يرى الناقد العراقي أن أحداث الرواية أشبه بتأمل بانورامي لمشهد عريض في زمن ملتهب، له دلالته كنموذج لنمط التفكير والعمل والاعتقاد والموقف لدى جيل من شباب حالم، لم يعد يعرف إن كانت أحلامه أوهاما أو أن ماعاش من أوهام حسبها يقينا لم تكن إلا أحلاما، تكسرت على مصدات الواقع وصلادة الأعراف والأنظمة.

رواية «هنا الوردة».. عن الأحلام والأوهام وما بينهما

حاتم الصكر

يونس الخطاط في رواية الشاعر أمجد ناصر الجديدة" هنا الوردة"2017 شخصية نموذجية للشباب العربي الحالم في الستينيات وماورثته عن سابقاتها، وما نقلته كالعدوى إلى لاحقاتها من مراحل عاشها الوطن العربي ، مع اختلاف وقع الأحداث الكبرى عليها بعدا وقربا.

ولابد لمعاينة ما جرى ليونس الخطاط الشاب الثوري والشاعر الحالم بالتغيير، والمتمرد والقارئ النهم إلا بمشاركته تلك الذاكرة التي تستعيد من خلال مقطع عرضي من حياته وقائع جرت ،وعاشها شاهدا عليها ومساهما في صنعها بحدود دائرة حياته التي تقدمها لنا الرواية مرهونة بزمن واحد ظاهريا، هو موت يونس الخطاط بعد عملية اغتيال سياسيي تكلفه بها منظمته .ولكن ما بين انتظارات يونس ولقاءاته واختفائه تعود بنا الرواية حيث يتوقف السرد مؤقتا إلى مقاطع من حياة يونس الخطاط وسلالته ،فهو ينحدر من أسرة خطاطين فأبوه (كبير خطاطي الحامية التي يقيم داخلها الحفيد الحاكم ) ، وجدّه الذي أصيبت يده بالشلل فتوقف عن الخط مذكرا بالخطاط ابن مقلة وما حصل ليده ، وكذلك والد جده الذي كان خطاطا أيضا قدم من عاصمة الإمبراطورية، فيما خدم نور الدين جد جده خطاطا في قسم الرسائل بقلم الديوان في مدينة السندباد التي كانت تتبع بدورها للإمبراطورية..من (مدينة السندباد) ستنزح الأسرة لتستقرفي الحامية .وسيذهب يونس الخطاط كما يعرف بين أصدقائه في رحلة خطيرة لمدينة السندباد ذاتها ويعيش حر صيفها اللاهب منتظرا في فندق صغير، وينقل رسائل بين القيادة الهاربة هناك والتنظيم في الداخل، وبعدها سيختار التنظيم يونس ليوصل شابين لكي يغتالا الحفيد داخل الحامية في المنصة التي سيلقي فيها خطابا في الحفل الوطني الكبير.وسينجو يونس ويهرب ثم يساعده التنظيم لينتقل بواسطة مهربين إلى حدود دولة مجاورة تطل على البحر ،لكنه في لحظة تحرك السيارة التي تقلهم للعبور يتجه عائدا ،وينتهي رمزيا بخروج شخص من جسده له ملامح يونس الخطاط ، وينسلخ عنه. بينما يجد نفسه في اللحظة نفسها داخل السيارة التي عادت إلى الحامية راضيا بمصيره ومنهيا رحلته التي شابها الفشل وكأنها ترميز لفشل جيل أراد الكاتب أن يرينا هزال حلمه وضعفه .

تلك النهاية الرمزية تعمل بعكس السرد ذي الطبيعة الواقعية إن شئنا وصف الاحداث.لكن أمجد ناصر اختار تلك النهاية الغامضة والتي لم يمهد لها في السرد إلا بأسئلة وجهها يونس لنفسه عن سبب اختياره دون سواه في العملية، واحتمال استغلال كونه موثوقا به في الحامية وأمنها لأنه ابن كبير خطاطي ديوان الحامية والمعروف لديهم منذ سنين. وسيفترض القارئ لتبرير قرار يونس الخطاط بالعودة للحامية واختياره مواجهة مصيره الذي ينتظره ،أن وراء ذلك حبه لزوجته رلى التي تركها تنتظر وليدهما الأول .

وأيا ما تكن فرضيات سبب النكوص وعودة يونس بعد كل ما جرى له ، وبعكس السمة الدونكيشوتية التي وصفته بها كلمة الغلاف الأخير وشاعت في المقالات التي تناولتها - نجد يونس الخطاط يتخذ قرارا شخصيا يناسب مزاياه التي أثبتها له الكاتب من حيث تمرده وإصراره على الزواج ممن يحب، رغم أن والدها هو قائد حرس الحفيد ، وقد مات قتيلا في إحدى محاولات اغتياله الكثيرة. وكذلك انقطاعه عن الدراسة ،وانصرافه للشعر، وروحه المغامرة، حيث يمضي في رحلته إلى مدينة السندباد حاملا رسالة لأمين التنظيم المختفي هناك ، ويعود برسالة خطيرة منه لمسؤوليه في الداخل ، والتي سيشكك السارد بوجودها أصلا لأنهم هناك أخبروه بأنها مخبأة في إحدى فردتي حذائه، ويشك بأنهم قالوا له ذلك ليشعروه بأهميته، تمهيدا لتكليفه بالمهمة القاتلة التي سيموت بعدها.

ولكننا سندع مجريات أحداث الرواية فهي تعز على العرض والتلخيص؛ لأن هذا العمل يجمع أكثر من نمط روائي، فهو يقدم نوعا يركز على البطل أو رواية الشخصية، ومن خلالها يتم عرض الأحداث والرؤى والمواقف.وكذلك يؤرخ لفترة سياسية مهمة بطابعها الإيديولوجي ومعارضيها وطرق تفكيرهم وعملهم.فيكون قد اقترب من الرواية السياسية ذات المنحى الكاشف لتصادم العقائد والرغبات والمصائر، لا سيما وأن بطله منتمٍ لحركة قومية ستشهد تحولات حادة وانقسامات كثيرة ،وأن أبعاد شخصية يونس الخطاط تنطبق على نموذج الثوري أو المناضل السياسي في فترة الستينيات كونه مثقفا ومتمردا ورومانسيا في جانب آخر من حياته، كما يعيش قارئا وشاعرا وملتما حول شلة أصدقاء يشاركونه اهتماماته وآراءه ومجالسه في المقاهي والندوات، رغم أنهم ليسوا جميعا يشاركونه معتقده السياسي.

لكن شخصية يونس الخطاط تدعونا للتفكير قليلا بدلالة تكراره لدى أمجد ناصر.فقد كان يونس الخطاط شخصية رئيسية لعمل سابق هو "حيث لا تسقط الأمطار" وهي رواية قرئت في حينها بكونها رواية سيرة أو سيرة روائية، لما في مواقفها وزمنها وأمكنتها وشخصياتها الثانوية من إحالات وتطابقات ممكنة.لكن الكاتب يرفض تلك الفرضية .وفي عمله الراهن "هنا الوردة" يصر على ذلك، مستعينا بعتبة نصية ويثبت موجها قويا لقراءة روايته، وذلك بالأسطر التي قدم بها لعمله ،حيث يعترف بأن اعتبار المؤلفين للتشابه بين شخوصهم وأمكنتهم وبين الواقع مجرد صدفة، أمر لا يصدقه أحد بل يصبح دليلا على العكس كما يقول.لكنه يستدرك مباشرة بأنه لم يجد أمامه سوى هذه الصيغة "المستهلكة" للقول بأن هذه الروايةعمل تخييلي . وبالتالي فهو يقطع علينا في عملية القراءة أي تأويل لعناصرالرواية .فيقول بأن " كل محاولة لمطابقتها بواقع ما مضيعة للوقت" ،ولكن تكرار الشخصية من جهة وإشارات الرواية ورموزها تشجع هذه المرة عل مطابقتها بواقع عاشه الكاتب. فالإمبراطورية، والحامية ، ومدينة السندباد، والمدينة المطلة على البحرهي أمكنة يمكن للقارئ التعرف عليها بما تُسرب له الرواية من مزاياها وتاريخها وإشاراتها أو علاماتها الدالة عليها.كما أن النظام السياسي الذي ينخرط يونس الخطاط في حركة قومية معارضة له ولحاكمه المشار له بالحفيد، واضح الدلالة وقابل للتعميم على كثير من الأنظمة في تلك المرحلة.

وفي مجال قراءة العتبات لابد للقراءة النقدية أن تتوقف عند عتبة أخرى ،هي مدخل سردي يعد موجها قويا لأية قراءة .فهو يسبق تقسيم الرواية إلى فصول أو مقاطع مرقمة ،وينطوي على لعبة سردية طريفة تنطوي على ذكاء وإتقان فني من الكاتب. فقد صرح في سطرها الأول بأن يونس(لايعرف أنه سيموت بعد أيام، أو يتجمد في الهيئة التي هو عليها الآن.في العمر نفسه، والجسد ذاته....) وسنعلم ذلك لاحقا ،فيما ينسحب الكاتب - كما يقول- ليفسح للسرد أن يأخذ مجراه وكي يتوجه إلى القراء.لكن المؤلف لا يضمن لنا أنه لن يعود ليتدخل في السرد كلما وجد بالسرد حاجة لذلك. وقد ميز تدخلاته في فصول الرواية بطباعتها بحرف أسود غليظ مميزا عن السرد الخطي المتصاعد في مجرى الرواية.وقد تكرر ذلك كثيرا بشكل فقرات طويلة أحيانا أو تعليقات عابرة أحيانا أخرى، لكنها تمثل إضافات راوٍ عليم بالأحداث، لم أجد مبررا لاختفائه، وكان بالإمكان أن يندرج صوته ضمن الأصوات الأخرى الحاضرة في السرد مباشرة؛ كيونس الخطاط أو من خلال استذكاراته عن أصدقائه وزملاء صباه أو رفاقه في التنظيم ،أو في بيان طبائعه كمتمرد يرى أن الاختلاف عن الأهل ومعهم قانون طبيعي، وأن مهنة والده الخطاط رغم براعته فيها ليست إلا فنا وجمالا لم تعد متوائمة مع العصر وما جلب من معدات وطباعة.ويعلق المؤلف بالقول(إن الآلات تزحف على الأيدي وتقضمها تدريجيا.ولن تكون هناك حاجة إلى الايدي التي بنتْ العالم حجرا حجرا إلا في أضيق الحدود) .وتلك من أغنى رموز العمل فالخط يسري بدماء السلالة التي لاتجد نفسها إلا من خلاله ، وزحف الآلات يعني انقراضها أو عدم الحاجة لها في الحياة...حتى يونس المتمرد نفسه والثوري حمل لقب الخطاط عن أسرته، ومن خلال الخط انتقل لقراءة الدواوين الشعرية وكتابة القصائد. كما كانت صحبته مع الآخرين ثقافية.فتجمعاتهم في المقاهي ذات منحى أدبي وثقافي .يتبادلون الكتب والآراء والجدل والأخبار.ولا تخلو سمات أصحابه من فرادة كإبراهيم الحناوي الذي أرى أنه بهدوئه وعقلانيته يمثل وجها آخر ليونس لم يأخذ حظه في السرد ،وظل شخصا ثانويا ،حتى حين فكر بمساعدة يونس في محنته بعد هروبه من السلطات عقب العملية الفاشلة.وتنطوي الرواية كجرد للأصدقاء المهمين على حبكات ثانوية غزيرة الدلالة، يمثل أبرزها حسيب الشخصية الغريبة مختلفة التصرفات ومزدوجة الوجوه، ومحسن الذي ينتحر مرتين ويحب امراة من دين آخر،وأبو طويلة وما يجمع في طباعه من عبث وسخرية وصعلكة وثورية وثقافة أيضا..

لقد جاءت أحداث رواية "هنا الوردة" أشبه بتأمل بانورامي لمشهد عريض وحيوي وفعال في زمن ملتهب ، له دلالته كنموذج لنمط التفكير والعمل والاعتقاد والموقف لدى جيل من شباب حالم، لم يعد يعرف إن كانت أحلامه أوهاما أو أن ماعاش من أوهام حسبها يقينا لم تكن إلا أحلاما، تكسرت على مصدات الواقع وصلادة الأعراف والأنظمة والموروثات.