفين (بكسر القاف). فالفئة الأولى من المثقفين هم المتعلمون العاديون الذي يشتغلون بكل ماهو ذهني ابتداء من المربي والقارئ العادي إلى المرؤوس والمنفذ. أي كل من يعرف القراءة والكتابة؛ ولكن غير قادر على قيادة المجتمع وتنويره ثقافيا بسبب عجز هذا المثقف عن الإبداع والإنتاج الفكري. أما الفئة الثانية فالمقصود بها"الذين يشتغلون في أعمال تسعى لنشر الثقافة بين الجماهير الواسعة من الناس، أو إلى تكوين فئة المثقفين العاديين"(5).
وتتمثل منابع الثقافة عند المثقف المتنور في المصدر الطبيعي من خلال استغلال الطبيعة واستثمارها والصراع معها جدليا للتحكم فيها مخافة من رعبها وكوارثها الخطيرة التي تهدد حياة الإنسان وبقاءه. ولا يقتصر هذا الصراع على ما هو طبيعي فقط، بل يتعداه إلى الصراع الداخلي، والصراع مع الأفراد من بني مجتمعه، والصراع مع مقابله الجنسي الذي يتمثل في المرأة، ناهيك عن الصراع الاجتماعي والصراع الطبقي. والهدف من الثقافة هو تحقيق المتعة الوجدانية والمنفعة المادية. أي إن المثقف يعبر عن نقص شعوري ولاشعوري وحرمان على مستوى تحقيق الرغبات والنزوات والإشباع المادي. ومن ثم، فالثقافة تعويض عن النقص والحرمان والكبت. وتستلزم الثقافة إلى جانب المتعة والمنفعة ثنائيات أخرى كاللعب والعمل والشكل والمضمون والعقل والعاطفة. ويقول بوعلي ياسين "إن المثقف الأديب أو الفنان لايقدم مضموناً أو شكلاً، بل يقدم نفعاً و/ أو إمتاعاً. ولا يمكن أن يكون هناك عمل فني دون مضمون، تثقيفي أو إمتاعي. إنما الخلاف على الأولوية بين المضمون والشكل. لولا وجود الصراع الطبقي، أي لو لم يكن الاستغلال والاضطهاد من مكونات مجتمعنا، لما اختلفنا مع أحد حول أن الشكل هو المقياس الوحيد في النقد الفني أو الأدبي، والأصح أن نقول: لولا الصراع الطبقي، لما كان ثمة فرق بين المضمون والشكل، ولكانت مقاييس الجمال في جوهرها واحدة في تقييم الأعمال الفنية لدى كل مجتمع أو لدى كل جماعة بشرية في مرحلة زمنية معينة"(7).
ويختلف المثقف الاحترافي الفردي المتخصص أو الموسوعي عن المثقف الشعبي الذي يبدو فاعلا جماعيا يعتمد على الذاكرة الجماعية ويحمل في جعبته هموم الطبقة الكادحة، ويعبر عنها بطريقة عفوية ساذجة أو ثورية أو يذعن في تعبيره لسلطة الفئة الحاكمة خوفا وتذللا. ومن سمات هذه الثقافة: الرواية الجماعية والذاكرة والعراقة والواقعية والشفوية وعدم التدوين.
وعند دراسة المثقف لا بد من مراعاة الذاتي والموضوعي، ومقاربة منتوجه أفقيا وتحتيا، وذلك بريط كل ماهو ثقافي وفني وجمالي بالبنى التحتية المرجعية الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والنفسية والرؤى الإيديولوجية. ولابد من تحديد مجموعة من الضوابط أثناء الحديث عن المثقف ونحصرها في العناصر التالية:
أ- المنبت الطبقي للمثقف أثناء نشأته؛
ب- وضع المثقف الطبقي الآن، أي وضعه الاجتماعي في الحاضر والمستقبل الذي قد لايتطابق مع منبته الأصلي،
ت- الوعي الطبقي وهو وعي سياسي للصراعات الطبقية، ووعي ذاتي لموقف المثقف المعني منها؛
ث- الموقف أو الموقع الإيديولوجي الذي يكون مرتبطا بالوعي الطبقي، أو يكون مستقلا عنه، إنما نابعا من تجربة طبقية راسخة في النفس وفاعلة هنا(8).
وللتمثيل على هذه المحددات الأربعة نورد تصريحا للكاتب الأمريكي أوديتس (1906-1963) أمام لجنة الكونغرس للنشاط الأمريكي: "حاولت دائما أن أكتب، ليس انطلاقا من أية موضوعات ترتبط بجانب واحد من نفسي، بل انطلاقا من موضوعات محورية وثيقة الصلة بحياتي ذاتها. وأذكر أنني قررت في لقائنا الأخير أنني إذا كنت قد انفعلت تجاه مواقف معينة من الفقر، فهذا لأن أمي كانت تعمل في مصنع جوارب في فيلادلفيا في سن الحادية عشرة وماتت امرأة محطمة- وعجوزا- في سن الثامنة والأربعين عندما أكتب، ياسيدي، انطلاقا من الشيوعية"(9).
فهذا النص يشير بكل جلاء إلى المنبت الأصلي للمثقف ووضعه الحالي، كما يعكس لنا وعيه الطبقي والإيديولوجي.
* * *
4- تصنيف المثقفين:
ثمة تصنيفات عدة للمثقفين تدل على كثرة المقاربات وتنوع مصادرها واختلاف رؤى أصحابها الفكرية والإيديولوجية. وغالبا ما يصنف المثقف ضمن الطبقة المتوسطة لكونها فئة وسيطة بين الطبقة العليا التي تملك السلطة والنفوذ والجاه والقرار والامتيازات والطبقة الدنيا وهي الطبقة البروليتارية من فلاحين وعمال ورعاة وحرفيين. ويتمثل دور هذه الطبقة في توعية الجماهير الشعبية وتنويرها وتأطيرها مادام المثقفون لهم دور الريادة في توجيه دفة المجتمع وقيادته وإرشاده، ومن هنا تأتي أهمية الرسالة المنوطة بالمثقف وهي رسالة مقدسة ومسؤولية عظمى. ولكن المثقف لا يميل دائما إلى صف العمال والجماهير الكادحة، فقد يتطلع إلى الطبقة الحاكمة ليستفيد من منافعها وامتيازاتها المعنوية والمادية، وبهذا يتسلق طبقيا ويصبح بوقا للسلطة الحاكمة الجبرية وداعيا إيديولوجيا مخدرا يقدم التبريرات ويعطي المشروعية للنظام وما تقوم به السلطة الحاكمة من أعمال وإنجازات. ومن ثم يعمل المثقف على نشر أفكار الطبقة الحاكمة ويساهم في الاستلاب والاستغلال والاضطهاد.
وهناك من المثقفين من يعبر عن طبقته الاجتماعية ويناضل من أجلها كما هو شأن الروائي المغربي عبد الكريم غلاب في روايتيه: "دفنا الماضي" و"المعلم علي"، وهناك من يتسلق إلى الطبقة الحاكمة ويتناسى جذوره الاجتماعية كما هو شأن نجيب محفوظ في مرحلة السادات ومرحلة محمد حسني مبارك، إذ أصبح هذا الكاتب المحترم بوقا لسياسة الانفتاح والتطبيع مع إسرائيل، ناهيك عن الفنان المتميز عادل إمام الذي أصبح بدوره قناة إيديولوجية في مصر يعبر عن سياسة الحزب الحاكم. وهناك من ينتمي إلى الطبقات العليا كالطبقة الأرستقراطية، ولكنه ينزل إلى الشعب ليدافع عن الطبقات الكادحة مثل هونوري بلزاك في رواياته وكتاباته الإبداعية، ومن الذين تنكروا لطبقتهم الاجتماعية شكسبير في كثير من مسرحياته وگوته في مسرحيته "فاوست". وعلى الرغم من انتماءاتهما الإقطاعية وكونهما من أصحاب النفوذ والجاه فإنهما كانا يناصران الطبقة البورجوازية المتنورة والمتطلعة إلى الحرية والمستقبل والازدهار. ومن الثقافة العربية نذكر ابن خلدون الذي عاش في القصور مع السلاطين والأمراء، ولكنه كان يدافع عن الطبقات الاجتماعية المتضررة، ويحمل فكرا تنويريا كما توضح ذلك نظريته في العمران البشري، وكما صورته أيضا رواية "العلامة" لبنسالم حميش.
وهناك من يصنف المثقف إيديولوجيا إلى المثقف الرجعي في مقابل المثقف الثوري أو المثقف المحافظ مقابل المثقف التقدمي أو المثقف الاشتراكي مقابل المثقف الليبرالي أو مثقف اليمين مقابل مثقف اليسار أو المثقف المناضل المخلص الصادق مقابل المثقف المزيف، وهناك من يرتب المثقف حسب الهرم الاجتماعي فيقول مثقف الطبقة العليا ومثقف الطبقة المتوسطة ومثقف الطبقة الصغيرة.
أ- تصنيف المثقفين في الغرب:
حاول كثير من الدارسين والفلاسفة تصنيف المثقفين حسب رؤاهم الإيديولوجية وتوجهاتهم الفكرية والسياسية والحزبية نذكر على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر: ماركس وإنجلز ولوكاش ولوسيان گولدمان وأنطونيو گرامشي وكارل مانهايم وگورڤيتش.
فجورج لوكاش يقدم تصنيفا واقعيا ممزوجا بالمادية الجدلية حيث يصنف المثقفين المبدعين إلى المثقف المثالي كما في رواية "دونكيشوت" لسيريفانتيس حيث نجد الذات أصغر من الواقع، والمثقف الرومانسي حيث الذات أكبر من الواقع كما في رواية "التربية العاطفية" لفلوبير، والمثقف المتصالح الذي يتكيف مع الواقع كما في رواية "سنوات تعلم فلهلم مايستر" لگوته. ولكن لوكاش يدافع عن المثقف الإيجابي الاشتراكي الذي يتمثل في تولوستوي الذي ألف روايات ذات البطل الجماعي الإيجابي.
أما لوسيان گولدمان فينطلق من البنيوية التكوينية ليقدم تصنيفا يتماثل فيه الأدب باعتباره بنية جمالية مستقلة مع الواقع السوسيواقتصادي من خلال التركيز على المثقف الإشكالي الذي يحمل قيما أصيلة يريد أن يفرضها في واقع منحط يحبل بالقيم المنحطة التبادلية المتعلقة بالسوق الرأسمالية التي لاتعترف سوى بالبضائع وتبادل السلع وتأليه الأشياء والاستهلاك على حساب القيم الأصيلة والقيم الاستعمالية. ويتردد المثقف الإشكالي في هذا التصور البنيوي التكويني جدليا بين الذات والموضوع ويجمع بين خصائص إيجابية تتمثل في دفاعه عن القيم الأصيلة وخصائص سلبية تكمن في عدم إنجازيته وفشله الذريع في تغيير الواقع، وبالتالي تصبح هذه الشخصية حسب ميشيل زيرافا شخصية غير منجزة ولا مكتملة في دورها التحريضي والتغييري.
وقد ميز كل من إنجلز وماركس بين نوعين من البنى: البنية الفوقية التي يمثلها المثقفون أصحاب الإيديولوجية، والبنية التحتية التي تتمثل في الجانب المادي الذي يحدد وعي المثقفين ومنطلقاتهم الفكرية والاجتماعية. ويعني هذا أن الثقافة نتاج الواقع المادي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. يقول ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" بأن البشر يدخلون في"علاقات محدودة، ضرورية، مستقلة عن إرادتهم. وهي علاقات إنتاج تناسب درجة محددة من تطور قواهم الإنتاجية المادية، وجملة علاقات الإنتاج هذه تكون البنية الاقتصادية للمجتمع، أي القاعدة الملموسة التي تنبني عليها بنية فوقية قانونية وسياسية والتي تناسبها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن نمط إنتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بصفة عامة، وليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل يحدد وجودهم الاجتماعي وعيهم، إن قوى المجتمع الإنتاجية المادية في مرحلة ما من تطورها تكون في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة أو مع ماليس إلا تعبيرا قانونيا عنها، أي علاقات الملكية التي تغيرت داخلها (هذه القوى) حتى تلك المرحلة. وبعد أن كانت هذه العلاقات أشكال تطوير للقوى الإنتاجية تصبح قيدا لها.
وهكذا تبدأ فترة الثورة الاجتماعية. فتغير القاعدة الاقتصادية يحدث تغييرا سريعا على حد ما في البنية الفوقية الضخمة، وعند اعتبار هذه التغيرات يجب التمييز دائما بين التغير المادي لظروف الإنتاج الاقتصادي الذي تمكن معاينته بطريقة علمية محكمة وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية أو الفلسفية، أي باختصار الإيديولوجية، التي فيها يعي البشر هذا النزاع ويقودونه حتى منتهاه. وكما أنه لا يحكم على فرد استنادا إلى الفكرة التي له عن نفسه، كذلك لايمكن الحكم على فترة التغير استنادا إلى وعيها لذاتها، يجب على عكس ذلك تفسير هذا الوعي بتناقضات الحياة المادية، أي بالنزاع الموجود بين القوى الإنتاجية وبين علاقات الإنتاج"(10). [10]
وإذا كان كارل ماركس يركز على العوامل المادية والاقتصادية في تحريك البنى الفوقية وتمثلاتها الثقافية، فإن ماكس ڤيبرMAX WEBER يرجع ظهور الفكر الرأسمالي إلى الخلفيات الدينية والبروتستانتية، ومن ثم يدافع ماكس ڤيبر عن العوامل الروحية والدينية في تحريك المادية التاريخية، وهذه النظرية هي تماما نقيض نظرية ماركس.
ويعتبر أنطونيو گرامشي المنظر الأول بامتياز للمثقف والمثقفين، ويستلهم تصورات إنجلز وماركس ويوظف مفهوم الكتلة التاريخية في تصوير الوحدة العضوية الموجودة بين البنية الفوقية والبنية الاجتماعية" تشكل البنية مع البنى الفوقية كتلة تاريخية واحدة، بمعنى أن المجموع المركب المتناقض للبنى الفوقية هو انعكاس لمجمل علاقات الإنتاج الاجتماعية، ويعتمد هذا التحليل على التفاعل الضروري بين البنية والبنى الفوقية (وهذا التفاعل هو العملية الديالكتيكية الحقيقية)"(11).
وتضم البنية الفوقية حسب گرامشي مستويين أساسيين يطلق عليهما گرامشي المجتمع المدني والمجتمع السياسي "يمكننا تعيين طابقين اثنين في البنى الفوقية. الأول نسميه طابق المجتمع المدني أي جملة المؤسسات التي تسمى تداولا مؤسسات خاصة، أما الثاني فطابق المجتمع السياسي أو الوظيفة القيادية التي تعبر عنها الدولة أو الحكومة القانونية"(12).
ويصنف گرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقف العضوي والمثقف التقليدي، فالمثقف العضوي هو المثقف التقدمي الذي يدافع عن الطبقات الاجتماعية المتنورة التي تدعو إلى التقدم والسير نحو الأمام وتعبر عن الكتلة التاريخية المادية الجديدة، بينما المثقف التقليدي هو الذي ما يزال يدافع عن الطبقات الاجتماعية المحافظة المنقرضة أو أوشكت على الإفلاس والانقراض:" كل طبقة اجتماعية تولد أصلا على أرضية وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي تخلق عضويا -وفي نفس الوقت الذي تولد فيه- شريحة أو شرائح من المثقفين يزودونها بتجانسها وبوعيها لوظيفتها الخاصة لا في الميدان الاقتصادي فحسب، بل في الميدان السياسي والاجتماعي أيضا: فصاحب المعمل الرأسمالي خلق معه مهندس الصناعة وعالم الاقتصاد السياسي ومنظم الثقافة الجديدة والقانون الجديد، إلى آخره"(13).
ب- تصنيف المثقفيـن في الفكر العربي:
لقد ظهر الاهتمام بالمثقف بعد نكسة حزيران سنة 1967م لتقويم دور المثقف وتـبيان وضعيته الحقيقية داخل المجتمع وموقفه الحضاري ورؤيته الإيديولوجية وعلاقته بالسلطة إيجابا وسلبا. وقد شمل الحديث عن المثقف التقليدي والمثقف الحداثي ضمن توجهات ورؤى مختلفة: فلسفية، وسياسية، وفكرية، وسوسيولوجية، وأدبية.
ومن هؤلاء الدارسين والمنظرين نستحضر عبد الله العروي في "الإيديولوجية العربية المعاصرة" و"أزمة المثقفين العرب"، وأنور عبد الملك في كتابه "دراسات في الثقافة الوطنية"، وسيد عويس في كتابه "حديث عن الثقافة، بعض الحقائق المصرية المعاصرة"، وطيب تيزيني في "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" و"حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث"، وهشام شرابي في كتابه "المثقفون العرب والغرب"، وأمير إسكندر في كتابه "تناقضات في الفكر المعاصر" ومهدي عامل في كتابه" أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية؟"، والسيد ياسين في "التحليل الاجتماعي للأدب"، وأدونيس في مقاله" خواطر حول مشكلات التعبير والاتصال الشعريين في المجتمع العربي"(14)، وعلي حرب في كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف"، وبوعلي ياسين في كتابه "ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي" وكتابه المشترك مع نبيل سليمان تحت عنوان: "الأدب والإيديولوجيا في سورية" والطاهر لبيب في كتابه "سوسيولوجيا الثقافة".
ومن التصنيفات التي نذكرها للمثقف ما قام به بوعلي ياسين في كتابه "ينابيع الثقافة ودروها في الصراع الاجتماعي" حيث حدد سبع فئات من المثقفين وهي:
1- فئة تعبر عن التوجهات الرجعية للطبقات العليا.
2- فئة متنورة من الطبقات العليا ماتزال تحمل شيئا من مسؤولية قيادة المجتمع.
3- ثالثة تمثل شريحة من الطبقات الوسطى والدنيا المرتبطة بالطبقات العليا، النازعة على التسلق الطبقي، ومنها تكونت البورجوازية الجديدة.
4- رابعة ذات إيديولوجيا وسطية ومواقف مستقلة بين اليمين والبورجوازي الأرستقراطي واليسار البروليتاري.
5 خامسة من الطبقات المتوسطة ذات توجه يساري منحاز إلى الطبقات الدنيا.
6 – سادسة تضم مثقفين اشتراكيين من أصول أرستقراطية ورأسمالية.
7- سابعة تنتسب إلى الطبقات الدنيا واقعا وفكرا"(15).
أما عبد الله العروي في كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" فيحدد ثلاثة أنماط من المثقفين حسب الوعي الإيديولوجي: المثقف السلفي، والمثقف الليبرالي، والمثقف التقني.
وشخصيا يمكن الحديث عن نوعين من المثقفين: مثقف التغريب الذي يتخذ الغرب مرجعا للتقدم والازدهار، ومثقف التأصيل الذي يعتبر التراث محكا للحداثة الحقيقية ونقطة انطلاق للسير نحو آفاق المستقبل، وذلك بالحفاظ على الهوية والذات مع الانفتاح على كل ما هو مستحدث وجديد. ويترجم لنا هذا التصنيف إشكالية الأصالة والمعاصرة وجدلية الماضي والحاضر.
* * *
العلاقة بين المثقف والسلطة:
إن العلاقة بين المثقف والسلطة قد تكون علاقة جدلية مبنية على التحدي والنقد والنضال المستميت والصمود والصراع من أجل تحقيق الحرية وإحقاق حقوق الإنسان وإبطال الباطل وتقويض دعائم الفساد السياسي، وغالبا ما يكون رد فعل أصحاب السلطة تجاه هذا المثقف العضوي هو استعمال الضغوطات المعنوية والمادية من نفي واعتقال وتعذيب أو استعمال خطاب اللامبالاة والإقصاء والتهميش وطرده من وظيفته أو اللجوء إلى تسييجه بالإقامة الجبرية. ويصبح المثقف هنا بمثابة فاعل ثوري ملتزم بالمبادئ التي يؤمن بها، يقوم بوظيفة التوعية والتنوير والتأطير ويتحول إلى رمز ثوري ومناضل بروميثيوسي.
وهناك من المثقفين من يتصالح مع السلطة ويتكيف مع الواقع ويتأقلم مع النظام ويتحول إلى بوق سياسي ومحام يدافع عن النظام السياسي الحاكم ويحمل إيديولوجية السلطة القائمة على شؤون البلاد، ويوصلها بعد ذلك في خطاب ديماغوجي إلى الجماهير الشعبية دفاعا عنها وتبريرا لها قصد أن يعطي لها المشروعية والصلاحية ويغطي بغرباله الفكري والسوفسطائي على أخطاء وهفوات الطبقة الحاكمة.
وهناك من المثقفين من يلتزم بالحياد والصمت، ولا يحرك ساكنا أو جامدا، وإذا أفصح فإنه يعبر عن مواضيع مجترة عفا عنها الزمن ودرس، لا علاقة لها بما يؤرق هموم الجماهير الشعبية الكادحة، فيحلق هذا المثقف في سماء الخيال والتجريد بعيدا عن الواقع ومشكلاته، ويسبح في أحلام يوتوبية واستشراف لآفاق رومانسية وردية بعيدة عما يعانيه الناس من فقر وبطالة وظلم وصراع طبقي واجتماعي وإحباط وقهر وقمع. ويصبح هذا المثقف عبارة عن مخدر أو مسكن يدغدغ عواطف الطبقات الاجتماعية الدنيا.
* * *
خاتمــة:
تلكم هي أهم الملاحظات المتعلقة بالجدلية والمثقف والسلطة، وتلكم كذلك أهم التصنيفات التي نمّطت المثقف والمثقفين في الفكر الغربي والفكر العربي. وقد أثبتنا أن هناك ثلاث علاقات جوهرية بين المثقف والسلطة، ويمكن اختزالها في علاقة التحدي التي ينهجها المثقف العضوي ضد السلطة المستبدة حيث يدخل معها في صراع نضالي قصد نصرة الحق والتصدي للفساد، وعلاقة استلاب التي يمثلها المثقف المتأقلم الذي لا يهمه سوى خدمة مصالحه الشخصية والدفاع إيديولوجيا وديماغوجيا عن مصالح الطبقة الحاكمة، وعلاقة الحياد التي يمثلها المثقف الرومانسي الذي يلامس المشاكل الإنسانية بسطحية وتخييل ذاتي مجرد وتعبير رمزي غامض.
* * *
الهوامش
(1) عن زهرة ماحي: (الطبيب والمريض وخطاب السلطة)، ترجمة الحبيب بنرحال السرغيني، المناهل، المغرب، العددان: 62/63، ماي، 2001، ص:171.
(2) انظر، الدكتور حسين مؤنس: الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، سلسلة عالم المعرفة، رقم 237، الكويت، سبتمبر1998، ص: 15-16.
(3) د. الطاهر لبيب: سوسيولوجيا الثقافة، عيون المقالات، المغرب، الطبعة الثانية الدار البيضاء، سنة 1986، ص: 10.
(4) أنور عبد الملك: دراسات في الثقافة الوطنية، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1967، ص: 7.
(5) أنور عبد الملك: دراسات في الثقافة الوطنية، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1967، ص: 201.
(6) د. بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي، الناشر الملتقى، المطبعة infoedition، الطبعة الثانية المغرب، سنة 2006، ص: 6-27.
(7) د. بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي، الناشر الملتقى، المطبعة Infoedition، الطبعة الثانية المغرب، سنة 2006، ص: 26-27.
(8) نفس المرجع، ص: 19.
(9) إريك بنتلي: المكارثية والمثقفون، شهادات أمام لجنة الكونغرس للنشاط غير الأمريكي، ترجمة أحمد حسان، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، 1980، ص: 222.
(10) نقلا عن د. الطاهر لبيب: سوسيولوجيا الثقافة، عيون المقالات، المغرب، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، سنة 1986، ص: 28-29.
(11) أنطونيو گرامشي: قضايا المادية التاريخية، ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت، 1971، ص: 26.
(12).GRAMSCI: Gramsci dans le texte, ed.Sociales, Paris, 1975; p: 606.
(13) A.GRAMSCI: Gramsci dans le texte, ed.Sociales, Paris, 1975, P: 597.
(14) نشر المقال في مجلة شؤون فلسطينية، سبتمبر 1973.
(15) بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة، ص: 25.