بعد حقبة الخمسينيات والستينيات التي حفلت بالعديد من الأسماء النقدية البارزة مثل محمد مندور وعلى الراعي ورشاد رشدي وغيرهم، جاءت الثمانينات بمجموعة من النقاد ينادون بالحداثة النقدية وعلى رأسهم نهاد صليحه، التي استطاعت أن تصنع لنفسها موقعاً نقدياً فريداً. وعلى مدار ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت ومازالت مقالاتها مرجعاً مهماً للمبدعين الذين ينتظرون بشغف ما تكتبه عن ابداعاتهم. وتكمن فرادة مقالات نهاد صليحه بأنها ليست فقط قراءة متعمقة للظاهرة المسرحية ولكنها بمثابة صك براءة لإبداعاتهم. ولذلك، فإن نهاد صليحه ظاهرة نقدية تستدعي علينا قراءة خطابها النقدي لمعرفة تجربتها وكيف أسست حضورها في سياقنا النقدي.
بدأت نهاد صليحه الكتابة النقدية منذ بداية الثمانينيات تقريباً في ظل سياق نقدي يبحث عن تجديد أدواته. وشهدت هذه الفترة ظهور تيارات نقدية مثل البنيوية والسيميولوجيا وغيرها، وكانت نهاد صليحه أحد الأقطاب –بجانب كلاً من سامية أسعد وهدى وصفي– التي تبنت هذه التيارات ونادت بتجديد المعرفة النقدية المسرحية. وكرست نهاد صليحه مشروعها النقدي في قراءة العروض المسرحية بجانب الترجمة والدراسات الأكاديمية.
لذا، كانت أول خطوة لتأسيس خطابها النقدي المسرحي هي إثارة إشكاليات كانت مثار جدل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مثل العلاقة بين الشكل والمضمون وكشفت لنا أننا لا نستطيع الفصل بينهما. وانطلاقاً من وضعيتها كاستاذة أكاديمية قامت بقراءة النظرية الدرامية عند أرسطو في كتابها "المسرح بين الفن والفكر". كما تناولت –بالشرح والتحليل– العديد من التيارات المسرحية كالعبثية والتعبيرية والرمزية في كتابها "المدارس المسرحية المعاصرة".
من ثم، كانت الخطوة الأولى لتأسيس خطابها النقدي هو الأدلاء برأيها في المفاهيم النقدية الشائكة، والتأسيس النظري لقراءة المسرح في قراءات بسيطة في أسلوبها لكنها متعمقة في فكرها. وظلت تحافظ على هذا المنحى، وبدأت بعد ذلك في قراءة النصوص المسرحية لكبار الكتاب المسرحيين بأدوات نقدية جديدة مثل قراءتها لمسرحية الفرافير ليوسف أدريس من منظور سميولوجي وتحليل علامات المسرحية وتبيان شفراتها الدرامية الثقافية، أو تفكيك الخطاب الإبداعي لدى توفيق الحكيم. من ثم يمكن أجمال مشروع نهاد صليحه في ثلاث استراتيجيات نقدية وهي:
1- التأسيس النظري للتيارات النقدية الحديثة.
2- تطبيقها على التراث الإبداعي المسرحي.
3- التطبيق على قراءة العروض المسرحية.
لذا، تأسس الموقع النقدي لنهاد صليحه منذ بداية الثمانينيات في اطار الحداثة النقدية، وحاولت زحزحة ما هو سائد في النقد والإبداع ومواجهة أنماطهما الجاهزة، وفتحت إمكانات جديدة في التعامل مع المسرح. وتُختزل سمة الحداثة لديها في بعض التيارات النقدية (كالسميولوجيا، النسوية). وكانت أدواتها النقدية التي تنظر بها إلى المسرح هي ما جعلت منها ناقدة رائدة تهتم بظاهرة العرض المسرحي وتحليله بمنظور مختلف. يتضح ذلك في تحليلها لعروض مهرجان المسرح التجريبي الذي بدأ منذ أواخر الثمانينيات والتي ساهمت قراءتها للعروض المسرحية المختلفة في تأسيس حضورها النقدي، كما ارتبط اسمها بهذا المشروع خاصة في ظل عجز كتابات بعض النقاد على التعامل مع العروض المسرحية التجريبية التي وصفها البعض بالتغريب وتخريب الهوية المسرحية.
لذا، كانت ترى –صليحه– الهوية المسرحية والنقدية هي مشروع مفتوح على استيعاب الآخر ومنجزه النقدي والإبداعي ولا تعاني عقدة النقص تجاهه فحاولت تطويع الأدوات النقدية الغربية في قراءة المسرح المصري لتطوير النقد المسرحي ليكون موازياً للإبداع ويكشف ما هو مسكوت عنه.
وفي إطار سعيها لأن تجعل الكتابة النقدية موازية للإبداع، خرجت كتابتها النقدية من منطق الكتابة/ الاستهلاك –الذي يعطي الخطاب النقدي سلطة حصر النصوص التي ينبغي مطالعتها، ورصد القيم التي يحتوي عليها، وتحديد قيمتها– إلى محور الكتابة/ الكتابة، فتركز على رصد العوامل التي ساعدت على أن يصبح المسرح كأحد التجليات الفنية التي تساهم في تثوير المجتمع من خلال عناصره من جهة، ومن جهة أخرى ورفض انغلاق الهوية المسرحية على نمط مسرحي معين. كما نلمح ذلك في كتابها "الحرية والمسرح" الذي وضح أن الإبداع هو مواز للحرية وممارسة لعملية التحرر على مستوى الجماعة وحوار دائم مع الواقع.
من ثم، تحولت الحرية التي نادت بها كتابات نهاد صليحه إلى سلوك نقدي في تعاملها مع أطراف العملية الإبداعية من (مؤلف، مخرج، ومتلقي) من أجل خلق بيئة تواصلية جديدة، لا يكون الناقد فيها بمثابة سلطة تقمع المبدع أو يُنصب نفسه قاضياً ينمط الأذواق ويُعامل القارئ كتلميذ. مما ساهم في تغيير مدلول قيمة مركزية ينهض عليها أي خطاب النقدي وهو مفهوم "الوساطة" (Mediation)، التي تمثل أساس العلاقة التي تربط أطراف العملية الاتصالية، ومحور العلاقة بين الناقد والمبدع من جهة والناقد والقارئ من جهة أخرى. وقد نجم عن هذا التغير في مفهوم الوساطة الذي يربط الناقد بأطراف العملية الإبداعية، تغير الدور المعترف به للناقد، وأنواع الالتزام أو الاتفاق الضمني التي تربطه بقراءة وطريقة تحليله للمسرح.
ولعل هذه الخطوة في مفهوم الوساطة النقدية التي تقوم على الحرية لا الإلزام وطريقة إقامة الحوار هي أحد الطبقات التي ساهمت في تأسيس حضورها النقدي، مما جعلها تخرج من صورة الناقد التقليدي الذي يقوم برصد الظاهرة المسرحية فقط إلى صورة أخرى وهي الناشطة المسرحية التي تدافع عن التجارب المسرحية الجديدة المغايرة حتى لو كلفها ذلك الوقوف في وجه المؤسسة المسرحية والنقدية فوقفت بجانب المبدعين الجدد وساهمت من خلال كتاباتها بدعمهم، كما دافعت عن التجارب المسرحية خارج المؤسسة المسرحية وخاصة تجارب المسرح المستقل.
من ثم، فإن صورة الناشطة النقدية التي تقنعت بها نهاد صليحه جعلت منها علامة نقدية متفردة ومختلفة في تاريخنا النقدي، فاصبح النقد المسرحي من خلال كتاباتها شكل من أشكال الفاعلية الاجتماعية، تدافع عن الأصوات النقدية المهمشة من قبل المؤسسة النقدية والمسرحية على حدٍ سواء. فاضفى هذا المنحى على حضورها في الوسط النقدي قيمة معنوية ووجودية بجانب قيمتها العلمية واثر ذلك على كتاباتها النقدية، فجعلتها تطوع معرفتها النقدية الحديثة في تحليل الأعمال المسرحية المختلفة. لم تقع نهاد صليحه في براثن النقد الحداثي بصورته الأكاديمية التي تعتمد على تحليل علامات المسرح وعدم الاهتمام بالمعنى، مما جعل النقد أشبه برياضة نقدية تهتم بالرسوم الهندسية والإحصاءات البيانية للخطابات والنصوص المسرحية اكثر مما تهتم بالجانب الدلالي والانطولوجي للمسرح.
ويحسب لنهاد صليحه أنها لعبت دوراً مهماً في تعريف المسرح المصري والعربي للأخر الغربي من خلال كتاباتها باللغة الإنجليزية في جريدة الأهرام ويكلي واعترف بهذا الدور نقاد ومبدعين كبار مثل مارفن كارلسون وريتشارد شيكنر اللذين قالا أنهما يعرفان المسرح المصري والعربي عن طريق كتاباتها النقدية.
في النهاية، يمكن القول أن نهاد صليحه بمثابة لحظة نقدية مهمة ينبغي الوقوف أمامها طويلاً لما أحدثته من تغيير في القيم النقدية وتغيير في لغة الناقد، وما اتاحته من خلق روابط جديدة بين أطراف العملية الإبداعية.