في مقالتها تستعيد الكاتبة من الذاكرة العربية شخصية الأديب والبحاثة مصطفى صادق الرافعي، تعرف بسيرته ومنجزه الأدبي شعراً ونثراً، كما تتناول ممارسته النقدية ورؤيته المحافظة التي تشكل طباقاً مع المواقف النقدية المغايرة في الثقافة العربية.

معجزة الأدب العربي

مريم بوعـود

شهد العالم العربي في مختلف عصوره ولادة رجال وشخصيات أحدثت بصمتها في العالم بأسره، ورفعت عالم الوطن العربي والإسلامي عاليا، بتشبتها بالقيم العربية الأصيلة، وتسخير مواهبها لخدمة الدين والوطن، وأبرز هؤلاء الرجال؛ رجل سخر حياته للدين والأدب؛ رجل كأنه بعث من أغبر العصور إلى أحدثها كي ينفض الغبار على لغة الجمال، كي يبين للناس معنى الأدب، كي يقول للناس لا انفصام بين الدين والأدب، وكي يقودهم إلى الحقيقة المطلقة، حقيقة الأديب التي غابت عن الأذهان خصوصا مع ظاهرة انتشار العقول المغربة، وحقيقة الأدب التي تسامت عن كل الحقائق سوى حقيقة الدين، فهنيئا للوطن العربي الإسلامي بابن بار وقف وحيدا يدافع عن الدين واللغة والأمة أمام العققة، وهنيئا لك أيتها الأمة وأيها العالم بأديب مثل مصطفى صادق الرافعي.

* * *

من هو مصطفى صادق الرافعي؟

مصطفى صادق الرافعي؛ أديب مصري ولد في قرية بهيتم بمصر سنة 1880، يرجع أصله إلى سوريا، فأبوه كما أمه سوريا الأصل. كان أبوه رئيسا للمحاكم الشرعية في عدة أقاليم، كما كان يملك مكتبة ضخمة منها تخرج الأديب الرافعي، فبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم التحق بالمدرسة الابتدائية ونال الشهادة الابتدائية وهو ابن السابعة عشر، إلا أنه وبعد أن نالها بوقت يسير أصيب بمرض كان من شأنه أن يصيبه بالصمم "فانقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه وكان فيها هو المعلم والتلميذ"(1). "وقد ظل على هذا الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر أيام عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة (...) كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية"(2). كذلك كان أمر الرافعي، وما أحسبه كان كذلك إلا رغبة في الفرار من اللعنة الدنيوية التي قال فيها أزكى الخلق صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون كل ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم"(3).

* * *

مشواره الأدبي

الشعر

ولع الرافعي بالشعر منذ صباه، فصار الشعر مرماه، وإمارة الشعر مبتغاه، لذلك لم يكن غريبا أن ينظم قصائده وهو لم يبلغ العشرين بعد.

التمس مصطفى صادق الرافعي في بداية حياته الشعرية الأسباب التي جعلت من صديقه حافظ شاعرا له حظ من الشهرة، فأكد صلته بالبارودي، وبدأ يحضر مجالس الإمام محمد عبده، كما بدأ ينشر قصائده في الصحف والمجلات. وقد قال عن شعره لجورج إبراهيم قبل إصدار ديوانه الأول:" هذه الكراسات كلها من شعري [...] ولكنه شعر الحداثة فهو لا يعجبني، سأختار أجوده وأمزق الباقي وسأطبع ديواني بعد قليل فتعرفني"(4).

وكان لديوانه هذا قصة، فبعد أن أصدر حافظ ديوانه الأول، ونسبت مقدمته إلى الأديب المويلحي، هم الرافعي بنشر ديوانه مجاريا صديقه في كتابة مقدمة الديوان؛ فإن كانت مقدمة حافظ قد نسبت إلى المويلحي فإن أبلغ أديب في ذلك العصر –إبراهيم اليازجي– قد شك في أن تكون مقدمة الرافعي من إبداع كاتب من ذلك العصر، فما بالك بشاب يبلغ الثالثة والعشرين؟ ومن ثم احتفل العالم العربي بهذا الديوان الذي نشرت مقدمته في صدر جريدة المؤيد –جريدة العالم العربي كله- ، والذي بفضله دعا الإمام محمد عبده للرافعي قائلا:" أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفا يمحق به الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل".

وهكذا، بعد أن حقق الديوان الغرض الذي أنشئ لأجه أصدر الرافعي الجزء الثاني والثالث من الديوان، وسار على دربه مؤلفا باقي الدواوين والأناشيد، فقد كان " الرافعي يتسامى إلى حيث لا يبلغه أحد حين يضع نشيدا دينيا أو وطنيا"(5).

النثر

من عادة النفس العظيمة ألا تقول وصلت، فما تكاد تصل إلى مطمح حتى يتراءى لها مطمح أعلى، وكذلك كان الرافعي، فما إن ذاع صيته في مجال الشعر حتى طمع في مجال النثر.

بدأ الرافعي مسيرته النثرية بكتابة مقالات كان يأمل أن يجمعها في كتاب " ملكة الإنشاء"، لكن لم يتم له ذلك، فكان أول كتاب له كتاب " آداب العرب" أنشأه وطبعه مشاركا به في مسابقة إنشاء مرجع للطلاب حول " أدبيات اللغة العربية" بالجامعة المصرية، وقد قال عن هذا الكتاب الأمير شكيب أرسلان، أشهر كتاب العربية حينها: "لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه للناس منه، لاستحق أن يحج إليه؛ ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديرا بأن يعكف عليه". وقال عنه المقتطف: "إنه كتاب السنة". ثم مضى الرافعي كعادته يصدر الجزء الثاني من الكتاب و المؤلفات الأخرى، "حتى تعود الجملة القرآنية على مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء"(6).

ومما لا نغفل عنه؛ كتب الرافعي النقدية، التي تصور معارك أدبية نشبت بينه وبين أدباء عصره، وأبرزها معركته مع طه حسين، تليها معركته مع العقاد، والجميل في هذه المعارك أنها قد انتهت بإنشاء تحف أدبية في النقد قل نظيرها إن لم ينعدم، فمن ذا الذي استطاع أن يعارض "كليلة ودمنة" سوى الرافعي؟ لقد كان يأمل أن تنشر نسخته مرصوصة في كتاب لعلعا تزيل يتم النسخة الأولى لابن المقفع، لكن الوقت داهمه، والموت أسعفه، فرضا الله على من كان سيفه بلاغته.

النثر الشعري

بعد أن بلغ الرافعي مبلغه في الشعر كما في النثر، مضى يفكر في نمط جديد من التعبير يبث فيه خوالج نفسه، دون أن يخل لا باللفظ ولا بالمعنى؛ الشعر يفرض عليه قيودا لا تسمح له بالتعبير عما يود البوح به، كما أقر بذلك لصديقه محمود أبو رية:" ومن نكد الشعر العربي أنه لا يتسع لبسط المعاني، فإذا بسطت المعاني فيه وشرحت سقطت مرتبته من الشعر وأصبح نظما كنظم المتون في الأكثر وهذا ما صرفني من الأول إلى الكتابة ووضح حديث القمر والمساكين وغيرهما فإن هذه الكتب هي شعر ولكنه في غير الظروف الموزونة"(7) وأما الثر فإنه ما يزال يحتاج إلى تجديد فني كما أوضح ذلك لطه حسين: "أتظن أني أكتب هذه الكتابة وأنا نائم؟ ألا إني أتعب نفسي لتجديد الآثار الفنية في البيان العربي"(8).

وبذلك استطاع الرافعي أن يجمع بين الشعر والنثر لينشئ أدبا لم تعرف له العربية مثيلا، فها هو الأديب البرقوقي يقول عنه:" كأنه قصيدة واحدة من أبلغ الشعر وأرقاه بل لا نظن أن الشعر وإن جود نظمه وسبكه يبلغ مبلغ هذا النثر البديع من الفخامة والروعة وبلاغة التأثير"(9).

لقد كان –رحمه الله– يدرك كل هذا، وهو القائل لجليسه إذا ما أنهى كتابة مقاله الفني:" أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعرا في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذا المعاني في قصيدة منظومة؟"(10)

لقد كان – رحمه الله – أول أديب ينزح إلى الفن النثري، وقد أفصح عن هذا محمد جبريل بقوله:" يحسب الرافعي على المجددين في الأدب العربي بخروجه على التقليدية، إلى حد أن البعض اعتبره رائدا لما يسمى قصيدة النثر"(11) وقال القاص الأديب محمد سعيد العريان:" وإنها لخسارة كبيرة أن ينصرف الرافعي عن الشعر ويترك ميدانه خاليا على أنه لم يهجر غير الشعر المنظوم، وهذه كتاباته المنثورة ضرب من الشعر أفسح مدى وأبعد غاية، وإنه لينشئ به أدبا جديدا في العربية"(12) ورغم أن هذا النمط من الأدب يعتمد على الأسلوب أكثر من المعنى، "فإن الرافعي لم يكن كاتبا للفن وحده، ولكنه كان صاحب رسالة وأهداف سار إليها منذ أن شب عن الطوق في دولة القلم"(13).

* * *

رسالته

الرافعي؛ ذلك الرجل الذي لقب بمعجزة الأدب العربي، وحجة العرب ودونهما من الألقاب التي لم يحظ بها أي أديب على مر التاريخ، ما سر نبوغه؟

لقد كان الرافعي يؤمن بأن " الكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود [...] وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه؛ منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانا لأعماله وأعمالها جميعا"(14).

إذن، لقد كان يؤمن بأن الرسالة هي مفتاح الخلود، والبصيص الذي يجعلك تقبل على النور، وكيف لا يؤمن بهذا من قال:" أنا لا أعبأ بالمظاهر التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها؛ ولذا لا أمس من الآداب إلا نواحيها العليا، ثم يخيل إلي دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه"(15).

ومن باب تحمل الرافعي مسؤولية رسالته، أنه كان يفكر في المغزى والحكمة مما سيكتب قبل أن يحرك قلمه، ولعل ذلك من باب الأمانة بينه وبين القارئ الحقيقي.

جمع الرافعي القرآن الكريم حفظا وتجويدا وهو لم يبلغ العاشرة بعد، لذلك لم يكن من الغريب أن يجعل من القرآن العظيم رسالته، وقد ترجم هذا في قوله: "أما الطفل الذي كان في يومئذ فكأنما دعي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيهمن بعد، فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: ﴿ادع إلى سبيل ربك﴾ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت ﴿واصبر وما صبرك إلا بالله﴾ ولقد شهد التاريخ بأكمله أن الرافعي –رحمه الله– أدى الرسالة على أكمل وجه، فهاهو شاهد من شهوده الكثر يقول:" لقد كان للرجل مشروعه الأدبي والفكري، وكان في قمة هذا المشروع دراساته للقرآن الكريم"(16).

اعتبر الرافعي القرآن الكريم أصل الأدب وأساسه الذي بني عليه، وقد بين ذلك في مواضع عديدة لا يمكن حصرها، وحسبنا بعضها؛ قال –رضي الله عنه-: "إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدا عليها فلا تهزم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فلكا دائرا للنيرين الأرضيين العظيمين. كتاب الله وسنة رسول الله"(17) وقال أيضا: "ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية"(18).

* * *

وفاته

في فجر يوم الاثنين العاشر من شهر ماي سنة 1973، توقف قلب الرافعي عن النبض، وإن كان ما يزال ينبض في كتاباته التي كانت من نبعه، فبعد الموت "يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقول ألسنتهم، إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق، ويرتفع الحسد بموت المحسود، وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها، ويفرغ المكان فيدل على قدر من كان فيه، وينتزع من الزمن ليل الميت ونهاره فيذهب اسمه عن شخصه ويبقى على أعماله"(19) وبذلك فقدت العربية أخير رجالها، آملة أن تستشف روح الشباب من روحه فتكون خير ذخيرة للأدب والإسلام، موصية إياهم بوصية الإمام الرافعي رحمه الله: وصيتي"(20). هي تكرار المبدأ الذي وضعته لأولادي: النجاح لا ينفعنا بل ينفعنا التميز في النجاح".

* * *

الهوامش

(1) نفس المصدر ص 31.

(2) نفس المصدر ص33.

(3) رواه الترمذي.

(4) حياة الرافعي، محمد سعيد العريان (شركة الريان، ط2، 2015م-1436هـ، ص46).

(5) مجلة الرسالة، عبد المنعم خلاف (عدد 204-مات كاتب البعث).

(6) حياة الرافعي، محمد سعيد العريان (شركة الريان، ط2، 2015م-1436هـ، ص73).

(7) رسائل الرافعي إلى صديقه محمود رية ( دار المعارف ط2، 1119م، ص180).

(8) تحت راية القرآن، مصطفى صادق الرافعي (دار التقوى-دار العلم والمعرفة، 2015م-1436هـ، ص137).

(9) مجة البيان للبرقوقي (العدد09، النقد والتقريظ).

(10) حياة الرافعي، محمد سعيد العريان (شركة الريان، ط2، 2015م-1436هـ، ص74).

(11) إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي (دار التقوى-دار العلم والمعرفة، 2015م-1436هـ، ص11).

(12) كلمة وكليمة، مصطفى صادق الرافعي، بعناية بسام عبد الوهاب الجابي (دار ابن حزم-الجفان والجابي، 2002م-1422هـ).

(13) مجلة الرسالة، عبد المنعم خلاف (عدد 204-مات كاتب البعث).

(14) وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي (ج1، دار ابن الهيثم 2007م-1428هـ، ص10).

(15) وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي (ج3، دار ابن الهيثم 2007م-1428هـ، ص243).

(16) إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي (دار التقوى-دار العلم والمعرفة، 2015م- 1436هـ، ص15).

(17) تحت راية القرآن، مصطفى صادق الرافعي (دار التقوى-دار العلم والمعرفة، 2015م-1436هـ، ص45).

(18) إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي (دار التقوى-دار العلم والمعرفة، 2015م- 1436هـ، ص)

(19) مجلة الرسالة العدد 203 – بعد الموت ماذا أريد أن يقال عني؟

(20) مجلة الرسالة العدد 203 – من كلام الرافعي.