الإنسان رب حين يحلم وشحاذ حين يفكر.
هيلدرين
الغلفة
- عضوكَ سيف مغمود، أمّا أنا ومحمود، فسيفانا قد شهرناهما منذ الشهر الأول لولادتنا، لذلك يحق لنا الزواج بأربع، فهما قد تنطّعا للقراع منذ نعومة أظفارهما.
هذه الأفضلية يجب أن تقرّ بها، أمّا مزايداتكَ والميزات التي خلعْتَها على زائدتك اللحمية - من سهولة ممارسة العادة السرية بلا بصاق أو صابون، وما تؤمنه من متعة أكبر بسبب مساحة الجلد المكتنز بالنهايات العصبية، وأنّ الممارسة لديك باثنتين مما لدينا - فالواقع يكذبها ولا تنفعك، فلا يتساوى السيف المثلّم من كثرة الضراب والسيف الصدئ في غمده، حتى أنّك تستطيع معرفة شهرة أعضائنا من ولع النساء الغربيات بها، والعناء الذي يتكبدنه ليحظين بمضاجعة مَنْ يشتهر بجعل أربع نساء ينمن وهنّ منهكات الفروج، أضفْ على ذلك ما قرره الطب من منافع الختان.
- بما تفسران إذن ختان البنات الذي وجد أساسه في قطع شهوة الأنثى، وما أكّده الطب من أنّه يخفف من ثورة الأنثى الجنسية، ويجعلها نهباً لأحلام لا تتحقق، فتصبح مخلوقاً معقداً كالشارب من ماء البحر لا يرتوي، فيقضي عمره في ملاحقة السراب، أليست الحور العين نتيجةً لهذا الحرمان؟! أمّا هذه الجلدة كالسرج للحصان، تجعل ركوبه ممتعا ًولا تترككما مقرحَي القفا، أو في هلوسات آخرةٍ تقضونها في المضاجعة؟!
- الذكر فزيولوجيته مختلفة عن الأنثى ولا وجه للمقارنة.
******
هذا الجدال لم يكن لينتهي إلّا بحكم خبيرة بأعضاء الرجال ومن غير رغدة، امرأة في الأربعين مرّ على فرجها آلاف مؤلّفة.
لم نكن نملك إلا مئةً وخمسين ليرة، والسعر لديها كان بألفٍ لفنجان القهوة السريع، فليكن، الموضوع سؤال وجواب، ومن المؤكد أنّها ستزهو بنفسها، فلا نعتقد أنّ أحداً من الرجال قد سألها هذا السؤال، وقد ترى فيه وجه فائدة غفلتْ عنها فترفع سعر فنجان القهوة سواء كان بهيل أم بدونه!
طرطوس مدينة مكشوفة، إنّها قرية كبيرة، تشعر فيها أنكَ معروف جداً، لذلك تسللنا إلى بيتها في العاشرة صباحاً، ما من أحد سيظنّ بنا، فهي لا تبدأ عملها - حسب ما سمعنا - إلا مساءً ، رسمنا خط سيرنا، كان الأهم كيفية قرع الباب لإيقاظها، والتعبير الذي يجب إبداؤه على ملامح وجوهنا ليقنعها بعدم الصراخ بصوت يصل لآخر الشارع الجانبي، وعلينا أن نجعل المئة والخمسين ليرة ظاهرة، في حين يتولى داني سؤالها، ويبقى محمود خلفنا تحسباً، وبعد التحليل كانت علامة البله النتيجة الحاسمة التي يجب تقديمها لرغدة كملمحٍ لوجوهنا، الجدية البلهاء!
صعدنا الطوابق الثلاثة، وأمام الباب وقفنا كمثلث متساوي الضلعين، قاعدته تستند إلى الباب، ثلاث دقات على الجرس وبعد ثوانٍ نعيدها، اهتزّ الباب كأنّ نسمة خفيفة مرّت من قربه، وانفتح على عمودٍ من لحم، وقبل أن تباغتنا بردة فعلها، كان داني يسرد ما اتفقنا عليه كتلميذ عينه على العلامة التامة أمام أستاذه:
سيدتي المحترمة، أرجو منكِ أن تستمعي إلينا، فنحن -والله- لا نريد إزعاجك، لكن للضرورة أحكام، وأنت الوحيدة القادرة على إجابتنا وإلّا صداقتنا مهددة بالزوال.
كان وجهها الناعس قد استيقظ تماماً، وعلته غرابة المستيقظ من كابوس، في تلك اللحظة دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة أمام بطنها، وتابع داني: وهذا ثمن الجواب.
عند كلمة الجواب تحركتْ حركةً عنيفةً، وأمالتْ جسدها بعيداً عن قوس الباب لتدفعه بيسراها بقوةٍ، مددتُ قدمي التي هُرسَتْ بين الباب وإطاره لمنعه من الانغلاق، وداني بدأ بتوسلاته: من أجل الله، أتوسل إليك، كرمى لله.
اللغة الفصحى التي أثارتْ استغرابنا، عللّها داني بأنّ نطقه بها يجعله أكثر قدرة على الإقناع، فجربتُها في محاولةٍ لصيد فتاة، فالتفتتْ إلي وابتسامة عريضة تعلو وجهها، وعندما غمزتْ الصنارة تأكدتُ من صحة تعليل داني، فهل اعتبرتها هي حماقة!؟ أما داني فساق ما حدث دليلاً على أنّ النساء يضحكن مما ندعوه التفكير المنطقي، لأنّه يتحول للهاثٍ فيما بعد، فلا يمكن لكائن أن يكون منطقياً وله رأسان، وكعادتي عارضتُ نظريات داني: منطقية الرجل برأسيه، تعاكس هذه النظرية وتؤكدها ضحكات المرأة، فكيف لرأس واحد أن يملأ فمين بالكلمات.
فُتِح الباب من جديد، حررتُ قدمي محاولاً منع تأوهات الألم من الخروج من حلقي، ألمٌ سكنَ تلقائياُ عندما تلفظتْ رغدة: أنتم مجانين.
فردّ ناطقنا الإعلامي وباللغة العربية الفصيحة: سيدتي نحن في قمة العقل، وطالب العلم يذهب إلى الصين ليعرف الجواب، وجوابنا لديك، ونحن لسنا متطفلين، ونعرف أن وقت عملك لم يحن بعد.
تبتسم: ما هو سؤالكم؟
فتابع داني: أرجو ألا يسبب إحراجاً لك.
تهمهمُ، بينما استجمعَ داني صوته لطرح السؤال عليها بلهجة علمية خالصة:
- سيدتي بحكم خبرتك أيهما أحسن، العضو المطهر أم غير
تنفجر ضاحكة وتكرر: أنتم مجانين.
فأجابها بكل وقار: عفواً سيدتي أرجو الإجابة.
دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة إلى يدها، فازدادتْ ضحكاً: نزعتم صباحي، الله ينزع صباحكم، لكن - والله - تستحقون فنجان قهوة!
غريب ما حدث والأغرب ألا ندخل! إنّها فرصة العمر، تهادتْ أمامنا بقميص نومها الذي يكشف عن فخذيها بالكامل، وإذا أسقطتَ قلماً على الأرض سترى كيلوتها الأسود، قليلاً من الانحناء يكفي، همس محمود.
جلسنا في غرفة الضيوف/الزبائن. كان بيتاً عادياً، فيه لوحات إطارها أثمن منها، وطقم من الكراسي المخملية اللون، تسللتْ رائحة القهوة إلى أنوفنا، لم أكن مثاراً حقيقةً، فقد كنت مدهوشاً طوال الوقت الذي مضى وهي تعدّ القهوة.
سألتهما فيما بعد، بماذا فكرا؟ كانت أجابتهما مثلما حدث لي: فكرنا باللاشيء!
كيف نفكر باللاشيء ونحن في بيت عاهرة، هل احتفظنا بعذرية الأفكار لما بعد لنجترها كفحول تحت أغطيتنا ونتأوه؟! يبدو كذلك، لقد حدث هذا لي شخصياً، لستُ أدري لماذا لم نبح لبعضنا بما حلمنا، كنا نفعلها قبلاً، نتشارك الأحلام الجنسية عن بعض النساء، فيما بعد عرفتُ أن الفحل لا يريد شركاء حتى في أحلامه.
دخلتْ كنادية لطفي، عقدتْ ساقاً على ساق، نظرتُ إلى فخذيها باطمئنان، كان وجهها جدياً، الوجه الجدي دليل على التفكير، لم أدرك وقتها أنّنا فتحنا جرحاً قديماً، خفّتْ نبرة صوتها، وتكلمتْ بلغة عربية بيضاء كلغة نشرات الأخبار، يبدو أنها متعلمة!
تبدأ الذكريات... (كان ياما كان)، تكلمتْ عن أشياء تعود لزمن بعيد، لم نكن وقتها قد ولدنا، تكلمتْ عن فتاة، يبدو أن ماضي المرأة هو فتاة تحلم، ثم تأتي هي لتدفع الديون، أمّا الرجل فماضيه ليس إلا رجولته، "ولدناته" تنسى أمام أطول حقبة له، فثلاثة أرباع عمر الرجل صفتُهُ الرجولة.
المرأة كثيرة الحقب من طفلة، إلى فتاة، فصبية، فعزباء، فمتزوجة، فأم، فعاقر أو عانس، هذا الاستئناف يحكم عمر المرأة، لذلك كلامها ليس جديراً بالأخذ ككلام الرجل صاحب الفاء الوحيدة في حياته.
أخذَنا حديثها، ولم يعد يعنيننا السيف المغمود ولا نظيره المسلول، تناسينا الثمن، ويبدو أنّه لم يكن يعنيها، هبطنا بهدوء من منزلها غير مكترثين أشاهدنا أحد أم لا.
******
إنّه اليوم الثاني بعد امتحانات البكالوريا، ثلاثتنا في الفرع الأدبي، فرع الفاشلين، فلا حاجة للفلسفة أو التاريخ أو الأدب، فقد شبعنا منهم في ماضينا، نحن في زمن الاختصاص الذي ينتج نقوداً كأنّه مشروع رأسمالي لا اشتراكي، ولسنا في زمن العمال والفلاحين الذين تقودهم طليعة ثورية قد ولّتْ.
إنّنا من الفئة التي لا تجيد لغة العصر المتمثلة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم، إنها لغة بنتْ عليها أوربا حضارتها طبعا ً، لكنّهم تناسوا أنّ فرعنا الأدبي هو من أعطى للفرع العلمي تلك السيادة.
محمود: أين سرحت؟
- البكالوريا يا رجل، أمامنا حلان ليسا متوافرَين، الوظيفة أو السفر، يقولون الفلسفة أم العلوم، لكنّ أمّنا تزوجتْ البراغماتية، ومن يتزوج أمّنا يصبح عمنا، والآداب أخلاق الشعوب لا الدول، ونحن نعيش في زمن الدول، لقد درسنا كتباً لا جدوى منها، قفا نبكِ من مستقبل...
******
كنّا نضحك عندما دخلنا مطعماً صاحبه زميل لنا، كان قد استلمه بعد أبيه، استقبلنا بود ٍ وقُبلٍ على الخدود والأكتاف:
فرسان البكالوريا بماذا تأمرون؟
أنا: مسبحّة البحر المتوسط.
محمود: واجعلها نثر.
داني: صحن فول.
أخرجتُ علبة الحمراء الطويلة، لم يحتج الشباب دعوة، كلّ منهم أخذ سيجارة، وعلتْ فوقنا سحابةُ (صنع في سوريا).
بانتظار المسبّحة والفول كانت عيوننا على الشارع، نراقب الصبايا العابرات.
* المسبّحة: أكلة مصنوعة من الحمص.
تجشأ داني، وفاحتْ رائحة البصل، ومعها تداعتْ ذكريات قديمة جداً، قطعتُ الطريق على داني بعين تلسكوبية عادتْ في ضوء الماضي حوالي خمس عشرة سنة، جذبتُه من جانب محمود، وألصقته بالحائط، وهمستُ له:
الأخ لا يكذب على أخيه، أتعبتنا بالنقاش عن عضوك ذي الغلفة لنكتشف أن ليس لعضوك واحدة....!؟
دفعني داني، أنسل وجلس بجوار محمود المستغرب من كلينا، وأخذ يضحك:
الواقع بما يجب أن يكون ليس بما هو كائن، والقصة قصة مبدأ.
أزمجر وأصرخ: سأعريك هنا، وأجعلك فرجة كقرد السيرك، المبدأ الوحيد الذي أعرفه هو الحقيقة.
تدخل محمود بيننا، وهو يظنّ أن خطباً ما قد حصل:
يا شباب عيب، ليست الصداقة هكذا.
أجبتُ محمود بينما داني يضحك، وأنا مثله تقريباً:
هذا الكذّاب ليس له جلدة ولا من هم يحزنون، لقد تذكرتُ، كثيراً ما تنادرتْ أمّه وأمّي وهما يشربان القهوة عليه، لأن داني فقَدَ جلدته عندما كان عمره سنتين ونصف، فقد التهب عضوه العظيم، ولم يكن هناك من حل سوى تطهيره، لكنّ المخبول لم يستوعب ما حدث له، ولم يعد قادراً على التبول بعدها، ومضتْ ساعات طوال وأهله كالمجانين، فلم تنفع كل الوسائل لإقناع هذا التيس بالتبول، حتى فكّر الطبيب بتخديره، وسحب البول من مثانته عبر الإبرة، لكنّ أمه وأمي فكرتا أنّه لو شاهد عضوي ربما يقتنع أن ما حدث له ليس غريباً، وجلبوني وأروه عضوي الذي يشبه الخنجر دون غمده السخيف، وعندها بوّل المصون على السجادة، ولم يأكل علقةً بل ضمته أمّه إلى صدرها، أتمنى لو أكلها ساخنة.
ضحك محمود: الآن أنتما شقيقان بالأعضاء.
رد داني: شقيقان بالبول.
قلتُ: بل الكل للواحد والواحد للكل.
صمتنا بعدها، فهذه المقولة لا تصلح مع الأعضاء الذكورية.
******
عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبداً.
طرطوس تتغير، تتوسع، تتضخم حتى كورنيشها قضم قضمة طويلة من شطّها ومدّ لسانه محاولاً أن يتذوق جزيرة أرواد، أستغرب من نفسي وأنا أتكلم عن التغيير المكاني، نادراً ما سمعتُ عن الذين عناهم الأمر من جيلينا، فقط كبار السن - الذين جلسوا على الطاولات يرمون نردهم لعلّهم يقبضون على حظٍ فاتهم، أو ينفثون دخانهم- من يكترثون لذلك.
تنقسم حياة الإنسان لقسمين، الأول للحفظ، والثاني لتذكر ما حفظه، كأنّه بذلك يريد أن يثبت لنفسه أنّه كان موجوداَ هنا.
أبي الذي تقاعد، كثيراً ما قال لي: الرجل باستقلاله ومن لم يفخر بشبابه لا فخر له. فأردّ: تلك مقولة قديمة لم تعد تنفع في عصرنا، كان الولد فيها يُعطى ماله، ويُزوج عندما يحتلم، أمّا أنا فقد مضى على احتلامي خمس عشرة سنة، لم أجد المال ولا..!؟
خرجتُ من شرودي عندما هبط عليّ داني ومحمود قائلَين: تأخرنا عليك.
- ماذا تشربون؟
- نرجيلة وشاي.
مضتْ سنوات الجامعة سريعاً، أنا درستُ الفلسفة، وداني درس التاريخ، محمود اختصر، أنهى خدمته الإلزامية، وبدأ عمله ببسطة ثياب، والآن لديه كشك لبيعها.
يقترب الجرسون يضع كؤوس الماء الساخن مع ظروف شاي ليبتون بالعلامة الصفراء، ويلحقه معلّم النرجيلة بلباسه العربي، ويجهز "النَفسَين " ثم يناولهما لمحمود وداني بعد أن يوجه المبسم نحو بطنه بحركة تستشعر منها مغزىً جنسياً طالما أنّ الأمر لو وُجِّه للزبون يحمل هذا المعنى!؟
لا شيء يبقى على معناه الحقيقي، فالأنسنة تُغيّر، تُبدّل المعنى الاستعمالي إلى معنى يتجاوزه، وكثيراً ما يفقده دوره السابق من آلة تخفي قرقعة معدة الأمير وإطلاقه لغازاته إلى ما شاء التأويل من دلالات.
يسحب محمود نفساً عميقاً وينفخ في اتجاهي: أعوذ بالله يا رجل ماذا تقول؟
- لقد دبّ فيه الإيمان - يسخر داني- تخاف على رزقك!؟ لا تخفْ، فالأرزاق مقسّمة، ولن تذهب!؟ لكنّك ستُسأل عن استخلافك فيها، لذلك عليك بالفاتورة، فأنا وباسم من المساكين، ولنا في مال الأغنياء حقّ.
كنتُ شارداً على ما يبدو، لم أعرف ما الذي جعل داني يتكلم هكذا، لا ريب في أنّها النرجيلة!؟
- الفاتورة سأدفعها، أحتاج لرصيد من الحسنات يوازي سيئات التلصص.
قلتُ: جرسون، اجلبْ "طاولة الزهر"، والآن سأفقعك غلب "مغربية" أخرجه من قفا رأسك.
بينما كان الجرسون يحضر لعبة الطاولة، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأنّ الرب سيتجلى لنا هنا، وليس على طور سينين، سيناء.. أكانت ضرورات التصحيف أم اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء!؟
داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمّا اسمي فيبدو غريباً ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ؟!
يضع الجرسون "طاولة الزهر"، ومازال الصمت يجلس معنا، أفتحها بحركة عصبية، يتناول محمود حجارته البيضاء، أتمُ ترتيب حجارتي السوداء، وأترك أربعة أحجار بيدي على عدد أحرف اسمي، وأرمي نردي، "يك"، يرمي محمود، "بنج"، يبتسم، يرن موبايل داني...(من كتر ما ناديتك وسع المدى)، رفضَ المكالمة، وقال: الذي يخسر، أحلّ محلّه.
دفع محمود الفاتورة وغادرنا، تركْنا داني بحي الحمرات، وتابعنا سيرنا ليتركني محمود بعدها.
*****
داني، يحلم بالهجرة، أوراق الهجرة أودعها في السفارة الكندية، مضى عليها سنة كاملة أمّا أنا فلا أعرف هجرة، ولا تجذراً كمحمود!
أشتري جريدةً، في الصفحة الأخيرة خبر عن "أنجلينا جولي" و"براد بيت" وولد جديد يدخل حظيرة التبني، أنظر لشفتيها، وأتذكر فلماً لها مع "أنطونيو بانديراس"، كيف احتمل أن تكون عارية بين أحضانه، لا ريب أنّه خدر عضوه، تحتاج هذه الحياة لمخدر دائم.
أصعد درج البناء، بيتنا في الطابق الرابع، رائحة الطعام تعبق في البيت، أبي على الشرفة مع أبي سعيد، ألقي السلام، يسألني أبو سعيد عن أخبار المسابقات التي سنوظف بموجبها، أضحك: من الواضح أنّهم لا يريدون زنادقة في مدارسنا، أليس كل من تفلسف تزندق!؟
يستغرب أبو سعيد من ردي، ويهمهم أبي!
أستأذن منهما، وأدخل غرفتي التي أشغلها مع أخي الذي يتم خدمته العسكرية، أشمّ رائحة الحذاء العسكري، وكأنّي خلعته منذ لحظات بعد ساعة رياضة لتقوية الحبال الصوتية وأنا أزمجر أمة عربية واحدة/ مجزأة، إلى أن يضيع صوتي في ضجيج الأصوات المنادية بالوحدة على الإسفلت السائح من حرارة الشمس، في حين أن عميدنا قد وضع مظلّة لسيارته المرسيدس التي استلمها أخيراً بعد أن ترفّع لعميد بحكم الزمن، فمنذ فترة طويلة صارتْ الرتب يمنحها الزمن لا البطولات.
أضغط زر "البور"، يصفر الكومبيوتر، أجلس، وأنتظر ريثما يدور محرك "الزيل"، مرحباً، أهلاً، أقول لنظام "الويندز"، يا سيد مكاوي كل ما في هذا الكومبيوتر يتكلّم بلغة الثنائيات، ليس مهماً الإخراج الأخير الذي يكون باللغة العربية، تلك اللغة التي نظن أن أرضنا من المحيط إلى الخليج تتكلمها؟!
ما هو المهم!؟ أجري اتصالاً "بالإنترنت"، يفرقع صوت ال dialup""، يتم التأكد من اسم المستخدم وكلمة السر، ثم تنفرج الشاشة عن صفحة كبير المحركات "Google"، أفتح "الهوت ميل"، لربما لمياء قد تركت رسالة ما، ثلاث رسائل في علبة الوارد.
أشعل سيجارة بينما تتوضح نافذة "الإيميل" رويداً رويداً، آه، لو كان حقيقاً انتسابي لفرنسا كما هنا في حسابي على "الماسنجر"،عندما أنشأتْ حسابي للمرة الأولى، بحثت عن اسم بلدي "Syria"، وضعته، لم تمض فترة طويلة حتى حُجبت خدمة "الماسنجر"، سواء أكانت وزارة الاتصال خلف ذلك أم الusa"" أم أي سلطة أخرى، لا يهم، ففي النهاية السلطة لمن يملك المخدّمات، لكن شكراً لعملية الحجب، فقد أصبحتُ فرنسياً دون هجرة يا داني!
أنشأتُ حسابي الثاني باسم "جاك" كما في قصة مدينتين لأتفادى حجب خدمة "الماسنجر" في هذا العالم الافتراضي كما يقول مجمع اللغة العربية، أيها الفارس العظيم يوسف العظمة، هل عرفت الحال الذي آلت إليه ابنتك؟! ليلى في العراق "فايتة بالحيط"، مكسور الوزن، عذراً يا جن عبقر، رسائل في صندوق الوارد، "مهمد موهامبو" يطلب مني أن أبعث له بمعلومات عن وضعي ورقم حسابي ليهرّب تلك الأموال التي ستأخذها الحكومة، أسف، لا أملك حساباً في البنك، ولا حساب حسنات وسيئات كمحمود، رسالة ثانية بعنوان (بلغ عني ولو آية )، أضع إشارة "صح " على الرسائل، وأضغط على كلمة "حذف"، تناديني أمي، أطفئ الكومبيوتر، وأذهب لتناول الطعام.
*****
يرنّ موبايلي رنتين بموسيقى "أبو علي" للمعلم زياد، أفتح "الماسنجر"عن طريق موبايلي ببرنامج "ebuddy"، كلمات لمياء تتابع مع نغمة تسجيل الدخول، تشعرني فيها بشوقها: حبيبي،عمري، روح لمياء، كنت في الحمام.
أقاطعُ دفق الرسائل التي جاءتني وأنا أنتظر تسجيل الدخول، وأكتب: حبيبتي على "كي بورد" الموبايل، اشتقتُ لك، نعيماً، أين أنت؟
ترد هي: في غرفتي، لا أحد في البيت.
أكتب: حلو، أشتهيك، تصوريني الآن جانبك، أنزع ثيابك عنك و....
تتابع الكلمات متناوبة بيني وبينها،وعندما تحين لحظة الحسم تتصل بي لأسمعها آهاتي، وتسمعني آهاتها.
نحصر آهاتنا خلال دقيقة واحدة، عيننا على عداد الثواني، وقبل أن تكتمل الدقيقة تفصل لمياء الخط، أبقى وحيداً مع سائلي المنوي على محارم "ميموزا"، أشعل سيجارة، ويذبل عضوي ليعود دودة صغيرة يحتضنها "كيلوتي" الأسود الذي به أقصيتُ أمي عن شراء ملابسي الداخلية، فقد أرادتْها بيضاء، وكأنّي مازلتُ ذلك الطفل الذي لديه حمامة، وليس غضنفراً كما قالت لمياء بعد أن بعثت لها صورة عضوي منتصباً كإنسان.
أعيد فتح "الماسنجر"، أتابع "الدردشة" مع لمياء، نتبادل كلمات مثل:جنون، معجزة...
أتكلّم عن اللقاء الفعلي، تراوغ كعادتها، ننهي المحادثة بخصام مفتعل، صرنا نعرف أبعاده.
ماذا سيكون شكل ابني في المستقبل؟! سيشبه موبايل "نوكيا"، وسيعلن وجوده على يد الطبيب الذي سيشق بطنها، فأنا أريد العملية القيصرية ليس لكي يصبح ابني قيصراً ويحرق روما / بيتي، بل لأنّي لا أريد له أنْ يوسع فرج أمّه، ويصبح عضوي كرايةٍ ترفرف في الهواء عندما يدخله، فليخرج من شق في بطنها هذا أفضل له، فالخروج من نفس الطريق الذي رُشِق في البداية بسهم من الحيوانات المنوية سيكون سيئاً لنفسيته، إنّ هذه الحيوانات تؤكّد مقولة البقاء للأقوى، وما تسابقها في مارثون ليظفر أحدها بإكليل الغار اليوناني، ويندسّ في صومعة تلك البويضة إلّا قانونَ السافانا الإفريقي، قانون الغابة، خروجه من شقٍ في بطنها قطيعة مع البدائية البشرية، ودخول في عصر الإنسان ، لكنّ "نيرون" ليس إلاّ شواذاً للقاعدة، آه، هناك الكثير غيره، لا يهم هذا ما قررته.
سيمسكه الطبيب من قدميه، وسيصدر لحن "نوكيا" المعتمد من قبل الشركة، وسيكون له أوضاع متعددة من الصامت إلى الهزاز فالصائت، أشعر أن شركة "نوكيا" بكل أفرادها ضاجعوا لمياء، ونسبوا هذا الولد لي، ستسعى لمياء جاهدة لتأمين حفاظاته من أحدث قوالب "النوكيا"، وستضعه ببيت جلدي، وتعلق به أحجاراً كريمة، بين فترة وأخرى سأعيد برمجته من جديد "بضبط المصنع"، ولا تعنيني التحذيرات التي تقول: بأنّ الأسماء والرسائل ستضيع، هكذا سأحافظ عليه نقياً، تضحكني فكرة النقاء، هل أشبه أستاذي الآن، المدرّس المنتسب لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي مازال يعتقد بأنّ الكلام والنقد محله تحت الشعار، وليس في مكان آخر!؟ إعادة الضبط الحقيقية تكون خارج البرمجة الداخلية للموبايل، حيث تكون التغيرَ ذاته لا ابنه.
لا أعرف كيف يقيم التوازن بين كتبه العتيقة التي أُعدّتْ لزمن البخاري وزمننا الليزيري هذا!؟ الأحزاب تكون سماوية في طورها السلبي، وتصبح أرضيّة براغماتية عندما تستلم السلطة.
نحن محكومون بالحلم، الحلم هو جوهر التوازن، وأنا أحلم بأن أكون سمكة، كيف سيكون شكل الحزب الذي تقوده سمكة تقضي عمرها في الحذر من
شص، وعندما يهتز قليلاً تفتح فمها و...؟!
أطفئ سيجارتي في رحم المحارم الورقية، حيث حيواناتي المنوية كالشراغف.
*****
داني وحيد والديه، مع أختين تكبره واحدة وتصغره أخرى، تزوجتا، أخته الكبيرة جعلته خالاً منذ ثلاث سنوات، والصغيرة يبدو أنّ لديها انتفاخاً في بطنها كان يُفترض أن يكون مني، لكن كنّا كبيرين كفاية لنتفادى معمعة الزواج من دين مختلف.
عندما قالتْ لي: إنّ هناك عريساً محتملاً، ربما شعرتُ بالارتياح، وحتى هي لم يبدُ عليها الانزعاج، صمتنا لبعض الوقت، دفعتُ ثمن فنجاني قهوةٍ، وغادرنا الطاولة التي اعتدنا الجلوس عليها، وداعاً للقبل الخاطفة واللمسات العابرة.
داني ينتظر المسابقة مثلي، يقضي جلّ وقته بتعلّم اللغة الإنكليزية، يبحث عن أجانب عبر "الماسنجر"، ويجري معهم محادثات ليتقن اللغة أكثر، أحياناً يسأل بماذا أفكر كلما مررنا من الميناء حيث يبيعون السمك، أجيب:
ببساطة أن أكون صياد سمك ليس كمسيحك! أشعر أن لي زعنفة وليس قدمان، سأعكس الأسطورة، سأبحث عن شيخ يبحث عن انتعاظٍ لشبابه، سأعطيه صوتي وقدميّ وعضوي على أن يحضر لي تعويذة تمنحني زعنفة بدلاً من تلك الساقين، سأعكس نظرية داروين، أليس الإنسان هو رأس الهرم التطوري؟! لقد حان وقت الهبوط، وسأختار الرتبة بمحض إرادتي.
- لكنك تحتاج لأن تغرم بحورية حتى تكتمل الأسطورة.
- بعض التصرف بالقصة لا يمنع، وأنت تعرف لقد تصرف المنتصر بالتاريخ كما يريد، وكمتلقٍ يحق لي عندما أقص على نفسي الحكاية أن أقدم وأؤخر وأحذف.
******
قليلاً ما أذهب للكنيسة، لا أستطيع أن أفهم معنى تضحية المسيح، إنْ كان عليه أنْ يفتدي البشرية بها، فلماذا أجلها إلى ما بعد الموت لنحصل على النتائج؟! ما هي الصفقة التي عقدها مع الشيطان عندما قال له: لا تجرب الرب إلهك!؟ الأمر واضح قال له: جرّب الإنسان كساحة لمعركتنا.
الحرارة مرتفعة، لا تفعل تلك المروحة التي تئنّ شيئاً، كسارق ليس على يساره مسيحاً، الساعة الثانية صباحاً،ربما لدى رغدة "كونديشن"، وتتمتع الآن بالنوم هانئة في أحضان مَن سيضع لها تحت وسادتها ما يعادل أول راتب لي - إنْ توظفتُ- قبل الحسومات.
في دولة غربية نسيت اسمها، هناك صندوق تقاعد للمومسات،هل تخبئ رغدة قرشها الأسود ليومها الأبيض!؟
تحسس داني صدره، وأطفأ سيجارةً مجّ عقبها حتى النهاية بجانب الشباك الذي يراقبه من الشارع كلما غادر صباحاً، يرفع رأسه، وينظر ليجد تلك البقعة السوداء من أثر انطفاء السيجارة تتوسع رويداً رويداً في الدهان الأبيض.
عندما أُصابُ بالسرطان سأحتاج لمعجزةٍ، وقديسين مختصين بتلك المعجزات التي تترك دوماً إشارة استفهام عليها، كمشلول قام، ومشى، وترك كرسيه المدولب -الذي تبرعت به إحدى الجمعيات الخيرية- لمشلول لم ينفعه اللقاح الذي تعدّه الأمم المتحدة، لكنّي لم أر رجلاً "كجون سيلفر" في جزيرة الكنز - قد نمتْ ساقه كذنب ضبٍّ بعدما قُطعتْ بمعجزةٍ - إلا بفلم "xmen"، حتماً إنّ أصحاب الأرجل المقطوعة لا تنفع معهم معجزات تترك علامات استفهام، هانحن ذا على دروب كنزنا....
يُغلق الضوء، وفي الظلمة يتمتم: ربنا لتكن مشيئتك كما في السماء، ونجنا من الشرير.
*****
يرنّ منبه موبايله.... (عايشة وحدا بلاك)، وتتكرر الأغنية حتى يملّ المستيقظ قبل النائم، فتدخل أمّه: داني ما هذه العادة، كل يوم نفس القصة!!
يستيقظ داني، يسرع في ارتداء ملابسه، لا يعير كلام أمّه عن الفطور أدنى اهتمام، ويخرج، يسرع ليقطع شارع الثورة، يركب "سرفيساً": تأخرتُ.
عندما وصل إلى عمله، قال له سركيس ومن دون مقدمات: امسكْ ورق الحفّ، وابدأ بهذا الباب الذي على يمينك.
تنبّه أنّه لم يُحضر ثياباً باليةً للعمل، لكنّه بدأ الحفّ، وتصاعد الغبار..... هذا الغبار يشبه نظيره المتصاعد من كتب التاريخ عندما ينفّضها التأويل، وعلم التاريخ المقارن. يتأمل الباب الذي من خشب السوّاد، مما يتألف باب العالم الآخر، هل هو فقط هذه الحفرة أم تلك الغرفة التي يجلس فيها الميت انتظاراً لقيامته، متى، ليس في اليوم الثالث، إذن متى!؟
ينبهه صوت المعلم سركيس: حفْ من الأعلى إلى الأسفل، وليس في مكان واحد فقط، يا رجل الحفّ لا يحتاج إلى جامعة.
يناديه المعلم سركيس لتناول كأس من الشاي، يشعل سيجارة، وينفخ دخانه، فتلعب به الريح الساخنة، سركيس اختصر الطريق، متزوج، وأكبر منه سناً، يزيده بعامين على أقل تقدير، يملك مالاً في جيبه من عرق جبينه، مسح بكم قميصه جبهته الندية، فتركتْ بقعاً بنيةً عليه، نظر سركيس إلى كم القميص: إنّه لون الحياة.
مضى الوقت بطيئاً، تبدلتْ الأبواب.
اليوم كان الحفّ بالورق الخشن، غداً بالناعم، وبعده بالأنعم، على عكس الحياة التي تبدأ بالأنعم وصولاً إلى الأخشن... يقاطعه سركيس: غداً، أبكرْ يا دلوع أمّك.
يعود للبيت، يأكل كبغلٍ، يستحم، ويغرق في النوم.
*****
- إذا سافرتُ فلدي مهنةٌ، ماذا تفعل تلك الساعات التي تُوزّع علينا خلال الفصل الدراسي؟! فقط تشتري بها لقب أستاذ، يا سيدي لا أستاذ ولا بطيخ، أربع سنوات مرّت منذ تخرجنا، وكل صيف يمرّ كنتُ أشعر أنّي أزدادُ تفاهةً.
ودّعني، ومضى باتجاه الكنيسة، سينتظرها لتخرج من الصلاة، تدفق المصلون - وهم قلة - من باب الكنيسة، كانت هي آخر من خرج، نظر إليها، وفكّر كيف ستضاجع أنثى تصوم أكثر من مئتي يومٍ في السنة، بالإضافة إلى أيام الصوم المفروضة!؟
مدّ يده وسلم: كيفك.
- منيحة.
- أأستطيع أن أدعوك إلى فنجان قهوة؟
فكرتْ قليلاً، رفعتْ موبايلها، وأجرتْ اتصالاً: ماما، أنا ذاهبة مع داني إلى قهوة المنشية، ok"" ماما لن أتأخر.
أوقفَ سيارة أجرة وضعتهما أمام الباب، دخلا، اختارا طاولة هادئة، في مكان ما من القهوة كان صوت فيروز ينداح، لكنّه يغيب أحياناً في الضجة المنبعثة من الزبائن والشارع، جلسا لنصف ساعة، لم يتفوها بالكثير من الكلمات، يشعر بعد كل صلاة أن هذه الفتاة تصبح سماوية أكثر، يهمس في نفسه: إنّي أنافس عريساً سماوياً.
يستأذنها قبل أن تعلن تأخر الوقت، يعرض عليها توصيلها إلى البيت، فتصمتْ، يوقف سيارة أجرة، ويركبا، يجري مكالمةً: ألو باسم، أين أنت؟ حسناً، عشر دقائق، وسأكون عندك، باي.
تتوقف السيارة، تنزل ماريا، يكلّم داني السائق: المشروع السادس لو سمحتْ.
شهر آب يجلد الناس بشمسه التي تبخّر حتى أحلام البرودة في القبور المظللة بالسنديان، يقرع على الباب، تفتح أم ّ باسم، يدخل داني.
- كيفك خالة، كيفك أستاذ.
- أهلين، كيف الأهل، تمام، تعال واجلس قليلاً.
ينفخ باسم متبرماً، يجلس داني مع أبي باسم في الصالون الذي تحرك الهواء فيه مروحة في السقف، يسأل داني بعض الأسئلة الاعتيادية، يجيب داني بضبابية، يوقف باسم المحادثة، ويدعو داني لغرفته، يستأذن، يعود أبو باسم لمتابعة قناة المنار التي تعرض "سكيتش" عن المقاومة وهي تدكّ تحصينات العدو.
- يلعن ربّها يا رجل، أنا عاشق لراهبة، ألا يوجد واحدة بجرأة حواء، أخي، سأقطع علاقتي بها.
يضع باسم "سيدي" "كيفك أنت" لفيروز "تلحين" زياد...( كيفك أنت ملّا أنت): لماذا لم تكلّمها بالفصحى؟!
*****
لم يكن وضع محمود الأُسري جيداً، لم يستطع أن يغفر لأبيه زواجه بعد وفاة أمّه، رغم أنّه كان صغيراً جداً ليتذكرها كهوية محددة، لكنّه كثيراً ما تكلّم عن رائحتها، كان يقول: رائحة الأم كالبصمة مهما كبرت لن تتغير.
للحقيقة أعرف جيداً زوجة أبيه، كانت عطوفة عليه، ومحمود يشهد بذلك، لم يفسّر أو يسعَ لحل هذا الموضوع أبداً، كان يتجنب الحديث عنه، تباعدنا قليلاً عن بعضنا البعض خلال دراستنا الجامعية، لكن سرعان ما عدنا - كما كنّا - "الفرسان الثلاثة"، بالتأكيد لن يكون هناك من رابع، فالصداقة الحقيقة هي نتاج علاقات الطفولة، وليس صنيعة الزمن، فالصديق صديق الطفولة، وماعدا ذلك سيكون صديق مصالح وتوافقات، ومن لم يبوّل أمامك، مطلقاً بوله إلى أبعد مسافة لينافسك، ليس صديقاً.
استطاع محمود أن يؤسس وجوداً، استأجر غرفة في منطقة الفقاسة كانتْ ملجأً لنا، وغرفةً من بيت المستقبل لمحمود.
فكره عملي، لم يكن يحبذ نقاشاتنا العقيمة، وفرح كثيراً عندما علم أن داني يعمل مع سركيس في ورشة الدهان، كنتُ عندما أريد أن أغيظ داني بشيء ما، أهمس له: هناك الخشب، أنت لم تبتعد، إلى الخشبة مصيرك، وقبل أن يلتفتَ إليّ، أسبقه، وأقاطعه: أعرف أعرف، ما الذي أعرفه!؟
الحقيقة لم يكن داني على خطأ، أشعر أنني رجل من كلام، لا أجد نفسي إلّا في تلك النقاشات والأفكار التي يحتملني داني عندما أسردها عليه، سألته مرة: هل حقاً تتابعني في كل ما أقول؟!
لم يمهل محمود داني ليجيب، بل تنطع هو وقال: أذن من طين وأذن من عجين، والله يا أبو الدن لستَ بقليل.
صمتَ داني وأفرغ البقية الموجودة من البيرة في جوفه.
(الزبون على حق) حكمة محمود، كانتْ تظهر بكل تصرفاته وأنا أراقبه، يملك صبراً لا ينتهي، خاصة مع النساء، يترك الزبونة تسترسل في رؤية وتقليب البضاعة، وهو يرمي بنفس الوقت كلمات الاستحسان، إنّه كصياد السمك، يرسل خيطه حتى تتعب السمكة من المقاومة، وعندها يشدّها بقوة، كما يقال ابن سوق، يعرف من أين تؤكل الرقبة، يقترب مني، يستلّ سيجارة من علبتي، ويتكلم، وبين شفتيه السيجارة المشتعلة: يا رجل حيّرتنا، ألم تجد رقبة لتأكلها!
*****
استفاق محمود على الدنيا وهو يناديها بأمّي، لم يكن يستوعب لماذا يناديها أخوه بخالتي، لفترة شعر أنّ نضالاً ليس أخوه، يسأل كيف تواطأ الجميع عليه، ولم يحدّثوه بأنّها زوجة أبيه، حتى هو تواطأ معهم!؟
الآن يقول: لا يهم، لا أريد أن أبرر، أو أحلل، هناك جرح حدث، وهو في صميم وجودي، تغييره يعني أن أحذف سنوات من عمري، سنوات غائمة لا أملك ذاكرة عنها، لكنّ فيها عاطفة كبيرة، إنْ تركتها تسقط لأتصالح مع أبي سيفرغ وجودي، إنّ حنقي وغضبي سبب وجودي، أنا جيد مع زوجة أبي ومع أخوتي، عليّ أن أغضب من أحد، ليكن أبي، فالموتى لا يؤثر بهم الغضب.
ألكز كأس محمود: اشربْ، سنتبادل الأدوار، سنصبح آباءً، وسنفهم، وفي ذلك الوقت سيأتي أولادنا ليضعونا في خانة الاتهام.
*****
بين زبونة وأخرى يقرأ محمود، يخبئ كتابه كأنّه بضاعة مهربة، كنتُ أحياناً أتعجب من معلومات تخصصيّة يقولها، وكنتُ أعتبر ذلك محض صدفة رتبّها مصدر أخبار كالتلفاز أو الجريدة، أو أربط ذلك بثقافة كوّنها عندما كان طالباً، فلقد نشر عدة قصائد بصفحات تُعنى بأدب الشباب، فيما بعد اختفى هذا الميل لديه، وتناسيناه نحن، فلم نعد نسأل عنه، وهو وارب بجدارة ليبعدنا عن ذلك، لم يكن تعليله كافياً بالنسبة إليّ عندما اكتشفتُ أنّه يقرأ، لكن لم أهتم!؟
لقد خنتُ نفسي، كنت أريد أن أدرس الأدب الإنكليزي، أنت تعتبر الآن توجهي إلى العمل قراراً براغماتياً صحيحاً...
تركته يسرد كما يشاء لم أقاطعه، منذ زمن لم ألتقِ بمحمود الذي كنتُ أعرفه عندما كنّا طلاباً.
- ستقول إني أوديب بنسخة حديثة فليكن، أقرأ لأني أريد أن أكتب الرواية لا لأقتل أباً.
وقبل أنْ ألفظ: والشعر!؟
- الشعر حلم خنته أيضاً، لن يغفر لي خيانتي، الرواية لم تكن ضمن أحلامي في ذلك الزمن، لذلك وقع الخيار عليها، وبصراحة لست نادماً، لا أشعر بحنين لكتابة الشعر تستهويني تلك الكتب الممتلئة بالكلمات، صفحة بقلب أسود وإطار أبيض أليست هذه هي الحياة!؟
أشعلتُ سيجارة لي وله.
- بما أنّك عرفت الآن، فلداني الحق بأن يعرف. صمتتُ ولم أجبّ.
أمّا داني فقد ضمّه وقال:هل ستترك باسم يسلّمني كما فعل يهوذا!؟
- إن سمحتُ بذلك، ستُحَلّ مشكلتك مع حبيبتك السماوية.
- محمود، ما موضوع الرواية؟
- إني أكتب، لا أعرف عندما تنتهي، ستخلق موضوعها، وسيكون لكما الشرف بأنْ تفضا ختم الحبر.
*****
لقد سمعتُه، لم أرَه، لكن ما من أحد غيره في الصالون، لذلك حسمتُ أنّه هو، لقد ضرط، أتعرف ماذا يعني أن يضرط أبوك؟! إنّه اكتشاف يعادل اكتشاف غاليليو لدوران الأرض حول الشمس، عود ثقاب اشتعل في حقل التقديس اليابس، ولم ينطفئ إلى الآن، كنتُ في السادسة عشر، وقتها لم تكن شفرة الحلاقة قد حصدت شعر ذقني اللبني، كل جرأة العالم أتتني، ذهبتُ للحلاق، وقلتُ له: احلقْ.
وعندما عدّتُ للبيت، لم أتصور حقيقةً ردّة فعل أمي وأبي، أمي ابتسمتْ ابتسامة كبيرة تعادل نجاحي "بالبروفيه"، أمّا أبي فقد وضع يده على كتفي وقال: لقد حلق ذقنه يا أم داني.
- باسم هل تضرط الآلهة؟.
وجّه سؤاله نحوي، كنا جالسَين سويةً على الصخور التي وُضِعتْ لتكسر الموج، الموج الذي صار يموت قبل أوانه، يصطدم، لكن لا شط ّ يتشكل، يبدو أنّ نهاية الموجة أو جثتها حبة رمل، فالشاطئ مقبرة جميلة، ليت مقابر البشر كالشواطئ!؟
- ما بك!؟
تنبهتُ أنني لم أعرْ سؤال داني أي اهتمام: نعم تضرط الآلهة وما "big bang" لحظة تشكل الكون إلاّ ضرطة كبيرة، وهذا اكتشاف يحسب لي، وإذا نقلته فعنعنه عنيّ.
- أتعرف، أشعر أنّ الهوية ما هي إلّا عنعنة ذاتية!؟
- لا أعتقد أنّها بهذه النقاوة، بالأحرى هي أكثر اتساخاً من مستنقع، وإذا وُفّقتَ تظهر على سطح مستنقعك زهرةُ اللوتس، عندها تستطيع أنّ تقول هذه هويتي، أمّا ماعدا ذلك، فهو في فسيفساء من عنعنة الآخرين.
- كان أبي يريدني قاضياً أو محامياً، وكثيراً ما أخذني معه للمحكمة، يهمس لي هذا القاضي فلان، وذاك المحامي علان، كان يزرع بي الرغبة ليرى اسمي على لوحة خشبية أو على لافتة في شارع ما، كنتُ سعيداً بحلمه، فلم يكن لي أحلام، مشكلة الأهل تكمن في أنّهم يزرعون فينا أحلامهم، ولا يبحثوا عن الذي قُدّر لنا من أحلام، أنا لا أحلام لدي، أيعتبر هذا خطأً في الجبلّة الأساسية لقدري!؟ لا يهم، فقد كانتْ تلك الضرطة اللحظة التي استيقظتُ فيها من أحلام أبي سعيداً بهذا الاستيقاظ، أعيش أيامي، مضتْ سنوات وأعترف الآن أنني ألعن الساعة التي سمعتُ فيها ضرطة أبي، إنْ لم يكن لك حلم، فلتقبل بأحلام غيرك عنك!؟
ندخن، ونشرب البيرة، والموج يبصق أنفاسه الأخيرة علينا، داني يتكلم، وأشم رغم رائحة البحر القوية رائحة الخشب فيه، أجرب فضيلة الاستماع، هذه الفضيلة الدبلوماسية، حيث تضيع كلمات كثيرة في صوت الموج وقلة انتباهي، لا يهم، لأن داني يبوح، يفرغ تلك الشحنات داخله، يعتبرني كسلك التأريض، فتنتهي شحنة الصاعقة في الأرض دون أي أذى.
أنا أشبه النواس، إنْ توقف مات، وإنْ تحرك لا أحد ينتبه له، ينتبهون لعقارب الساعة ليعرفوا الوقت، وعندما تتوقف العقارب، يلحظوني.
- سأكون رقماً ببساطة، ما المانع؟ أكره الرجال الذين يذكرهم التاريخ، وأكره رغبتهم الهائلة في الخلود، كأنّ علينا تقمّص حيواتهم، وجعلها مثالاً لنا، هم آباء آخرون لك، يحلمون عنك أيضاً، يشكلون لك ماضيك وحاضرك ومستقبلك، ويمنعون عنك الحياة، أنا لا أريد أن يعنعن عني أحد.....
أقاطع كلام داني الأخير الذي سمعته بوضوح: أفهم الآن، لماذا ماريا هي الأنثى المناسبة لك!؟ هي الأخرى تريد أن تكون رقماً، ظلاً يتماهى مع ظلال الكنيسة الصامتة الدافئة في كنف الراعي وأحلامه. أصفعُ داني على ظهره وأكملُ: لقد نالتْ منك البيرة.
أتجشأ....
*****
الساعة الثانية ليلاً، لمياء تريد النوم، نوقف "الدردشة"، متمدداً في سريري أنظر لسقف الغرفة، كل ما علاك فهو سماء، سقف الغرفة سماء، الفضاء لا يعلوني إنّه يحيط بي، فهو ليس سماء، الفضاء حرية تطير فيها وامتلاكٌ للجهات، في حين أنّ السماء سلطة، والسلطة لا يمكن أن تطير فيها، بل عليك اغتصابها، لكن هل أبحث عن سلطة أم حرية، وكيف تتحرر دون سلطة، لا ريب أنّ الغبار قادر على هذا الخيار، مَن منّا له القدرة على منعه من التراكم، إنّه أثر الفناء!؟
محمود يكتب رواية، يملك أحلامه، يسعى إليها بجدٍ غريب، كلّ هذا بسبب أبيه، قالها: ليس أوديباً، هو نسخة تشبّهه، مهما يكن، الحياة لا تتطور إلّا بقتل الأب، بأكل الإنسان القديم، الأضحية ببساطة رمز للأب، للإله، وبنفس الوقت تقرّب له، تشبّه به، على الأب أن يكون صارماً، قاسياً، معذباً، وعلى الابن أن يجد سبباً للكره، وللاستبدال، داني يريد الطريق السهل عندما يفعل الزمن فعلته، ويهرم الأب ويموت، فيرثه، الطريق الأقل كلفة، محمود اتبع سبباً سواء أكان خلبياً أم حقيقياً، لكنّه ينفخ في أشرعته، وأنتَ هل تبحث عن طريق ثالث، عن حل وسط....!؟
يرتفع الموج، يغرق سريري رويداً رويداُ، أحس بالماء يلامس قدمي، حراشفي تنبت بسرعة، وذيلي يتشكل، أنتفض، وأقفز من فوق السرير الذي يغوص في ظلمة البحر، أسبح بسلاسة تشبه أحلام الطيران التي كنتُ أحلمها في طفولتي، والتي يقولون: إنّ الروح فيها تغادر الجسد، وتتجول، ومَن يحدث لهم ذلك حياتهم قصيرة، لأنّ أرواحهم غير مستقرة في أجسادهم.
تعجبني فكرة الموت المبكر. في الضوء المتسرب من سطح الماء، ألمح لمياء، شبه غارقة أو عائمة، أضرب بزعنفتي، فأندفع باتجاهها بسرعة، وكلّما اقتربتُ منها، تتوضحُ معالمها، وجهها يصبح وجه رغدة، أستيقظ والعرق قد بللني، أشعر بالتصاق عضوي على شعيرات عانتي، اللعنة مازلت أحتلم، ما هذا النضوج الذي لا ينتهي!؟
أطلنطس
ديلمون، الجنّة، أطلنطس القارّة التي غرقتْ بسبب تجبّر أهلها، يوتوبيا تنهيها الخطيئة ليقوم على خرابها الواقع. في البدء كانت الخطيئة، كيف تبني ما يُفترَض بأنّه صحيح على مقدمة خاطئة!؟ فالمقدمات الخاطئة تعطي نتائجاً خاطئة ، وما اعتُبِر خطيئة ً كان فعلاً لاحقاً بأثرٍ رجعي، أو أكثر من ذلك كان فعلأ متعدياً، إذن هناك بداية صحيحة تختفي وراء الخطيئة، لكن هذه البداية الصحيحة لم يكن من أهدافها أعمار الكون!؟ فلنسلم جدلاً، ونقرّ بأن الخطيئة هي مبدأ الكون، ما الخطيئة التي يجب أن نرتكبها ليعمر وجودنا!؟
أخرج محمود كتبه من تحت السرير، وبدأ بترتيبها، كان قد اشترى ثلاثة رفوفٍ لغرفته كنّا قد ثبتناها سوية، الآن أصبح لديه مكتبة، قال:
خطيئتي ستكون الكتابة، سأبيع روحي للتخييل، سأخلق شخصيات، سأجمع ترابها، ولن أسمح للأرض بأن تستعيدها مني، سأنفخ فيها، ربما ستنسل من الصفحات، وتقف أمام الخالق، وكتابها في يمينها أو يسارها، والسؤال بما أنني ابتكرتها: هل سأحملُ ما ارتكبتْ من أوزار أم سأُجزى على ما صنعتْ من خير!؟
بينما كان محمود يسرد - وقد قارب على الانتهاء من ترتيب كتبه - كنت أجري مقارنة بين غرفته وغرفتي، كلانا له الحرية، لكن هل حريتي حقيقية في غرفتي التي أغلقها على نفسي بالمفتاح، وإنْ كنتُ أفعل ذلك دون مبالاة أو اهتمام بمن في البيت؟! بمكانٍ ما لا أفعل ذلك بالنقاوة التي يفعلها! يخرجني من أفكاري....
- أتعرف كم ألهم "روبنسون كروزو" من رجال، ألا يستحق أن يقوم من عالمه المحدود ببعدي الطول والعرض ليكتسب بعداً ثالثاً، ارتفاعاً، ألا يستحق أن يرمي بجسد الحبر، هذا ما أرغبه لشخصياتي، أن أراها يوم النشور.
وكأنّه قرأ ما لمع بعيني، عندما قلتُ له: ليس الموضوع مدار إثبات أو نفي، هذا سرد بشري، يملأ ثقوب سؤالٍ يبدو أنّه أزلي: من أين وإلى أين!؟
- هذه "الأين" تقتلنا، لِمَ لا ينصّب الاهتمام على الطريق، وما الجدوى من نقطة البداية والنهاية أمام الخط الواصل بينهما؟! يكاد يكون الحال كربط حبل ٍعلى رقبة الإنسان تتجاذبه بداية ونهاية، والنتيجة ستكون قطعَ رأس الإنسان ليحل محله عقدة في الحبل، هذه العقدة بدايتها الخطيئة ونهايتها الحساب، الحساب الذي ستخلد به خلوداً غير معينٍ، لأنه مجرد استيهامات، بداية تزاد على نهاية، صفر يزاد على صفر، والنتيجة صفر، عدم.
- أحسدُ الشخصيات في الروايات بعيداً عن رغبتك ببعثها يوم القيامة، هي تُعنى بالطريق، ولا تكترث لحماقات الكاتب عن البداية والنهاية، تلعب دورهاً كاملاً، فلا يهمها ترقيم الصفحة الأولى بالرقم واحد، ولا الكلمة الأخيرة في الرواية: تمت.
أنهى محمود إعداد المتة، وضعها على الطاولة، ثلاثة كؤوس، وإبريق من الألمنيوم، يُقرع الباب، يدخل داني.
*****
ننهي سهرتنا عند محمود، السيارات قليلة في الشارع، نمشي أنا وداني بهدوء، كأنّ أحاديثنا في غرفة محمود قد استنفدت قدرتنا على الكلام، نفترق عن بعضنا، كلانا يحمل نسخة غير أصلية لمفتاح بيته أو بالأحرى بيت أهله، داني يرى بأنّه لا جدوى من محاولة الخروج من الأنساق الثابتة والقارة، لذلك يحاول الهجرة، وعندما ذكّرته بكلامه لي يوم ذهابنا إلى البحر، أجاب:
وكأنّك تطلب مني خطة عمل، يا رجل نحن جماعة ردود أفعال، لو كنّا أصحاب فعل ما كان هذا الكلام ليخرج من أفواهنا، نحن ضمن النسق، والأسوأ أننا منفصلون عنه، دون القدرة على الخروج منه.
الخطيئة الأساسية مكنتنا من الخروج من الجنّة، أمّا الآن فما أسوأ أن تكون بلا خطيئة! وقياساً على الخطيئة الأساسية، هل محمود مقتنع حقاً بخطيئته فانتحلها!؟ لا أعتقد، فالخطيئة كالنقود رغم أننا نتداولها، وتقوم حياتنا عليها، إلّا أننا نحاول استبدالها بالأشياء الحقيقة من ذهب وعقارات، وهل من الضرورة أن نجزم، أن نتيقن!؟ الحل يكمن بأن نكون شخصيات روائية، لكن مَن سيكتب مَن، مَن سيكتبني...!؟
أنتبه أنني وصلتُ أسفل البناء الذي أسكن فيه، جُلّ الشقق دخلتْ في النوم، أصعد الدرج مستعيناً بضوءٍ جُهّز به الموبايل، هذا الجهاز رائع في تقديم الخدمات، زمن "الملتيميديا"، لا خط بداية ونهاية فيه، إنّه شبكة عنكبوتية، فأثر الفراشة لن يتم التقاطه دون شبكة العنكبوت.
أُدخل المفتاح بهدوء، أديره، طقة واحدة، أتسرب إلى الداخل بخفة لصٍ، يسعل أبي ليعلمني أنني متأخر، رغم معرفته أنّ هذه السعلة فقدت قدرتها على تحريك مجرد الشعور بالأسف، لكنّه يفعلها كأب لديه واجب تجاه ابنه، أبتسمُ، ماذا لو تغير الدور، وأبي عاد متأخراً، وأنا سعلتُ، سيصبح الأمر كفيلم أبي فوق الشجرة لعبد الحليم حافظ، أغلق باب غرفتي، سريري مرتب، رتبته أمي، يشعرني ترتيبها له أنني مخترق، وتشعر أنّها تمارس أمومتها، أسقط عني ثيابي، وأغرق في النوم.
*****
أرى نفسي في أرض مزروعة بالزيتون، وأطلّ على جمع غفير من الناس، ثيابهم ليست غريبة، فهي مما نلبسه هذه الأيام، لكن لا يبدو عليهم أنّهم مكترثون بالزيتون، بل يشخصون بأبصارهم نحوي، وأنا أجلس على مقعد مما نجده في الحدائق العامة، لونه زيتي، كان غير مريح، خاصةً لمن هم مثلي ، لا ينفع جسدهم إلّا للحساء، فلا لحم فيه، أسمع صوتي يتخللهم، أقف مع جموع الناس، وأنصت لما أتفوه به:
مصير الإنسان أن يتحول لعامل في خلية نحل أو نمل، حيث يتخلص من إدراكه للتنظيم والنسق الذي يندرج به، يقوم بعمله بإخلاص منقطع النظير، كما تفعل أيّة نحلة عاملة أو نملة، أمّا شؤون الحكم فليستْ من شأنه، حتى أنّه لا يسمع بما يحدث فوقه سواء في الطوابق العليا للخلية أم في السماء، وهذه هي الجنة التي لا تنالها الخطيئة، ستسألون ما الخطيئة!؟ الخطيئة هي الإحساس بالنقصان. انظروا للحصان، هو متأقلم مع بيئته، نعم، إنْ تغيّرتْ شروط البيئة التي يعيش فيها قد ينقرض، لكنّه لا يعي ذلك، فعدم وعيه هو كماله، فالكمال هو التأقلم التام مع المكان والزمان الذي تعيش فيه. هل رأيتم حصاناً يعاني الحزن والفرح والألم والفقد والخوف!؟ بالتأكيد رأيتم ذلك، لكن هل ما رأيتموه كان الحقيقة أم كان نتيجة لمسرحة المشهد أمامكم، الحصان يتألم ويحزن ويفرح بكل تأكيد، لكنّه لا يقلق، لأن حبل سرته مع الطبيعة لم ينقطع. أليستْ الجنة شكلاً من أشكال الوجود، أليست كحياة الحصان؟! لذلك أقول لكم: تكمن الجنّة في أن تعيشوا وفق نظرية هذا الكائن، وبالنسبة لموضوع النمل والنحل والقيادة، فإنّ قلق الملكة خاص بها، والعاملات المسؤولات المختصات بحال الملكة هنّ طبقة خاصة جداً، يقمن بدورهن بكل إخلاص، وإنْ حدث ما يخل بهذا الوضع، فالملكة الجديدة تغادر الخلية مع مجموعتها التي لا تعي ذلك، فالخطيئة تكمن في قطع حبل سرتكم مع الطبيعة، أعيدوا وصله، واتركوا لغريزتكم أن تدلكم على دوركم فكل واحد منكم له دوره، فليلعبه بإتقان، وساعتها سينال الجنة. لا تسألوا، ولا تبحثوا عن أجوبة، فهي كالرمال، اتركوها للريح، وكونوا نخلاً أو واحات أو جِمالاً، لا يهم، لكن لا تلتفتوا للأسئلة.
بينما كنت أراقب نفسي، أشار إليّ، وقال: يا أنت...
بداية تغافلتُ عنه، وعن إصراره، بينما بدأ الناس بدفعي رويداً رويداً بحركة موجية حتى مثلتُ أمام نفسي، وبحلق جافٍ أجبتُ: أنا!؟
عدّل من جلسته، ونطق: أترون كم يشبهني، فإنْ جاءكم في غيابي، وجلس مكاني فهل ستسمعون له!؟
حلّ صمت قاسٍ على الجميع، ومن خلاله تشققتْ كلمة نعم ولا، وبدأتْ تتكاثر كنحل ترك خليته.
وقفَ بمواجهتي وكأنّي أمام مرآة، وحرّك فمَه، فشعرتُ بفمي يتحرك، ولفظَ فلفظتُ: إنّه الشيطان، فاقتلوه.
انهال عليّ الضرب والركل من كل جانب، ركضتُ بكلّ الاتجاهات، دفعتُهم يميناً ويساراً محاولاً أنْ أشقّ طريقاً أهرب من خلاله، اختبأتْ وراء شجيرات كثيفة إلى أن تأكّدتُ أنّ من يلاحقني توقف عن ذلك، وبعد فترة من الوقت - شعرتُ أنّها امتدتْ للأبد- استطلعتُ المكان حولي، فوقع نظري على المقعد الزيتي، وبالقرب منه مَن يشبهني ممدداً على الأرض، اقتربتُ بهدوءٍ، وعيناي ترصدان المكان، لا يوجد أحد، وقفتُ فوق الآخر الذي هو أنا، كان محطماً كعودٍ يابسٍ، يشبه كومة من القش ترتدي ثيابي كخيال المآتة.
*****
بدا البابُ صقيلاً أملساً جاهزاً لرشه وطلائه بعدة أنواع من الدهانات الشفافة. سركيس يدخّن سيجارته، يشرب شايه الأسود السميك من كثرة السكر فيه، يجلس على عبوة دهان كبيرة، في الوقت الذي أتأمل فيه الباب.
- ماذا يا أستاذ التاريخ، وكأنك لم تر يوماً باباً..!؟
- ما أكثر الأبواب، إنّها كالتاريخ الذي نعرفه، نظل نصقله، ونزيل عنه نتوءاته، حتى يبدو كهذا الباب، لكن صوت الصرير سيظل!
- ضع قليلاً من الزيت في المفاصل كي لا يصيبها الروماتيزم.
شربتُ البقية الباقية من الشاي في كأسي، وقلتُ له: دعنا من التاريخ، وأعطني قليلاً من المال.
مدّ يده إلى جيبه، أخرج ألف ليرة، تناولتها، ومضيتْ. هبطتُ الدرج من الطابق الخامس، وأنا أشعر بحركة مفاصل ركبتي ووركي. العقل كالمفصل، يصرّ دونما جدوى من تزيّته.
كانت الساعة تقارب الخامسة مساءً، عليّ أنْ أستحمّ، وأنام ساعة. تمضي أيام الأسبوع على هذه الشاكلة، مهما اغتسلتْ شممتُ لجسدي رائحة الخشب والدهان. هوية جديدة تتشكل لي، بمكانٍ ما تشعرني هذه الرائحة بالطمأنينة حتى أنها باتتْ تأمرني بالنظر إلى الأبواب، ونوعية الخشب والدهان، الأبواب التي كنتُ أطرقها دون أي اكتراثٍ بها. أحيانا أقف لأتفقد الباب الذي أمامي، فيتفاجأ الذي يفتح الباب بي، وأنا ذاهل عنه، متى اخُترع أول باب؟!
أعتقد أنّ الصوت هو أولّ بابٍ يُستأذَن منه للدخول، وللصوت صرير أيضاً، فصوت الغضب المبرر للاقتحام سيكسر خشب صوت الاستئذان، وصوت العاطفة سيدفع الباب بلطف، الحيوانات استغنتْ عن ذلك بالرائحة، والرائحة لا تفتح بابها لأيٍّ كان، ومن يخترقها يُعتبَر معتدياً، الحيوانات لا تحبّ مشاركة أحدٍ في بيوتها، أمّا نحن ومهما كان تعليلنا لقضية المشاركة فستبقى أمراً ضرورياً لإيقاف القلق من الوحدة في بيوتنا، نملؤها بالزوجة والأولاد والضيوف حتى تضيق بنا، ونمدّ الشرفات، ونفتح الشبابيك، كلّ هذا ولا تحدث الطمأنينة التي يشعر بها الحيوان ما أن يدخل بيته، بيت الحيوان جسده، إنْ خُرِق يعني موته، أما بيت الإنسان فلا يصل لهذه المرتبة.
بين "بروتوكولات" الدخول والخروج، رنّ الموبايل، محمود يتصل بك، بيت آخر يحتاج لاستئذان!
*****
ما العيب في بوصلتي!؟ مثل درويش يدور ويدور، أو حمار يحرك الرحى، ولا يتوقف خوفاً من العصا التي ستلسع قفاه، هي لسعة واحدة، لكن ما الفائدة من التوقف إنْ كان لا يستطيع فكاكاً!؟
أنْ تستيقظ مبكراً يعني أن لديك عملاً. أؤجل استيقاظي إلى الوقت الذي ينتظم فيه عملٌ يبدأ في الساعة التاسعة، أي حظ جيدٍ رتّبه تخطيط بيتنا، فغرفة الجلوس والشرفة لهما حيزهما الخاص، وبهذه الطريقة أخرج دون أن يلحظني أبي وأمي المتقاعدين، أوفر نظراتٍ غير مريحة، أكره تلك الشفقة.
حلم البارحة، أذكره بتفاصيله، تضحكني شخصيتي بالحلم، ما هذه الفلسفة التي ابتدعتها فيه، أتكمن المشكلة في الوعي!؟
أمشي في شوارع طرطوس، قدماي تعرفان الطريق عن ظهر حذاء، لا أفكر، كل شيء محسوب بدقة حتى عندما أقطع الشارع، أو أنتظر إشارة المرور، وأنا أعرف كم تحتاج من الثواني لتتحول إلى حمراءٍ أو خضراءٍ.
ضاقت طرطوس كثيراً، مشيت في كل شارع وزقاق، خبرتي هذه تؤهلني لأكون ساعي بريد، مهنة مصيرها للمتحف، دوماً خبراتي تأتي متأخرة عن الزمن الذي أنا فيه، شهادة في الفلسفة، والأفضل أن نقول: تاريخ الفلسفة!
أدخل حديقة المدينة المسماة بحديقة الباسل، أقترب من المسرح، تتجمع في ساحته مهملات يوم سابق، أجلس، وأتأمل المدرج الحجري، أهبط للساحة، وأدور حول نفسي، تبدأ خيالات بالتشكل، أقف على المدرج، ما هو الدور الذي أقوم به، وأي قناع أرتدي، وما الكلام الذي سأقوله؟!
يختفي ما ألفتّه في الحلم، وتبدأ أشجار الزيتون بإلقاء ظلّها على المدرج، وفي غمرة خيالاتي، أنتبه لشاب وفتاة يصفقان، ماذا قلتُ، وماذا فعلتُ؟!
أردتُ سؤالهما، لكن عن ماذا!؟ أشيح بنظري عنهما.
*****
تأتي ولا تشتري، تقلب الثياب، وتهمس: لا جديد لديك!؟
الشرارة بدأتْ منها، من بضاعة محمود القديمة كما قالت.
اسمها عليا، لم يكن اسمها في قائمة الأسماء التي يحبها محمود، ولا شعرها الأسود وعيناها العسليتان، وقوامها النحيف جداً، لا تشبه الأنثى التي عمّر بها أحلامه، فمَن كتب لها شعراً لا تتشارك معها بمورثاتٍ ولو كانت من الجد السابع، لكن... هذه ال " لكن" جمّرتْ قلب محمود، أرقّته، لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى بدأ يواعدها.
قبلها كان محمود يكتفي بنظراتٍ، بصلصالٍ يصنع به أوهامه الجنسية التي لها رائحة الصابون في الحمام، رائحة ليستْ كرائحة عطرها التي بقيتْ على قميصٍ اشترته، وعادتْ به بعد ساعاتٍ لتخبره أنّه لم يناسبها، استبدلته بقطعة أخرى، وتركتْ محمود مع القميص الذي لم يرجعه لعلاقّة الثياب، بل وضعه في حقيبةٍ، وأخذه إلى غرفته. عندما خرجتْ من سريره عارية، ناولها إياه، كان يبدو كأنّه ورقة مطوية آلاف الطيّات، له رائحة عرقه، وسائلٍ أودع نظيره منذ قليلٍ بمحارم من نوعية خفيفة.
لم يحتج محمود ليشرح شيئاً، قالها بهدوء: يا شباب أصبح للغرفة حرمة.
أخرجتُ علاقّة مفاتيحي، كذلك داني، ونزعنا منها مفتاح أطلنطس، لم نتهكم وقتها، بل تابعنا مشوارنا على شط البحر بهدوءٍ لم يكن يعكر صفوَه شيء.
*****
تصنع الأنثى للرجل باباً، وقتها يصبح للطرق على الباب معنىً آخر.
يحفّ داني الأبواب كأنّه نواس، أبواب لمداخل البيوت، أبواب كبيرة، أبواب صالونات، أبواب غرف نوم، أبواب حماماتٍ، لكل باب ناسه الذين يمرون به، ويحذرون من حصان طروادة.
*****
من جديد تخرجنا حواء من الجنّة، فغرفة محمود - التي لم نتواجد فيها لوحدنا رغم كل الخطط إلّا نادراً - كانتْ تشكّل ملجأً في حال الهروب من البيت، إنّ قدرتي على الخروج وصفق باب بيتنا ورائي جعلتني أكثر تماسكاً في النقاشات التي جرت بيني وبين أبي، وأكثر قدرة على الهروب من إلحاح أمي تجاه موضوع ما، كان مفتاحها طاقة فرج لي، رغم أنّ نقاشاتنا كانت تنتهي إلى الصلح تحت مقولة: (ما على الرسول إلا البلاغ)، ما أكثر الرسل!؟
تصلني رسالة من لمياء، أظنّها ستكون سعيدة لعدم طرحي موضوع غرفة محمود من جديد، فمحمود لن يقبل أنْ تكون غرفته موضع شك لدى جيرانه، سيحافظ على سمعتها فعلياً كما يقول، لأنّ عليا ستكون زوجته!
أقرأ رسالتها على عجل، لولا طاولات المقاهي التي جمعتني بلمياء لقلتْ إنّها من نسج الخيال، أو شخصية رقمية تعيش داخل الكومبيوتر.
التقطتني من غرفة محادثة إلى سماعة هاتف فلقاء وكلام، دم ولحم في الكلمات فقط، من جديد تبدو الكلمات هي عالمي سواء كانت مكتوبةً أم منطوقةً، كلمات ليس لها قدرة إلّا على خلق سرابٍ في لحظة القذف التي يرتعش جسدي خلالها.
لمياء أنثى من تخييل، تكره الجوانب الواقعية بعلاقتنا، فعمرها الذي تزيدني به، وانتهاء دورة خصبها، وتهديد الواقع لها لحظة اختاري لأنثى أقرر معها إنشاء أسرة كأيّ رجل، أسبابٌ تكفي - كما ترى لمياء - للقضاء على جانب الخيال في التخييل.
محمود يخطط لبناء أسرة، غريب أمره هرب من أسرة ليكون هاجسه الآن تشكيل أسرة.
قالت لي إنّها تحتفظ بكل محادثاتنا، وبأصوات آهاتي، وصور عضوي، وستبقيهم لتعتاش عليهم، وتبقي نار خيالها متّقدة.
قلتُ ساخراُ عن سرّ هذا الاحتفاظ: يوماً ما ستقيمين متحفاً، وسيبيع ورثتك مقتنياته كأول وثائق واقعية لعلاقة عاطفية شبه افتراضية عندما يسود الافتراض بدلاً من الواقع في عالمنا، لذلك سأكتب وصية أطالب فيها بتلك المقتنيات.
أمّا هي فقد اعتبرتْ كلامي نبوءة، وأخذته على محمل الجد. هل تستأجر صندوقاً خاصاً بها في أحد المصارف...!؟
تطنّ بعوضة قرب أذني، صوتها يشبه صوت انقضاض الطائرات في الحرب العالمية الثانية، أجلس على حافة سريري، سنوات مضتْ، أشعر بصعوبة في تحديد التاريخ، الماضي عندي قد حدث، ليس له تاريخ، فالزمن يحتاج لعلامات فارقة لتتذكره، كما في النظر للبحر، المسافة في البحر خادعة، ما تحسبه قريباً يتكشّف لك بعد أن تسبح باتجاهه أنّه أبعد مما تصورت.
أحتاج لعلامة فارقة كخطيئة أؤرّخ بموجبها الزمن، الانتظار ليس خطيئة أصلية، ولا الكسل، العمل هو الخطيئة التي يعمر بها الكون، وما الخطيئة؟ ما العمل؟ سأتفلسف، سأصبح فيلسوفاً؟!
*****
عند بداية عمل داني في ورشة الدهان كان يضع دوماً قرب سريره معجوناً لترطيب اليدين، أو ما يسمى " بالبزّاقة البيضاء"، يمده على عدة أماكن من كفيه مستثنياً إبهامه وسبابته، فهو يستخدمهما للضغط على جسد المرهم الأسطواني ثم يبدأ بتحريك كفيه بحركة التفافية يشعر بعدها بعودة الإحساس والملمس السابق لأصابعه، وباطن يده، وظهر كفّه، فعل ذلك لأسبوعين بشكل يومي، ثم توقف عن ذلك، لأنّ نعومة اليد تسمح له بإدراك خشونة الباب فقط، أمّا الخشونة فجعلته يدرك العكس أيضاً، وأعطته مقداراً كبيراً من الثقة، كما أنّ القوة التي زُوِّد بها من حفّ الأبواب غيّرت طريقته في المصافحة حتى صاح به محمود: يا رجل ما الذي يحدث لكَ، وكأنّكَ تسلم سلام مَن كان غائباً، عرفنا أنّ كفك صارت كالكماشة.
باسم لم يلحظ ذلك، فأمّه تقول له: لكَ عصب جدك القوي، إذ كان يكسر ساعدين سوية، وهو يضحك في مصارعة الأيدي.
شيء ما حدث في فكر داني، وكأنّ خشونة كفيه أعطته هوية أخرى حتى أنّه ترك المحادثة مع الأجانب على "الماسنجر".
تمتد يده بشكل فوري إلى أيّ خشب في متناول يده، طاولات المقاهي، أعواد "الآيس كريم"، أعواد الثقاب، وأعواد تنظيف الأسنان، حتى عندما يريد أنّ يعطي تشبيهاً يستحضر الخشب، اقتنى مسبحة من حبات الزيتون، تبقى في يده اليمنى مادام لا يفعل بها شيئاً، يلعب بحباتها، يسقطها الواحدة تلو الأخرى في دورة لا تنتهي، أو يدخلها في يده كأساورة تستقر عند المعصم.
*****
لسنا جماعة بل فرقة، كلّ شخص فيها له كيانه الخاص، إنْ غاب حدث نقص لا يمكن تعويضه. إنّ دخول عليا إلى حياة محمود أحدث شرخاً، إذ شكلتْ معه فرقة خاصة، لم ينتبه داني للأمر، يبدو أنّ الخشب المهووس به شكّل له بديلاً أو اكتفاء، أنا فقط مازلتُ أقف على أطلال فرقة الفرسان الخائبة!؟
و لمياء، هل الافتراض الذي يجمعني بها سيعافيني من النقص الذي أحس به؟!
سابقاً لم أشعر بوجود ماريا في حياة داني كما أشعر الآن بوجود عليا في حياة محمود، لم أعتد على التقيّة بيني وبين ذاتي.
ألهذه الدرجة كانت غرفة محمود تعنيني، ما الذي أملّكه فيها!؟ حقيقة لا أملك شيئاً، المفتاح كان أقرب "لإكسسوارٍ" في علاقّة مفاتيحي ذات المفتاح الوحيد لباب بيتنا، أمّا المفتاح الصغير للدرج الخاص في خزانة غرفتي فسيبقى طفلاً يعتقد أن عليه تخبئة أشيائه الخاصة حتى تصبح ذات قيمة.
غرفة محمود كانتْ سلاحي السري الذي لم أشهره إلّا بيني وبين ذاتي ملوّحاً فيها بالخروج النهائي من قوسي أبي وأمي، كنتُ قاب قوسين، ولم أتدلَ، ولن أفعلها أبداً.
المستقبل كم يصبح قريباً بعد الأحرف الناصبة، كذلك الماضي بعد الأحرف الجازمة، كأنّ النفي آلة للزمن كما تفعل ال" لا" عندما تقّرب النضوج.
*****
لا يوجد لافتة ترتفع فوق كشك محمود لبيع الثياب، البعض مثله، والبعض الآخر وضع لافتاتٍ لتبقى في الذاكرة، أو لتتحول إلى علامةٍ تدل على الكشك عند السؤال عنه، بدايةً فكّر محمود بذلك، لكنّ الأكشاك المتراصة تجعل من الأمر مضيعة للوقت، كما أنّه أراد للزبون أنْ يكون ساعي بريده، خاصةً أنّه يبيع الثياب النسائية، والأنثى ستذكر مَن يمدحها، ويثني عليها، فالشعر الذي غادره إلى غير رجعة كان يطلّ هنا بمكرٍ، فلا محمود ينتبه له، ولا الشعر يُثقل عياره. كلمات كالنسمة، تهزّ الأنثى التي ترى في الثياب غايات جمالية أكثر من كونها لاتقاء البرد والحرّ، فالثياب عند الأنثى أعضاءٌ نسِي الخالقُ أنْ يزودها بها، فتقوم هي بخلقها كونها تتشابه معه بموضوع الخلق، وإنْ لم يكن من عدم، وتريد من أحد ما أنْ يقول لها: هذا حسنٌ، يشبه هذا عندما خلق "يهوا" النور، ولم يكن قد خلق من يثني على عمله فأثنى هو على نفسه، ومحمود كان يلعب دور مَن يثني دائماً.
في الصباح يرفع باب كشكه، يعلّق الثياب، يصنع قهوته، وينادي جاره عادل. عادل يبيع الثياب الأجنبية، ثياب من ماركات عالمية مشهورة، لم يبخل على محمود بسرّه، فهو يذهب لمحلات البالة، ويتفق مع صاحبها أن يشتري كلّ ما يعتبره صاحب البالة غير صالحٍ للبيع على الإطلاق، وفي بيته يقوم بنزع العلامة التي يُكتب عليها اسم الماركات العالمية، ليقوم بتثبيتها على الثياب الوطنية،
يهمس لمحمود: نعم، إنّي أغش، لكنّ غشي لصالح الطبقات الفقيرة.
كان في مراهقته يميل للفكر الشيوعي الذي لم يعرف عنه إلّا مقولة ماركس: (الدين أفيون الشعوب)، والعديد من أسماء قياداته، كما كان ينسب الكثير من حديثه "لهيغل" حتى صار الجميع ينادونه بالشيوعي، يعلق صورة "لجيفارا"، ويضع "بيريه" حمراء، ويدخن "البايب"، ويشتري جريدة للحزب الشيوعي، علماً أن مَن يقرأ الجريدة محمود وليس عادل.
ينضم إليهم أحياناً طارق، بائع الثياب الداخلية، كان المصدر الأول للمجلات التي تُعنى بتقديم الجديد في مجال الملابس الداخلية، يطلع عليها عادل، وأحياناً محمود الذي كان يمررها بدوره لداني وباسم، أمّا بعد انتشار الفضائيات و"الإنترنت"، فإنّ طارق فقد تلك الميزة التي عُرف بها، كما أنّ العمل في مجال الثياب الداخلية أورث طارق بلادةً شكا منها لمحمود وعادل، إذ أنّ علاقته الجنسية مع زوجته ليست على ما يرام، وفسّر ذلك بأنّ رؤيته اليومية للثياب الداخلية جعلته يعتادها، ولم تتوقف الشكوى إلّا بعد أنْ وضع عادل يده على الجرح ملمحاً له بأنّ زوجته تحولتْ إلى قاطرة من اللحم، وهذا هو سبب المشكلة، فكلّ الثياب الداخلية التي يبيعها لا تصلح لها، عضّ طارق على جرحه، وغادر الجلسة، ومنذ ذلك اليوم لم يعد لذكر الموضوع.
يضع محمود الكتاب تحت مستوى الطاولة، وعندما يأتي أحدٌ يضع الكتاب في الدرج، يقرأ خلسةً، فهو لا يريد أن يجد أصحابه في سوق الأكشاك صفة ليلصقوها به، ويصبح مدارَ سخريةٍ، بالطبع ستكون صفته المثقفَ الذي يبيع الثياب النسائية، محمود حافظ على العديد من الجوانب مخفيةً عن محيطه في السوق، ولم يحدث أن جعل علاقته بزملاء مهنته تتجاوز المكان، كان بنظرهم بسيطاً وطيباً، وكان هذا الحكم كافياً لمحمود، وحذّر كلاً من باسم وداني أن يخرقا عند قدومهما إليه الشخصية التي رسمها لنفسه في السوق.
*****
عندما استأجر محمود غرفته من أبي قاسم عرفَ أنّ تقديم الأجرة قبل موعدها سيكفل له عدم متابعة أبي قاسم له، فالطمأنينة التي أوجدها لدى المؤجّر ستعمل عملها في إبعاد نظره عنه، كما أنّه حافظ على مسافة أمانٍ مع كل من سكن حارته.
سنوات مرّت، ومحمود هو الرجل الطيب الغامض، وعندما عادتْ صداقته مع باسم وداني استمرّ الحال على ما هو عليه من هدوءٍ وسريةٍ.
غرفة محمود تقع خلف مخازن يؤجّرها أبو قاسم، الدخول إليها لا يثير الشبهة، فالبناء يقسم إلى شقق للسكن، وشقق تستخدم كمكاتبٍ يدخل ويخرج منها الكثير من الناس.
بشكل ما يُعتبر ما سبق الشرحَ الذي قدمه محمود لعليا عن غرفته التي تكاد لا تُلحظ كي لا تخاف من القدوم إليها، وكان باسم قد قدّم لمحمود الشرحَ ذاته عندما فكّر باستعارة الغرفة منه، في ذلك الوقت لم يمانع محمود، لكنّ لمياء هي من رفضتْ، والآن بوجود عليا لم يعد من المناسب طرح الموضوع من جديد.
داني يقول: بلادنا ضيقة، لا يوجد خلوة حقيقة فيها، أنتَ مراقب بشكل دائم، وكأنّ فرديتك عارٌ عليك ستره.
أحسُّ تماماً بمقولة داني، وبشكل ضمني يشعرني محمود أنّه يأخذ المقولة ذاتها بعين الاعتبار. لا يوجد فردية، فالطرق لدينا ملكٌ للجماعة، وما تفرضه من أعراف، لا يوجد ما يمكن أن تسميه طريقكَ الخاص، لربما وُجِد في العاصمة، حيث الزحام والبناء العشوائي يتكفّل بذلك، أخبرتُ الشباب مرة: إنّ الحداثة لا يمكن أن تخرج من أبنية محددة بشكل حقيقي على خرائط الطبوغرافيا، لأنّها تنشأ من تلك الأمكنة التي لا تستطيع السلطة أن تضع يدها عليها.
*****
أصبح داني يغيب أكثر فأكثر، يأخذ العمل وقته كاملاً، نلتقي تقريباً في أيام العطل، استلم مع سركيس مهمة تأهيل كنيسة قديمة،عبر داني ممرٍاً استظلّ بأشجار السنديان، مغطىً بقطعٍ من الحجر سمحتْ للعشب والتراب أن يتخلل وجودها، حجر أسود اكتسب نعومة الرخام لكثرة الأقدام التي داسته، الكنيسة ليستْ كبيرة، بهو ومذبح وغرفتان ومقبرة في باحتها الخلفية.
دخّن داني سيجارته حتى عقبها، جلس على أحد المقاعد، ونظر للمسيح المعلق على خشبة، الخشب الذي صُنع منه الصليب بدا عتيقاً، زاده الضوء المتسلل من النوافذ المعشّقة بدخان البخور شحوباُ، كلّ ذلك جعل داني يحسّ للمرة الأولى بالألم الذي يتكبّده هذا الذي ينظر للسماء بعيون غائمة.
ناداه سركيس من الخارج: ليس الآن وقت الصلاة.
بدأ داني بنزع الباب الخارجي من مفاصله الصدئة، ووضعه على حمّالة خشبية، أمسك بورقة حفّ خشنة، وبدأ الحفّ، وكلما حفّ شَعَرَ أنّه يحفّ شيئاً صلباً داخله.
الهبوط
التقطتُ بعض الصور من بعيد، لم يسمح لنا رجال الشرطة بالاقتراب، الجميع كان يعرف أنّ اليوم هو اليوم الذي تنتهي فيه المهلة الثالثة لإخلاء تجمع الأكشاك الذي تنامى، لا أحد يعرف كيف شُرعن وجوده، وصار له من الزمن ما يمكن اعتباره معلماً، حتى أنّ مجلس المحافظة كان يعطي التراخيص، وينظّم عمليات بيع تلك الصناديق الحديدية، كل شيء كان يوحي بأنّ الأمر منظّم، لكنّ العلاقة مع الدولة كالأعمى الذي يعوّل على عدد الخُطى بينه وبين شيء آخر دون أن يحسب أنّ أحداً ما قد يتدخل، ويضع عائقاُ، فيبعد أو يقرب هذا الشيء.
محمود لم يقاوم، قبل ساعة عرف الجميع أنّ المكان سيزال، وأنّ الأمر اتُخِذ، والجرافات تتجه إلى سوق الأكشاك، وهذه المرّة ما من مهلة جديدة! وكما يفعل النمل - عندما يداهمه الفيضان فيحمل بيضه بفمه ويمضي - حمل الجميع ما أمكن من بضاعتهم إلّا محمود، خرج بهدوء من كشكه، ألقى نظرة أخيرة على المكان الذي قضى به سنوات، كان يقرأ في ذلك اليوم كتاباً "لخوسيه سراماغو" اسمه (العمى)، أخرجه من الدرج، ووضعه على الطاولة، تركه هناك، وتجاوز الجموع المحتشدة، وقف بعيداً كأنّه لا ينتمي لهذا المكان، لم يتصل بنا، فترتيبٌ سابقٌ هو ما جعلني وداني نتواجد لنشاهد ما حصل، كنّا نشبهه، وكان يشبهنا بخصوص العلاقة بما حدث، انفصاله عن الأمر الذي يجري يشبه اتصالنا به، هشاشة لم تردمها إلّا الصورة التي التقطتها خلسةً من وراء ظهر محمود، لم يسمح لنا منذ اللحظة الأولى أن نندفع لنحمل بضاعته، ولا أن نناقشه بعد أن انتهى المكان لكتلة من الخردة والغبار المتصاعد، استدار، فتبعناه بصمت، ركبنا سيارة أوقفها، وفي الطريق للغرفة اشترى صندوقاً من بيرة "هاينكن"، يومها شربنا وتبوّلنا كثيراً.
عرض علينا مكتبته، وبعد حديثٍ تقاطعتْ فيه كلماتنا، واشتبكتْ ككرة صوف نسجَ محمود فكرة السفر إلى لبنان، ومن ثم إلى أوربا التي سيمزق فيها جواز سفره.
من أين له بهذا الصديق اللبناني الذي سيؤمّن هروبه إلى بلدٍ أوربي، من أين ظهر؟!
لا توجد أدلّة سابقة على وجوده، في قرارة نفسي كنتُ أعرف أنّه يكذب، لكن مَن يترك كل شيء وراءه عليه أن يجد كذبة كبيرة بحجم الأمل.
نقلتُ الكتب إلى غرفتي، وضعتُها في صناديق ورقيّة ريثما أثبّتُ الرفوف ذاتها التي ثبّتُها مع محمود في غرفته.
ثلاثة أيام مضتْ كعدد فرقتنا الثلاثي، ما يحدث الآن يشبه تماماً اليوم الذي نجحنا فيه في البكالوريا، من جديد يغادرنا محمود، في ذلك الزمن لم أفكر بفكرة عدم اللقاء ثانية، أمّا اليوم انتابتني قشعريرة باردة وأنا أضمّه، ركب سيارة صفراء ستقله من طرطوس إلى بيروت.
هذا ما تتداعى لي من أفكارٍ، لو حدث ذلك حقاً!؟
*****
اتصل محمود بي: أنا في السجن...
عندما أتتْ الجرافة اندفع محمود حاملاً عصاً، وبدأ يضرب بها الهيكل الحديدي للجرافة، حاول أحد رجال الشرطة منعه، فدفعه أرضاً، بعد ذلك اعتُقِل محمود ورأى - قبل أن تغادر به سيارة الشرطة المكان - قدمه الأولى على هذه الأرض تختفي، دُمرّ الكشك، وقد رأيتُ الخراب، وأنا أستقل سيارة الأجرة باتجاه مكان توقيف محمود، التقطتُ صورة للمكان من موبايلي، أعطاني مفتاح الغرفة ومفتاحاً آخر لدرج يضع فيه بعض المدخرات.
اتصلتْ بأحد المحامين الذي يعرف كيف يضع الرشوة في المكان المناسب، ليتابع إجراءات إطلاق سراح محمود، أعطيتُه أتعابه، والباقي سلمته لمحمود مع علبتي سجائر.
احتفظ محمود بموبايله، لم يكُ حراس السجن يرون في الموقوفين غير رزق يعتاشون عليه، بالمقابل يجد السجناء عن طريقهم ما يجعل التوقيف أو السجن أقلّ مشقة، اليوم لم أشعر مطلقاُ أنّ الرشوة شيء مشين، بل تأقلم يجسرُ الهوّة بين جسد الواقع وجسد الأخلاق.
اتصل محمود وقال: إنّ مخطوط الرواية كان معه في الكشك.
ذهبتُ مع داني، بعدما عرف من صديقة أمّه التي تعمل في البلدية أين رُميتْ مخلفات سوق التنك، وصلنا هناك، كان عدد من الناس ينبشون في مكب الزبالة، ولاحظتُ فوراً أين يمكن أن تكون مخلفات كشك محمود، فقد رأينا ثياباً تُنتشَل من بين الركام، وأحد الأولاد الصغار يقيس كنزة نسائية حمراء، ويلبسها فوراً، كما رأينا آخرين مستمرين بالنبش.
غصنا جميعاً في الغبار والركام، وجد داني رواية (العمى) مشروخة لعدة أقسام، ووجدتُ الغلاف الكرتوني للمخطوط، وقد كُتِب عليه كلمة رواية تليها عدّة نقاط.
في البداية استهجن الناس الذين ينبشون في القمامة قدومنا، فشرحنا لهم أننا نبحث عن أشياء لا تهمهم، وأنّ مخلفات واحد من الأكشاك كانت لنا، وأخبرناهم بأن يأخذوا كلّ شيء، لكن إنْ وجدوا كتاباً أو أوراقاً فليعطونا إياها، لأننا سنعود غداً أيضاً.
صدر القرار، ونُفِّذ بأسرع مما نتوقع، فالنيران المشتعلة في المكبّ زحفتْ إلى القمامة الجديدة، أجلّتُ قول الحقيقة لمحمود إلى أن أطلِق سراحه ليحاكم طليقاً، لأول مرّة أرى محمود قد ذهبتْ منه الحياة، قلتُ له: ستكتبها من جديد، من المؤكد أنّك تتذكرها، حدث ذلك مع كثيرين، تمنيتُ أن تسعفني ذاكرتي باسم كاتب ضاع مخطوطه، وعاد لكتابته من جديد، لم أتذكّر، اللعنة على ذاكرتي الانتقائية...
لم يجبْ محمود...
تركتُه ليرتاح، من أين جاءتني تلك التراجيديا التي نسجتها في البداية عن وقوف محمود، وهو يرى كشكه يتهدم، ثمّ منحه الكتب لي، وسفره!؟
*****
عندما طلب محمود أن نتركه وحده لعدّة أيام لم أوافق، خفتُ من انتحاره، لماذا انتابتني هذه الفكرة؟! ربما من مؤشراتي الذاتية، لو كنت مكانه هل أفعلها، لا أعرف!؟ لكن ما أعجبني في الفكرة كان تراجيديتها، وأنني سأصبح حديث المدينة، وقد تشتعل الاضطرابات من بعدي، وتحدث ثورة...، في أحلام اليقظة نصنع أفلاماً، ونعرضها على شاشاتنا، وعندما نقرأ التاريخ، يصدمنا هول أحلام اليقظة التي كلّفتْ البشرية الكثير من الدماء، رغم ذلك فإنّ الدماء هي العامل الوحيد للتغير، دونها يكون كلّ تغيرٍ دبلوماسية، فالأرض لا تغير ناسها إلّا بعد أن ترتوي من الدماء.
أحجار "الدومينو" عندما تبدأ بالتساقط لا يمكن إيقافها إلّا بكسر السلسلة، لذلك كنتُ اتصل بمحمود عدة مرات في اليوم، وهو يُغلق الاتصال، فأعرف أنّه مازال حياً، كذلك فعل داني. مضى الوقت ثقيلاً واتصل محمود.
*****
محمود ابن طرطوس، لا يحبّ السباحة، ويكره الماء، لم تنجح كل المحاولات "الفرويدية" لكشف سبب هذا الخوف، يكره الماء فحسب، اتصل، وقال لي: لستَ مشغولاً، علّمني السباحة، صرختْ: السباحة!؟
وقفنا أمام شاطئ عمريت حيث جرتْ أول أولمبياد رياضي، أنا في "مايوه" أزرق، ومحمود في "مايوه" أسود، وطوفٌ بقربنا.
تمنّى محمود لو كان سلحفاة تسبح بمجرد أن تفقس من البيضة.
- فقط اترك نفسك للماء، السباحة كالنوم ما عليك إلّا أن تتجاهل ثقلك.
ضحك محمود، وهو يبصق الماء المالح من فمه، ويتمسك بالطوف.
مضتْ نهارات عديدة حتى تعلّم محمود أن يطفو على ظهره قليلاً، كان يتقدم ببطء، يثير رشاشاً من الماء حوله عندما يخبط الماء، وفي غفلة مني رأيتُه ينساب كسمكة قربي.
خرجنا إلى الشاطئ، حتى هذه اللحظة لم أسأله عن التغير المفاجئ، ورغبته بتعلّم السباحة، لم أفهم إجابته سريعاً: ربما سأحتاج لها!
أفكر في سبب حاجته للسباحة!؟
بدأ يسبح أعمق فأعمق، أراقبه من الشاطئ، وكأنّه في تمرين، يأكل وينام ويسبح، يذهب معي أو بدوني.
الغرق
رقم غريب ظهر على شاشة موبايلي، كانتْ عليا، صاحبة محمود، طلبَتْ لقاءً، ولم أمانع.
في العاشرة صباحاً التقيتُ بعليا، تحدّثتْ عن فكرة السفر لدى محمود، ورجتني أن أقنعه بالعدول عنها، كنتُ أراقب أصابعها طوال الحديث، تلتقط الفنجان بخفّةٍ كما يلتقط تيارُ هواءٍ عصفوراً في طيرانه، كأنها ظلّ، ترشف قهوتها، وتغمض عينيها، أحاول أن أستشفّ حركة البلع في رقبتها، والشهقة التي يرتفع بها صدرها بعد زفيرٍ طويل، تكاد عيناها تطلقان الدمع كسرب سمك، صوتها ناي أخضر ينتظر أن يُقطَع بعد يباسه، ويَصْفّرَ ليصبح شجياً، هذا ما لم يفعله محمود، تركه أخضراً، هو الذي اعتنى بأجمة القصب لكي ترقص مع الريح، وتخلّى عنها، كضارب إيقاع هجر راقصته فتحجّر خصرها.
وعدتُها أنْ أفعل، إذ سأحاول أنا وداني أن نقنع محمود بعدم السفر.
ودعتني، بقيتُ على الطاولة أراقب مشيتها، وكأنّ في أليتها ساقي أرنب يقفز بهدوء، وهو يقضم العشب، البارحة لم أثبّت رقمها، طلبتُ فنجان قهوة ثانٍ، فتحتُ الموبايل على قائمة المكالمات الواردة، كان رقمها (0944704413)، كتبتُ أحرف اسمها بضغطات متأنية: ع، ل، ي، ا، ثم حفظتُ الاسم.
الحفظ، هل هو التذكر؟ لا أعتقد، الكثير مما في ذاكرتنا يتم حفظه وتذكّره بشكل تلقائي، وهنا ينقسم الحفظ لنوعين ؛ الأول شعوري والآخر لا شعوري، وهذا ما يَنقُص ذاكرة الموبايل، كل شيء لديه يتم بوعي، فالجانب اللاشعوري من ذاكرته غير موجود، هكذا سيتخلص الذكاء الصناعي من عقدة أوديب.
أحضر الجرسون فنجان القهوة، دفعتُ الحساب سلفاً كي أغادر وقتما أريد، وضعتُ محفظة النقود في جيبة البنطال الخلفية اليسارية، وأنا أحسب المبلغ المتبقي، دائماً كان ميزان حساباتي خاسراً بشكلٍ يستتبع تفليس شركة باسم المحدودة المسؤولية لشهرٍ كاملٍ.
لا تحتاج قدماي إلى عينيّ وهما تمشيان في شوارع طرطوس، كذلك لاشعوري لا يحتاج للعبة الحلم لكي يمرر رسائله "التويتَريّة"، فكانت تغريدته هي أن أقنع محمود بالسفر.
*****
اتصل بي محمود، وألحّ على مجيئي إليه، حاولت أن أؤجل الموعد للمساء ليكون داني موجوداً فرفض.
بدأ محمود بالكلام:
أتذكرُ يوم أنقذتني، كانوا خمسة، حملتَ عصاً بيدك، وبدأتَ تضرب كيفما أتفق، رفعتني عن الأرض، وركضنا، مضى زمن طويل لم نذهب فيه لحي الرمل.
- ما الذي أعاد لك هذه الذكرى؟!
- السفرُ غداً عصراً.
- ماذا، بهذه السرعة!؟
- لا خيار آخر لدي، فالقبطان الذي سيؤمّن تسللي للسفينة لن يعود من سفرته هذه قبلَ وقتٍ طويلٍ، وسيرسو بإيطاليا، وأنا لم أحضر أية جلسة من جلسات المحاكمة، الحكم سيصدر بسجني لضربي موظفاً عاماً، حتى لو استطاع المحامي تخفيف الحكم سأدخل السجن، وهذا سيقتلني، لكن ليس هذا السبب الذي طلبتُ منك المجيء لأجله، أريد منكَ خدمة كالتي فعلتها سابقاً حين أنقذتني - ربما - من الموت يومها، الآن أريد أن تستر عليّ، لا، ليس عليّ بل على عليا، عليا حامل..!؟
- ماذا؟!
لم يدعني لتتداعى أفكاري أكثر في فكرة حمل عليا، والستر عليها.
- لا تذهب بعيداً بظنك، هي ترفض الإجهاض، وأنا ليس لدي وقت لإقناعها والضغط عليها، أريدك أن تفعل ذلك بعد ذهابي، وكل شيء جاهز، النقود وعناوين الأطباء.
انقضضتُ عليه، وبدأتُ بضربه، وهو لا يردّ، ولا يحرك ساكناً، تركتُه على الأرض مكوماً، وخرجتُ فارغ الذهن، اتصل داني مساءً للذهاب عند محمود، اعتذرتُ، واستتبعتُ بكلام عن الخواء، وبأنّ لا رغبة لدي في رؤيةِ أحد، عندها حاول داني أن يأتي لزيارتي، لكني رفضت.
في غرفتي وضعتُ خمس علب بيرة من التنك، وبدأتُ بالشرب، أقفلتُ موبايلي، شربتُ حتى دار كل شيء فيّ، وغرقتُ في اللاشيء، كانتْ الشمس قد بدأتْ بالشروق.
عندما استيقظتُ مساء اليوم التالي وجدتُ على موبايلي عدة رسائلٍ من محمود وداني ولمياء، لوهلةٍ كان قد غاب عنيّ موضوع البارحة، لكنّه عاد أمامي عندما رأيتُ اسم محمود، اتصلتُ به، كان خطه خارج التغطية، حاولتُ مراراً دون الحصول على أيّة إجابة.
اتصلتُ بداني فجاءني صوته كأنّه يلعنني لأنني تركتُ محمود يسافر دون أن أودّعه، في خضم كلامه اتفقنا على أن نلتقي قرب كورنيش البحر.
نسيتُ أمر رسائل لمياء، والوجه التائه لأبي وأمي وهما ينظران إليَ، وخرجت ُ مغلقاً الباب خلفي بقوة، كان داني قد سبقني، وبيده زجاجات البيرة، حاولتُ ألّا أتكلم بشيء، تركتُ داني يسرد:
- ما الذي حدث؟ وجه محمود كان مضروباً بشدة حتى أن إحدى عينيه مغلقة من شدة تورمها، سألته: لماذا هاتفكَ مغلق؟ فلم يجب، أنتَ وهو تركتماني بحيرة، بالنسبة لوجهه المضروب قال لي إنّ شباباً من الرمل فعلوا ذلك، وذكر كيف أنقذته منهم في صيف البكالوريا، لكنّهم تعرفوا عليه وانتقموا، أنتما تسخران مني، ماذا حدث، بربك باسم أنت من ضربه، لماذا؟! تريد منعه من السفر، ماذا بقي له في هذا البلد!؟ اللعنة، وما قصة هذه الأمانة، الحقيبة التي تركها لك، تكادان تفقداني صوابي.
كنت أستند على صخرة، أدلق البيرة في جوفي، يختلط في سمعي صوت الموج المتكسر وصوت داني، تناولتُ الحقيبة من يد داني، وهمستُ: كما كانت أمانة لديك ستكون أمانة لدي!؟
- ماذا!
يرنّ موبايل داني، يجيب على المكالمة، فجأة أحمّر وجهه، وصرخ: أبي في المستشفى، أنا قادم.
*****
وصلنا إلى مشفى الباسل، كان كل شيء قد انتهى، مات أبو داني.
فجأة كبر داني، أصبح رجلاً، ماذا كان قبل ذلك أو ماذا كنت أنا!؟
هزيلاً كان في العزاء، لكنّ عينيه تشبهان عيني أبي، هذا الشبه جعلني أعتذر لأبي وأمي عن تصرفّي منذ أيام. مضى الوقت، نسيتُ فيه عليا إلى أن مرّ خبر على قناة تلفزيونية يتناول قضية الهجرة غير الشرعية إلى أوربا من دول شمال إفريقيا، وحوادث الغرق التي ينتهي إليها مصير المهاجرين غير الشرعيين.
وجه محمود توسط الشاشة، أزرق كحالته عندما تركته وسطَ الموج، وهو يضرب الماء بشدةٍ، كنتُ أضحك فيما كان يطفو، ويغوص إلى أن توقف عن الظهور، هرعتُ إليه، غصتُ، كان الماء عكراً، خرجتُ للسطح، أخذتُ نفساً عميقاً، وغطستُ، كصورة باهتة كان يرسو نحو القعر بهدوء، أمسكتُه من شعره، وخرجت به لسطح الماء، سبحتُ للشاطئ، سحبتُه، وكمجنون رحتُ أضغط على صدره، وأنظر لوجهه الأزرق حتى بدأ بالسعال، وإخراج الماء من صدره.
ضممته لصدري، وقلتُ: اللعنة عليك، لا تستطيع احتمال المزاح.
لم يجب إنما بقي صامتاً، قلتُ له: علينا الذهاب لطبيب كي يفحص لك صدرك. نظر إلي، وقال: لا حاجة لذلك، واتجه نحو الماء، ركضتُ خلفه، دفعني إلى الوراء، وأمام ناظري بدأ بالسباحة.
انهمرتْ الدموع من عيني حين توالتْ أخبار أخرى، أغلقتُ التلفاز، وذهبتُ إلى السرير، اتصلتْ لمياء، لم أجب، وفي داخلي صرختْ: ماذا تفعل بي يا محمود!؟ فتحتُ موبايلي، كان في صندوق الوارد رسالة من محمود مضى عليها وقت طويل، يبدو أنّي تناسيتها قاصداً متعمداً، جاءتني يوم السفر، كنتُ قد أغلقتُ هاتفي وقتها، الحقيبةُ تناسيتها أيضاً، وضعتُها في الدرج، وأقفلتُ عليها، يحدث الحفظ بالتكرار وبالنسيان أيضاً!
الرسالة:
(باسم، مرتان أنقذتني، أتظن ذلك محض صدفة، إنّه القدر، أتعرف لماذا أعطيتك الكتب!؟ ستعرف، لن أطيل عليك، هناك أمانة عند داني لكَ، قلتُ له أن يعطيك إياها بعد عدة أيام، هي مبلغ من المال كما أخبرتُك سابقاً، مفتاح غرفتي في الفقاسة عند أبي قاسم، دفعتُ مقدماً أجرة شهرين، وقلتُ له أنك ستسكنها إلى حين عودتي، لن أعود، أعرف مقدار تعلقك بغرفة مستقلة تعيش فيها بطريقتك، وكما فعلتَ سابقاً ستنقذني للمرة الثالثة، الوداع.)
أردتُ إخبار الجميع لحظتها أنّ محمود قد مات، لم أفعل!
جلستُ بهدوء على حافة السرير، ضرب الماضي بموجه شاطئي، كالفنار أومض،، أخفق كشراع تمزق ليس بسبب ريح قوية بل بسبب الاهتراء، كنتُ سفينة جنحتْ للشط، كنتُ كل شيء ولا شيء.
أ كنتَ تكذب عليّ وقتها، أم أني توهمتُ أنّك تسبح، اللعنة عليك، كان عليك أن تصدّق حدسك في الخوف من الماء، لقد أنقذتُك من فم الموت، والموت لا يترك ضحية زرقاء الوجه، قلتَ لي إنّك ستقفز إلى البحر قبل أن تصل السفينة إلى الميناء، وستسبح، كانت مسافة أمتارٍ تدرّبت عليها طويلاً، كنتُ أشاهدك، تخرج من الماء، تهزّ جسدك كطائر يريد أن يتخلص من بلل ريشه ليعيده جافاً، تترك الماء العذب يتدفق على جسدك، وكأنّ الملح عقارب تلسعك، تجفف نفسك جيداً، تبحث عن كل قطرة ماء متبقية، لماذا لم أنتبه لخوفك من الماء، هل كان وجودي يحميك، لكنّك سبحتَ في غيابي، ما الذي حدث حتى خفتَ، وغرقتَ!؟
و الآن هل أنا وريثك حتى تترك لي تلك التركة، ماذا سأقول لعليا ولأهلك، اللعنة عليك، كان عليّ أن أكسر لك ساقاً في تلك الليلة.
لم أنم، خرجتُ مبكّراً حتى أني وصلتُ قبل أبي قاسم، انتظرتُه، واشتريتُ قهوتي من بائع قهوة متجول.
أنهيتُ علبة السجائر الثالثة، بدأتْ الشمس تمد بساطها على الشارع، تحسستُ علاقّة المفاتيح، نظرتُ إليها بينما كان أبو قاسم يفتح دكانه.
كان يعرفني، ألقيتُ عليه التحية، قال: تأخرتَ.
- نعم - الله الدائم - مات والد صديق لي، وانشغلتُ بالعزاء.
- البقية بحياتك.
- حياتك الباقية.
- هذا هو المفتاح، ولولا محبتي لمحمود، ومعرفتي بكما ما قبلتُ بذلك، والغرفة سأستردها في نهاية الشهرين بكل الأحوال.
- كما تريد، إنني مجرد مؤتمن عليها، وأظنّ أنّ محمود سيعود قريباً.
- اتفقنا.
ألقيتُ عليه السلام، وخرجتُ، لم أستطع دخول الغرفة.
*****
شربنا القهوة سريعاً، استغرب داني من رغبتي في الذهاب، قلتُ له: لدي ما هو ضروري لفعله، نلتقي فيما بعد.
نظر إلى وجهي بعينين حائرتين: أشعر أن صداقتنا قد اختلتْ موازينها، قلْ لي هل سيحدث شيء، وهل سنعود كما كنا في الجامعة؟! من المؤكّد أن غياب محمود لن يطول.
عندما تلفّظ باسم محمود ضاق نفسي، وكادتْ الدموع تخرج من سجنها، أشحتُ بوجهي عنه، ومضيتُ صارخاً: لا شيء تغيّر، مساءً نلتقي.
مشيتُ في شوارع طرطوس أتقصّد تضيع الوقت.
لأول مرة أكره الغرف المستقلة البعيدة عن عيون الناس، غرفتي وغرفة محمود، أشعر أنّهما سجن لي.
أيقظني صوت سائق يصرخ بي، لم أكترث به، قطعتُ الشارع، واتجهتُ نحو جسر المشروع السادس، صعدتُ درج البيت، وبكل درجة شعرتُ أن وزني يزداد لدرجة لم أعد قادراً فيها على أن أحرك قدمي، ارتميتُ على السرير، وغصتُ في النوم.
كانتْ لمياء قد اتصلتْ عدة مرات، وأرسلتْ الكثير من الرسائل، لم أقرأها، كل ما فعلته أنّي كتبتُ رداً، وأرسلتُه لها: (أشكرك على كل الافتراض، لكن ليكن افتراض الوداع هو الضغطة الأخيرة على "كيبورد" عالمنا الافتراضي.)
بعدها أرسلتْ لمياء عدة رسائل، قرأتُ إحداها تقول لي فيها: إنّها استطاعتْ أن تؤمن غرفةً كي نلتقي.
غيّرتُ رقم الموبايل وعنوان الإيميل، لقد انتهتْ لمياء إلى سلة المحذوفات، وبضغطة زر اختفتْ مع صوت يشبه تكسّر العشب اليابس.
كم هي سهلة هذه الحياة الافتراضية، وكم تقدم لك من خيارات، ببساطة تستبدلُ رقم موبايلٍ بآخر، فتذهب معه كل الأحاديث والمشاعر السابقة حتى دون جهد في النسيان، فأنت سوف تنشغل برقمك و"إيميلك" الجديد. ألوفٌ من الغرف الافتراضية مجانية ٌ، كأنّك رجل أعمال كبير لا يعرف عدد العقارات التي يملكها، فهو يملك في كل مكان شقة، كل ما يلزمه رغبة ٌ منه في زيارتها، وبث الحياة فيها.
بعتُ موبايل "النوكيا"، واشتريتُ آخر من شركة "سوني أريكسن"، سمعتُ بكاء ابني بجميع الأوضاع، وبمقاطع موسيقيةٍ اخترتها من مؤلفات "زياد الرحباني"، كاليتيم وضعتُه أمام البائع، وغادرتُ كنخاسٍ باع إحدى جواريه، أ لهذه الدرجة كانت الأبوة سهلة في العالم الافتراضي، ربما الجنة هي افتراض أكثر دقة من عالم الموصّلات الفوقية.
فكرّتُ بمحنة أوديب وبمحنة موبايل "النوكيا"، هل سيطيل الزمن عمره، وتقدّمُ له التقنيات طريقةً للانتقام!؟ لم أمهل الفكرة وقتاً طويلاً لتجول في رأسي، أعرف عزرائيلَ الشركات جيداً، وأعرف كيف يضع عمراً محدداً للجهاز يبدأ بعده بالهرم نتيجةَ تطورٍ لم يجاريه مثله مثل الإنسان، فيركن في بيوت الشيخوخة، أو تصيبه جلطة قلبية إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
نهرب عبر حضارتنا من الموت والغيب لنعيد إنتاجهما، بكل خطوةٍ تقنية ما، فهل سيكون خلودنا يوماً يشبه الخلود المتعارف عليه؟!
*****
طلب داني نرجيلة وكأساً من الشاي، مضى وقت طويل لم نتكلم أثناءه.
افتتحتُ الكلام بسؤاله عن حال أمه، أجاب بأنّها حزينة، وفراق أبيه جعلها أكبر سناً، فقد بدتْ عليها التجاعيد، وحركتها باتت بطيئةً، حتى أنّه أصبح يخاف عليها.
همهمتُ، ولم أجب، وفي داخلي أقمع رغبتي بالتكلم عن محمود، سيبقى محمود مسافراً في نظر الجميع، خائناً لصداقاته ولأسرته ولعليا، فالخيانة أسهل من الموت غرقاً، ستتسبب حقداً، وستنتجُ مع الوقت نسياناً، خاصةً في ظل غياب الشخص المحقود عليه، وربما سيبقى أملٌ بعودته يوماً، هكذا سيعيش محمود، بحضوره في الذاكرة أو غيابه، بالنسيان أو الحقد، ويوماً ما سيموت من الشيخوخة.
قاطع داني شرودي، وقال لي: ماريا التحقتْ بدير، تريد أن تصبح راهبة، اتصلتُ بها عدة مرات، كان رقم هاتفها مغلقاً، حتى أنّها لم تأتِ لعزائي، ولم تسنح لي الفرصة لسؤال أمها عنها يوم العزاء، لكنّها غمرتني بشدةٍ لم أفهمها - في ذلك الوقت – إلّا عزاء بوفاة والدي.
انتظرتُ عدة أيام، وذهبتُ إلى بيتها، فأخبرتني أمها بقرارها، شعرتُ براحة في صدري لأنني لم أكن عقبة أمامها، يبدو أنّي لم أكن أحبها، أو أنّي شعرت بالخجل من منافسة عريسها السماوي.
- والآن؟
- لا شيء، أنا رجل البيت، أتعرف أن شراء الطعام يجعلك تفهم الوجود أكثر من كل الكتب التي قرأناها، جلب الخبز يومياً والخضار الطازجة يشعرك بأنّك في الحياة أكثر من أي كتاب تشتريه.
عدّتُ لصمتي، ومصطلح المسؤولية يتصاعد بأبعاده داخلي، آخذ نَفَساً من دخان النرجيلة حتى يمتلئ صدري به، ثم أرسله كأنّه دخان قطار.
تمشينا قليلاً فهو لم يعد يطيل السهر، لأن الاستيقاظ المبكّر، وتعب العمل يجعلانه ينام باكراً، أمّا أنا فلا عمل لدي ولا مسؤولية، مجرد متسول على أبواب الوقت.
لم أكن قد فتحتُ الحقيبة، ولم أتصور أنّ المبلغ سيكون كبيراً إلى هذا الحد، فيصل إلى مئة وخمسين ألف ليرة سورية مع رسالة يعدّد فيها أسماء أطباء يقومون بعمليات الإجهاض، ثلاثة منهم في العاصمة.
رسالة محمود -المكتوبة بخط أسود على ورق كان يستخدمه لكتابة روايته - رسالة تعليمات، وكأنّي موظف عليّ أن أقوم بها، والحساب مدفوع سلفاً.
لم أعاود الاتصال بعليا، وأظنّها قد علمتْ بسفر محمود، حقيقة ليس لدي معلومات كافية عنها، كل ما أعرفه أنّها موظفة بأحد البنوك الخاصة، ما الذي أخرجها من عالمها لتغرم ببائع ثياب في سوق الأكشاك، عادة ً يذهب مَن هم على شاكلتها لمحلات الماركات العالمية، وكأحمق رددت مقولة: (الحبّ لا يعرف حدوداً ولا طبقات)، أظن أنّ العبارة السابقة هي الاستثناء من القاعدة، والقاعدة هي أنّ الحب لا يتجاوز الحدود والطبقات، فهو ابن الألفة والتشابه في المكان والزمان، إنّه كائن كلاسيكي، وما تراجيديات الحب إلّا خرق لتقاليده.
لم تتصل عليا لأنني غيّرت رقم الموبايل، كتبتُ رسالةً لها، كانتْ الساعة الواحدة ليلاً، اعتذرتُ فيها عن تأخري في الاتصال بها، وأعربتُ عن رغبتي بأنّ نلتقي غداً.
ضغطتُ على كلمة إرسال، وما أن جاءني الإشعار بوصول الرسالة لها، حتى رنّ موبايلي.
- ألو عليا.
*****
- أبوك مات، وأنت تريد السفر.
باختصارٍ قالتْ أم داني هواجسها، فالطلب الذي قدمه داني للسفارة الكندية قد انتهى بالموافقة، وكل ما يلزم داني هو تأمين مبلغٍ معينٍ من المال، يستطيع الحصول عليه من خلال الحجز على البيت الذي ورثه عن أبيه، خاصة بعد أن تنازلتْ أختاه وأمه عن حصصهن فيه.
لم تكن ردة فعل داني كما حلم بها سابقاً، كان شعوره تجاه الموافقة شعوراً حيادياً حتى أنّ كلام أمّه لم يأت رداً على أي كلام له، فكل ما قاله: لقد تمت الموافقة على طلب السفر.
جرى الحديث وهو يتناول قهوته، ضمّ أمّه، مسح عينيها، وقال: لقد تأخرتْ على سركيس.
دخل الكنيسة، كان المعلم سركيس يخلط بعض الأصباغ، اتجه تجاه الرجل المصلوب، وأقام صلاةً، تناهتْ إليه همهمات المعلم سركيس، لم يكترث إليها، وعندما انتهى، نهض، واتجه نحو المعلم سركيس، وأخبره بأنّ عليه تأمينَ شخصٍ بديلٍ عنه.
المعلم سركيس ظنّ لوهلة أنّه أساء لداني، لم يتركه داني لظنونه.
- الموافقة من السفارة الكندية قد أتتْ.
- وأنت تريد السفر مع أمك.
- ستبقى عند واحدة من أختيّ إلى أن أبعث لها لتسافر، سأنهي معك هذا اليوم.
في نهاية يوم العمل أخرج المعلم سركيس من جيبه مبلغاً من النقود، وأعطاه لداني، لكنّ الأخير أعاد المبلغَ، وقال: هذا نذر عليّ للكنيسة، اليوم نذرته، أنا لا أعرف كيف أتصرّف به فتصرف أنت.
في طريق العودة تذكّر داني علاقته الجديدة بالخشب وعشقه لها، تذكّر كل تلك الأبواب التي حفها ودهنها، وحاول أن يماثل بين خشب تلك الأبواب والنوافذ هنا وتلك التي سيحفها في كندا، التاريخ أبوابٌ تفتح وتغلق، وتاريخك هنا قد أغلق بابه.
*****
تمضي أيامي بشكل أقرب للعشوائية، كأنّ من رتبَها آخرون، فلا أستطيع أن أستوعب نقلاتها المفاجئة.
دخلتْ عليا من باب قهوة المنشية، كنتُ قد سبقتها إلى هناك، وحجزتُ طاولة جانبية تسمح بحديث يحتمل كل التبعات.
لن أخبرها بموت محمود، يبدو أنّه تخلص من كل ما يدل على هويته قبل القفز إلى الماء.
ما الذي ستتحدث به أنثى تحسّ أنّها خُدعتْ، ورُميتْ كذاكرة لا قيمة لها؟!
تركتها تتحدث، وتبكي حتى شعرتُ أنّها قد أنهكتْ، ولن تكون ردّة فعلها كبيرة على معرفتي بحملها، وبين ذلك كان ينمو في داخلي شعور هو الشفقة.....
طلبتُ منها أن تسمعني إلى أن أنهي كلامي دون مقاطعة، حدّثتها عن اللقاءِ الأخير مع محمود، والعراكِ الذي دار بيننا، ورسالته، والمبلغ المتروك، نهايةً أخبرتها عن قضية حملها وإجهاضها.
أزرقّ وجهها، وتسارعتْ أنفاسها، لكنّ ذلك كله حدث بصمتٍ قاتلٍ.
لم أدر ماذا أفعل، دفعتُ الحساب، وأجبرتها على المغادرة، أوقفتُ سيارة أجرة، وقلتُ للسائق: إلى الفقاسة.
وعندما وصلنا إلى غرفة محمود بدأتْ البكاءَ بصمتٍ، كانت قد جلستْ على السرير غير المرتب، لقد ترك محمود غرفته دون ترتيبٍ، وهذا ليس من عادته، كأنّه خرج هارباً، بالتأكيد كان يهرب....
تركتُها تنشج، ووضعتُ فناجين القهوة على الطاولة، وبعد بحثٍ وجدتُ في واحدة من العلب ما يمكن أن يصنع ركوةً مليئةً من القهوة، وبينما كنتُ مشغولاً بذلك اقتربتْ من الطاولة، وجلستْ، أمسكتْ علبةً سجائري لتستل سيجارةً منها، وتشعلها.
أنهيتُ إعداد القهوة، سكبتُها في الفنجانين التي خمنتُ أنّها من جلبها، وأشعلتُ سيجارةً مثلها.
نظرتْ إليّ: أتريدني أن أجهض أيضاً!؟
صعقني سؤالها: أنا لا أعرف، لم أفكر بذلك.
رغم أنّها مهمتي، لكنّي لم أفكر، يبدو أنني أعيش فكرة محمود.
- أنت تعرف أنّي موظفة في بنك خاص، وقد عُرض عليّ أكثر من مرة الانتقال لمركز البنك في العاصمة، وهذا ما سأفعله، لكن حملي دون زواج يرتبُ مضاعفات سيكون أقلها ترك العمل، محمود ترك لك مبلغاً كما قلتَ، وأنا أعطيك مثله شرط أن تتزوجني، وننهي هذا الزواج بعد إنجابي، أنا لا أريد أن أتخلص من طفلي.
وقفتُ بقوة ٍ أسقطتْ الكرسي ورائي، وصرختُ بها: من أنتم حتى تشتروا حياتي، اللعنة عليك وعلى محمود، عهرك وعهره ليس مسؤوليتي.
بدأتُ أدور في الغرفة كحمار مربوط إلى رحى، إلى تعويذة من سحر أسود ألقاها محمود عليّ، ولا أستطيع الفكاك منها، ومن قال ذلك؟! بكل بساطة أستطيع أن أرمي لها المبلغَ الذي تركه محمود ومفتاحَ الغرفة وأغادر لا ألوي على شيء، لكنّي لم أفعل، هل المبلغ المعروض عليّ كان الطعم الذي ابتلعته كسمكةٍ؟!
كنتُ أتخبّط يميناً ويساراً محاولاً الفكاك إلّا أنني في الوقت نفسه أريد لهذا الطعم أن يخرجني من الماء، ربما لأعيش عالماً آخر حتى لو كان فيه محو لكل تاريخ الغلاصم الذي رغبت فيه.
عدتُ للطاولة التي لم تغادرها هي، جلستُ أنظر إليها كمن ينظر إلى الفراغ، وقفتُ من جديد، اتجهتُ إليها، رفعتُها من كتفيها، ودفعتُها نحو السرير، نزعتُ عنها ثيابها، واضجعتُ فوقها، أدختُ عضوي، وقذفتُ داخلها.
كان اغتصاباً، لكنّ عينيها كانتا تقولان شيئاً آخر، كان بالنسبة لها تطهيراً، همستْ بأذني وأنا مستلقٍ بجانبها: لقد استغرق منيك منيه، أصبح الجنين ابنك أنت.
انسلّتْ من السرير، ارتدتْ ثيابها، وخرجتْ دون أن تلتفتَ إليّ، كنتُ فارغاً إلا من رغبةٍ في التبول، أمسكتُ عضوي المُطَهَّر، تدفقَ بولي الساخنُ إلى الأسفل حيث مجارير المدينة تصبُ في البحر الذي عُمِّدنا بملحه طويلاً.
*****
بدأ داني بترتيب أمور السفر، مرّتْ أيامٌ لم نلتق أو نتهاتف، كأنّنا متفقان على ذلك، عندما جاء اتصال داني كان قد مضى نهارٌ ومساءٌ على اغتصابي لعليا في غرفة محمود.
كالعادة نذهب لذات القهوة، ونحاول دوماً أن نأخذ ذات الطاولة كحيازةٍ تسمح لنا بالألفة والتجذر.
- أتعرف من رأيتُ مؤخراً؟
- من؟
- رغدة، كانت تقف على إشارة مرورٍ تنتظر أن تعبر، توقفتُ قربها، ورغبتُ بالكلام معها، وهمستُ: رغدة، تلفتتْ يميناً وشمالاً، لمحتْ عيناها وجهي فقد كنتُ على يمينها، لكنّها لم تتعرف عليّ، مازالتْ شهية رغم كبر سنها، اقتربتُ منها، وقلتُ: أنا داني، أجابتْ: من داني؟ ضحكتُ وقتها، وذكّرتها بأني صاحبُ قصةِ العضو غير المطهر.
- وماذا بعد؟
-لا شيء، ذهبتُ معها إلى شقتها القديمة ذاتها، لم يغير فيها شيء حتى الباب مازال كما هو، كذلك طقم الكراسي المخملية اللون، واللوحات ذات الإطارات الأثمن منها، فقط طلاء الجدران بهتَ قليلاً، وتقشّرَ في أماكن عدة.
- ضاجعتها؟
-هذا ما فعلته، كنتُ أريد أن أقذف في رحم أنثى هنا قبل أن أسافر.
- تسافر؟!
- جاءتْ الموافقة، وجهّزتْ كل شيء.
من جديد أصعق، وقبل أن أستجمع نفسي استكملَ داني كلامه:
- هناك سأرى محمود، لا ريب في ذلك، من الطبيعي أن يكون قد أنشأ حساباً له على "الفيس بوك"، سأجده، فالعالم الافتراضي يسمح بتجاوز الزمان والمكان، لقد سقطت المسافة من حسابه، والأهم أنني سأعمل جهدي لتسافر أنت، وسنجتمع من جديد.
أشعرني كلام داني بغرائبيةٍ تسقط داخلها أيامي، هل السبب يكمن في أنّ رغبات محمود وعليا وداني تملك الكثير من قوة التأثيرٍ على أمثالي ممن لا يملكون رغبات يستطيعون بها أن يقاوموا جاذبية رغبات الآخرين؟!
ألهذه الدرجة أنا كائن دون رغبات، فتتلبسني رغبات الآخرين كأنّها أرواح هائمة تحلّ في جسدي الذي يبدو أنّه بلا روح؟!
هل سير الحياة نتيجة لتجاذب هذه الرغبات، وما شخصياتنا وهوياتنا - التي ندافع عنها، ونسعى لجعلها واقعيةً ابتداءً من الاسم فالانتساب لعائلة وهوية ومكان وزمان ولادةٍ، وانتهاءً بالموت - إلّا من صناعة هذا التجاذب؟!
أين الحرية في ذلك، هل الحرية هي رغبة الآخر وليستْ رغبتك، لكن أليس ما يتحقق الآن هو رغباتك أنت يا باسم!؟
حسناً، هي رغباتي في أن أحلّ محل محمود، خاصة في موضوع إقامته في غرفة مستقلة، أهذا ما دفعه إلى تلك "الدراماتيكية" القدرية التي انتهت بوفاته، ألم يكن مزاحي في تركه يغرق - عندما كنتُ أعلمه السباحة - رغبةً مني في قتله؟!
ألم أرغب بعليا بعد لقائي بها؟!
ألم أرغب بأن أحصل على نقود محمود يوم ذهبتُ لأدفع للمحامي أتعابه؟!
هل داني من رغب بالسفر أم أنا يوم جعلتُ "إيميلي" باسم جاك، وأصبحتُ فرنسياً، وسخرتُ من داني؟!
وتوالتْ الاستفسارات في داخلي حتى أخرجني داني من شرودي صائحاً: يا رجل!
*****
اتصلتُ بأمي، وأخبرتُها بأنني سأنام عند داني.
الحقيقة لم تكن كذلك، ذهبتُ لغرفة محمود، أحضرتُ معي عشاءً خفيفاً من المقبلات، والكثيرَ من علب البيرة، بدأتُ أصرف من المبلغ الذي تركه محمود، فأنا وريثه الوحيد، لقد أورثني مشاكله، لذلك يحقّ لي أن أرث ماله، فالتركة تورّث بديونها ومالها.
شربتُ كثيراً، لكن لم تدر بي الغرفة، ولم أفقد الوعي، شعرتُ أنّي أشبهُ معالجاً إلكترونياً كبيراً بإمكانه أن يحاكي الحياة على الأرض منذ اللحظة التي كانت فيها كوكباً ملتهباً إلى هذه اللحظة التي يحدّثونا فيها عن تأثيرات "الدفيئة" التي ستؤدي إلى ذوبان ثلوج القطب الشمالي.
محمود - الذي لم يسامح أباه - ترك جنيناً، هذه المرة جعل الوضع أكثر كمالاً، فالجنين لا ذاكرة له، ولن يعاني من عقدة أوديب - كما عانى منها موبايل "النوكيا" الذي قمتُ ببيعه - لعدم وجود ذاكرة لاشعورية لديه، فعندما يُولَد، سيعتبر أباه أي ذكر متواجد قربه، وسيكون خذلانُ أبيه له خارجَ نطاق مداركه، كالخطيئة الأولى التي رتّبتْ نزولنا إلى الأرض، لكن الفرق يكمن في أنني لن أكون كالله، فأجعل معرفتي بفعلة محمود ذات أثر رجعي، لأنّ الموت يجُبُّ ما قبله.
استيقظتُ في الصباح، نظرتُ حولي دون شعور بالغرابة، كأنني أعيش في هذه الغرفة منذ زمن بعيد، أعددتُ القهوة، فكرتُ بسفر داني، في الحقيقة ستكون هجرته أمراً رائعاً، فلا أحد سيشاركني بذاكرة المكان، الآن أستطيع أن أعيد تشكيل كل شيء، فما ترتب بعد موت محمود دفع حياتي قدماً، فجأة أصبح لدي غرفة مستقلة ومبلغ من المال.
شعور من السعادة نما في داخلي، أخيراً سأخرج من دوامة حياتي السابقة.
قُرع باب الغرفة، لا يمكن لأحد أن يعرف أنّي هنا حتى أبي قاسم، لن أفتح، لكن القرع استمرّ، هل تكون عليا؟ لم أتابع التساؤلات، نهضتُ، واتجهتُ نحو الباب، فتحته، فألقى عليّ رجل التحية، وقال: أنت باسم؟
- نعم أنا.
- أنا القبطان.
- لكن...
- أخبرك محمود أنني سأغيب طويلاً، ليس مهماً، قبل أن يقفز أعطاني هويته، وقال لي أن أعطيها لك، وأخبرني أنني سأجدك هنا، لقد زرته عدة مرات في غرفته هذه، وسكرنا معاً، والآن اعذرني، أنا مستعجل.
- لكن...
- إلى اللقاء.
راقبته يخرج من الممر المظلم ليختفي في وهج النور، أغلقتُ الباب، وأنا أفكر أي ترتيب هذا الذي رتبته محمود!
الآن بدأتُ أشك بصورته التي رأيتها في التقرير التلفزيوني.
ارتديتُ ثيابي سريعاً، اتجهتُ لمقهى "إنترنيت"، دخلتُ على موقع القناة، وبحثتُ عن التقرير، نقلتُ نسخةً عنه من فضاء الشبكة العنكبوتية إلى شريحة ذاكرة رقمية، وخرجتُ.
اتجهتُ مشياً نحو البحر، دخلتُ قهوة لا على التعين، طلبتُ قهوةً مزدوجةً، وبدأتُ أدخنُ بشراهةٍ، وأرتشفُ القهوةَ الساخنةً، بينما كانتْ عيناي تتجاوزان الشاطئ إلى خط اندماج السماء بالأفق، والكثير من الأسئلة تحوم، وتصرخ في داخلي.
أخرجتُ الهوية، هوية محمود، وبدأتُ بتقليبها بيدي، هل أنا شخصية من شخوص روايتك تفعل بها ما تريد، أي حبر كنتُ أرقد فيه قبلك يا محمود، وفي أي كتاب متهرئ على رف مكتبة يعلوها الغبار كنتُ أنا، هل جئتَ لتوقظني من نومي كما في قصة الأميرة النائمة، أو لتقبلني قبلة يهوذا للمسيح، هل هي لعنة روايتك التي لم أجدها في مكب الزبالة؟!
فيما أنا غارق بهلوساتي، دخلت عليا، واتجهتْ نحو طاولتي، وقالتْ: آسفة، تأخرت عليك.
- عفواً!؟
- كل ما في الأمر أنّ إحساساً راودني بأنّي سأجدك هنا، أخذتُ إجازة ساعيّة من الوظيفة، وقدمتُ.
تذكّرتُ اغتصابي لها، لماذا أسميه اغتصاباً، هي سمّته تطهيراً.
- هل فكرتَ بعرضي؟
- أعطيني بعض الوقت، لا أعرف، القصة خرجتْ عن أي منطق، وأشعر أنّي في عالم من الهذيان.
- ألا تطلب لي قهوة؟
اقترب الجرسون دون أن أشير إليه.
- لو سمحتَ، قهوة سادة.
- تعرف أنّي أحبها سادة.
- أذكرُ أنّكِ لم تظهري انزعاجاً يومها.
- ولم أظهر أي شكلٍ من الانزعاج عندما اغتصبتني.
-تسمين ما حدث اغتصاباً.
- لا، كل ما في الأمر أنّي قلتُ ما يجول بفكركَ، أمّا من جهتي فقد عرفتُ أنّك ستحررني من محمود لأبد الآبدين، وهذا ما حدث، خرجتُ من عندك، ومحمود قد انتهى من شعوري ولا شعوري، مضى الآن شهران على حملي، والبارحة تحسستُ بطني، أشعرُ أن البنت سيكون لها لون عينيك البنيّتين.
- بنت وبعيون بنية...
قطع استرسالنا - بهذا الحديث الأحمق - قدومُ الجرسون، جاء بالقهوة، وأخذ منفضة السجائر، ووضع أخرى نظيفة.
- كما فعل هذا الجرسون فعلتَ أنت، أنا الآن منفضةٌ جديدةٌ أنتظرُ سجائرك.
أحبُ طريقة شربها للقهوة، كيف تلتقط الفنجان بثلاثة أصابع، وترشف السائل الأسود دون أن يلامس شفتيها، فلا يترك أحمر شفاهها بصمة على حافة الفنجان.
صراحةً كنت مطمئناً وهادئاً رغم الهذيان الذي أعيشه، حتى أنّ الوقت مضى سريعاً، وتمنيتُ لو تجلس أكثر، شيعتها بنظري، كانت تمشي بمحاذاة المقهى، أوقفتْ سيارة واختفتْ داخلها.
ما الذي يحدث، كأنّ كل شيء خرج عن السيطرة، فكل من أعرفهم يتصرفون بغرابة، يفعلون ما يريدون دون أن يحسبوا حساباً لشعوري أو أنّ لا شعوري قد خرج - ربما - من " اللا" النافية!؟
أخبرني محمود أنّه يحب أن تكون شخوص رواياته حرّة في أفعالها، تخرجُ عن سلطة الراوي العليم، وتجعلُه أحد شخوص الرواية، تحوّله إلى الأقل معرفة، ليصبح قارئاً - مثله مثل أي متلقٍ آخر- يتعلّم أن الحياة يجب أن تأخذ هذا المنحى.
قلتُ له وقتها: التخييل مخدر لم تتنبه له بعد، إنّه أخطر من "الهيروئين"، أمّا الكتابة عن رقابة السلطة والتابوهات الثلاثة فلا تندرج وفق رؤيتي للتخييل ؛ فالمنع الذي يُعرف عند التعرّض للتابوهات الثلاثة مقننٌ ومضبوطٌ، ومن الواضح كيف يُسمح للكاتب أن يراقص الخطوط الحمراء مهما ارتفع صراخ السلطة، والكاتب نفسه يرغب دوماً في أن تُطارد كتبه، فموضوع الحرية في الكتابة تمثيلية متقنة من قبل الجميع ومعروفة الأبعاد. إنّ التخييل الذي أقصده هو أحلام اليقظة، بشكل أو بأخر تتراكم هذه الأحلام لدرجة انحدارها - في وقتٍ ما - كسيلٍ يأخذ كل شيء في طريقه، ويعيد العمران للحظته البدائية الأولى، إنّه أشبه بثورة البركان.
دفعني تداعي أفكاري السابق إلى أن أتذكّر رواية محمود، وأن أسأل نفسي: هل كان محمود مشبعاً بتلك الرواية لدرجةٍ تحققتْ فيها رؤيتي للتخييل، فاستعجل السفر، وتركني أواجه ما طرحته من رؤى!؟
اللعنة، هل لمياء هي عليا، وطفل "النوكيا" هو جنينها، آه، كان موبايل عليا يشبه موبايلي السابق حتى في لونه، وفي موسيقى زياد الرحباني التي انداحتْ منه مرةً.
دفعتُ الحساب، وهرعتُ كالمجنون إلى البنك الذي تعمل فيه عليا، تقدمتُ من مكتبها، ابتسمتْ لي، ألقيتُ السلام عليها، وأنا أحاول أن أكبح تلك القشعريرة التي انتابتني، كان الموبايل أمامها على المكتب.
- أتسمحين لي أن أرى موبايلك.
- بكل تأكيد.
أخذته من يدها، أعرفه من الخدش الذي على شاشته، فهو يشبه شكل علامة استفهام دون نقطتها، إنّه هو بكل تأكيد.
- من أي محل قمت بشرائه؟
-الحقيقة تعطّل موبايلي السابق، فذهبتُ لصديق يعمل في بيع الموبايلات، واخترتُ موديلاً معيناً أخبرني أنّه لم يصل بعد، فأعطاني هذا إلى حين وصول طلبي، لكني أحببته، فأبقيته معي، أمّا الثاني فمازال في علبته.
أعدته لها، وقلتُ: أريد رؤيتك في غرفة محمود.
- عندما أنهي دوامي سأمر بك، وأجلبُ طعاماً، فلا تأكل.
الخلود
يمضي الوقت كالزمن في الرواية، سنوات يختصرها بجملة فكيف بالأسابيع! وأحياناً يطول الزمن حتى تمحى الكلمات!.
على الشاطئ طلب داني أن أفتح "البلوتوث"، قام بتحديد مجموعة من الصور التي تجمعني معه ومع محمود، وبدأ بإرسالها، أخذ موبايلي يطنّ بنغمة الرسائل المصوّرة كأنّه جهاز طوارئ، حتى أعطاني تنبيهاً بأنّ الذاكرة لم تعد تتسع، ومن المفترض أن أحذف بعض العناصر ليتم إرسال بقية الصور، فرفضتُ البقية الباقية من الصور، وقلتُ لداني: هذا يكفي.
طلب بالمقابل أن أرسل له الصور التي التقطُها بكاميرا موبايلي، كنتُ قد أجريتُ حذفاً كاملاً للصور التي يتواجد فيها محمود، فاعتذرتُ، وأخبرته أنّ موبايل "النوكيا" قد تعطّل، وذهبتْ معه كل الصور، وبجهازي الجديد لم ألتقط صورة بعد.
تأفف داني: لا أريد أن أكون في الغربة دون صور ودون ذاكرة، هذه الصور ستحميني، وعندما ألتقي بمحمود سأبعث لك صورنا عبر "الإيميل".
يستكمل ضاحكاً: الآن سأصبح كندياً "بإيميل" حقيقي ليس مزيفاً "كإيميلك"، أليس من المفترض أن يراسلنا محمود، لقد دققتُ كثيراً في رسائلي خاصةً في صندوق الرسائل غير المهمة، هل فعلت ذلك!؟
- نعم فعلت، تحققت من صندوق الرسائل غير المرغوبة.
كنّا قد انتهينا من لقاء الوداع، فغداً سيسافر داني في الرابعة صباحاً، ضممته بشدة وقلتُ له: انتظر منك رسائلاً بصندوق الوارد.
أخذ بالابتعاد وهو يقطع الكورنيش باتجاه الشارع، حتى تناهى من بعيدٍ كأنّه ولد صغير، أدرتُ ظهري لطرطوس، هبطتُ أكثر باتجاه مكسر الموج حتى بدأ الماء المالح ينهمر عليّ كأنّه قطرات من المطر.
"موبايلي" قال: لم يعد هناك ذاكرة، ما أجمل هذه العبارة!
أيعقل أن يصدح بها عقلي يوماً، ما الذي سأحذفه وما الذي سأبقيه؟!
في عصر "التكنولوجيا" ما تحذفه لا يعود، ينتهي، فهو لا يملك "نيغاتيفاً" كما في صور الأبيض والأسود، أو كما في الصور الملونة الملتقطة من كاميراتٍ ذات فيلمٍ أسود يوضع داخلها.
على "النيغاتيف" نظهر بشكل مقلوب كمخلوقات طوطمية غير متعينة، نتجلّى على ورق مقوى تحت ضوء أحمر كضوء الطوارئ أو كإشارة المرور، ونتوقف بشكل إجباري، هل فعل الأمر باللون الأحمر!؟
هكذا يبدو، فالآمِرُ يتلّون وجهه بحمرةٍ عندما يتلفّظ بأمره، و"النيغاتيف" يبقى مخزّناً لدى المصوّر بأمر من أجهزة المجتمع مع رقم تعود به إليه ليظهرك من السلب إلى الإيجاب، أمّا في التصوير الرقمي فتصّور من جديد فوق ما حذفتَ من صور، فأنت تستخدم شريحة الذاكرة الرقمية و"البيكسل" لمدة غير متعينة، التقط واحذف: ليسا أمرين باللون الأحمر، ببساطة تفعل ذلك دون أي شعور وتبعاتٍ ودون لون أحمر وأرشيف وأرقام، أنت سيد "النيغاتيف " خاصتك، حتى أنّه ليس "نيغاتيفاً"، ولا يظهرك بشكل طوطمي مقلوب، الصورة الأولى هي صورة أصلية تُستنسَخ أكثر من مرة، فصور "الديجيتال" كالنعجة دولي، أو هي كما قال بارت: كتابة على كتابة، كتابة تمحي كتابة.
أتوقف هنا، أقطع تداعي أفكاري، ليست الصور كتابةٌ، فالتناص الموجود في الصورة - وإنّ تشابه مع التناص الموجود في الكتابة لجهة تكرارك كشخص في الصورة، وظهور تطوّرك في الزمن - إلّا أنّ هذا التناص يشبه حال الكلمة في القاموس، فلا نستطيع أن نقول: إنّ المعنى الجامد المعيّن في القاموس هو ذات المعنى في السياق، كذلك الصورة هي سياق لا قاموس لكلماته.
أرغب ببساطة أن أملك قدرة الحذف، أن أنشئ ذاكرة منتقاة كما أريد.
رنّ الموبايل، إنّها عليا، قفزتُ من مكاني مستقلاً سيارة إلى غرفة محمود، ليست غرفة محمود، إنها غرفتي أنا، وسأطلب من أبي قاسم أن يجعل عقد الإيجار معي. وصلتُ، أدخلتُ المفتاح مخمناً أن عليا ستقرع خلفي الباب بلحظاتٍ ، وجدتها في الداخل، والطاولة مملوءة بالطعام.
- تأخرتَ.
- كنتُ في وداع داني، سيسافر اليوم ليلاً.
غسلتُ يديّ، وبدأنا نأكل، انتهيتُ قبلها، أعددتُ الشاي بينما كانت تنظّف الطاولة، شربنا بصمت، ودخّنا، بدأتْ بالتخلص من ثيابها، واقتربتْ مني، ضممتها، وأنا جالس على الكرسي، لأقف بعدها ماسحاً جسدها بيديّ، مدّتْ يدها تفكُ أزرار البنطال، أخرجتْ عضوي، وبدأتْ تتلمسه كأنها تتلمس قلماً، تركتني، واستلقتْ على السرير، تبعتها، فاعتلتني، وأدخلتْ عضوي بعضوها، همستْ: هذا القلم يحتاج لمبراةٍ. بقينا سوية إلى المساء، مارسنا الجنس عدة مرات، تكلمتْ، وهي تسند رأسها لصدري:
يلزم الطفل عدّة رضعاتٍ حتى تصبح المرضعة أمّه في الرضاعة، كذلك الجنين يلزمه عدة نكحات مشبعات لتصبح أبوه.
ضحكتُ، وارتفعتْ قهقهتي في جو الغرفة التي يستريح فيها دخان سجائرنا، أشعرني ضحكي أنّ الغرفة ملكي، وأنّ عليا لي كاملةً كصورة الديجيتال دون "نيغاتيف".
قبّلتها كموج هادر يعيد تشكيل شاطئ، اعتليتها، رفعتُ ساقيها، وضعتهما على كتفي، وغرزتهُ عميقاً داخلها كسهم كيوبيد.
ليس ما يجعلك تملك الأنثى هو أن تنزع ثيابها أمامكَ، بل أن ترتديهن أمامك، كيف ترتب نهديها في "سوتيانها"، وتتأكد من أن حرف قماشة "الكيلوت" لم يدخل في شق أليتها، كيف تشدّ من جسدها وهي ترتدي البنطال وتغلق سحابه، ببساطةٍ أن تراها وهي ترتدي إطارها كلوحة أثمن بألف مرة من إطارها.
قبلتني وغادرتْ، بقيتُ في السرير عارياً، أتأمل في الذي آلتْ إليه حالي، قاطع ذلك رنّة الموبايل، إنها أمي.
تنبّهتُ أنني نسيتُ بيت العائلة، ونسيتُ أبي وأمي، عندما رجعتُ، بررتُ انشغالي بسفر داني، لكنّ الإحساس الذي راودني في البيت كان إحساس الزائر.
دخلتُ غرفتي، أفرغتُ درجي الخاص بحقيبة بلاستكية سوداء، تناديني أمي للعشاء، أخبرها أنّي لست جائعاً.
أغادر البيت، أنا وحيد في طرطوس، ولا أصدقاء لي!
أتجهُ للغرفة، أفرغُ محتويات الحقيبة بدرجٍ فارغٍ، وأبدأ حملة تنظيف تزيل آثار محمود من الغرفة، استخدمتُ مساحيقاً لتنظيف الجدران، لا أريد لبصماته أن تبقى، وأعددتُ أغطية السرير لآخذهم إلى المصبغة، كان في الغرفة حذاء قديم لمحمود، بعض القمصان الداخلية، "كيلوتات"، فرشاة أسنان، أدوات حلاقة، أوراق تبيّن أنّها لقصائده القديمة المنشورة في الجرائد، وصفحة يبدو أنّها من الرواية، للحقيقة أجريتُ مسحاً كاملاً، وتخلصتُ من كل أغراضه، حتى شعرتُ أنني الآن في غرفتي أنا، ولا يمكن أن توجد شعرة صغيرة من محمود.
جلستُ على السرير، وقرأتُ الورقة الوحيدة الباقية من الرواية: " عندما تكلم "باشلار" عن جماليات المكان هل ما دعاه لذلك غرفتكِ المقفلة حتى على الخيال!؟ الخيال واقع آخر، كيف لي أنْ أنجز واقعاً آخر وسارتر يقول: الآخر جحيم، لربما الحل في التخمين، التخمين مطهرٌ، أخرج منكِ كالشعرة من العجين.
يقعُ شباككِ على جهة غربية، المطر من هندس ذلك، فكل نُطف المطر تندفع بجنون لتتناثر على بلور بويضتك التي تختفي في صَدَفة، سأغفل هنا الفتحة والضمة والكسرة والسكون، فصدفتك خارجة عن النحو.
خيّب سندباد حكاية شهرزاد، وقال عنها: اللؤلؤة المستحيلة.
نافذتكِ جسر يجلس على حافته المطرُ، يحمل مظلة، ويتأمل "نيغاتيف" قدميه في الماء.
أسكب لهاثي في معجن صلصال صوركِ، لعل خزفاً من وجودكِ ينفخُ فيّ الروح. أمارس عادتي كمراهق أحمق لا يقبل أن ينام مع أنثى غيركِ، أحتلم بكِ، فالاحتلام نضوج، ليست القضية خيانة بل القضية أنّكِ فخختِ عيوني وقلبي، فكلما تمر أنثى تخرجُ صورتكِ كأنّها جانّ وتنفخ في شعورهن الريح، فيصبحن الصدى في صدور الجبال.
أنثى ديكتاتورية وسادية وتتلذذين بأن تجعلي شهر الصوم عمراً، وتقولين: صيام الناس شهر، وصيامك دهر.
لنعود لغرفتكِ…
سريركِ ليس وردياً كما تشتهيه الإناث، وليس أزرقاً كما يشتهيه الذكور، أنتِ تنفرين من الجمال المحضَّر مسبقاً، سريركِ لا لون له إلا لون مزاجكِ، فمرة يرتدي الحداد، ومرة يرتدي الشهوة، ومرة يرتدي الصلاة.
سريركِ كتاب ملصق الحواف، أبلل إصبعي، وأفض الرتق، وأعلم أن الفتق سمّ.
الغطاء رجل يتنكر، يصبح خيطاً ليحاك، وينتظر كراهبٍ أن تدسِّي نفسك تحته. قدماك لسان يدخل فم الغطاء كحلمة، تنزلقين عليه موجة تلاعب صدر زورقٍ.
في خزانتكِ أعيش متخفياً كزرّ في قميص، كماركة قميصك الداخلي، كحرف "كيلوتك"، كزرقة بنطال الجينز، ألبس "سوتيانك" مثل خوذة، وأدخل حروباً مع كل الرجال الحالمين بدخول غرفتك…
لديكِ كرسيان في الغرفة، واحد لكِ وواحد لإثارة الغيرة، والسؤال: من تتخيلين أنّه يجالسكِ… تتركين السؤال معلقاً كحبل مشنقة، يومياً أقترب من الكرسي، وأركله جانباً وأنت تبتسمين، تقولين لي: أيها الأحمق لا تنتحر لأجل أنثى، فالنساء كالريح، أجمل ما فيهن أنهن عابرات. فأردّ عليكِ: أعرف ذلك، لكن أجمل شيء في الرجال الحماقات التي يرتكبونها عندما يعشقون حتى لو كان التدلّي بوسط الغرفة كمصباح.
مهووسة بالأحذية، أحذية تليق بدروبك، أشتهي أن تمشي في طريقي حافية، عندئذ سأقرأ خطوط القدر في باطن قدمك.
لو كنتُ رملاً لصرتُ مرآة في غرفتكِ، الرملُ المتحولُ لمرآة واقعية سحرية، كم ستسألينني: من أجمل أنثى في الكون؟ وأنت تظنين أن المرآة تجيبك، بالأحرى أنا من يتكلم، ويقول: لستِ أنتِ!؟"
*****
حملتُ الكيس الأسود الذي وضعتُ فيه أشياء محمود، واستقليتُ سيارة إلى الكورنيش، مشيتُ مشياً سريعاً حتى وصلتُ إلى مكسر الموج، ورميتُ الكيس في الماء، فبدأ يغرق رويداً رويداً بمشهد ذكرني بالممثلة "كيت وينسلت" في فلم "التايتنك" وهي تلقي بجوهرة قلب المحيط في الماء.
في داخلي رغبة بأن أقول بضع كلمات كتشييع لمحمود، هل أقرأ الفاتحة على روحه؟ صدمتني تلك الرغبة، بسطتُ يديّ، وبدأتُ بقراءتها، وبعدها قلتُ: لترقد روحك بسلام، الجملة فيها خطأ، الروح لا ترقد بل الجسد، عدتُ، وقلتُ: ليرقد جسدك بسلام، ولتأكلك تلك الأسماك التي اشتهيتُ يوماً أن أبيع كل شيء لأصبح منها، ولتصعد روحك إلى خالقها.
فكرتُ بالذي قلتُه، ولماذا قلته، في الحقيقة لم أكن أملك غير هذا الكلام، فهو من الذاكرة العشوائية، ولو كانت لي ذاكرة موبايل لكنتُ غير قادر على قول شيء، سيبقى الذكاء الإنساني متفوقاً على الذكاء الصناعي بهذه الذاكرة العشوائية.
عدّتُ، واشتريتُ عدة زجاجات من البيرة، كان الطقس بارداً، وهناك احتمال لسقوط المطر، انتهى الصيف، وبدأ تشرين الأول منذ عدة أيام، شربتُ، وأنا أفكر بعليا، وبما قالته عن الرضعات والنكاحات، ابتسمتُ للفتوى التي سبقتْ بها مشايخ هذه الأيام.
اتصلتُ بعليا، وبعد كلمة " ألو" قلتُ لها: أحبكِ، وسمعتُ ذات الكلمة منها كأنها استنساخ، ليست استنساخاً، فحركة التشكيل في كلمتها مختلفة، استتبعتُ: غداً نضع نقطة في نهاية السطر، ونبدأ صفحةً جديدةً.
في الغد لن يكون الحبّ هو المتكلم، بل العقل وقتَ إنجازه صفقةً كشراء بيت، كلانا سيشتري الآخر، وسيبحث في مزاياه، هي تريد أن أستر عليها، وأنا أريد أن يتم التقادم على سوء الأمانة، ستحميننا هذه النقائص من فضح بعضنا البعض، التواطؤ هو السرّ الأكبر للحياة.
تذكري لحلمي السابق - عن شبيهي الذي يلقي محاضرة أمام جمهور، والذي نالني منه في الحلم الكثير من الضرب - دفعني لأمشي باتجاه الحديقة، كانتْ الساعة العاشرة ليلاً، والباب مقفل، قفزتُ فوق السور، واتجهتُ نحو المسرح،، وفي الوسط بدأتُ خطبتي السابقة عن الجنة والسياق.
صوتي المرتفع قاد حارس الحديقة ليتبين ما الذي يحصل، وعندما انتهيتُ صفّق بيديه، وصاح من الأعلى:
رغم أني لم أفهم ما قلته، لكنك تمثل بشكل جيد، والآن غادر قبل أن أخبر الشرطة بأنّ ممثلاً مجنوناً في مسرح الحديقة يلقي خطبة - لا أعرف عن ماذا - للمقاعد الفارغة.
- معك حق يا عم إنها مقاعد فارغة، أليست الحياة مقعداً فارغاً عليك ملؤه بالكلام، شكراً لك.
عدتُ للبيت ونمتُ.
في الصباح، استيقظتُ مبكراً على غير العادة، أعرف أن حبل الكذب قصير، لكنّه ينفع لربط الدعائم بعضها ببعض، جلستُ مع أهلي، وشربتُ القهوة معهم على غير العادة أيضاً، وتكلمتُ إلى والديّ:
لا يمنع أن نفخر بعد الثلاثين من عمرنا، ليس بنفس الطريقة التي يفخر فيها الولد بُعيد احتلامه، على كل حال كان لا بّد له من تلك الطريقة في الفخر لأن الأعمار قصيرة في ذلك الزمن، في هذه الأيام إذا فخرنا مبكراً كيف سنملأ ما بين قوسي الحياة، وجدتُ عملاً، واستأجرتُ غرفة، واليوم سأنتقلُ إليها.
صمتا غير مصدقين، وقفتُ، قبلتُ رأس أمي، ووضعتُ يدي على كتف أبي، ضغطت بحنان، وقلتُ: أنا ذاهب للعمل.
*****
ركبتُ باصاً ذاهباً إلى خارج المدينة، أعرف المكان الذي توجد فيه الكنيسة التي تعهدها المعلم سركيس، نزلتُ، كانتْ بعيدةً قليلاً عن الطريق، يؤدي إليها ممر حجري بأحجار سوداء ينبت العشب بينها.
في الباحة الأمامية كان سركيس يحفّ قطعة من الخشب، ألقيتُ عليه السلام، خالني شخص من الجوار.
- المعلم سركيس.
- نعم.
- أنا باسم صديق داني.
- أهلاً، لقد سافر.
- أعرف ذلك، قال لي: تستطيع أن تجد عملاً عند المعلم سركيس.
ابتسم، أشعل سيجارة، ومدّ لي بواحدة، تناولتها، أشعلها لي، ونفخنا سوية الدخان.
- ليكن، أ جلبتَ معك ثياب عمل؟
- لا.
ضحك: لقد ذكرتني بأول يوم عمل لداني، امسكْ ورقة الحفّ هذه، واذهب إلى ذلك الشباك، الحفّ لا يحتاج إلى شهادة جامعية، من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس، ابدأ بالورق الخشن.
أخذت الورقة، وبدأت بالحفِّ، ملأ الغبار الأصفر المتصاعد من الخشب الهواءَ المحيط بي.
مضى الوقت سريعاً، وتراكم حمض اللبن في عضلاتي، اتصلتْ عليا، وفرحتْ لما فعلتْ.
دخلتُ الغرفة، واغتسلتُ، كنتُ قد نسيتُ أغطية السرير في المصبغة، أكلتُ بيضاً مقلياً، وغرقتُ في النوم مستيقظاً على نغمة موبايلي: (من كتر ما ناديتك وسع المدى).
عليا تنتظرني في حديقة المنشية.
*****
لم أفتح موضوع إجهاض عليا، وصرتُ أضع أذني على بطنها، ولم نُضع الوقت، ببساطة تزوجنا كما تمضي الحياة دون فلسفة أو تأمل، فالجنة أن نندرج في السياق مثل عاملات النحل في الخلية، أما شؤون الملك فليست من شأننا.
نسيتُ موضوع الوظيفة، أخذتُ قرضاً على راتب عليا مكنني من استئجار محل لبيع إطارات للوحات الفنية في الفقاسة.
كانت حياتنا تمشي بهدوء، اتصل داني، وشكا من صعوبة التأقلم في الغربة، أخبرني عن أحواله، وفعلتُ ذلك أيضاً دون أن أحدد أن عليا - صاحبة محمود سابقاً - هي زوجتي.
أخبرني أنّه يفكر بالقدوم إلى لبنان للبحث عن ماريا، وسأل أيضاً عن محمود، وقال إنّه ناكر للصداقة، واستغرب كيف نسينا، أمّا هو فيتذكر كل تلك اللحظات التي عشناها معاً، وأخبرني أنّه سيطهر ابنه بمجرد أن يولد كي لا يحصل معه ما حصل مع أبيه، فمن أين سيجد له صديقاً رائعاً مثلي ليبوّل أمامه بتلك الشجاعة، ومدّ حديثه حتى وصل إلى رغدة.
*****
أنهيتُ موضوع محمود نهائياً، ولكي أخلّص عليا من الكوابيس المتعلقة بعودة محمود وضعتُ شريحة الذاكرة في "اللابتوب"، وجعلتها تشاهد التحقيق عن المهاجرين غير الشرعيين.
عندما بكتْ تأكّدتُ أنّ محمود قد انتهى نهائياً من أي ذاكرة شعورية أو لا شعورية لديها، وبالنسبة لشعور الغيرة فقد انتهى من داخلي حتى بأثره الرجعي، فقد كنتُ أخاف من نظرة شماتة أو لؤم أو انتقام منها لموت محمود غرقاً، إذ يُعتبَرُ موته جذراً مناسباً لتبقى ذاكرتها.
كبر بطن عليا كقمر، نما ليصبح بدراً، وأحاسيس الأب في داخلي نمتْ بطريقة غيّرتْ نظرتي للكون وعبثيته وعدم جدواه.
في المساء كنّا نتمشى على الكورنيش، بهدوء نقف على مكسر الموج، أضمّها طويلاً وأنا أتحسس ابني القادم.
في الليل أسعفتُ عليا إلى مشفى الحكمة القريب من البحر، أريد لطفلي أن يسمع صوت البحر منذ اللحظة الأولى لولادته، لم أتصل بأحد، شددتُ على يدها وهي تدخل غرفة العمليات، خرجتُ للشرفة، وبدأتُ بالتدخين، تفقّدتُ محفظتي لأتأكد من كمية المال، تحسستُ شيئاً قاسياً في الجيب السريّ للمحفظة، عادةً ما أضع فيه شيئاً مهماً، فتحته، وإذ بهوية محمود، ارتجفتُ وأنا أرى عينيه تحدقان فيّ، كيف نسيتها كل هذا الوقت.
غادرتُ المشفى سريعاً، عبرتُ الشوارع التي تفصلني عن الكورنيش بركضٍ محمومٍ، قطعتُ الكورنيش كالمجنون، وتوقفتُ عند مكسر الموج، ورميتُ بالهوية إلى الماء بكل ما أملك من قوة بعد أن وضعتها مع حجر بكيسٍ وجدته في الطريق، وصرختُ: محمود لقد انتهى كل شيء.
عدتُ إلى المشفى على عجل كان العرق ينضح مني، اتجهتُ إلى إحدى الممرضات، سألتها هل خرجت عليا، أجابتْ بالنفي، سقطتُ على إحدى الكراسي، وأنا ألهثُ.
*****
طنّ موبايلي برسالةٍ أغفلتها قليلاً، وبعد فترة جلستْ عليا تستريح على صخرةٍ كما كانت تفعل بكل مشاويرنا، فتحتُ الموبايل، وقرأتُ رسالة باللغة الإنكليزية تقول: كيف حالك باسم، أنا محمود.
تزلزل كل شيء حولي، كأنّ الماضي أرضٌ أخرجتْ أثقالها، نظرتُ إلى عليا، وقلتُ لها: أعطيني موبايلك/ موبايلي، أخذته، ورميته في البحر.
صرختْ: ماذا تفعل؟!
- لا شيء، الماضي سيمضي.
*****
كالملدوغ استيقظتُ من هذا الكابوس، كنتُ قد غفوتُ على الكرسي، وأنا أنتظر أن تنتهي العملية القيصرية لعليا.
تسرب إلى سمعي صوت طفل يصرخ في الساعة الرابعة صباحاً، وفي ذاكرتي صورة سقوط موبايلي القديم من يد عليا في الماء عند مكسر الموج قبل زواجي بها بيوم واحد.
الصباح كان منعشاً، تركتُ عليا تستريح، خرجتُ للكورنيش، طلبتُ فنجان قهوة كبير، وجلستُ على حجارة الشاطئ، كنتُ قد اشتريتُ جريدة الثورة، بدأتُ بتصفّحها والريح تلعب بوريقاتها، في ملحقها الثقافي يقع نظري على قصة بعنوان " عائلة سعيدة جداً" لباسم سليمان:
بهدوء تسلل إلى الجماعة الواقفة، يرتدي بنطالاً أسوداً، أجرد اللون بسبب التراب والغبار العالقين به، وقميصاً أبيضاً مائلاَ للسواد لاختلاط الغبار بالعرق المتفصد من جسده اللاهث، حاول جاهداً ألا يبدو غريباً عنهم، ضبط تنفسه كمن يمارس اليوغا، ورويداً رويداً هدأتْ نبضات قلبه، أغمض عينيه عدة مرات حتى صفا لونهما، راقب باهتمام الشخص الغاضب في الوسط، وهو يلوّح بيديه، ويتلفّت يميناً ويساراً، ومن فمه تخرج كلمات الغضب مع رذاذ من البصاق، فجأة توجه الرجل إلى الجماعة، وأشار بيده، وتكلم:
أنتَ يا صاحب القميص الوسخ، أتجيد السباحة!؟
لم يستطع أن يتخلص من نظرات الشخص الذي عرِف بعد ذلك أنّه المخرج لفيلم يصور هنا، فأجاب بالثقة المصطنعة التي امتلكها، وهو يجتاز حاجز التفتيش عندما تناهت لأذنه صوت سيارة الشرطة:
بالتأكيد أستطيع.
المخرج: إذن، تعال، ألبسوه غير هذه الثياب، هيا، عليك أن تسبح من هذه الضفة إلى تلك، لا تخف، سنربط حبلاً على خصرك.
- ليس هناك من داعٍ لذلك.
جرى، وقفز في النهر كما قال له المخرج، كاميرتان تتعقّبانه، واحدة على زورق والأخرى خلفه تماماً.
قريباً من موقع التصوير يقف رجلان بثياب رسمية سوداء ترجّلا من سيارة للشرطة، وبدأا يتابعان المشهد، همهم أحدهم: لا ريب أنّه قد سبح للطرف الثاني من الضفة.
عادا لسيارتهما، وانطلقا نحو جسر يبتعد خمسة كيلومترات، جاهد الرجل بقوة، فقد كان تيار الماء قوياً، وقد فكّر سابقاً أنّه ما أن يصل للطرف الآخر، سيتابع هروبه.
على الزورق كان المخرج يصفق له، ومدّ يده ليساعده في تسلق ضفة النهر قائلاً: ستعمل معنا.
عادوا جميعاً على متن الزورق إلى الضفة التي انطلق منها، جلس وسط الزورق، وقد وضعوا عليه غطاء، كان يلهث، لكنّه بات أكثر أماناً، جال بنظره ليرى ظلّ سيارة الشرطة تتهادى من بعيد مثيرة زوبعة من الغبار على الجانب الآخر من النهر.
*****
شقّتْ الماء كأنّها زهرة لوتس، ارتجفتْ كإوزة تنفض ما علق بها من ماء، ثوبها يلتصق بها، نهداها قد شفّ عنهما الثوب المبلول، وحلمتاهما متأهبتان كجندي في حراسته جعله البرد أكثر يقظة، كان جسدها يوحي بوحشية مضمرة تفترس الناظر. حدّق فيها كما فعل كامل فريق التصور، واستغرق في نظره حتى سمع كلمة "cut"، ابتعدتْ عن مكان التصوير لتعود بثياب جافة، وقفتْ بقربه فيما تم متابعة تصوير المشهد، بُللَ شعر النجمة كأنّها هي التي خرجتْ من الماء...
- معك سيجارة!؟
باغته السؤال، امتدتْ يده لجيب قميصه الوسخ، وأخرج علبة السجائر، والولاعة، أشعل لها سيجارة، أخذتْ تدخنها كأنها تأخذ نفساً من الهواء بعد غرق.
- منذ متى تعمل هنا؟
- من اليوم.
- لم أشاهدك من قبل.
- كنتُ مسافراً.
كان حديثاً مقتضباً، لكنّه كان كافياً ليلمح كل منهما نظرة ترقّب وخوف في عيون الآخر عند كل مشهد خطر ينفذانه بدلاً من النجمين.
*****
البناء قد احترق بالكامل، الكتلة البيضاء تحولتْ لكتلة شاحبة، تهدّم الطابق الأخير، وسقطتْ بعض الجدران كثوب حداد أنهكه كثرة الموت.
تحت مظلات ليست بعيدةً عن البناء الذي كان يُسمى "مبنى الدولة" جلس عدّد من الكتّاب يدونون معلومات تُعطى من رجال ونساء وأولاد، كان يجتمعون حول طاولات الكتّاب، تحدث مناقشات حامية، وترتفع الأيدي مما استدعى تدخل الشرطة عدّة مرات، لكن الأمر دوماً كان ينتهي إلى تسويف وتأجيل يقول الكتّاب إنّه سيرتّب حلّ الأمور، ثم يبتعد الموجودون وهم يتمتمون كلمات وشتائماً ولعنات.
احتراق المبنى الذي ضمّ جميع دوائر الدولة قد أصبح حدثاً مفصلياً، فصار الناس يقولون: ما قبل الاحتراق أو ما بعد الاحتراق، وهذه الكلمة باتت تُذكر في الدعاوي التي تستوجب طرق إثبات، والتي كانتْ المستندات المكتوبة هي الطريق الوحيد لها، الآن غدتْ الشهادة - التي ذهب مجدها بعد اعتماد الوثائق الكتابية - هي الطريق الوحيد المعتمد.
الحدث تكلمتْ به المدينة طويلاً، فعاد النقاش السابق عن الخطأ القاتل في تجميع دوائر الدولة ببناء واحد، وقيل إنّ السبب يعود لتاجر العقارات الذي تملّك كل الأراضي التي تحيط المبنى، ولكي تظهر العملية أنّها ليست عملية نصب، قامت البلدية باستملاك أرض البناء منه، وهكذا تم تبيض صفحته، هذا ما كتبه أحد الصحفيين الذي مات في احتشاء قلبي رغم أنّه في ريعان شبابه!
كانا قد تسليا بالذي سبق كحديث تضمّن مناداة كل واحد منهما الآخر باسمه الجديد مع نظرة دهشةٍ بدأتْ تغفل رويداً رويداً، وللحق بما أنهما دوبليران فلهما القدرة على التمثيل، أمّا الولد فلم يهتم كثيراً بالاسم الجديد، فهو لم يكن يملك اسماً قديماً، كل ما عناه هو أن ينادي له والداه باسمه الجديد، وتمنّى لو يرى ذلك الولد الذي عيّره بيتمه، وردّ عليه بأنّه يملك والدين لكنهما في السماء، ورغم ذلك سيأتيان.
تقدم الرجل والمرأة والولد، تكلم الرجل: هذه هوياتنا، لقد تعرضنا لسرقة في وقت سابق من هذا الشهر، وقدّمنا بلاغاً بذلك، ولم يبق من أوراقنا الثبوتية غير هاتين الهويتين.
الولد: ماما أريد أن أشرب العصير.
الأم: عندما ننتهي سأشتري لك.
نظر الموظف للولد، وفكّر بأنّه ليس من الضروري أن يشبه الولد أبويه، وتكلّم:
الهويتان كافيتان، وسيتم نشر القيود الجديدة في الجريدة، ومن لديه اعتراض سيكون له الوقت الكافي لذلك، وخلال شهر تستطيعون الحصول على الأوراق الثبوتية التي تريدونها، والآن لنملأ هذه الجداول.
سردا أنسابهما الجديدة، ولأول مرة لم يشعرا بتأنيب الضمير خاصة أمام ابنهما الجديد.
*****
حمل كادر التصوير معداتهم، وانطلقتْ السيارات بجنون لتقف قرب البناء الذي يضم الدوائر الحكومية في المدينة، وأخذوا يصورون، والمخرج يصيح:
أنت صور من هذه الناحية، ويقول لآخر: اقترب أكثر.
أحدهم صعد إلى سطح بناء مجاور، وبدأ التصوير. الكاميرات تأخذ لقطات كاملة للحريق، وللإطفائيين وللناس المتجمهرة وللوجوه الواجمة والباكية وللجثث المحترقة التي يخرجها المسعفون من مبنى الدولة.
في المساء وعلى طاولة في أحد الفنادق همس المخرج لمساعده: اللعنة، يا للحظ الرائع، لقد كان الحريق هبة سماوية.
همهم المساعد: الهويات غداً سيتم إنجازها.
المخرج:
أريد الدقة، الدقة، الواقع كما هو، أريد أن يرى المشاهد الهوية - التي يحملها دوماً معه - أمامه على الشاشة البيضاء، وعندما يخرج من الفلم لن ينسى الأسماء، وسيبحث عنها في واقعه، أريد أن تكون الخدعة كاملة كالحقيقة.
المساعد: الحريق سيتكفل بإنجاز الخلطة السحرية للواقع وللخيال، فالمبنى أصبح في ذاكرة الناس في طول البلاد وعرضها، وإن اختلفت زوايا كاميراتنا عن زوايا كاميرات البث المباشر وقتها إلّا أنّ المبنى واحد.
المخرج: بصحتك.
المساعد: بصحتك.
*****
لم يحتاجا لوقت كبير لكي يجمعهما مكان دافئ، تحت الجسر الذي عبره راكضاً متوجساً يقبع الآن متنعماً بحنان أحضانها.
أحسا بأنّ أحد ما يراقبهما، وقف، واتجه مسرعاً وراء شجيرة صغيرة، وجد طفلاً في العاشرة، صاح به: من أنتَ؟
جفل الولد، وسقط في الماء، قفز وراءه، وأخرجه ، وفي الطريق لغرفة بائسة في أحد الفنادق التي كانت المرأة تستأجرها رقدوا ثلاثتهم على سرير واحد.
*****
- من هذا، تكلم المخرج، ونظر بهدوء لعيني الولد المكسورتين كالزجاج ولأصابعه القاسية وشعره الملبّد بالأوساخ.
- إنه ابني، وافق الولد بإيماءة صغيرة.
- و هل يستطيع أن يدخل لمكب الزبالة دون أن يخاف، وينبش بين الأوساخ!؟
- نعم، يستطيع.
*****
لم يكن صعباً عليه أن يدخل غرفة مساعد المخرج، فتّش بدقة، وجدهما في حقيبة بنية اللون موضوعة في مكتبة صغيرة قرب السرير، أخذ الهويتين، وخرج إلى بهو الفندق الفخم، أوقفه المخرج:
أنت دوبلير رائع وابنك أيضاً – ابتسم – وتلك المرأة، صديقتك.
- بل زوجتي.
- حقاً، لم أعرف، هذا "الكارت" فيه أرقامي الهاتفيّة كلها، اتصل بي، قريباً سأبدأ عملاُ جديداً.
*****
حافظتْ على رباطة جأشها بينما يقترب الرجل منها، يُمسك ولدها بيدها متأرجحاً للخلف وللأمام، تجاوزها الرجل ثم عاد إليها، حدّق بها.
- ماذا تريد يا هذا، ألا تحترم خصوصيات الناس!
- العفو، لقد ظننتُ..، اعتذر، اعتذر!
و مضى يتلفّت للوراء وهي تراقبه بعين وقحة.
ابتعد الرجل صامتاً، كان يفكّر: إنها هي، العاهرة، لكن ليست نظرتها، تلك السافلة الخادعة التي أخذتْ مني ثمن مضاجعتين، سأسترد ديني منها مهما طال الزمن.
*****
أنهى قاطع التذاكر عمله، لم يلحظ شيئاً مريباً بالهويتين. صعدوا للقطار، جلس رجل وامرأة وولد بأسماء جديدة كانت لمشهد في فيلم.
أقلع القطار مطلقاً صفيره الحاد، وعيون سعيدة هادئة مطمئنة تنظر من النافذة، أمّا المدينة فكانت تبتعد كذكرى باهتة لرجل هجر مهنتة التهريب، وامرأة تخلتْ عن الزوايا المعتمة والثياب المثيرة، وولد كان يرتعد خوفاً في الليل، الآن يجد بديلاً في حضن أمّه الحنون، وفي يدَ والد تربت على كتفه.
*****
صرخ المخرج: cut"".
( تمت )