تثير الأخبار المبثوثة في كتاب "التشوف إلى رجال التصوف"(1) لابن الزيات التادلي عدداً من الأسئلة المتعلقة بمبادئ الصياغة وطرائق التشكل، فهذه الأخبار، بالإضافة إلى تأديتها لوظيفة التأريخ لمناقب الأولياء، تُقرأ بوصفها نصوصاً أدبية، لها حظها من جمالية الصياغة. وقد حاولنا في هذه الورقة المختصرة أن نتفاعل مع إشكالية مبادئ الصياغة الأدبية في هذه الأخبار، وتحديدا الأخبار التي خصصها التادلي للولي المشهور أبي العباس السبتي. فقمنا بالنظر إلى بنيتها الصياغية من خلال مستويات الإسناد والتركيب والسمات السردية.
* * *
1- المستوى الإسنادي
إن كان الإسناد في الحديث النبوي وسيلة لتحقيق الحديث، أي للبرهنة على أنه حقيقي قد صدر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعلا، فوظيفته في النصوص الأدبية التخييلية تنصرف إلى إفادة "المشاكلة"؛ أي توهم القارئ أو السامع بأن الخبر ممكن الوقوع إن كان مداره على الأحداث، وممكن القول إن كان مداره على الأحاديث(2). والنص الصوفي كثيراً ما نُظر إليه بوصفه نصاً يحمل الحقيقة ولا يجوز ردّه إلى مقتضيات التخييل، وهذا ما جعله نصا متفردا على مستويي المادة والوظيفة، نصا يتصرف في أخبار الأولياء -في حالة النص الصوفي من نوع الخبر المنقبي- ويسعى إلى التأثير في عاطفة المتلقين بالكرامية التي تنطوي عليها الأخبار المنقولة. والإسناد الذي يتصدر النص الصوفي، وتبعا للاعتقاد الذي يقضي بانفصال نصوص التصوف عن التخييل، بكل ما يعنيه التخييل من إغراق في الخيال ومجانبة للإحالة على الخارج؛ سيكون ذا أهمية قصوى، وستتجاوز وظيفته إثبات إمكان الوقوع إلى إثبات الوقوع وتقريره.
يسوق ابن الزيات خبراً يتحدث عن أفضال أبي العباس وكراماته. والإسناد الذي تصدر هذا الخبر يشرف عنه ابن الزيات بنفسه، يقول: "حدثني الفقيه أبو عبد الله ..."(3). ولا شك أن إيراد الخبر بإسناد ذاتي له أهميته في إثبات واقعية النص، فلنتابع تتمة الإسناد: "... بن الفقيه أبي العباس عن أبيه أنه أخبره". ترتفع قيمة هذا الاختيار في إيراد الخبر بسلسلة إسنادية ذهبية : الراوي+ ابن أبي العباسّ+ أبو العباس السبتي. ومثل هذا الاعتناء الشديد بالإسناد يدعم بصيغ إثباتية متنوعة، مثل: "وحدثنا أبو الحسن على بن أحمد الصنهاجي، قال: خدمت أبا العباس السبتي أربعة أعوام ..."(4). تظهر في هذا النص مشيرات تدل على مطابقة أحداثه للواقع، مثل خدمة الراوي لأبي العباس ومخالطته أياه أربعة أعوام، وهذا أمر من شأنه أن يدعم صحة النقل، كما كان يحدث مع المحدِّثين الأوائل الذين خالطوا النبي الكريم طويلا، فكان من الطبيعي أنهم نقلوا إلينا أحاديث نبوية كثيرة.
ومصطلحات "الأداء" المستخدمة في نقل الخبر إلى الخطاب المدون تظهر تحري إصابة الحق من قِبل ابن الزيات، وذلك ما يتضح لنا بالنظر إلى القيمة الإسنادية لمصطلح "حدثني" الذي يحيل على مرور الخبر من قناة ذاتية مؤتمنة، أضف إلى هذا المصطلح مصطلحات أخرى لها شأن في إثبات مرجعية الأحداث، كـ"سمعت" و"حضرت"، وكلاهما مصطلح يشير إلى ذات المدون ويحيل على سياق النقل(5).
وبناءً على ما سبق نتبين أن الإسناد في أخبار أبي العباس السبتي يُفهم بخلاف الطريقة التي يُفهم بها في الأخبار الأدبية، ففي الأدب يؤتى بالإسناد من أجل تكوين جو حكائي أسطوري يُضفي على المحكي طابعا عجائبيا، وهذا ما تقوم به عبارة "زعموا" الإسنادية في الأخبار المبثوثة في كثير من المدونات السردية القديمة، أما الأخبار الصوفية، وخاصة أخبار الكرامات، فيأتي الإسناد فيها بمعناه العلمي البحت، بدقته وصرامته. والنتيجة التأويلية التي يمكن الخلوص إليها هنا تتلخص في كون الأخبار الصوفية نصوصا رمادية اللون، خيالُها واقع وواقعها خيال؛ أي إن أدبيتها لا تنفصل عن الواقع وتظل قريبة منه.
* * *
2- المستوى التركيبي
تتباين أخبار أبي العباس السبتي من حيث البنية التركيبية. ومن بين أنماط التركيب التي وقفنا عليها في مدونة البحث، نصوص شديدة القصر تفيد شكلا واحدا من القول وتكتفي بتقديم دلالة شديدة التكثيف. وهذا ما يصدق على الخبر التالي:
"حدثني أبو الحسن علي بن زكرياء بن عبد الله قال: سمعت أبا العباس السبتي يقول: أنا هو القطب"(6).
يبلِّغ متن هذا الخبر دلالة قولية واحدة تمظهرت في عبارة موجزة؛ جملة اسمية خبرية مسندة إلى ضمير المتكلم. وعلى الرغم من بساطة الخبر فإنه لا يفقد إشارات تثبت سرديته، فهو نص سردي انطلاقا من "كونه يشتمل على سارد، هو ابن الزيات، يتكلم بضمير المتكلم وراوية معلوم، هو أبو الحسن، علي بن زكريا، وموضوع أو مذكور، هو أبو العباس السبتي، وصيغ التحمل والإسناد، (حدثني قال سمعت)(7).
وإلى جانب هذا الخبر نقف على أخبار أخرى أُفرغت في نمط تركيبي مغاير. أورد ابن الزيات خبرا يقدم سَرديا رؤيا أحد الصالحين. وهذه أهم المتواليات السردية المضمَّنة في الخبر:
- رأى رجل من أهل البيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في النوم وشكا له حاله، فأجابه: البخل أضر بك.
- مرّ عليهما رجل معروف بالصلاح. وسأل الرائي النبي الكريم عنه، فقال: البخل أضر به.
- سأل الرائي النبي الكريم عن أبي العباس، فقال له: هو من السُّباق.
- انتهاء الرؤيا وحصول حكاية أخرى في اليقظة(8).
تجسد هذه المتواليات السردية علاقات الترابط السردي بين أحداث الخبر . وهذه العلاقات يحكم تطورها البعد الدرامي؛ فمن شخصيات لم تُقيَّم جيدا من لدن النبي الكريم إلى شخصية السبتي الذي حاز السبق في الرؤيا وانتهت إليه الأحداث بعدما شهد له النبي الكريم بالتفوق. وفي أثناء الاسترسال الحادث في المقطع الخبري نصادف قصة بسيطة تضمنها الخبر الرئيس، وهي قصة الرجل الصالح "من الأولياء الأخفياء من أهل أغمات لا يمسك شيئا، وربما تجرد من أثوابه فيوثر بها ويتستر بالأبواب ...". وتضمين هذه القصة يحيل على البنية المركبة للخبر، وبيان ذلك أن الرؤيا ستنتهي ويعمد الراوي إلى سرد حكاية أخرى تمت مجرياتها في الواقع. والحاصل من هذه النقلة أن الخبر احتوى خطابين هما الرؤيا والحكاية الواقعية، وسياقات السرد الداخلية تفسر اندماج الخطابين؛ فانتهاء الرؤيا أعقبها السؤال عنها في الصباح!
على الرغم من تباين التركيب الخاص بأخبار الولي السبتي، فإن خطاب السرد حاضر في جميعها. فما حاجة هذه الأخبار إلى السرد؟ لا ننس أن ابن الزيات أراد بتأليفه كتاب "التشوف" التواصل مع القراء، وأهم ما أراد أن يقنع به قارئه كون المغرب بلد الأولياء الصالحين ذوي المراتب الرفيعة. والأولياء لهم أحوال يحتاج القارئ إلى التعرف إليها، وابن الزيات يسرد قصص هذه الأحوال وعينه على تأثر القارئ واقتناعه بولاية أهل المغرب.
* * *
3- السمات السردية
يقول ابن الزيات: حضرت مجلسه (السبتي) مرات فرأيت مذهبه يدور على الصَّدقة، وكان يرد سائر أصول الشرع إليها"(9). يثبت تتبع أخبار أبي العباس في كتاب "التشوف" دقة هذه الملاحظة، ومن عني بدراسة تجربة التصوف لدى أبي العباس يؤكد أن الولي السبتي كان يُعظِّم الصَّدقة ويحث عليها. ونحن ننظر إلى الصَّدقة في هذا المقام بوصفها سمة سردية طبعت القصص الوارد في الأخبار المعنية بالدرس.
في خبر يرويه أبو العباس عن "ابتداء أمره"، أي عن بدايته في طريق السلوك والولاية، يسرد حكاية حدثت معه، ومُفادها أنه خرج سائحا متوكلا، حتى أجهده الجوع والنصب، فبلغ قرية فيها مسجد، فصلى ولبث في مكانه. و في ذلك الوقت كان أهل القرية يبحثون عن بقرة ضلت ولم يعثروا عليها. وبعدما شاهد صاحب البقرة الولي السبتي وهو جائع جاءه بطعام، ثم رجع إلى داره فوجد البقرة(10).
تؤسس هذه الحكاية خصوصيتها انطلاقا من بعدها الكرامي، والسؤال عن سر هذه الخصوصية تكمن إجابته في الإشارة إلى الاشتغال السردي لسمة "الصدقة" داخل الحكاية، فهي من أفضت بالحكاية إلى أخذ تشكلها النهائي؛ فكل الأحداث أخذت معناها انطلاقا من علاقتها الوظيفية بهذه السمة. ومع ذلك فإن البعد الكرامي تُحقِّقه عناصر أخرى مثل الغرابة والاتفاق العجائبي للأحداث.
والمقصود أن سمة الصَّدقة تطبع مدونة الأخبار السبتية وتؤسس لتفردها الصياغي. ففي حكاية أخرى يأمر السبتي أحد أصحابه بالتصدق واعدا إياه بإرجاع ما أنفقه مضاعفا، فيستجيب صاحب السبتي لأمر شيخه، فتأتيهما امرأة تمنح صاحب السبتي مبلغا كبيرا من المال، ثم تقول له: "كنت قد اشتريت منك نطعا ببلد داي بأربعة دراهم ونصف درهم ثم طرأ على أهل داي ما طرأ من الجلاء عن بلدهم وافتراقهم في البلاد عام تسعة وخمسين وخمسمائة، فافترقنا وبقي لك عندي ثمن النطع إلى الآن فخذه"(11).
تحوم حركية هذه الحكاية حول تحقيق التعجيب في نفس القارئ، وذلك ما تحقق لها بعد حصول وعد السبتي بطريقة غريبة. وغرابة اتفاق هذا الوعد من فضل الصدقة. من هنا يجوز استشعار المستوى التوجيهي-الحجاجي في الحكاية، فالدعوة إلى تثمين قيمة الصدقة بارزة في الحكاية، ويسهل رصدها بقليل تمعن، وإلا ما معنى أن يُشرط الفتح الإلهي على البطل بالصدقة؟
إلى جانب هذه السمة السردية المرتبطة بالجود يمكن الحديث عن سمة أخرى تتحقق حتى في الأخبار السبتية البسيطة، وهي سمة تمجيد الذات، والحديث عنها في إطار النصوص الصوفية ليس غريبا، فالكثير من المتصوفة اتخذوا من الحديث عن ذواتهم محور مصنفات كثيرة، ويمكن رصد هذه النزعة في ما ينقل عن أعلام الصوفية من كلام يمجد الذات ويعلي من الشأن، ولنا في تجربة أبي زيد البسطامي الصوفية الشواهد التي تثبت صحة هذا الكلام.
يقول ابن الزيات: "حدثني أبو الحسن علي بن زكرياء قال: سمعت أبا العباس يقول: أنا هو القطب"(12).
فمثل هذا الخبر يؤكد النزوع إلى الإعلاء من شأن الذات، فهو إخبار بتحصيل صفة دينية يتُرك أمرها في العادة لأفعال وكرامات الرجل المعني حتى تُخبر عن حقيقته وشأنه.
نشير أيضا إلى أن التأريخ هي السمة الأولى في كتاب "أخبار أبي العباس السبتي"، فابن الزيات لم يدون أخبار أبي العباس إلا لغرض تخليد ذكرى هذا الولي، وهذا ما يصرح به في مقدمة الكتاب. يقول: "وبالجملة، فإن شأنه من عجائب الزمان، وإنما أثبت من أخباره ما ينوب عن العيان ..."(13)، فواضح أن فعل المؤلف استجاب لحاجة التأريخ لمناقب أبي العباس.
* * *
خلاصة:
نبهنا التحليل المقتضب أعلاه إلى أن الخبر الصوفي في كتاب "أخبار أبي العباس السبتي" يتخذ من مستواه الإسنادي الذي يتسع لثنائية الخيال والواقع مدخلا إلى دائرة الأدب، ثم إن صياغته التركيبية على تنوعها، تتضمن السرد، فإخبار ابن الزيات عن مناقب الولي السبتي إخبار سردي. وهذا السرد له سماته الخاصة المأخوذة من تجربة أبي العباس الصوفية عامة.
* * *
الهوامش
(1) تحقيق: أحمد التوفيق. منشورات كلية الآداب الرباط، ط2، 1997.
(2) محمد القاضي: "الخبر في الأدب العربي_ دراسة في السردية العربية". دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة الأولى 1998. ص: 310.
(3) كتاب التشوف. ص 454.
(4) نفسه. ص 456.
(5) ينظر: محمود الطحان: تيسير مصطلح الحديث (المقدمة). مطبعة المعارف.
(6) كتاب التشوف. ص 465.
(7) جعفر ابن الحاج السلمي: فصول في نظرية الأدب المغربي والأسطورة. منشورات جمعية تطاون أسمير، 2009. ص 95.
(8) كتاب التشوف. ص 464-465.
(9) نفسه. ص 453.
(10) نفسه. ص 454.
(11) نفسه. ص 465-466.
(12) نفسه. 465.
(13) نفسه. ص 451.
* * *
المصادر والمراجع:
1 - ابن الزيات: "التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي". تحقيق: أحمد التوفيق. منشورات كلية الآداب الرباط، ط2، 1997.
2 - جعفر ابن الحاج السلمي: "فصول في نظرية الأدب المغربي والأسطورة". منشورات جمعية تطاون أسمير، 2009. ص 95.
3 - محمد القاضي: "الخبر في الأدب العربي-دراسة في السردية العربية". دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة الأولى 1998.
4 - محمود الطحان: تيسير مصطلح الحديث (المقدمة). مطبعة المعارف.