لم يكن الوحيد مِن شعراء العراق مَن امتلأت صفحات أعماله الشعرية بدخان الحرب وضجيج آلاتها الخانقة والمدمرة، لكنه يكاد يكون الوحيد الذي بدأ يخرج تدريجياً من قبضة غبار المعارك ويحاول أن يثبت أن للحياة وجهاً آخر غير وجه الحرب، هو وجه الحب بما اتسعت له آفاقه النقية من مشاعر وإيحاءات وجدانية تؤكد إنسانية الإنسان وبراءة تكوينه.
وفي مجموعته «في الثناء على ضحكتها» (بيت الغشّام للنشر والترجمة ــ الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء) والضمير عائد إلى الحبيبة، يتجلى هذا المنحى الوجداني. تكشف القصائد عن مخزون عاطفي يموج بأنهار من الشجن الأليف واللوعة الحارقة، ويستدعي ظلالاً من الذكريات التي يصعب تجاوزها أو محوها مهما تقادم بها الزمن، وبدت لفترات فارقة أنها قد صارت جزءاً من هامش صغير في متن حياة حافلة، بما لا يمكن تجاوزه أو نسيانه بسهولة، بعدما حفرت في صدر الواقع ندوباً لا تكف عن الإقلاق والإحراق واستدعاء البوح خشية الوقوع بين خيارين لا ثالث لهما الاختناق بالصمت أو الانسحاب من الحياة.
ويصح لنا في البدء أن نتذكر أن ثلث قرن من عمر الشاعر عبدالرزاق الربيعي قد تبدد وهو بعيد عن وطنه الأول، ذلك الذي لا يشك أحد من أقرانه وقرَّائه أنه قد حمله معه إلى المنفى وأجاد رسمه في أغلب ما يكتبه من شعر ونثر، بوصفه واحداً من المبدعين العراقيين الذين شردتهم الأوضاع غير السوية لبلد كان حديث الدنيا. وفي سلطنة عُمان ألقى عبدالرزاق أخيراً عصا الترحال، ومن هناك يواصل كتاباته ويتابع محنة وطنه بكثير من الحزن وقليل من الأمل. وعندما كان يشتد به الحنين إلى أريج الطفولة ومرابعها، كان لا يتردد عن المغامرة ويخترق ستار الخوف الحديدي ليعيش هناك أياماً أو أسابيع ثم يجد نفسه في قبضة المنفى من جديد، مكتفياً بالحنين إلى وطن الطفولة، والهروب إلى ذكرياته القديمة، ذكريات أول الشباب وأطياف الحب الأول كما في ديوانه «في الثناء على ضحكتها» الذي يخلو إلى حدٍ كبير من أجواء الحزن ومكايدات الحرب ولغتها القاسية المرة.
في الغلاف الأخير، شدتني كلمة تعريف بالديوان للشاعر ناصر أبو عون، اختزلتْ في سطور معدودة ما لا تتسع له صفحات، وتمكن بها من أن يقدم للقارئ في سطور تجربة الشاعر عبدالرزاق الربيعي مختزلة دون إخلال أو إهمال. أدركت كأنه بهذا التعريف المختزل يجبر أي متناول للمجموعة على أن يعبر منه ويستعين بما تضمنه من إشارات تغني عن العبارات، لا سيما في إشارته العميقة والدالة إلى أن الشاعر في مجموعته هذه كأنه يعيد كتابة تاريخ الغزل، والوجد في ديوان الشعر العربي الحديث، وهنا بعض مما جاء فيها: «وفي كل ذلك، نجح الربيعي في أن يعيد كتابة تاريخ الغزل والوجد في ديوان الشعر العربي بكلمات معجونة بماء غير آسن من نهر الشعر، وعسل مصفى من رحيق الأزهار النابتة في هضبة القصيدة؛ من خلال اصطياد المتفلت، ومباغتة القارئ بفيض من التجارب المتجاوزة معنى، والمتآلفة لغة والمتألقة خيالاً، وهو يحدث في المنطقة الوسطى ما بين «التشبب والوجد» وعلى ضفتي «الشعر والشعور»، وعلى حدود التماس ما بين «الموسيقى، والرسم بالكلمات، وبالفرشاة»، إذ تتصارع الأفكار، وتنثال الرؤى، وتتبختر «حوريات» وتغتسل في بحر العشق من أدران المادة وتتوضأ بضوء الكلمات تحت ظلال وارفة من أشجار المعنى، في كل ذلك يضفر الربيعي الكلمات بالوجد، ويغزل الأسطر بإبرة الحزن ليضع للشعر ثوباً جديداً ومغايراً لما نقرأه وعلى حوافي الورق».
يبدأ الشاعر المجموعة بأبيات عن الحب من مجنون ليلى وأخرى من ابن عربي، تتخللها كلمات ذات صلة بالحب لكل من جلال الدين الرومي وأراغون. كأن الشاعر بهذه المقدمات يهدف إلى وضع القارئ في المناخ المنشود، قبل أن يدخل به إلى عالمه الشعري بكل ما يفيض به من لوعة وحنين وأشجان، ويفصح عنه من هواجس واستيحاءات، وفضاءات يتحرك على بساطها الواقعي والرمزي، الذاتي والمتخيل، وأزعم أن براعة الأخيلة وصدق اللوعة في القصيدة الأولى قد لامست وجدان القارئ، وغمرت روحه بحزن شفيف ولاذع: «خذي رئتي/ وطوفي بين أوردتي/ ونامي في ثنايا الروح/ واسترخي على شفتي/ خذي ضوئي/ وما أبقت لي الأيام/ من نزف بمحبرتي/ خذي رئتي/ خذي بدئي وآخرتي/ وسيري/ أينما شئت/ بروحي/ طَوِّفِيها الكون/ من جهة إلى جهتي» (ص10).
كأنه يعيد كتابة تاريخ الوجد في ديوان الشعر العربي الحديث
سوف يستمر الصراع هادئاً أو حاداً بين أنصار من يرون أن الشعر كائن لغوي لا علاقة له بموضوعات الحياة اليومية أو الخالدة، وبين أنصار من يرون أن الشعر مع الاعتراف بأنه كائن لغوي إلاَّ أنه كينونة ذات رسالة، تستخدم المباشر والمتخيل لنقل تجربة منبثقة من الواقع، وليس المهم أن تكون ذاتية أو إنسانية، وإنما المهم كيف تصاغ هذه الكينونة شعرياً وجمالياً، وكيف تبلغ مداها في التأثير على القارئ. ومن هذا المنطلق، أجد في القصيدة الأولى من مجموعة عبدالرزاق الربيعي نموذجاً للكينونة الشعرية المؤثرة والفاعلة. فلم يتحقق نجاح الشاعر في هذه القصيدة فيما نسميه التأثير فحسب؛ بل نجح فيها موضوعياً عندما تمكن من المزج العميق بين ما هو ذاتي وما هو إنساني، ونجح فنياً في معادلته بين جمالية التعبير وجموح الخيال. إنّه - لسوء حظ حبه- معلق بامرأة ذات رئة معطلة فارتقى بالحب من مجاله الذاتي العاطفي إلى مجال أوسع، وأعني به هنا التضحية التي هي أعلى درجات الإنسانية، وبفضلها تمكن الحبيب العاجز عن التنفس، من ممارسة حياته الطبيعية بما في ذلك الطواف بأجزاء من هذا الكون الذي يضيق بمن يعاني ويتعذب.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عبد الرزاق لا يستخدم نظام التفعيلة في كل قصائد المجموعة، بل في بعضها فقط، وربما غلبت قصائد النثر فيها على قصائد التفعيلة، كأن الدخول إلى الوزن أو الخروج عنه لا يهم الشاعر من قريب أو بعيد، بقدر ما يهمه الشعر الذي يكتبه كما يجيء إليه دون تصنّع أو افتعال، وهو يأتي تارة على شكل قصيدة موزونة في إطار نظام التفعيلة. وتارة يأتي خارج الإيقاع المباشر في شكل قصيدة نثرية. ومن قصيدة «في الثناء على ضحكتها» التي أخذت المجموعة عنوانها نجتزئ هذا المقطع الطويل: «ضحكتك طائر ينطلق على جناحيه الصغيرين/ للسماوات السبع/ ضحكتها كتاب مفتوح/ للتأويل/ ضحكتك/ صدقة جارية كجدول/ تلك الضحكة الأسطورية/ أخذت من سحر بابل سحرها/ ومن البحر الأبيض المتوسط بياضه/ من الأنهار شعاعاً/ من الأطيار/ خفق أجنحتها/ من الفراشات نبضها/ من الشعر الموزون موسيقاه/ من قصيدة النثر همسها/ من تماثيل الشوارع جلالها/ من الجلال/ رفعته» (51).
في المجموعة ومضات نثرية قصيرة بالغة العذوبة ومنها ما كتبه تحت كلمة «عطر»: «لكثرة ما شممتك/ نمت وفي صدري/ شجرة ورد»(ص72)
وتحت كلمة «جَنّة»: «قلبي حديقة/ بها فاكهة ونخل ورمان/ وأنين» (ص73)
قد لا ينعدم في هذا المناخ العربي الصاخب والمضطرب من يوجه إلى الشاعر سؤالاً يقول فيه: أهذا وقت الحديث عن الحب يا عبدالرزاق؟ وقد سبقت الإشارة إلى أن الشاعر يريد أن يثبت أن للحياة وجهين لا وجه واحد، وأن من حق المبدع أن يحلم بزمن جديد وحياة خالية من العنف والحروب. وفي تقديري أن من حقه أن يتحدث عن الحب الآن، وليس في أي وقت آخر، ففي هذا الوقت المرعب والدامي ينبغي أن يرتفع صوت الحب، وأن نحاول أن نستعيد أفراحنا القديمة المحدودة لكي تتمكن الحياة من أن تواصل سيرها رغم كل أشكال القبح والقتل والدمار. ولا يصح أن يدفعنا الواقع المتوحش إلى منع البلابل عن التغريد، والأطفال عن الضحك، وإذا فعلنا ذلك نكون قد ساعدنا أعداء الحياة على تحقيق جانب من أهدافهم المظلمة والهادفة إلى دفن المشاعر وإسكات كل صوت ينبض بالأمل ويشجّع على مواصلة التحدي والتغنِّي بالجمال: «حين أدرتِ وجهك عن طريقي/ أحسست أن روحي عرجاء/ تسير على عكازة/ من قصب/ والآن عادت/ تركض في براري الوجد» (ص84)
للشاعر عبدالرزاق الربيعي 15 ديواناً، وكتابان في النقد الأدبي، وكتابان في أدب الرحلات وكتابات أخرى لم تنشر، وله مشاركات عديدة في المؤتمرات واللقاءات الأدبية التي تنعقد في أكثر من عاصمة عربية، وهو شاعر في سلوكه الراقي وفي حبه لمن يعرف ومن لا يعرف من بني البشر على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم ومواطنهم، وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر.
من جريدة الاخبار اللبنانية