بحروف بارزة وعريضة كتب سمير فريد (1943 -2017) اسمه في تاريخ النقد السينمائي المصري، ولعل ناقدًا مصريًا لم يحظ بالتقدير محليًا ودوليًا مثلما حدث معه. وقد جاءت آخر تلك التكريمات في الدورة الأخيرة من "مهرجان برلين السينمائي" بمنح سمير فريد "كاميرا البرلينالي" التقديرية في حفل خاص في شباط/ فبراير الماضي.
في بداية اشتغال سمير فريد بالنقد السينمائي عام 1965، تنبّه إلى الخلط الشائع مصريًا بين تاريخ الأفلام وتاريخ السينما نفسها، وعدم وجود دليل علمي لصناعة السينما في مصر. فسارع سمير فريد بإصدار كتابه الأول "سينما 65" في محاولة لإصدار دليل سنوي عن السينما في مصر. وهكذا بدأ فريد مشوار التأريخ للسينما في مصر بتأليف عدة كتب، تلت "سينما 65"، بهدف "فرض معاملة النقد السينمائي كمقالات في النقد الأدبي، ومقالات النقد المسرحي على الواقع الثقافي المصري"، كما يقول في كتابه "دليل الأفلام المصرية".
ومثلما يقول الناقد الكبير كامل زهيري، فقد دخل سمير فريد مجال النقد السينمائي متسلحًا بثقافة متشعبة ونهم معرفي، مكّناه من إنجاز مقالات شاملة في مجالات عدة، مثلما يتجلّى في ثلاثة من كتبه التي مزجت بين عوالم الأدب والسينما، وهي "أدباء العالم والسينما" و"شكسبير كاتب السينما" و"نجيب محفوظ والسينما". كذلك كان لكتابات الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أثرٌ كبيرٌ في أسلوب سمير فريد الكتابي، سواء من ناحية الصياغة أو الأفكار والقيم. فنجد في مقالاته الوضوح والتعبير المحدد، الموجز، القاطع، والأهم من ذلك الإيمان بالحرية، والاستقلال بالرأي، والالتزام بما يراه صحيحًا، والوقوف إلى جانب الإبداعات الجديدة.
يندر حاليًا أن نجد مثل نموذج سمير فريد للناقد السينمائي المطلع على الآداب والفنون الأخرى بما يساعده على إنجاز كتب كاملة تقاربها. ولكن سمير فريد الذي شهد حرب 67 وفشلَ الحلمِ الاشتراكي وفشل الانفتاح الساداتي، اختار لنفسه منهجًا تقاطعت مساراته مع التغيرات السياسية من دون أن يتوّرط فيها بما يعيق عمله الأساسي كناقد سينمائي.
لم يؤمن سمير فريد بضرورة انخراط الناقد في السياسة كسبب لنجاحه، ولكنه واظب على الإدلاء بآرائه في ما بين السياسة والسينما من تشابكات، فيقول في حوار صحفي قبل شهرين إن الأنظمة العربية تخشى السينما لأنها أكثر تأثيرًا على مختلف فئات الجمهور كما أنها مُحببة لسهولة تلقيها. ولا ينسى الإشارة إلى الازدهار الكبير الذي تشهده السينما المستقلة في العالم العربي، حيث أكّد سمير فريد أن "المشكلة لا تكمن في وجود المبدعين أو الإبداع إلا أنها تتمثل في علاقة الحكومات العربية بالسينما".
مثّلت الرقابة هاجسًا كئيبًا بالنسبة لسمير فريد الذي عاصر تحولات السلطة المصرية في الخمسين عامًا الأخيرة، وحتى أواخر أيامه كان يرى أن الرقابة تمثل مشكلة للإبداع لأن الفنان يجب أن يتحايل على الرقيب ليظهر مدى موهبته، مواصلًا في ذلك دفاعه الممتد عن حرية المبدعين في التعبير. يرى سمير فريد في الرقابة "غوستابو على الروح" كما وصفها جان لوك غودار ذات يوم، بالإضافة لكونها مقدمة اتجاه النظام نحو الفاشية، خاصة حين يقترن القمع والمنع بشعارات مجانية ومُضلِّلة عن "الإساءة لسمعة البلد".
"كانت الرقابة بمختلف أشكالها، وسوف تظل، تعبيرًا عن السلطة السياسية الحاكمة أيًا كانت هذه السلطة، في مصر، وفي غيرها من دول العالم. ويمكن تبيّن توجهات السلطة بوضوح من خلال ما تمنعه الرقابة أكثر مما تتبيّن من خلال ما تُصرِّح به". بهذه الكلمات يفتتح سمير فريد كتابه الهام "تاريخ الرقابة على السينما في مصر"، مؤكدًا على تمسكه بمبادئه، مدافعًا عن حرية التعبير، حتى لمن اختلف معهم فكريًا. فبرغم خصومته مع حسام الدين مصطفى، هاجم بضراوة مصادرة فيلمه "درب الهوى"، كما وقف ضد منع "زائر الفجر" لممدوح شكري، و"العصفور" ليوسف شاهين، و"المذنبون" لسعيد مرزوق، و"ناجى العلى" لعاطف الطيب، و"المهاجر" ليوسف شاهين، و"الأبواب المغلقة" لعاطف حتاتة.
أخيرًا، لا ينفصل موقف سمير فريد من انتفاضات الربيع العربي عن تاريخه المدافع عن حرية التعبير. ففي آخر كتبه "سينما الربيع العربي" يقول سمير فريد إن الثورات التي حصلت كانت ربيعًا لأنها فكرة تنطوي على التغيير الحقيقي، وهي أشبه بحدث مثل سقوط جدار برلين، وفي ندوة بعنوان "ربيع السينما العربية" ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي لمناقشة الكتاب، أكد سمير فريد للجميع أنه لا يزال يؤمن بالربيع العربي رغم كل المآسي التي أعقبته، لكونه فكرة قوية مرفقة بإرادة حقيقية وتغيير على أرض الواقع، قائلًا: "لم تنتصر ثورات الربيع العربي بعد خمس سنوات، ولكنها سوف تنتصر يومًا".